الفصل الثاني
لِمحمد بن عبد الله، أمين قريش وفخر الكائنات منزلةٌ سامية في نفس عمِّه أبي طالب، تفُوق مكانةَ أولاده الذين من صلبه، كان يجالسه ويؤاكله ويأنس به كل الأنس.
وهما في مجلس من تلك المجالس ومعهما عتيقة أخت أبي طالب وعمة النبي وقد فرغوا من طعام العَشاء، فقام الأمين إلى شأنٍ من شئونه وإذا بعمه يلتفت إلى أخته يقول لها مدفوعًا بعوامل الإعجاب والتقدير: لقد شبَّ محمد وصار رجلًا وآن له أن يتأهل، فماذا ترَيْنَ في ذلك؟
فأجابت: إنه فقير وخديجة مثرية تتاجر بأموالها وتؤجِّر أناسًا يخرجون بتجارتها إلى الشام، فلَيْتَها تعطيه بعض المال فيتاجر به ويعمل على نمائه حتى تتوفر لديه نفقات العرس.
أما الأمين فكان جوابه لعمه: إذا شاءتْ خديجة أرسلتْ تطلبني.
فأدركتِ العمة من حوارهما أن محمدًا لن يسعى في الأمر بنفسه لما هو عليه من عزة النفس؛ ولذلك عوَّلتْ على أن تقوم هي بما يكفل النجاح، وقد تم لها ما أراداتْ؛ إذ إن خديجة ما كادت تسمع ما دار بين العم وابن أخيه حتى تذكرت رؤياها وداخلها سرور خفي لا تعلم مصدره، خُيِّل إليها أن محمدًا الأمين هذا هو خاتم النبيين فأجابتْ سؤال عتيقة وشفعتْ ذلك بطلب إرساله إليها.
عندما توجَّه الأمين إليها كانت في حلة أنيقة وعلى أريكة بديعة، فتحادثا طويلًا ولم يخرج من عندها إلا على قبول منه بالسفر ورضًا منها بإعطائه ضعف ما تعطيه لغيره.
اغتبط النبي ﷺ بحسن وفادتها له وجميل مقابلتها، ونقل إلى عمه ما دار بينهما من الحديث فأجابه: أبشِر برزقٍ عاجل ساقه إليك المولى.
المقابلة الأولى بين أمين قريش وفاضلة قومِها خديجة كان لها أثر كبير في نفس أُمِّنا أم المؤمنين؛ فقد امتدت الجاذبية إلى قرارة نفسها فأحكمتْ عُرَى قلبها بسلوك السحر والدهشة، فملامح النبي وأطواره وكلماته السحرية العذبة نفذت خلال قلبها الطاهر وألقتْ عليها وحي الحب الخالص كما تلقي الشمس أشعتها الأولى من خلال النوافذ وقت الصباح.
تهيأ الركب للسفر وأعدَّ القوم معداتهم، فالتحق النبي ﷺ بهم في اليوم المقرر فسافروا على الطائر الميمون ووِجْهَتهم دمشق الشام، وقد حدث ما أثار إعجاب القوم واستفزَّ دهشهم، ذلك أنهم رأَوْا غمامة تظلل رأس سيد الكائنات كلما اشتدت حمأة القيظ فتجعل طريقه بردًا وسلامًا، فتهامسوا فيما بينهم عن سِرِّ ذلك وحكمته وهم الذين يقطعون الطريق ونيران الشمس تلفح وجوههم وتؤذي جسومهم، ولقد كان النبي متلطفًا معهم مقبلًا عليهم بجميع ما طُبع عليه من رقة الشمائل وكرم الأخلاق فافتتنوا به أيَّما افتتان، أما ميسرة مولى خديجة، فكان لا يدري كيف يصنع ليجامل عزيز مولاته.
أجل، لقد سحر القومَ بتلك الأخلاق الفاضلة، وجذبهم إلى نفسه العالية، ونفذ إلى خلال أفئدتهم بمعنويته المشعشعة الباهرة، حتى بدءوا بسذاجة فطرتهم وصفاء قلوبهم يلمسون من خلال أطواره وحركاته ميزة خاصة لا توجد في غيره من الرجال.
كان لا يزيد إذ ذاك عن الخامسة والعشرين، لكنه كان إذا تكلم خِلته شيخًا درَّبتْه الأيام وحنَّكتْه التجارب، وعندما وصلوا في طريقهم إلى مقربة من موقعٍ يُقال له «سوق بُصرى» أناخ الركب ليستريح من وعثاء السفر، فانتحى النبي ﷺ ظلال شجرة قريبة من موقعهم وجعل يجيل نظره فيما حوله متأملًا متفرجًا، فتركه ميسرة ليزور بعض معارفه في المدينة، وبينا هو في الطريق إذا براهب من تلك الجهة يُدعى نسطورًا اقترب إليه وحيَّاه سائلًا عن الشخص الجالس تحت ظلال الشجرة فقال: مِن قريش من أهل الحرم. فأجاب الراهب: لا ينزل تحت هذه الشجرة إلا الأنبياء، أفي عينيه حمرة؟
– نعم.
