الفصل الثالث

وصل الملك الصالح مدينة المنصورة، مُضنَى الجسم، مريضًا منهوك القوى فلزم توًّا فراش المرض، كان يتألم من دمامل فوق ركبته ومن نزلة صدرية وفدت إليه أثناء الطريق،١ وكانت حرارة الجسم والسعال الطويل ينذرانه بخطر السل، فيئس من حاله ووقع في وَهْدة الاضطراب؛ إذ كان لا يستطيع الإشراف بنفسه على تعبئة الجيش وما يلزمه من المعدات، ومع ذلك فلم يألُ جهدَه في إصدار الأوامر المتتالية والخطط الحربية لتحصين دمياط وإعدادها للكفاح والدفاع.
لقد أتم تحصين «دمياط» كما يجب وجهزها بذخائر ومؤنة تكفي حاميتها شهورًا عديدة ثم شرع بعد ذلك في إعداد الأساطيل من القاهرة وحشد الجنود المصرية عند الساحل الغربي من دمياط تحت قيادة أمراء مصر ووجَّه القيادة العليا إلى الأمير فخر الدين يوسف.٢

•••

وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر صفر عام ٦٤٨ هجرية حاصر الأسطولُ الفرنسي ثغرَ دمياط، ثم طلب الملك لويس — جريًا على عادة الصليبيين — تسليم الثغر من حاميته، وعندما رأى علامات المقاومة وجَّه خطاب تهديد إلى الملك الصالح، نجم الدين الأيوبي قال فيه:

إنك لَتعلمُ أنني حامي ذمار المسيحية كما أنك ولي أمر المسلمين، ولقد سمعتَ بلا ريب أن مسلمي الأندلس قد أصبحوا اليوم أيضًا في قبضة يدنا، مستظلين برايتنا وهم يهرعون إلينا من حين لآخر زرافات ووحدانًا يقدمون إلينا أموالهم وما ملكت أنفسهم رغبة في رضانا فنسوقهم كالأغنام، نقتل ذكورهم ونترك نساءهم أيامى نسبي أولادهم وبناتهم ونصير ديارهم خرابًا بلقعًا، فاعلم ذلك إن كنتَ تجهله، ونصيحتي إليك أنني سأحاربك وأقاتلك مهما بذلتَ لي من وسائل القُرب، إنني مهاجمك حتى لو أقسمتَ يمين النصرانية وارتديتَ ثياب القسس وحملتَ الشموع أمامي، إما أن أفوز عليك فأجعل بلادك تحت قبضتي وإما إنك تغلبني على أمري، ها أنا ذا مخبرك فلا تنسَ إن جنودي كثيرة ورجالي لا يُحصَى لهم عدد، يملئون الوديان والجبال وينافسون الحصى كثرة وعددًا، سوف لا يغمد هؤلاء الرجالُ سيوفَهم بل سيهرعون نحوك لهلاكك وبَوَارك.

لم ينتهِ الملك الصالح من تلاوة الخطاب حتى بدتْ على وجهه علامات التأثر وطفرتْ دموع الألم من عينه، ثم ناولَه بعد ذلك إلى القاضي بهاء الدين الزهراوي الجالس عن يمينه ليقرأه، وبعد التشاور فيما بينهما وبين رجال المعسكر أرسل الرد التالي:

بعد البَسْمَلة والحَمْدَلة أخذتُ كتابك، وإنك لتفخر عليَّ بكثرة جنودك وتهددني بما لك مِن عُدَّة وقوة، ألَا فلْتعلمْ أننا رجال سيف لا نخشى أمرًا في سبيل كلمة الله، فمن مات منا شهيدًا قام مكانه مؤمن آخر، ومَن قصدنا بسوء فإنما هو وارد إلى حتفه بظلفه، ألَا تُبصِر عيناك المغرورتان حِدَّة سيوفنا وعظمة أبطالنا؟ أتعمى عن رؤية القلاع والسواحل التي فتحناها؟ وديار الأعادي التي أبدناها؟ لو تمعَّنتَ في أمرك لظهر لك سخف رأيك وتكليف نفسك مشقة لا طائل تحتها ولا مطمع من ورائها، لو تروَّيتَ وتبصَّرتَ لعلمتَ أيَّ منقلَب ينقلبُ الظالمون؟ قال الله في كتابه العزيز: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.

قرأ لويس التاسع هذه الأسطر النارية فجمع رجاله في الحال وشاورهم في الأمر، وما كادوا يشيرون عليه بنزول الجنود إلى البر حتى وطئت جنوده أرض مصر وأمامهم وكيل البابا يحمل صليبًا كبيرًا، ومن ورائه لويس التاسع يخفق اللواء المقدس فوقه وفوق عائلته ومن خلفهم الحاشية والجنود.

