الفصل الخامس
مَثَل الناس في هذا العالم الفاني مَثَل الضيوف في الفنادق الفخمة، أولئك الذين يتركون آثارهم في سجلاتها إبقاء للذكر، بفقرة جميلة، أو عبارة لطيفة، أو بذكر الاسم على حِدَة غفلًا عن زخارف اللفظ أو تنميقات المعنى، كذلك الناس في دنياهم الفانية كل منهم يترك أثرًا يتناسب مع كفاءته وما له من ميزة وقدرة تخليدًا لذكرى الأوقات والأزمان التي يعيشها، وما هذا الأثر سوى حياته، فإما أن يدل على عيش هنيء مرفَّه وإما أن يعبِّر عن سلسلة من الحوادث المؤثرة، وإما أن يحدثنا عن عصر حافل بجليل الأعمال، وإذا وصل الأثر إلى مثل هذا الحد من الكمال، كان جديرًا بعناية الخَلَف، يستظهرون منه دروس العظة والاعتبار.
ليس في مقدور كل حي أن يصل إلى درجة الكمال في الحياة؛ إذ العيش بهدوء وسكون بلا ضجيج ولا ضوضاء ميسور لكل فرد، فالمرء يستطيع أن يقضي أيام حياته على طراز واحد من الراحة والسكون.
أما العمل على إبقاء أثر ما فيتطلب جهدًا وكفاءة، والخروج عن دائرة المألوف جرأة لا يقوم بها سوى الجسور.
لنضع نصب أعيننا نحن الشرقيات ترك السفاسف، ولتفهم الواحدة منا أنها ليست لعبة أو زينة، إننا نعيش في زمن لا يتسع لأمثال هذه الصغائر، علينا أن نتفهَّم حياة السَّلَف ونعمل على تخليد صحائف أعمالنا، ولتشعر الواحدة منا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، الفرد جزء من الإنسانية ومجموع الخلق هي الإنسانية، وما نحن الشرقيات سوى قطعة منها.
أين شخصيتنا؟ لنسعَ في إظهارها، وكفى ما نالنا من الأذى وما أصابنا من الضرر بسبب جهلنا؟ كيف يسوغ للهلال والنجمة أن يغمرهما الظلام وتحجب الغيوم ضوءهما من النفوذ إلينا، إن أمة لها مثل هذا الزمن كان يجب أن تكون في مقدمة الأمم نورًا وعرفانًا.
إذا رغبنا في الحياة، إذا شئنا ألَّا يُمحَى اسمنا من صحيفة الوجود، فليس أمامنا سوى طريق السعي والعمل بنظرية تنازع البقاء بما فينا من جهد وحسن نية إلى أن نتمكن من إزالة ما علق بأذهان الأوروبيين ضدنا من الأوهام والنوايا السيئة، لو استطعنا أن نصل إلى الدرجة التي كانت عليه نساء الشرق قديمًا لوقفنا قليلًا في سبيل تدهورنا في هوة التدني، لم تكن شجرة الدر شخصية كاملة، ولكنها استطاعت أن تظهر على مسرح الحكم والسياسة في زمن عصيب وكوَّنتْ لها قصة تشتاق الآذان لسماعها، وهذا ما حدا بي إلى تصوير قصتها وشئون حياتها للقرَّاء.
•••
عندما وقع اختيار حسام الدين ورجاله عليها لتكون ملكة مصر وأميرة البلاد كانت تقطن في سراي المنيل على شاطئ النيل وفي أجمل موقع من مواقع مصر، وكانت إذ ذاك وسيمة الوجه، جذابة الملامح، يقرب عمرها من الأربعين، ذات دراية وحنكة في شئون الحكم والإدارة اشتهرت بهما منذ أيام زوجها الملك الصالح.
افتُتنتْ بالملك وتعشقتْ أبهة الحكم فبَنَتْ صرح مجدها وشهرتها بيدها، ولكنا لا ننسى بجانب ذلك حبها الخير وإيثارها رفاهة الشعب وبحبوحته على كل أمر وشأن؛ فأنقصت الضرائب وغمرت المماليك بالهدايا وأغدقتْ عليهم المراتب والمناعم؛ إذ كان أقصى أمل لها أن تفوز بحمد الناس ومحبتهم لها.
