الفصل الثامن

على أثر هذه الجناية قام الرشيد ومعه مسرور إلى قصر أخته العباسة، وكانت في الطابق الأسفل لم تدلف إلى فراشها بعد، تعد معدات السفر إلى خراسان في اليوم التالي، ولقد دهش أهل القصر من حضور الخليفة فجأة بعد نصف الليل فهرعوا إلى العباسة مذعورين يختلج الخوف في أفئدتهم يخطرونها بالأمر.

وقد اقتربت وصيفتها التي لم تفارقها طول الحياة ترجوها النزول من الشرفة إلى الحديقة فالهروب عن طريق الدجلة إلا أن العباسة اكتفت بأن تقول: بنات هاشم لا يعرفن سبيلًا للهروب.

قالت كلمتها تلك وقامتْ من فورها لتستقبل أخاها وتلاقتْ معه في أول ممشى القصر، فسلمتْ عليه باحترام إلا أن الرشيد لم يجاوبها بل ظل يسير ساكنًا حتى الغرفة التي اعتاد أن يجالسها فيها.

وبعد أن جلس على مقعد قال لأخته: أوصدي الباب.

أوصدت العباسة باب الغرفة وعادت هادئة ساكنة، وكان الرشيد ينظر إلى وجه أخته مدهوشًا وقال لها: أتعلمين سبب مجيئي إليك الليلة؟ إن كنت جاهلة ذلك فها أنا مخبرك، جئت لأسمع من فمك مخالفتك لي وخيانتك لبني هاشم، ما أنت بعد الآن أختي، قولي ما تريدين أن تقوليه قبل أن تفارقي الحياة.

فأجابتْه العباسة بهدوء بال: لم أرتكب أولًا ما يشين بسمعة بني هاشم، ولم أخالف ثانيًا أمرك، ولا أهاب الموت كما تعلم، إنني أنا وأنت من أسرة واحدة رغم إنكارك، ولكنني لم أفهم ما تريد أن تقوله، فهل لك أن تفصح يا أمير المؤمنين؟

– لقد فات أوان التزييف، اعترفي ليتم كل شيء فإني عالم بالأمر وقد سمعتُ قصة جعفر ولا أستطيع أن أصفح عن مخالفتك لأمري واختلاطك بجعفر، ذلك المملوك الفارسي ولا يمكن أن أنسى تلاقيكما معًا، إنني نافر منك فيجب أن تموتي.

بهتت العباسة ووقفت جامدة وسط الغرفة لا تبدي ولا تعيد ولا تستطيع أن ترفع عينيها من وجه أخيها المتقد بنيران الغيظ والغضب، فصاح الرشيد يقول: تكلمي إنني منتظر لجوابك.

فأجابتْه بصوت متهدِّج كأنما كانتْ تصحو من كابوس مريع: إنني حليلة جعفر أحببتُه واعتمدت عليه، وما أحللته من نفسي هذا المقام إلا لأجلك، ولما فيه من مزايا ومواهب، فإذا كان ذلك حرامًا فلتقضِ على حياتي، إنني بين يديك وإنني أخطرك بأمر فيه صالحك ونفعك، لا تقتل ذلك الذي تقول إنه مملوك فارسي، ذلك الذي صيَّر بغداد والدولة على نحو ما ترى ورفع من شأن البلاد،١ إنك إن فعلتَ ذلك يذكرك التاريخ ظالمًا معتسفًا ويذكر أيامك بالعار، إن كنتَ تريد ضحية فها أنا ذا، سكِّن ثائرة غضبك بالقضاء على حياتي، ولكن أنا ما خالفتُ لك أمرًا، إذا كان احترام عَقْد أمضيتَه أنت بيدك يُعَدُّ خيانة فاتهمني، تذكَّر المولى واخشَ الآخر، إن العدل الإلهي سيذكرك بموقفك هذا.

