الفصل السادس

العشق نبات لاهوتي، ينمو بطبيعته في كل زمان ومكان وفي كل بلد وإقليم، فلا الرياح ولا العواصف ولا الأمطار تعوق هذا النبات عن النمو والنضوج؛ لأنه ينشأ حيثما شاء وأينما أراد، ولهذا النبات المحبوب زهرة لطيفة جديرة بالنظر والاعتبار.

ولكن لشمس العشق أشعة نارية تعمل في هذه الزهرة ما لا تعمله الطبيعة، لقد تؤثر على لونها فتصيرها باهتة شاحبة بعد النضارة والزهاء، وللعين دموع تنزح بانهمالها وانسجامها ما لها من رائحة عبقة وأريج فيَّاح، وللقلب ثورات وهبات تنتثر معها أوراقها الجميلة فتذروها الرياح، إنها لزهرة رقيقة قد تذبل عند أقل إهمال، فهي تنبت في الأرض الغامرة والتربة الخصبة ويتناسب عمرها طولًا وقصرًا بقدْر خصوبة التربة والمنبت، فمن استطاع سبيلًا إلى تربية هذه الزهرة، زهرة الطبيعة زنبقة النور، عرف كُنْه الحياة، فإذا علمنا أن الملمِّين بفن تربيته قليلون أدركنا كيف أن الكثيرين تذبل زهراتهم في مدد قصيرة.

هكذا الحال مع شجرة الدر والمعز، فإن زهرة حبهما وإخلاصهما أصابتْها يدُ البِلَى بعد عواصف نفسية دامتْ أربعة أعوام.

بدأت عوامل الحياة والنمو تتقلص في زهرة الحب النامية في قلب المعز حتى ذبلت، أجَلْ، لقد ذبلت تلك الزهرة الناضرة بغرور شجرة الدر، ذلك الغرور الذي أطفأ النيران المتأجِّجة في صدر حبيبها المعز.

كانت الملكة عصمة الدين أميرة تليق بسياسة الشعب وإدارة الأحكام، أما في منزلها، في مملكتها الصغيرة، فقد كانتْ مستبدة توقع الرهبة في قلوب حاشيتها وتبعث السآمة والملل في نفس زوجها.

كان المعز مفتونًا بشجرة الدر، منذ زواجه بها عام ستمائة وثمانية وأربعين هجرية، كان يُجِلُّها ويحترمها من أعماق النفس وصميم القلب لذكائها وجمالها ومركزها وماضيها المجيد، وكانت هي تعلم منه ذلك وتعتقد بدوام هذه المحبة فيرتاح نفسها وتفتخر بحالها، لم يخطر ببالها أنه سيأتي على المعز يوم يتزوج فيه امرأة غيرها، لو فعل ذلك لما غفرتْ له مثل هذا الذنب؛ إذ ترى أن المعز إنما صار سلطانًا على مصر بسعيها وفضلها، فكانتْ تُجاهِر بهذا الرأي وتجابهه به ولا تجد لومًا في أن تقول له: «ما وصلتَ إليه مِن عز وجاه، إنما وصلتَه من طريقي.» فكان يخجل من ذلك ويشعر باضطراب داخلي.

لم يأبَهْ كثيرًا لهذه الأقوال في مبدأ الأمر، ولكنه بدأ يشعر بوقعها الأليم على مر الأيام، إنه لا ينكر فضلها وعظيم أياديها عليه، ولكنه لم ينشأ صعلوكًا حقيرًا؛ قد كان ضابطًا عالِمًا عاملًا ثم أميرًا ذكي الفؤاد ذا شخصية ومكانة.

•••

جمعت الملكة عصمة الدين إلى حسن الوجه جمال النفس؛ فهي لذلك امرأة جديرة بالحب ولكنها أكبر من أيبك سنًّا، وبدأت عوامل الانهماك في المشاغل الدنيوية تُظهِر أثرها على أديم ذلك الوجه الناصع وأخذ نور بهجتها في الأفول، وكلما ازدادت خطوة في طريق العمر، زاد طيشها واشتد نزقها إلى أن صيَّرها الكِبْر ذات طبع ناري ومزاج عصبي، تستبد مع من حولها، تشاكس زوجها وتنغِّص عليه عيشه وتضيِّق دونه المذاهب والمسالك صباحَ مساءَ.

أما هو فكان يغضب لهذا المجادلات اليومية، فيزداد نفوره منها حتى أصبح يتغيب كثيرًا عن القلعة، وكان هذا التباعد يزيدها غيظًا؛ لأنها بدأت تشعر بزوال محبته لها، فاشتد تعلقها به وازداد هيامها وصارت ترى في كل حركة من حركاته وكل طور من أطواره حالًا يستوجب الغَيْرة.