ما كادت تستلم زمام الحكم حتى تركت قصرها البديع وما فيه من نفائس وزخارف وانتقلت إلى القلعة المشهورة التي بناها صلاح الدين الأيوبي واتخذتْها مقرًّا لحكمها، ففي هذه النقطة العالية المتوِّجة لرأس المقطم والمشرفة على جميع القاهرة كان يقيم مَن سبقها من الحكام، فسارتْ هي الأخرى سيرهم؛ لأن قصر المنيل لم يكن منيعًا حصينًا إلى حدِّ مقاومة الهجمات وصد تيار الفتن والمشاغبات، أما أسوار القلعة فمتينة رصينة تقوم بالغرض وتفي بمثل هذه الحاجة.
•••
بدأت شجرة الدر تجمع وزراءها في غرفة من غرف القلعة وتحضر هي مجلسهم من وراء ستار رقيق ثم عينتْ أحدهم، وهو عز الدين بن أيبك، أتابكًا أي في رتبة تماثل رتبة رئيس الوزارة في أيامنا هذه.
كان عز الدين قائدًا محنكًا جريء القلب ذكي الفؤاد، مشهورًا بعلمه وفضله ودرايته، عرف كيف يستولي على قلوب الخلق وينال ثقتهم كما بدأ يفوز بالْتِفات المَلِكة وحسن تقديرها لكفاءته يومًا بعد يوم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
كان دورها زاهيًا زاهرًا، وصار الناس يتفاءلون خيرًا بقدومها، وبدأ الفقراء يتنعمون بمبرَّاتها وحسناتها؛ إذ كانت ملكة عاقلة لبيبة على دراية تامة بأصول المسائل وفروعها، ولقد أحدثتْ في الإسلام بدعة حسنة لم تزل في مصر إلى يومنا هذا، هي بدعة المحمل الشريف؛ ففي عهدها سافر أول محمل في الإسلام من مصر إلى الحرمين الشريفين، إنها ابتدعتْ أمرًا حسنًا فلها ثواب تلك البدعة إلى يوم القيامة، من أحدث بدعة حسنة فله ثوابها وثواب مَن عَمِل بها ومَن أحدث بدعة سيئة فعليه وِزْر مَن عمل بها إلى يوم الدين.
كانت شجرة الدر رغم مظاهر حياتها الخصوصية، امرأة مسلمة ذات ميزة خاصة في حياتها العمومية، كانت على علم تام بنفسية الشعب ولم تكن حكومتها استبدادية؛ لا تشرع في عمل من الأعمال حتى تعقد مجلس المشاورة، ولا تصدر قراراتها إلا بعد الرجوع إلى رأي وزرائها ومستشاريها، وإذا حدثتْها نفسها بأمر تريد إبلاغه إلى الناس مباشرة أرسلتْ في طلب وزيرها ابن أيبك، وبعد المباحثة والمناقشة معه تأمر بإصدار أوامرها الملكية.
فكان الأتابك لا يقصر في كل سبيل يؤدي إلى مرضاة الملكة.
وبينما كان حكم شجرة الدر آخذًا في طريق الشهرة بما كان يلاقيه من إقبال الشعب ورضائه التام، بدأتْ عصابة من الناس تدس الدسائس وتنصب شباك الأحاييل حول عرشها رغبة في إسقاطها، لحمة هذه العصابة أتباع توران شاه ممن فروا إلى الشام وسداها الخليفة الزمني المستعصم بالله ونفر من أشياعه ومريديه.
قامتِ الفتن على ساق وقدم، وبدأ العصاة ينفخون في أبواق النفاق بما يرمي إلى الشقاق بدعوى أنه لا يجوز شرعًا لامرأة أن تتولى شئون المسلمين، مع أن شجرة الدر لم تأتِ أمرًا يُغضِب عامة الإسلام، سواء أكان في مصر أو في سوريا فضلًا عن إجلالها واحترامها لمقام الخليفة المستعصم بالله.
