الفصل الخامس

حجة الوداع

قد زال ما كان بين الرسول وزوجته من الجفاء بسبب حادثة العِقْد، فعاشا في أُنس عميق وراحة حقيقية، كانت السيدة عائشة الأنيس الوحيد لروح الرسول فلم يَعْتَوِر حبَّه لها أدني شائبة في وقت من الأوقات، لم تَبْدُ سحابة واحدة في سماء سعادتها، منذ السنة السادسة حتى الحادية عشر من الهجرة، لقد وقفتْ حياتها في سبيل الرسول وبذلتْ ذات نفسها وذات مالها في طريق الدين وفي سبيل إيصاله إلى درجة الكمال.

أما الإسلام فكان آخذًا في الانتشار والشيوع بسرعة مدهشة محيرة للعقول، وكما أن الزهرة الطيبة التي يتعهدها المرء بالتربية في أرض خصبة لا تلبث أن يعبق أريجها العطر مع الريح، كذلك الإسلام كان يذيع ويشيع فيمتد في الممالك والأمصار ويستولي على القلوب فيشتد نفوذًا وتشبثًا يومًا بعد يوم.

كان لأريجه أثر سحري يجذب القلوب ويأسر النفوس، فيكبلها بروابط وثيقة لا ينفصم عراها، فأخذ عدد الأتباع يزداد بسرعة تفوق حدَّ الوصف وخاضوا غمار غزوات عديدة في سبيل تأييد كلمة الله، خرجوا منها ظافرين غانمين تخفق فوق رءوسهم ألوية النصر.

رسخت عقيدة الإسلام في تلك القلوب الصافية وقوي إيمانهم فاندفعوا بقوته إلى الأمام يحطمون ما يعترض سبيلهم من حواجز وموانع.

figure
مكة المكرمة.

ووقفت المدنيات القديمة حيرى أمام هذه العقيدة الجديدة، لا تبدي ولا تعيد، ثم ما لبثتْ أن طأطأتْ لها الرأس ومدت لها يد الإخلاص والأمان، كان التيار جارفًا فلم يستطع أن يقاومه إلا القليلون.

في مثل هذا العهد الزاهر من الدعوة الإسلامية؛ أي في السنة العاشرة من هجرة الرسول — عليه أفضل الصلاة والسلام — أعلن الهادي فخر الكائنات أتباعه أنه سيزور مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فتوافدت القبائل والعشائر من الجهات زرافات ووِحْدانًا على المدينة المنورة، ينتظرون اليوم الموعود، ولأيام قلائل خلون من ذي الحجة خرج الرسول إلى الطريق بعد صلاة الظهر ومعه أهل بيته وأصحابه وأربعون ألفًا من حجاج المسلمين، فوصل مع هذا الجمع الحاشد إلى مكة المكرمة في اليوم الرابع من ذي الحجة، وبعد أن ابتهل الرسول إلى ربه وطلب المغفرة وحسن المآب تقدمت إليه القبائل الوافدة من الجوار الأخرى فأدَّوا الجميع فريضة الحج.

لاحظ الرسول أثناء سفره أن البعير الذي يحمل هودج السيدة عائشة يسير بسرعة كبيرة لخفة جسمها ولقلة أحمالها، بينما كان البعير الحامل لزوجه الأخرى السيدة صفية، يسير ببطء وهوادة لسمنها ولكثرة أحمالها، فأمر الرسول بأن يُنقل حمل السيدة عائشة إلى رحل السيدة صفية وأحمال هذه إلى رحل الأخرى، جاء إلى عائشة يستسمحها لهذا العمل فغضبتْ من ذلك وأجابتْه بكلمات قاسية فلم يجاوبها الرسول، إلا أن الحادثة وصلتْ مسامع أبي بكر فهرول نحو ابنته وصفع خدها، فما كاد الرسول يرى هذه المعاملة القاسية حتى آخذ صديقه فأجابه: ألم تسمع ما قالته لك؟ فأفهمه فخر الكائنات أن الذي دفعها إلى ذلك هو غَيْرتها وأن المرأة إذا غارت لا تدري ما تقوله بل تكيل القول جزافًا، وكان يوم عرفات يوم الجمعة فأدَّى الرسول فريضة الحج مع مائة ألف ونيِّف من المسلمين، وعقب الصلاة خطبهم هذه الخطبة البليغة:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدِ الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير، أما بعد، أيها الناس اسمعوا مني أُبَيِّنْ لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقَوْا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى مَن ائتمنه عليها، وإن رِبَا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السِّدانة أو السِّقاية، والعَمْد قَوَد١ وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمَن زاد فهو من أهل الجاهلية.

أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يُعبَد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا، يُحِلُّونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حُرُم؛ ثلاثةٌ متوالياتٌ وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جُمادَى وشعبان، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد.

أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا ولكم عليهن حقٌّ؛ لكم عليهن ألَّا يُوطِئن فُرُشَكم غيركم، ولا يُدخِلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مُبرِّح، فإن انتهين وأطعْنَكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوانٍ لا يمْلِكْنَ لأنفسهن شيئًا، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد.

أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد، فلا ترجعُنَّ بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به لم تضلوا بعده؛ كتاب الله، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد.

أيها الناس، ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمُكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد. أيها الناس، إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحَجَر، مَن ادَّعى إلى غير أبيه أو تولَّى غيرَ مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَل منه صرف ولا عَدْل، والسلام عليكم ورحمة الله.

قد استمع جمع حاشد من المؤمنين هذه الخطبة وكان عددهم كبيرًا، فلا يصل صوته المبارك إلى جميعهم، فأخذ ربيعة بن أمية أحد أصحابه الكرام، يكررها عليهم بصوت جهير.

وبعد الانتهاء من الخطبة أذن بلال ثم أقام — صلوات الله عليه وسلم — الصلاة وصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، وفي مساء ذلك اليوم نزل عليه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، قالوا: ولما نزلت هذه الآية علم أبو بكر بقرب وفاة النبي فبكى.

وبعد أن خطب الناس وألقى على جماعة المسلمين نصائح عديدة سواء أفي مكة أم في طريقه إلى المدينة أنبأهم وهو في موقع قريب من المدينة بقرب صعوده إلى الرفيق الأعلى، وعند وصوله إلى المدينة، مرض الرسول مرض الموت وأول ذلك أنه خرج من جوف الليل إلى البقيع فدعا للأموات واستغفر وتضرع كالمودع وأصبح مريضًا من يومه.

ولما رجع من البقيع وجد السيدة عائشة تتوجع من صداع أَلَمَّ برأسها، وهي تقول: وا رأساه!

فقال لها الرسول: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك.

فقالت: وَا ثُكْلِياه، والله، إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعرِّسًا ببعض أزواجك.

فابتسم الرسول، وبذلك تمكَّنتْ من إدخال بعض السرور على قلبه.

وكان بين يديه رِكْوة أو علبة فيها ماء فكان يدخل يديه الماء فيمسح بها وجهه.

كان الرسول هادئًا ساكنًا في أشد أوقات مرضه، ينام باهتًا مغمضًا ثم لا يلبث أن يفتح عينيه الشريفتين فيدعو ويستغفر، وكانت السيدة عائشة تلازمه على الدوام ولا تفارقه لحظة واحدة، وكان وهو على ركبتها يسمع بلالًا مؤذنًا للصلاة فيقوم بقدر جهده وطاقته يصلي بالناس، ولما اشتد عليه وطأة المرض، وكان ذلك قبل وفاته بثلاثة أيام، عجز عن الخروج إلى الصلاة واجتمع الناس في المسجد وآذنوه بها فهمَّ بالخروج فعجز فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس.» فصلى بهم أبو بكر — رضي الله عنه — حتى إذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول والمؤمنون صفوف في الصلاة كشف رسول الله سترة الحجرة فنظر إليهم وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم ضاحكًا، فبُهِتَ الصحابة وهم في الصلاة من شدة ما نالهم من الفرح بخروج رسول الله ، ونكص أبو بكر على عقبيه لِيَصِل الصف وظن أن الرسول خارج للصلاة فأشار إليهم بيده الكريمة أن أتموا صلاتكم، وعندما دخل الرسول حجرة عائشة في يومه ذلك نام متمددًا واضعًا رأسه الشريفة على فخذها، ولما جاءه جبريل يستأذن في دخول عزرائيل — عليهما السلام — غُشِيَ عليه ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، فأتم الملك أمر ربه ورفع تلك الروح العالية إلى أعلى عليين، حيث الرفيق الأعلى وهي في حضن زوجه أم المؤمنين، وما كادت تشعر بذلك حتى أجهشتْ في البكاء.

١  القَوَد: القصاص؛ أي القاتل عمدًا يُقتَل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