الفصل الأول
أي قارئي العزيز!
لو سرَّحتَ الطرف في حدائق الأدب الإفرنجي، مفكرًا في أشعارهم العالية، مدققًا النظر في آدابهم النفيسة ومؤلفاتهم القيمة وما يتخللها من مزايا ومآثر وما تتضمنها من درر ألفاظ وغوالي حكم، ممتِّعًا نفسك بعبير الذكريات القديمة المتضوعة من جوانبها تعلم وتشعر بأن لكل أمة من الأمم وقائع خاصة بها، وحوادث اشتهرت عنها تتمشى مع طبيعتها الشعرية وتمتزج بحالتها الروحية.
تصقل الأيام والعصور تلك الصفحات المشرقة الماضية والحوادث المفجعة والوقائع المؤلمة، فلا تصل أسماعنا إلا وقد ازدادت روعة وجمالًا فنصغي إليها بشيء من الدهشة تتملك نفوسنا.
إننا نعجب من أبهة تلك الوقائع وندرة ما فيها من الشخصيات، فنشعر بلذة معنوية تبطن أعماق نفوسنا، فنغوص لُجَّتها بارتياح ولذة.
مَن الذي يصوِّر لنا تلك الوقائع وينفخ الروح في أشخاصها فيصيرها خالدة لا تزول مدى الدهر ولا تمحى أبد الآبدين؟ هم أهل الفن وأرباب الخيالات، هم الشعراء والأدباء؛ فالكاتب بقلمه والمصور بريشته، والحفَّار بمثقبه، والموسيقيُّ بألحانه، والشاعر بأوزانه يخرجون لنا صورًا حية بارزة من تلكم الحوادث المؤلمة والوقائع المدهشة، لا نكاد نراها أو نسمع بها أو نلمسها في صورهم وآثارهم وأقوالهم حتى تسيل نفوسنا رقة، وتخفق قلوبنا شفقة، على أبطالها الذين تذهب نفوسهم ضحية على مذهب الشهوات والمطامع.
الفن، هو الذي يجعلنا نفتتن بتلك النواصي الحزينة الحلوة، الفن هو الذي يصيرنا نعتقد بأن لهذه الشخصيات جمالًا نادرًا مقطوع القرين، فننجذب إلى قصص حياتهم المملوءة بالأعاجيب، وحالما نأتلف بهم نَحِنُّ إليهم ونحبهم، أما أسماؤهم الأعجمية فهي كالتماثيل الغريبة في طريق لغتنا الأصلية، وموقعهم الممتاز في تلك الحوادث له أثر بليغ في نفوسنا؛ ولذلك لا نكاد نذكرهم إلا بشيء من اللوعة بين الآهات والزفرات.
فتنتْنا الآدابُ الغربية فسِرْنا مع تيارها وأصبحنا نقلِّد كل أساليبها فهل أصبْنا المرمى؟
لو وقفنا عند حدِّ ترجمة ونقل الموضوعات التي تنقصنا والتي تغرينا على نشر العلوم والمعارف بين ظهرانَيْنا وتأخذ بيدنا إلى مناهج الرقي والفلاح، لو وقف بنا الأمر عند هذا الحد، لكان عملنا صالحًا وسعينا جميلًا، ولكن الأذواق الغربية استولتْ على مشاعرنا وإحساسنا وأرواحنا فنسينا ما يحيط شخصيتَنا من لطف وظرف، وبذلنا ما في وسعنا من إرادة وعزم للتشبُّه بمُلقِّنينا حتى تخدَّرتْ أعصابنا بعدوى مرض «البانورزيزم»؛ أي التقليد الأعمى، وليتَنا استطعنا أن نروي ظمأنا أو ليتنا نفكِّر في الزمن الذي نضيعه هباء في سبيل الوصول إلى هذه الغاية.