كان لزوجها امرأة أخرى هي أم ولده الوحيد، عقد عليها قبل زواجه بشجرة الدر، فعلمتْ بهذا الأمر وحكمتْ عليه أن يبتعد عنها بتاتًا، ثم خشيتْ ألَّا ينفذ أمرها فأمرتْه بإحضارها وتطليقها منه في الحال، تمَّ لها ما أرادتْ ووصلتْ إلى بغيتها، ولكن ظلت نيران الغَيْرة تتأجَّج في ذلك الصدر المتقد، وعاد زوجها إلى الابتعاد عن القلعة والنفور من دائرة الحريم واتسعت شقة الخلاف بينهما حتى انقلبت على مر الأيام إلى خصومة متينة انتهت بمأساة دموية فجيعة.

•••

مهما ارتقى الإنسان وعَلَتْ شخصيته فهو بشر لا يسلم من عوارض النقص.

شجرة الدر امرأة ذات شخصية بارزة قلَّ أن يوجد لها نظير، شَقِيَتْ بغرورها، ووصمت سلسلة حياتها بفعلة شنيعة من جرَّاء هذا الخلق الفاسد.

لقد تطرفت مع زوجها في سوء الخلق إلى حد الملل وإلى حد أن استفزت فيه روح الأنانية فطلب يدَ لؤلؤة بنت بدر الدين أمير الموصل وعرض أمنيته هذه على المماليك فعارضه المخلصون منهم لشجرة الدر ولم يوافقوه على ما يريد، بل جاهروا بأنه لا يليق بأمير نبيل مثل المعز أن يرتكب مثل هذه الهفوة، فغضب لذلك وأدَّى به الحنق إلى القبض عليهم وإلقائهم في غيابات السجون.

ولما كانوا في طريقهم إلى السجن مر بهم الحراس من تحت الشرفة التي تجلس عليها الملكة فتأخر زعيمهم «سبكتكين» قليلًا ونادى بالتركية يقول: «نناشدك الله أيتها الأميرة أن تخبرينا عن سبب القبض علينا، إننا رجالك المخلصون، يريد الأمير أن يعقد على لؤلؤة بنت أمير الموصل فعصيناه؛ لأننا نرى في ذلك إهانة لأميرتنا.» وكانت الأميرة إذ ذاك في الشرفة فرفعت منديلها تشير إليهم أنها فهمت قولهم ثم سيقوا إلى السجن وقلوبهم تتأجَّج بنيران الانتقام التي لا يستطيع المعز إطفاء لهيبها.

لم يكن المعز في قصر القلعة كعادته، بل كان مقيمًا في قصره «مناظر اللوق» المشرف على النيل بجوار الأزبكية، كان نافرًا من شجرة الدر يجتنب حرمه، عملًا بإرشاد منجمه الذي أخطره بأنه يموت مقتولًا من يد امرأة، أما امرأته فكانت تريد الاستفادة من هذا الظرف فرسمتْ خطة باهرة للتنكيل بالمعز وأرسلتْ تدعوه إلى القلعة مرارًا بعد أن أعدتْ معداتها لهذا الغرض.

لم تكن شجرة الدر، تلك المرأة الحاكمة القديرة وإنما الغيرة والحِدَّة والحنق كل هذه العوامل كانت قد أتلَفَتْ جهازها العصبي وصيرتْها شيطانًا يتحكم فيه الجنون والهوس، قد انقلبت فيها خصال الرزانة وعلو الطبع وقوة الإرادة إلى صفات الغيرة والحرص والانتقام.

•••

لم يشأ المعز أن يُجيب دعوات امرأته في بادئ الأمر؛ لأن إخطار المنجم ما زال عالقًا في ذهنه، ترتعد فرائصه كلما خطر بباله إلا أن تكرُّر الدعوات أثَّر في نفسه وتوهَّم من خلالها الصدق والإخلاص فأجابها إلى ما أرادتْ وزار زوجته في قصر القلعة، حيث قابلتْه بالتجلة والاحترام مظهرة له كل عطف وحب، بل تمادتْ في التملق والرياء إلى حد تقبيل أياديه ومحو كل ظن سيئ من نفسه، فركن إليها المعز كل الركون وقضى معها يومه وطلب في مسائه أن يدخل الحمام، ولكنه ما كاد يلج باب الحمام حتى فاجأه بضعة رجال تلمع السيوف المصلتة في أيديهم ففهم قصدهم وأدرك أن ذلك من تدبير شجرة الدر، فناداها باسمها وتوسل إليها بكل ما فيه من جهد وقوة، ويظهر أنها كانت على كثب من المكمن؛ لأنها لم تستطع ثباتًا أمام توسلاته، فأظهرتْ نفسها وطلبت من رجالها أن يحقنوا دماءه، إلا أن الرجال لم يَصغُوا لقولها، خشية غضبه وانتقامه إن هم نزلوا عند رأيها وأخلَوْا سبيله، ثم هجموا عليه وكتموا أنفاسه في ذلك المكان، وبعد أن نفضوا أيديهم من فعلتهم الشنعاء أخفَوْا جثة الأمير في ردهة خارجية وانبثُّوا في أرجاء القصر يشيعون أنه أغمي على أميرهم وهو في الحمام.١

وقعت هذه الحادثة يوم الأربعاء في الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول عام ٦٥٥ هجرية، وانتشر في اليوم التالي خبر موت المعز وارتقى أريكة العرش ابنُه نور الدين، وعندما استلم نور الدين زمام الحكم وتربَّع في دست الإمارة بقصر القلعة أرسل بطلب أمه التعِسة وبطلب شجرة الدر قاتلة أبيه وسبب شقاء أمه.