•••

بدأت الحرب مساء اليوم العشرين من شهر صفر واشتدت هجمات السفن الإسلامية على الأسطول الفرنسي شدة كادت تؤدي إلى فشل الصليبيين، وفي تلك الساعة الرهيبة التي كان المسلمون فيها يقاومون أهل الصليب بصدورهم ويتلقَّوْن هجمات العدو بثبات وعزيمة صادقة، تَراجَع قائدُ المسلمين الأمير فخر الدين بلا سبب وأخذ يولي الأدبار، وما كادت الجنود الإسلامية تشعر بفرار قائدها حتى تولاهم الاضطراب ولاذوا أيضًا بالفرار أسوة بقائدهم، فساد الهرج والمرج بين صفوفهم واختلط حابلهم بنابلهم مسرعين مُجِدِّين في الهروب بكل ما فيهم من قوة حتى وصلوا «أشمون»، أما الأهالي فقد ذُعِروا لهذه الحالة فحملوا ما وصل أيديهم من مال ومتاع متعقبين أثر الجيش ولم يرتفع ستار الليل عن دمياط حتى كانت خاوية على عروشها، ليس فيها إنسان من سكانها، أما الصليبيون الذين لم يروا أمامهم مهاجمًا أو مدافعًا اشتبهوا في الأمر وخُيِّل إليهم أن هناك دسيسة مدبرة من المسلمين لإيقاعهم في فخ منصوب، فاقتربوا من المدينة وَجِلين، حَذِرين يُقدِّمون رجلًا ويؤخرون أخرى وعندما شعروا بخلوها تقدموا نحوها متجاسرين ودخلوها دخول الظافرين الغانمين.

ما أشدَّ دهشتَهم أمام ذلكم اللغز! لقد ترك الجيش المذعور كل سلاحه وخلف الأهالي أقواتهم وأرزاقهم التي ادخروها لستة أشهر، لم يبقَ في المدينة إنسان واحد ولكنها كانت مملوءة بالذخيرة والسلاح، فما هذا التناقض! لقد غنم الصليبيون وأحرزوا الفوز ودخل صليبيو القرن السابع مدينة دمياط دخول الظافر كما دخل صليبيو القرن العشرين مدينة «قرق كليسا»،٣ أيخاف أهل الهلال من الصليب؟ القلوب الطافحة بالإيمان ليس فيها متسع للخوف.

التاريخ يُعِيد نفسَه؟ ما كاد الصليبيون يستولون على دمياط حتى حولوا جوامعها إلى كنائس واستتبُّوا في ربوعها آمنين مطمئنين وقد تملكوا أحكم القلاع المصرية في زمن وجيز وفي فرصة غريبة ما كانوا يحلمون بها، وها هي القاهرة قد أصبحت قِيدَ ذراع منهم يحملون عليها متى شاءوا، أُسقِط في يد الملك الصالح وفَتَّ في عضده، اشتدَّ يأسُه وزادتْ آلامه وأوجاعه، لكنه هبَّ في الحال مدفوعًا بعزيمة صادقة ووقف أمام الجيش الفارِّ يصدُّ تياره إلى أن تمكن من ذلك.

ولما استتبَّ له الأمر جمع أمراء الجنود الهاربة وأمر بإعدامهم في الحال، حتى إنه صلب في ساعة واحدة خمسين من «سناجق» الجيش.٤

