الفصل الثاني
الجوهرة النفيسة في عِقْد بني العباس، الزمردة الثمينة بين دُرَر النساء، تلك التي كانت قلادة تزيِّن جِيدَ العصر الثاني من الهجرة، أخت الخليفة وبنت الخلافة، ذهبت ضحية الأقدار وفريسة الظروف القاسية.
السيدة العباسة، اللبيبة الذكية، أجمل بنات المهدي، ثالث خلفاء بني العباس، تمثال المأساة في ميدان التاريخ الإسلامي، وسحاب قائم، خلط بياض شهرة الرشيد بسواد دائم.
كانت معزَّزة مكرَّمة في عائلتها الهاشمية النجيبة لما امتازتْ به منذ نعومة أظفارها من الفطنة والكياسة وحسن الذوق والبلاغة، فكانت تنزل من نفوسهم منزلة سامية؛ منزلة التقدير والإجلال.
أما قصة حياتها وأوائل نشأتها، فهي أسطورة جميلة تشتاق الآذان لسماعها والتلذذ بخيالاتها.
مرت أيام صباها في بغداد كنسمات الصبح بين أحضان حدائقها الغناء، فاكتسبتْ من بدائع الطبيعة رونقها واستعارت من الورود نفحاتها، ومن البلابل نغماتها، ومن ساعات الفجر وأوقات السحر بهجتها وضياءها، هامتْ في أودية الجمال، جمال الطبيعة، فأشبعتْ روحها وأنظارها من كوثره العذب.
نشأتْ وترعرعتْ في مسارح الذوق والصفاء وفي مجالس الأنس والدلال، وفي مغاني السرور والابتسامات، فشبَّتْ موسيقيَّةَ الطبع، جميلةَ الروح، فاتنةَ الشكل، متحليةً بالأدبين؛ أدبِ العلم وأدبِ النفس، كلفةً بالشعر كلفَها بالورود والأزهار ونفائس المعنويات والماديات.
فتحتْ أنظارها في أبهة قصرها المشرف على الدجلة، فشاهدتْ ما حواه من طنطنة ودبدبة ومتعتِ النفس بدهاليزه المُعَنْبَرة وغُرَفه المُزَهَّرة فازدادت بهجة وجلالًا.
إنها مَلاكٌ جميل؛ ملاك لا نسمع بذكره إلا في أساطير الأولين، إلا أنها تمتاز عن ملائكة الأساطير بقِصَر حياتها، ولو دقَّقْنا النظر في تلك اللآلئ التي تُزيِّن جِيدَها، لآلئ مأساتها وأيام حياتها، لوجدناها قد انتظمتْ على سلك من الأحزان والآلام، إن المرء لَيُفضِّل قلادةً خزفية على تلك الجواهر المنظومة في سلك الأكدار، هذا أمرٌ طالما تمنَّتْه، فكم أرادتْ أن تبيع عِقْدها لقاءَ أيامٍ من السعادة طويلة الأمد، ولكن الدهر القاسي، الدهر المتسيطر على عالمنا الحقير أبى عليها هذه النعمة، بل عاداها وأشهرَ عليها حربًا عوانًا لِتَشُنَّها في خلع عِقْدها وقد كانتْ تراه نِيرًا يستعبد روحها.
لم تمُتِ العباسة لأنها تعقبت آثار الغواية المعوجة، كلَّا، إنما أرادتْ أن تجني ثمار الأمل دون أن تحفِل بالقَدَر أو تعبأ به، فماتتْ وتدهورتْ تحت عجلات الأقدار ودفعت بجسمها لهذه الدنيا دَيْنًا هو في ذمة كل إنسان يعيش على وجه البسيطة، فكان مقتلها منقبة تاريخية وضياعُها باعثًا على تسجيل اسمها في صحيفة الأسماء الخالدة.