الفصل الثاني
أصيب لويس التاسع ملك فرنسا بمرض عجيب، أعجز نُطُس الأطباء ومَهَرة الحكماء في بلاده، فصرفوا كل مجهوداتهم الفنية وأعملوا كل ما استطاعوا من حذق وفكرة في سبيل الوصول إلى تشخيص المرض، ولكن ذهبت أتعابهم وجهودهم أدراج الرياح، لم يتمكنوا من تخفيف آلامه وأوصابه فوقعت فرنسا في مهاوي اليأس وارتبكتْ لا تدري سبيلًا إلى نجاة الملك مما وقع فيه، إلى أن خطر ذات يوم ببال «بلانش دوكاستيل» أم الملك و«مرغريت دو بروفانس» زوجته أن يجمعا كبار القسس ورجال الدين ليعقدوا مجلسًا للمشاورة فيما بينهم، فقرروا أن توقد الشموع في كل بيت وأن تقام الصلوات في الكنائس على الدوام، وسرعان ما أقبل الكبراء والأمراء على تنفيذ الفكرة، قدوة لمن دونهم من العامة، ولم تمضِ فترة من الزمن حتى كان الجميع ناسجين على ذلك المنوال من إيقاد الشموع والابتهال في الكنائس بالدعوات، ولكن ظل الملك رغم تلك الوسائل أسير الفراش، يعاني آلام مرضه الوبيل ودائه العضال، لم تُجْدِ الشموع نفعًا ولم تنفع دعوات القسس وابتهالات الشعب في رد القوة والحياة إلى ذلك اللسان المشلول والجسم المفلوج، فاستمر على حالته من الوهن والجمود كأنه صنم ملقًى تحت اللحف والأردية.
كان البيت المُقدَّس — وما زال إلى يومنا هذا — مسجدًا محجوجًا من كافة أقطار العالم الإسلامي، يزورونه ويقدسونه ويقيمون فيه شعائر الله ويحافظون على ما فيه من الآثار والتُّحَف محافظتهم على أعز الأشياء وأحبها لديهم، تلك الأيدي الملوثة حسب زعمهم السخيف وقياسهم الباطل طالما رفعتْ ما تهدَّم من أركانه وأصلحت ما تصدع من بنيانه فأعادت له الجِدَّة زمنًا بعد زمن وجيلًا بعد جيل؛ ليكون لسانًا ناطقًا وشاهدًا عادلًا على احترام المسلمين عامة لمسجدهم الأقصى، أما فكرة التخريب فلم تخطر على بال أمير مسلم مهما تناهى في الظلم واشتد في الجبروت والعسف، أيجوز إذن — والحال على ما فصلناه — تضحية المئات والألوف على مذبح التعصب؟!
لقد أزهقوا في حرب مقدسة واحدة ما يُنيِّف عن سبعين ألفًا من المسلمين الآمنين في ديارهم، فأصابوا من أعراضهم ومثلوا بأجسادهم حتى بلغت بهم الفظاعة إلى حدِّ استخراج مرائر القلوب ووضعها في القوارير ليستصحبوها إلى بلادهم كأدوية ناجعة لبعض الأمراض حسب زعمهم الباطل.
لقد أمرهم الإنجيل بالرحمة والشفقة وأن يدير المرء خده الأيسر لمن يصفعه على خده الأيمن، فهل صدعوا بأمره؟ وهل المسيح هو الذي أوحى إليهم بإثارة تلك الحروب الشنيعة؟ أيرضى منقذ الإنسانية والآمر بالإحسان والحنان أن يموت الألوف من أهل الهلال في سبيل غرور حَمَلَة الصلبان!
أما وقد أَبَلَّ لويس التاسع من مرضه فأرسل إلى البابا يعرض عليه عزْمه على تنفيذ نذره وأنه مستعد لتجهيز المعدات لذلك، وما كاد يصله الإذن حتى أعد الحملة الصليبية السابعة وقوامها خمسون ألفًا من الجنود ومئتا قطعة من السفن، ولما تم له ما أراد أبحرت سفنه بتلك العدَّة وذلك العدد ووجهتها جزيرة قبرص.
•••
يرى القارئ من خلال ما شرحناه أن الصليب ينافس الهلال منذ زمن بعيد، ولقد أصبحت من القواعد المقررة لديهم أن الصليب قد يتسيطر في كل مكان ينير فوقه الهلال، أما الهلال فلا يجب أن يضيء فوق مكان يحكم فيه الصليب؛ لأن الصليب لا يريد أن يرى رقيبًا له؛ ولأن الخفافيش يعميها ضوء الهلال، إن الزور والبهتان لا يدوم لهما سلطان ولا يغطيان على الحق أو يمنعان نوره، أما القوة فقد تضغط على أنفاسه فحسب.
الشرق أكثر حِلْمًا وأكرم وِفادة وأشد تسامحًا من الغرب من كل الوجوه.
لقد عاهد ملك فرنسا ربه أن يهاجم الصليبُ في وقتٍ نأسف اليوم على مثله، لم تكن إذ ذاك ثمت قوة تستطيع أن تصدَّ عصبيتنا الإسلامية أو تقف في وجه وحدتنا الدينية، لقد فشلتْ كل محالفة عقدتْها أوروبا ضدنا وذهبتْ مساعيهم التي بذلوها في سبيل تشتيت شملنا أدراج الرياح؛ إذ كانت تربطنا ببعض — نحن أهل التوحيد — عروةٌ وُثقى برباط معنوي واحد كنا نصد كل قوة بقوة أشد منها هي قوة الاتحاد، فكانت كل صدمة منهم تتكسر وتتبعثر كقطع الزجاج فوق سور منيع هو سور عقيدتنا.
•••
أقام لويس التاسع أُمَّه على منصة الحُكْم بدله وسافر إلى قبرص في بضعة أسابيع ومعه أقاربه وزوجته ووصلوها في موسم الشتاء ولبثوا فيها حتى انقضائه، وكان فرسان الجزيرة قد أخذوا في تعذيب من عثروا عليهم من أسرى المسلمين بأنواع العذاب وألوان الضيق، وكانوا يُكرِهونهم على قبول النصرانية بأمر وكيل البابا فيخلي سبيل مَن يقبَلها حذر الموت وتُقطَّع أوصال الذين يرفضون تغيير عقيدتهم.
وقع أكثر هؤلاء الأسرى المساكين في أيدي الفرسان من طريق القرصنة وقاسَوْا عسفًا شديدًا وظلمًا مريرًا طول مدة الشتاء حتى إنهم لم يتركوا نوعًا من أنواع التعذيب المعروفة في القرون الوسطى دون تجربتها عليهم، وبعد أن أقام لويس وحاشيته على مثل هذا التشفِّي وإزهاق الأنفس البشرية خلال ستة أشهر قام بجنوده، مشرعًا بسفنه، نحو مصر ووجهتهم بيت المقدس لتطهيرها من أيدي المسلمين.