الفصل السادس

عندما بلغ نبينا الهادي ومرشدنا الكبير فخر الكائنات ورسولها الخطير، الأربعين من سِنِي حياته،١ كان يرى الضوء والنور ويسمع صوت النداء ولا يرى أحدًا، ثم صار يرى الرؤيا الصالحة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ولقد يئستْ روحه العالية من أن تجد فيما حولها ما يروي أُوَارها من معرفة فاطرها الذي اشتدَّ شوقها إليه، بل لعلها غلب عليها ذلك الشوق حتى أصبحت زاهدة في كل رؤية وكل سمع؛ ولذلك رأينا محمدًا قد حُبِّب إليه الخلوة والانفراد وكان لغار «حراء»٢ الحظ من هذه الروح الحائمة على حبيبها، تذكر الله وتطيل التأمل والفكر.
ففي يوم من أيام عزلته وقد تناهى صفاء قلبه بما اعتمده من الخلوة، انفضَّ ختام السر المكنون وانكشف الغطاء عن الأمر المصون، جاءه الأمين جبريل برسالة من المَلِك الجليل فألقى عليه الآية الأولى من الكتاب المنزَّل.٣

رجع الرسول ذات يوم من «حراء» ممتقع اللون، مرتجف الصدر، يعلوه الاضطراب، اضطراب الوَجِل الحائر وهو يقول: زمِّلوني زمِّلوني.

فزملتْه السيدة خديجة حتى ذهب عنه الرَّوْع وهي مستغربة لما حدث، ثم فتح عينيه الشريفتين فقال لخديجة بعد أن قصَّ عليها الخبر: لقد خشيتُ على نفسي.

فأجابتْ: واللهِ، ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتَصِل الرحم وتحمل الكَلَّ وتُكسِب المعدوم وتَقْري الضيفَ وتُعين على نوائب الحق، وبعدَ أن هَدَأَ روعه واطمأنتْ نفسه، انطلقتْ به خديجة حتى أتتْ به ورقةَ بنَ نوفل ابنَ عمها فقالتْ له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟

فأخبره الرسول خبر ما رأى، فقال له ورقة: أبشر يا محمد! أنت خاتم الأنبياء الذي أخبر به عيسى بن مريم، وهذا الناموس الذي أنزله على موسى يا ليتني فيها جذعًا٤ يا ليتني أكون حيًّا إذ يُخرِجك قومك وإنْ يُدرِكْني يومك أنصرْك نصرًا.

فقال رسول الله : أوَ مخرجيَّ هم؟

فأجاب: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودي.

وكان ابن عم خديجة هذا قد شبع من الأعوام وارتوى من حديث الأنام، تعلَّم العبرانية وقرأ بها الأسفار، وعرف بها الأديان ورضي بدين ابن مريم — عليه السلام — دينًا، وقد صدقتْ نبوءته وتحقق كل ما أخبره به.

فَتَرَ الوحيُ بعد ذلك فترة طويلة بعد ورود جبريل الروح الأمين في المرة الأولى، فكان النبي يعتزل في الغار مترقبًا لذلك الجسم المهيب بشوق عظيم، ولكن بدون جدوى فيحزن لهذا الأمر حزنًا شديدًا، إلا أن السيدة خديجة التي كانت تقرأ صفحات قلبه وتعلم مكنونات ضميره وحالته الروحية تبذل كل ما في وسعها لمواساته ودفعه إلى الصبر والطمأنينة.

كانت تؤيده وتؤازره وتشرح صدره وتخفف عنه أعباء الهم والحزن، تجالسه وتعاشره لتبدد عنه سحب الشك والريبة، تفاكهه وتحادثه برقيق الكلام وحلو الحديث مداواة لآلام نفسه، تسوق إليه العظات والعبر تطمينًا لخاطره.

لقد أحبَّتْ بَعْلَها حبًّا عميقًا كبيرًا بلغ من عمقه وخطورة شأنه أن أحاط الرسولَ بسياج يقيه من كل شر أو أذًى، فكانتْ لروحه ظلًّا ظليلًا ولقلبه بردًا وسلامًا، فلا بِدْعَ بما نراه في هذه السيدة من الصفات التي تساعد على استقبال أمور عظيمة؛ لأنها خُلِقَتْ لتكون زوج ذلك الرجل الذي سيأتيه أعظم الأمور تشد أزره وتأخذ بيده، أما هو فكان يقابل هذه الصداقة الخالصة باحترامها وموادتها وإكرامها الإكرام الجزيل.

امتدَّ أَجَلُ تلك الفترة إلى ثلاثة أعوام مضتْ بين مرائر الشبهة وآلام النفس، لم يتيسر للنبي الهادي رؤية جبرائيل — عليه السلام — أثناءها، وإنما كان يتراءى له مَلَك آخر هو إسرافيل يمده بالإرشاد والتعليم.

ثم عاوده الروح مرة أخرى والنبي معتكف في حراء، غارق في بحار التأمل والفكر، وقال له: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ.

فكانت هذه الآية الشريفة مبدأً للبعثة المحمدية وعلى أثرها تعلم الرسول الوضوء والصلاة، ودعا السيدة خديجة إلى الإسلام فآمنتْ به وكان وجهها أول وجه مبارك أشرق بنوره.