ففزع الرشيد من مكانه حانقًا وعيناه تتقدان بنيران الغيظ وهجم عليها يقول: قد جاوزتِ الحدَّ، أَلِمثْلي هذا القول؟! رباه لا أستطيع احتمالًا، أنتِ مجرمة فيجب أن تموتي، كنتُ قد قيدتُ العقد بشرط أنتِ الآن تتجاهلينه.

– كلا، لم أنسه، ولكن هل هو شرط مشروع؟ أيجوز أمثال هذه الحِيَل في ديننا الحنيف؟ لم أرتكب أمرًا يخالف الشرع وإنما أنت الذي تريد أن تحرم ما أحله الله، ألَا اتقِ الله في نفسك يا هارون، أين إيمانك؟ ألم ننشأ معًا؟ ألم نعطف على بعضنا منذ الصغر، إن قتلتَني أذهبْ ضحية على مذبح غرورك، أما جعفر فأنت تعلم شهامته ومزاياه حق العلم، ولن تجد من يسد فراغه، فإن كنتَ مصممًا على ضحية فها أنا ذا بين يديك، أنزل سوط غضبك على بريء واحد ولا تلوث يديك بجريمتين.

لم يتمالك الرشيد نفسه عند سماعه الجملة الأخيرة فصاح مزمجرًا: أدفاعًا عنه أمامي، ستموتون أنتم الثلاثة: أنتِ وهو وحسن، أنا الخليفة لا مَرَدَّ لأمري.

فحرك اسم «حسن» عواطف الأمومة في نفسها فارتمتْ عند قدمَيْ أخيها تصيح: بربك اصفح ولا تقتل طفلًا بريئًا معصومًا يا أمير المؤمنين، إنك والد فاتقِ الله، أنا لا أطلب الصفح من أخي إنما أرجو الغفران من الخليفة هارون الرشيد.

كانت العباسة تبكي بكاء مرًّا، هي لم تفقد حرارتها حتى تلك اللحظة، ولكنها أضاعتْ كل شيء وأظلمتِ الدنيا في عينيها وأصبحت يائسة مفككة الأوصال عندما ذكر مقتل ابنها.

لم يعبأ الرشيد بتوسلاتها ولم يحركه بكاؤها بل قال: كل هذا لا يجدي، قد قلت كلمتي الأخيرة.

ونادى مسرورًا بعد ذلك ففهمتِ العباسة قصده فاعتدلت ووقفت شامخة برأسها تستشهد وتستغفر.

دخل مسرور وانحنى أمامها، ولكنها لم تحفِل به ولم تتنازل إلى رد السلام، وإنما حوَّلتْ وجهها إلى الكعبة، مقر ابنها الحسن وقد كانت تظنه على قيد الحياة، تدعو المولى أن يكلأه بعين عنايته، وتحولتْ بعد ذلك نحو قصر جعفر، وفي لحظة أطار مسرور رأسها بضربة واحدة من سيفه فوقع على الأرض متدحرجًا حتى أقدام الرشيد.

تلكما العينان الجميلتان كانتا تنظران إلى الرشيد تفكرانه بقضاء الآخرة عندما يُنصب ميزان الأعمال، فارتعشتْ روحه داخل جسده وقام من فوره يأمر مسرورًا بأن يعجل فيما ندبه إليه، فوفد الغرفة عشرة رجال حفروا وسطها حفرة وَارَوْا فيها الجثة وبعد إتمام العملية أمر الرشيد بقتلهم وبأن تُرمَى أجسادهم في الدجلة.

عندما تمت الفاجعة وخرج الرشيد من غرفة ضحيته كان لمعان الصبح قد بدا وكانت أضواء الصباح الوافدة إلى الغرفة من حديقة القصر تنير هذا المرقد الأبدي بهدوء وجلال.

انقضى عمل الرشيد والتأمت جراح غروره فأدار أكرة الباب استعدادًا للخروج، ولكن ما كاد يفعل ذلك حتى ارتدَّ قليلًا من تأثير أنوار الصباح، هجم الضوء إلى الغرفة من خلال الباب وملأت أرجاءها أشعة الشمس الآخذة في البزوغ مارة في طريقها إلى الغرفة بالورود والزهور وخمائل القرنفل والياسمين فتصنع من ألوانها وروائحها الزكية باقة معنوية تضعها باحترام إجلال فوق مضجع العباسة.

figure
العباسة للرشيد: لا تلوث يديك بجريمتين.