لقد وَسَم الأميرُ فخر الدين بقراره وتقهقره هذا جيوشَ المسلمين بوصمة العار، وأضاع على المسلمين أقواتًا كثيرة وأموالًا جمة ونفوسًا زكية، وقد وجَّه الملك الصالح همته بعد ذلك إلى تحصين المنصورة وما بجوارها من القرى والدساكر ولكنه لم ينسَ ضياع دمياط، فكان لا يكلُّ عن تجزية الذين تسببوا في الهزيمة كان يبذل دموع القلب أسًى وحزنًا كلما اختلجتْ في نفسه حادثة تلك الخيانة، ثم تمرَّد أتباع الأمراء الذين نالهم العقاب وحاولوا العصيان والوقوف في وجهه، إلا أن الأمير فخر الدين تمكَّن من إسكاتهم وإقناعهم موضحًا لهم مرض الملك الصالح وقرب دنو الأجل من أمير البلاد، كان الأمير فخر الدين مستحقًّا للعقاب والجزاء؛ إذ كان أُسَّ البلاء في حادثة الانهزام، ولكنه تملص من العقاب بسهولة ولم يُصِبْه أذًى … لم يشتبك الفريقان عقب سقوط دمياط في معارك حاسمة، بل كان الحرب بينهما سجالًا، يتصادمان في مواقع صغيرة، وكان عدد الأسرى من الصليبيين يتزايد ويتكاثر يومًا بعد يوم، وكان كلما تجمع نفر منهم أرسلوهم إلى القاهرة وبدأ المسلمون يستردون قواهم ويجمعون شتاتهم شيئًا فشيئًا وقد أحرزوا فوزًا في بعض المعارك، فقَوِيَ فيهم الأمل ودبَّ في نفوسهم النشاط إلى الاستعداد لمعركة حاسمة يطحنون فيها جيوش أعدائهم وهم على مثل هذا الحال من الأمل والثقة، وإذا بالملك الصالح تشتد عليه وطأة المرض في ليلة الأحد من اليوم الرابع عشر من شهر شعبان، وما أشرقتِ الشمس في اليوم التالي على حقول المنصورة التي تزين ضفتي النيل حتى كانت روح الملك بعيدة عن هذا العالم الفاني، بالغًا من العمر أربعين عامًا، لقد كتموا خبر موته؛ حذر القلاقل وخشية اضطراب الجيش فنقلوا جثته سرًّا في تابوت من المنصورة إلى قصر المنيل، حيث كانت تسكن شجرة الدر ودُفن في قلعة الروضة، لم يعلم نبأ الوفاة سوى شجرة الدر وبضعة أفراد من المقربين المخلصين؛ إذ كانت الأميرة تخاف من إثارة الفتن والقلاقل، فأرسلتْ إلى رئيس الأغوات وإلى قائد الجيوش فخر الدين تطلبهما وأخبرتْهما بما وقع وسردتْ لهما الأسباب التي حَدَتْ بها إلى كتمان الأمر، فاستصوبا رأيها وأقرَّاها على ما فعلتْ، ثم قرر الثلاثة في تلك الجلسة أن يرسلوا «آق طاي» أحد أمراء الجيش إلى الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح ووليِّ عهد السلطنة المقيم في «حصن كيفا» لإحضاره في الحال، وبعد أن أتمَّتِ الأميرة هذا الأمر أذاعتْ بعض الأوامر والمنشورات على الشعب وأخذتِ المواثيق والعهود على رجال الجيش بأن يطيعوا الملك الصالح ويقيموا على عهد الملك المعظم توران شاه بعده، وقد كُتِبت الأوامر بخط رجل من حاشية البلاط يدعى سهيلًا؛ إذ كان خطُّه شبيهًا بخط الملك، وكما كان أسلوب الأوامر موافقًا لأسلوب الملك نفسه حتى إنه لم يشك أحد في أنها صادرة من الملك، ومن هذه الأوامر أن يقرن اسم ولي العهد «توران شاه» باسم الملك في خطب الجمعة وأن تُضرَب النقود باسمه، وكانت الأطباء أثناء ذلك تتردد على المنصورة تغريرًا بالناس وإيهامًا لهم بوجود الملك على قيد الحياة، وكانوا يتكتمون خبر موته ويذيعون عنه أنه في شدة المرض، غير أن الخبر اتصل ببعض الجواسيس فنقله إلى الصليبيين الذين أقامتْهم الحادثة وأقعدتْهم وجعلتْهم يتهيَّئون لغزوة كبرى.

أعدَّ لويس عدته لمهاجمة المنصورة وتحرك إليها بجميع جيشه، فالتحم الجيشان في معركة خطيرة دامت طويلًا، وتلف عدد كبير من الطرفين، وكان ضرر الأعداء أشد وأخطر حيث مات ووقع في الأسر منهم عدد كبير، وقد استُشهد قائد المسلمين في هذه المعركة، فظلت الجنود الإسلامية تقاوم مضطربة بلا رأس يحركها، وأيقن المصريون بما يهددهم من الخطر، وشعر مماليك الملك الصالح بالنتيجة المؤلمة التي تنتظرهم إذا استولى الصليبيون على البلاد، فقاموا جميعًا قَوْمة رجل واحد للذَّوْد عن وطنهم، هؤلاء هم المماليك البحرية، وقد أُطلق عليهم هذا الاسم لإقامتهم بالمنيل، فترأَّس الجيشَ أحدُهم وهو «بايبورس»، فجمع شتات الجيش وحمل على الصليبيين حملة بدَّدَتْ جموعهم وكسرتهم شر كسرة، ففرحت مصر والمنصورة بهذا الفوز المبين وأقيمت الأفراح وازَّينت الأسواق وتليت الدعوات شكرًا للمولى على ما تولاهم من جميل فضله وإحسانه، ثم وصل توران شاه عقب هذا الانتصار، فأُعلِن وفاة الملك الصالح وعُيِّن ابنُه خلفًا له، أما شجرة الدر التي تمكنت بمهارتها ودهائها من كتمان الخبر إلى حين حضور ولي العهد وجهت اهتمامها إلى إقامة المآتم حدادًا على زوجها تاركة مقاليد الحكم في يد توران شاه.

١  الخطط التوفيقية.
٢  المقريزي.
٣  يلاحظ أن سمو الأميرة كتبتْ هذه القطعة أثناء حرب البلقان؛ لأن الجزء الأول من الأصل التركي مطبوع سنة ١٩١٣.
٤  إحدى رُتَب القيادة في الجيش حسب النظام التركي القديم، وكلمة «سنجاق» معناها اللواء، وهذه الرتبة هي نفس رتبة «أمير اللواء» الحالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