لو رجعنا البصر كرَّة واحدة إلى ماضينا المجيد، ذلك الماضي المشرق بأنوار المجد والفخار، لعلِمْنا مقدار خطئنا ولأَسِفْنا مِن استخراج معلوماتنا من دفائن الأدب الغربي فحسب.
خزائن آثارنا الشرقية مملوءة بالكنوز والنفائس التي تُبهِر الأبصار ببريق لمعانها وإشراق ضيائها، في زوايا تلك الخزائن بذور مواهب كامنة لا يمكن للغرب أن يجود بها على الشرق يومًا من الأيام، لو نظرنا إليها وأعرناها جانبًا من العناية والالتفات لكُنَّا الآن أصحاب ثروة قومية حفظها لنا الجدود بالمتاعب والآلام.
فقل لي بربك: أما ترى أن فيما تركه لنا السلف خيرًا مما نستعيره من الغرب، عندنا من الكنوز شيء كثير؛ أموال ومجوهرات خالصة من كل غشٍّ وخداع عليها طابع الإسلام، لم تمسَّها الأيدي ولم تنظرها الأعين حتى الآن.
لو أردنا لاستطعنا أن نَحِيك لأنفسنا جلابيب مهفهفة من تلك الأنسجة الحريرية النادرة، ولو شئنا لجعلنا تلك الأقمشة الثمينة ملابس تتمشى مع الطراز العصري، ولو شئنا لكسونا تلك المخلفات القديمة أحسن الصور والأشكال التي تجعلها من أجمل صناعات اليوم، وبذلك نعقد لأنفسنا ألوية الظفر والفخار في ميادين الفن، إننا لو أردنا لاستفدنا من شخصيات عديدة ووقائع كثيرة ذات أثر كبير، فكل الأدوار الإسلامية مملوءة بالحوادث العظيمة وقد اشتهر كل عصر من عصور تلك الأدوار بأسماء أبطال يحركون في النفس عوامل الشفقة والإعجاب.
إن في سلسلة الحوادث المفجعة التي تَمَّتْ أيام الرشيد وانتهت بموت العَبَّاسة وخُتمت بمأساة البرامكة، لَعِبَرًا تُزْرِي بأشعار «روميو» وما يتخللها من حب وصداقة، وعظات تطفئ ما يتخلل قصة «جوليت» من أنوار الإخلاص والوفاء، لِمَ لا تتناول الأقلام هذه القصة؟ إن هذين القلبين الوفيين، قلب جعفر وقلب العباسة، ليستحقان التصوير والتحليل، فلِمَ لم تُلاقِ حادثتُهما الاهتمامَ اللائق بها؟ هل كانتْ حياتهما الشاذة، تلك الحياة التي ذهبتْ ضحية الغرور والاستبداد، موضوعًا تافهًا في آثارنا القومية؟
الخطأ الكبير الذي ترتكبه الرءوس الكبيرة أقلُّ أثرًا من النتائج السيئة التي يُولِّدها الخطأ نفسه، فإذا كان الخطأ شينًا وعارًا كانت الخسائر الناجمة من هذا الخطأ أكثر شينًا وأشد عارًا.
عندما نقلب صفحات التاريخ وتقع أنظارنا على بعض المظالم المدهشة، لا نتمالك من تبجيل أيامنا الحالية — ولو على غير اختيار منا — أمام الوقائع الدموية التي حَمِيَ وطيسُها في تلك الأزمنة.
نرى اليوم ارتقاء هيئتنا الاجتماعية فنقدس في أنفسنا هذا الرقي التدريجي، زماننا — على أي الحالات ومن كل الوجوه — زمان الإنسانية، ولو فكَّر أولئكم الخلفاء المستبدون في وقع ضرباتهم الأليمة، لو علموا أثرها الكبير وانعكاسها المدهش لامتنعوا عن تلك المظالم الشائنة التي ارتكبوها ولضحُّوا غرورهم في سبيل الاحتفاظ بحسن الذكرى.