كانت الطبيعة رغم إشراقها كئيبة مطرقة، هادئة يكسوها جلال الموت كأنما هي أيضًا تبكي العباسة وقد كانت زهرة من زهراتها.

لو وقع مثل هذا الغرور في أوائل الإسلام لدهشنا ووقعنا في مهاوي الحيرة، غير أن حدوث هذا العسف في القرن الثاني من الهجرة في ذلك الدور العظيم يأخذ بيدنا إلى مناهج التفكير العميق، إنني لأتحاشى تدقيق ومحاكمة هذه الفاجعة المؤلمة التي سودت صحائف الرشيد، فالزمان قد قاضاه.

إن هارون الرشيد، رغم صفاته وفضائله، رغم مزاياه ومناقبه قاتلٌ سفكَ دماء جعفر ولم يُقدِّره حقَّ قدْره.

قد لوث يديه بدماء بريئين فلا جوده ولا كرم طباعه ولا شهرته ولا استفحال نفوذه تشفع له أو تزيل أثر الدماء من يده.

عندما نقرأ تاريخ حياته تثور نفوسنا وتتمرد، إنا نعلم أن مقابلة الإحسان بالإساءة كانت من صفات الأقدمين، لا سيما أيام حكومتَيْ روما واليونان، ولكننا قد نعذرهم ونتشبث في إيجاد المبررات لهم؛ لأنهم كانوا محرومين من نور العدالة الإسلامية، أما الرشيد فمسلم ومن بني هاشم، فكان لزامًا عليه أن يتحلى بالمروءة، ولكنه أبى إلا أن يظهر بمظهر المستبدِّ المغرور.

وإنني كامرأة رأيتُ من واجبي أن أنقل سيرة الرشيد المعروفة كثيرًا وتاريخ حياة جعفر المعروف قليلًا وحياة العباسة المحاطة بالغموض والإبهام على هذا الوجه البسيط.

١  صدقت الأميرة فيما تُثْبِتُه هنا على لسان العباسة حقًّا، إن جعفرًا هو الذي رفع من شأن بغداد وجعلها عاصمة الخلافة، مهد الحضارة ومهبط المدنية والعمران، لقد أسرف الرشيد في ظلم البرامكة ونسي آثارهم في تنظيم الدولة من عهد جدهم خالد، ألم يكن خالد من أكبر أعوان أبي مسلم في نقل الدولة من الأمويين إلى العباسيين، تناسى الرشيد في نكبتهم ما كان من نجدة خالد لجده أبي جعفر المنصور عندما قتل أبا مسلم فثار الفرس والأكراد عليه، ناهيك بما كان من تدبير شئون الحكومة وتنظيم دواوينها على يده ويد ابنه يحيى وحفيده الفضل وجعفر. البرامكة كانوا جمال الدولة وقوام أبهتها، وكانت بغداد ملأى بآثار فضلهم وجهودهم، أقاموا فيها المكاتب وحلقات الدروس ومنازل الجند والملاجئ ومجالس القضاة وغرف الشرطة.
روجوا العلم والفلسفة وشجَّعوا أهل الذمة وغيرهم على ترجمة كتب اليونان والفرس بما كانوا يبذلونه لهم من الأعطية وما ينفقونه في هذا السبيل من الرواتب، وكفى يحيى بن خالد فخرًا أنه أول من عني بنقل المجسطي من اليونانية إلى العربية.
سعَوْا في جمع الكتب من الهند وسواها واستقدموا نُطُس الأطباء من مختلف البلاد لترويج صناعة الطب، ويكفي الفضل بن يحيى من الأثر الجميل في عمران بغداد أنه أول مَن سعى في عمرانها، وأنه أول من سعى في استخدام الكاغد (الورق) فأنشئتْ له المعامل في بغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