تفاقم الخطب واشتد الصخب، وقامتْ بغداد تهدد مصر، فكانت الرسائل والأوامر تترى بطلب خلع شجرة الدر وإقامة أمير من الرجال ومخابرة الخليفة لتعيين أمير عادل إذا تعذر عليهم وجود رجل من بين المصريين يصلح لهذا الأمر، وكانت الرسائل موجهة إلى المماليك ومصوغة في قالب اللوم والتعنيف ومعززة بالأحاديث والأسانيد المنذرة بخراب الأمة التي تتولى النساء شئونها وتتصدر مجالس الحكم فيها، وما كادت تروج هذه الدعوة وتتناقلها الألسن في المجالس والمحافل حتى بدأ المماليك يفكرون في وجه الصواب، كانوا يرَوْن أن حكومة شجرة الدر لا تخالف الشرع في شيء؛ إذ كانت مؤسسة على دعائم الشورى، فكانت لا تُبرِم أمرًا دون أخذ رأي الوزراء ووجوه البلاد فضلًا عن مهارتها في إدارة دفة الأحكام، تلك المهارة التي تجلت في شكل رائع ملموس لا يدع مجالًا لقول قائل، ولكن ما العمل؟ وكيف يمكن التوفيق بين وجهتي النظر في مصر والشام في وقت عصيب يهددهم فيه خطر الصليبيين؟
بينما كان المماليك يفكرون في هذا الأمر ويقلبون الرأي على وجوهه ليتبيَّنوا من خلاله وجه الصواب، وإذا بأتباع «توران شاه» يحثون أهل الشام على التخلص من حكم مصر بدعوى أنها ذات حكومة غير شرعية، فقاموا بدعوة أمير حلب «الملك الناصر يوسف الأيوبي» وبايعوه أميرًا على الديار الشامية، ثم قاموا على أشياع شجرة الدر واستأصلوا شأفتهم فتمَّ لهم ما أرادوا وفصلوا تلك القطعة الكبيرة عن الحكومة المركزية في مصر.
على أصحاب الغايات النبيلة والمقاصد الشريفة بذل النفس والنفيس في السبل المؤدية إلى تحقيق الغرض، ولكن الذين نادَوْا بسقوط شجرة الدر لم يعملوا بهذا الدستور، إنهم آثروا تضحية حكومة عظيمة في سبيل أغراضهم الشخصية، كانت هذه الفئة الهادمة العاملة لمصالحها الشخصية تعمل على تعكير المياه كلما قاربت حد الصفو، رغم مهاجمات الصليبيين وما يهدد البلاد الإسلامية من المصائب والأخطار، فأدركتْ شجرة الدر بفطنتها وحسن درايتها حقيقة الحال فعقدت مجلسًا من أركان الدولة واستشارتهم في الأمر وطلبتْ منهم أن يبيِّنوا لها الطريقة المؤدية إلى إرضاء السوريين والوسائل الموصلة إلى حسن التفاهم بين القطرين الشقيقين.
كان الموضوع عويصًا يتطلب رأيًا حسنًا وتدبيرًا محكمًا فلم تشَأْ أن تُطلِق العنان لمشاعرها بل طلبت من وزرائها المعونة والتعضيد بعد أن طرحت الأمر على بساط البحث بكل رزانة وثبات، أما المجلس فقد فحص الأمر بعناية واهتمام وأظهر لها وجوب الاهتمام بما يؤدي إلى راحة الشعب وسلامته مع بيان امتنانهم لها ولحكومتها، وقرَّ رأيهم بالإجماع على أن تترك زمام الإدارة إلى عز الدين بن أيبك وأن يعقد له عليها عقب تنصيبه للحكم.
تم تنفيذ القرار وتعين عز الدين بن أيبك سلطانًا على مصر، وأرسلوا إلى الخليفة يشعرونه بتبدل الحال.
لم يتغير الحال كما زعموا، بل كانت شجرة هي الحاكمة تنهى وتأمر من وراء الستار عقب زواجها بأمير البلاد.
