الفصل السادس

أسدل الرشيد الستار على تلك الجلسة البديعة بجملة تهديدية حفظها لنا التاريخ حتى يومنا هذا، ها قد دار الفلك دورته وانقضت أيام الصفاء والمخادنة، أوقات السلام والمخالصة إنها لساعة رهيبة، وأزمة عصيبة وشدة مريرة أن يجد المرء نفسه هدفًا لسهام المخاصمة بعد أن كان موضع التَّجِلَّة والإكرام على غِرَّة من الدهر وغفوة من الزمان.

دام الحال على هذا المنوال فتعقدت الأزمة، وكان جعفر حائرًا مهمومًا وأعداؤه فرحين مسرورين، لا ينفكون عن نصب شِراك الحيل والدسائس وإيصال الأذى إليه، ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا.

اشتد قلق جعفر؛ لأنه كان لا يفكر بشأن نفسه فحسب، بل كان يفكر في أمر عباسته، فإذا سمع الرشيد بما وصلت إليه علاقتهما وبنتاج هذه العلاقة أي بابنهما حسن، قضى عليهما وطوى من صحيفة الوجود خبرهما، غير أن جعفرًا لم يفُتْه أن يأخذ الحيطة قبل وقوع المحظور؛ ولذلك أرسل الطفل إلى مكة مع مولًى من مواليه المخلصين.

حقًا ما الحياة إلا مجموعة إحساسات وآلام، إن جعفرًا ليضحي بوزارته وما هو فيه من أبهة حال ورفاهة عيش في سبيل راحتهما وهنائهما، ولكن كيف يتسنى له ذلك وقد تكاثر عليه أعداؤه؟! ليس أمامه ليعيش آمنًا مطمئنًا تحت ظلال الراحة والهدوء إلا مفارقة بغداد، وإن السبيل إلى ذلك سهل ميسور فهو يتحمل متاعب السفر إلى تلك الأصقاع مع عباسته وابنيهما، إنه ليستطيع ذلك إذا قدر أن يترك الوزارة دون أن يلحقه ما يخدش السمعة أو الشرف، ولكن الشعب، الشعب ذا المزاج المتغير، الشعب المتلون كالحرباء.

قد انفضَّ اليوم من حوله وحول بيته الكثيرون ممن نشئوا وترعرعوا في ظلال نعمة البرامكة ونداهم، كان واثقًا من ذلك مع أنه لم يحاول يومًا ما أن يجرح إحساس أحد منهم، إنما كان يسعى في أن يقيم باستقامة وعدل ما اعوجَّ من أخلاقهم، كان عليه أن يقاوم ويكافح وأن يقف أمام هذه الجموع المحتشدة مستمدًّا من المولى العون والعناية، قد صمم أن يقاوم حتى النفس الأخير دون أن يتطرق إليه اليأس أو تفتر عنه العزيمة ما دامت روحه المعنوية أي العباسة في حفظ وأمان.

نعم، كان وجود العباسة يغرس في كل ذرة من ذرات كيانه بذور الشجاعة والإقدام، أراد أن يحيا في دائرة تتنسم العباسة داخل حدودها.

كانت أخت الرشيد نجمة آماله، منبع أشواقه، أفق مسراته، بل كانت هي الكل في الكل.

كان الآن يعيش للعباسة ويعمل للعباسة ويناضل لأجل العباسة، إنها مقر أمله ومبعث شجاعته وإقدامه، سوف يكافح أعداءه بعد اليوم ويقف أمامهم وجهًا لوجه، ويلقي عليهم درسًا فعليًّا في نظرية تنازع البقاء لغرض واحد هو سعادة العباسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