فهرول الراهب نحو النبي وهو يردد قوله: ليتني أدرك وقت نبوته.
وعندما اقترب منه تأمله طويلًا ثم عاين النقطة التي بين كتفيه وهي علامة النبوة، وقفل بعد ذلك إلى صومعته مسحورًا مأخوذَ اللبِّ على أثر ما وقف عليه وما تحققه من أن فتى القوم المتفيئ ظلال الشجرة هو خاتم النبيين المنتظَر.
•••
ثم نرى النبي ﷺ بعد هذه الحادثة الهامة منهمكًا في تجارته منصرفًا إلى بيع ما بين يديه بدراية ونشاط يعودان عليه بربح طائل فوق ما كان يرجو ويؤمل.
لم تكن هذه المرة الأولى في تجارته، بل سافر قبلها مرتين في تجارة ومعه عمه أبو طالب، إلا أنه لم يربح فيها قدْر الذي ربحه هذه الدفعة، فسُرَّ من فوزه سرورًا عظيمًا حيث علم أنه يعود إلى خديجة التي تلطفت معه كثيرًا بربح وافر يقوم لديها مقام الذي أسدته إليه، فأسرع بالعودة إلى مكة ليزف إليها هذه البشرى، غير أن الإبل كانت قد أنهكها السير وأصبح اثنتان منها لا تقويان على الاستمرار مع الركب، فلا مناص من الإناخة ريثما تستعيدان قواهما، فأُسقِط في يد ميسرة ولم يدرِ ماذا يصنع لأنه أراد التعجيل بالعودة حيث كان يرى أنهم تأخروا كثيرًا عن ميعاد عودتهم.
رأوا منه ما لا يصدقونه لو حدَّثهم به محدِّث، رأوا بأعينهم معجزةً بهرت نفوسهم فأيقنوا تمام اليقين أن الشاب الذي رافقهم طول طريقهم بشخصيته البارزة، خارقة من خوارق قريش.
كانت الأصالة ظاهرة في تلك الشخصية العالية، بارزة تتجلى في سكونه وحركته؛ فأينما سار وحيثما أقام اجتذب القلوب وسحر النفوس بنظرات فياضة ووجه مشرق ومزايا قَلَّ أن تجتمع في إنسان.
أدرك القوم من أهل الركب بأخلاقهم الصافية ونفوسهم الفطرية ما في أحواله وأطواره من ميزة ظاهرة، واعتقدوا أنه لا يشابه أحدًا من الناس في صفاته وأخلاقه وأنه خارقة من خوارق قريش، إلى هذا الحد انتهت مداركهم، ولو كانوا من ذوي البصيرة لعلموا أن رفيق طريقهم لم يكن خارقة من خوارق قريش وحدها، وإنما هو معجزة العالم بأسره، هو مَن اختاره المولى لتبديد ظلمات الجهل المتكاثفة تحت سماء ذلك العصر ليصل بالناس إلى الهدى ونور العلم والإرشاد.
ما شاهده ميسرة وقصَّه عليها آيات بينات على أنه الرجل المنتظَر الخالد الذي سيرفع من شأن العصر، وشهادة الراهب والسحابة التي رأتْها رَأْيَ العين أمور زادتْ من أفكارها وآمالها حتى أصبح ذلك الوجه المبارك المشرق لا يغيب لحظة عن أنظار خيالها، أما شبح تلك الشخصية الكبيرة فقد غمر لُبَّها وقيَّد روحها بسلاسل الجاذبية إلى أن استولى على عرش قلبها النبيل.
كانت تُناهِز الأربعين، أي أنها قطعتْ مرحلة لا يُستهان بها في طريق الحياة، ولكنها ما زالت في نضارة الحياة عليها مسحة من الجمال، وكان أثر جاذبيته منذ المقابلة الأولى بليغًا راسخًا لم تتمكن من محوه والتملُّص من قيوده، وقد زاد احتكاكها به أثر هذا الإحساس شدة كلما تقابلت معه بعد ذلك، إلى أن كان يوم عودته من الشام فإذا بتلك العاطفة وذلك الانجذاب قد تعمَّقا في القلب وتشبَّثا في الروح فتحوَّلا إلى حب شديد.
لقد فَتن الرسولُ الهادي أمَّ المؤمنين بلطفه وشخصيته النافذة وأخلاقه العالية، فوهبتْه قلبها وتعلقتْ نفسها الطاهرة بسلك محبته بكلِّ ما فيها من قوة وجَلَد، وما كادت يدها تصل إلى هذا السلك النوراني حتى اهتز كيانها بقوة غريبة وانقلبت حياتها الهادئة الساكنة إلى سلسلة من الأيام، حلقاتها مرائر الآمال والأحلام.