تربَّعتْ شجرة الدر في قلب عز الدين كما تربعت في عرش مصر من قبل؛ فكان يخدمها خدمة العبد للسيد، ولا يتوانى لحظة واحدة عن سلوك السبل المؤدية إلى راحتها ومرضاتها، كان يرى خدمتها دينًا في عنقه يحب أداؤه فصار نِقَابًا لها تُبصِر وتعمل من ورائه وأداة لسرورها ونعيمها.
لم تصل شجرة الدر إلى هذه المنزلة اعتباطًا، ولم يُحِلَّها عز الدين من نفسه ذلك الإحلال إسرافًا؛ لقد كانت امرأة زاهية، زاهرة ذات جاذبية وذكاء وعلى علم ودراية، فليس من السهل على المحتكين بها المتصلين بشخصيتها التوقي من قيود تلك الجاذبية.
كان الملك الصالح يتلقَّى رغباتها كأمر يتحتم تنفيذه، ويرى فيها درة نفيسة في تاج حياته، أما عز الدين فكان مفتونًا بها بحرارة الشباب مع أنها أسبق منه في راحل العمر.
كان الأتابك عز الدين، لبيبًا، عاقلًا، ذكي الفؤاد، فأحبه المماليك وجعلوا لا يخرجون عن رأيه ومشورته في كل أمر.
•••
بعد تعيين عز الدين ملكًا على مصر وتسميته «الملك المعز أيبك» فرح الناس بحكومته المشتركة بينه وبين زوجته شجرة الدر وتطلعوا إلى الراحة والسكون عقب تلك الانقلابات والتطورات، لكنهم لم يدركوا أمنيتهم؛ إذ تجددت الثورات في الشام مرة أخرى واتصل بالمصريين خبر قيام أحد أقرباء توران شاه مع نفر من أتباعه وأشياعه يعضدهم بعض المماليك ووجهتهم مصر، فاضطرب المصريون ووقع الخبر عليهم وقوع الصواعق.
لم يقبل السوريون بحكم المعز وهاجموا مصر متمردين ساخطين صاخبين، طالبين إقامة مَلِك من سلالة الأيوبيين، ولم تنقشع سحابة غضبهم وتهدأ ثورتهم إلا بعد أن أقاموا يوسف مظفر الدين أحد أبناء الملك مسعود، من الأقاليم الشرقية ملكًا على مصر وحلب.
مصرنا هذه، مصرنا المسكينة، معرض الغرائب، تحت سماء تسامحها يأتلف الخصمان ويجتمع الضدان؛ ففي العام التاسع والأربعين بعد الستمائة من الهجرة، كان على عرش مصر حاكمان؛ أولهما: الملك المعز أيبك، وثانيهما: الملك مظفر الدين يوسف، تُقرَأ لهما الخُطَب وتُضرَب النقود باسميهما ويحكمان معًا جنبًا إلى جنب، غير أن شجرة الدر ما زالت وراء الستار وفي يدها زمام الحكم الحقيقي تصدر أوامرها بسكون وهدوء وهي في دائرتها الخاصة، فيهرع الحاكمان لتنفيذها والعمل بمشيئتها.
لم يكن الاثنان سوى لعبتين صغيرتين، أما الحاكم الحقيقي للبلاد فهي الملكة عصمة الدين التي تروح وتغدو بثيابها المزركشة في قاعات قصرها الفخم المحتجب وراء أسوار القلعة.
شعر أيبك باضمحلال سلطته فاشترى عددًا كبيرًا من المماليك، وعمل على اكتساب ثقتهم وتعضيد نفوذه أمام خصمه، وقد حدث ما كان يتوقعه فإن رجال مظفر الدين حاصروا القلعة ذات يوم يرومون خلع أيبك، ولكنه قاومهم مقاومة عنيفة، وبعد أن شتت شمل أكثرهم تمكن من قتل زعيمهم «آق طاي» قاتل توران شاه، ورمى برأسه من وراء أسوار القلعة، وما كاد المحاصرون يرون هذه الحال حتى أركنوا جميعًا إلى الفرار وكانوا يبلغون سبعمائة فارس.
بعد هذه الحادثة قبض المعز على خصمه مظفر الدين وحبسه فخلا له الجو مرة أخرى.