وفي كتب التاريخ أن أم نور الدين أمرتْ جواريَها فانهلن بالقباقيب على شجرة الدر، على ذلك الرأس الجميل المملوء بالغرور، إلى أن ماتت شر موت، فألقيتْ عارية الجسم لا يسترها سوى سراويل رقيقة من برج القلعة إلى خندق مجاور لأسوارها، وقد سرق بعض اللصوص تكة لباسها المطرزة باللآلئ ولم يعرفها أتباعها إلا بسروالها الفاخر فدفنوها في المقصورة الخاصة بها داخل المسجد المعروف باسمها بجوار السيدة نفيسة بالقاهرة، ولقد فرَّ بعض الأغوات الذين اشتركوا في مقتل المعز وألقي القبض على البعض الآخر وصُلِبوا داخل القلعة.

وبعد هذه الحوادث المتتابعة بدأتْ حكومة الملك نور الدين بن أيبك.

•••

حكمت شجرة الدر ثلاثة أشهر بمفردها وعشرين عامًا مع زوجها الصالح والمعز، وأصابت عزًّا وجاهًا لم تصبهما امرأة أخرى في العالم الإسلامي.

يعدها المؤرخون خارقة من خوارق الدهاء ولا يذكرونها إلا بالثناء ويعرفونها للقرَّاء بأنها عاقلة، قارئة، كاتبة، ذات دراية وفطنة، ومما يؤسف له أن المرأة الكبيرة صاحبة الخيرات العديدة والحسنات الجمة، تلك التي ابتدعتْ لنا حسنة المحمل، تموت ميتة شنعاء وتلقى في الخنادق كأصحاب الجرائم العادية، «وعلى الباغي تدور الدوائر.»

إن الملكة عصمة الدين ماتتْ على يد المرأة التي كانتْ سببًا في تطليقها، لقد طَرَدَتْ أمَّ نور الدين من قصر القلعة فدارتْ عليها الدوائر حتى ألقتْها المطرودةُ من برج القلعة، لقد حرَّضتْ على قتل الوالد فقتلها الولد.

العصمة لله والكمال له وحده، والمرء عاجز مهما ارتقى ومهما علت شخصيته.

لم تكن شجرة الدر مثال الكمال من كل الوجوه، وإنما كانت حاكمة مدبِّرة، ذات قريحة وقَّادة وهي تحكم هواها وتتغلب على شهوة النفس فيها، ولكنها ما لبثتْ أن هوتْ إلى المستوى العادي فأصبحتِ امرأة لا أكثر ولا أقل منذ ركبتْ هواها وسارتْ مع تيار قلبها، هذه الشخصية الغريبة التي قدَّمتُها إلى قرَّائي من بين نماذج المخدرات الإسلامية جديرة بالتقدير والإجلال من ناحية الخدمات الجليلة التي بذلتْها في أوائل أيامها، وبما كان لها من صدق الطوية في ذلك العهد، والأمر الجدير بالاعتبار والتقدير هو الصالح العام، أما الحياة الخاصة فلا دخل لها في هذا الشعور، ومن أجل ذلك نعدُّها من آلهات السياسة التي لم يَسبِق لها نظير.

لقد مضى على موتها شهور وأعوام وأصاب الشرقَ تقلبات كثيرة وتطورات عديدة وانقرضتْ أمم ونشأتْ على أنقاضها أمم، ولكن لم تسطع بعدُ شرارةٌ واحدة مثل تلك الشرارة التي سطعتْ من أنقاض الأيوبيين.

شجرة الدر الأيوبية جوهر نادر نفيس، ومن أغرب لآلي الشرق، كان دورها عجيبًا وأيامها سلسلة من الحوادث ذات شئون وشجون.

عملت ما في وسعها لتقف حائلًا دون التفرقة بين المسلمين في وقت عصيب، فأدركتْ بغيتها بمهارة نسجلها هنا بفخار، ولا نتمالك من الدهشة تستولي أنفسنا للاضطراب الذي تخلَّل سلسلة أيام هذه المرأة الجميلة التي ختمتْ حياتها بتلك المأساة.

حياة كل شخص زمان قائم بنفسه، ونهايته بداية زمان آخر.

«المعمورة»، يوم الخميس، ١٩ رمضان المبارك سنة ١٣٣١
١  تاريخ مصر الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