وكثر تردده بعد ذلك إلى «حراء» ونزول الآيات عليه، وكان كلما نزلتْ آية قرأها على السيدة خديجة فتثبِّت قلبه وتروِّح نفسه وتؤيِّد أمره، وجعل يدعو مَن يأتمنه من أهل مكة سرًّا، إلى أن آمن به كلُّ أصدقائه ومُحبِّيه ودخلوا في زمرة الصحابة المكرمة حتى نزل قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فامتثل ما أُمِرَ به وأظهر دعوة الحق، فكثر أنصاره واشتد حنق المشركين من قريش عليه، فأجمعوا الشر له وعرض عمه أبو طالب للشر دونه، فلما رأت قريش ذلك، اجتمع أشرافهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفَّه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفَّه عنا وإما أن تخلِّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فتكفيه، فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًّا جميلًا، ومضى رسول الله على ما هو عليه فشرى الأمرُ بينهم وبينه حتى تولدتْ إحَنٌ وضغائن، ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وأعذروا إليه في أمر النبي — صلى الله عليه وآله وسلم — واشتد قولهم في ذلك فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يَطِبْ نفسًا بخذلانه النبي ، ثم كلم الرسول فظن أنه قد بدا لعمه تركه، والعجز عن نصرته، فقال: يا عم، والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركتُه.

ثم استعبر رسول الله باكيًا، وكان أبو طالب يحب ابن أخيه حبًّا جمًّا ولم يكن قد أسلم بعدُ، فما كاد يراه حزينًا حتى قام إليه ولحق به يقول: يا ابن أخي قل ما أحببتَ فواللهِ، لا أُسلِمُك لشيء أبدًا وأنا على قيد الحياة.

أما أمنا خديجة الكبرى فقد ضحَّتْ في سبيل الدعوة كل مال ونفوذ فتؤازره وتثبِّت قلبه وتقوِّي حالته المعنوية لتنسيه ما يلحقه من أذى المشركين.

كانت إذ ذاك في الخامسة والستين من سِنِي حياتها، وكانت أكبر مسلمات مكة شأنًا وأعلاهن نفوذًا، كانت منبع الأمل الفياض تسكب معاني النشاط والعزيمة في روح بعلها المبارك، ولكن قد آن لهذا المنبع الطاهر أن ينقطع عن فيضه الغزير شيئًا فشيئًا حتى كان في أواخر تلك السنين العشر الشداد من البعثة على سرير الاحتضار شخص عزيز جدًّا، ترفرف روحه حائمة في هذا المحيط الصغير إلى أن كان جاذب من أمر الله وسنته قضى بطيرانها إليه وأمر الله أعلى وإليه المصير.

هذه الروح هي روح السيدة خديجة، تلك التي كان لانتقالها إلى جوار ربها وَقْعُ الصواعق في الدار النبوي، تلك التي ماتتْ وتركتْ رسول الله في حزن ووحشة.

•••

دُفنت السيدة خديجة بالحَجُون في مكة، ونزل النبي في حفرتها، وقد كان وفاتها عقب موت عمه أبي طالب، فأثر فيه ذلك تأثيرًا شديدًا.

كان يشعر بفراغ كبير في الحياة، ولم يكن إذ ذاك مَن يستطيع أن يملأ هذا الفراغ، كان يقول عن زوجته: إنها خير النساء في الإسلام كما أن مريم خير نساء عالمها.

وقد أثنى على خديجة ما لم يُثْنِ على غيرها، وإنني لأسوق هنا حديثًا مرفوعًا عن زوجته الثانية السيدة عائشة دليلًا على مكانة السيدة خديجة أم المؤمنين من نفس زوجها أكرم الكائنات .

كان رسول الله قد وجد على السيدة خديجة حتى خُشِي عليه، إلى أن تزوج السيدة عائشة بنت أبي بكر بعد ثلاث سنوات من وفاة السيدة خديجة أم المؤمنين.

قالت السيدة عائشة: «كان رسول الله لا يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيُحسِن الثناء عليها، وكان إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا إلى أصدقاء خديجة، فذكرها يومًا من الأيام فأخذتْني الغَيْرة فقلتُ: هل كانتْ إلا عجوزًا أبدلك الله خيرًا منها، فغضبَ ثم قال: لا والله، ما أبدلني الله خيرًا منها؛ آمنتْ إذ كفر الناس، وصدقتْني إذ كذبني الناس، وواستْني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بعدها بسببه أبدًا.» وذُكرَتْ ذات مرة فقال: «إنني لأحب حبيبها، الوفاء من الإيمان.»

ها هو حديث السيدة عائشة، كل كلمة منه آية بيِّنة تنطق بعظة بالغة، فليس لي ما أقوله سوى أن مَن يتأمل قليلًا في سيرة هذه السيدة الطاهرة، وفي محبة الرسول لها قبل مماتها واحترام ذكراها بعد وفاتها، يدرك لأول وهلة ما امتازت به من شخصية بارزة ونفس عالية.

كانت تزيد عن النبي خمس عشر سنة، ولكنه مع ذلك أنزلها من نفسه المكانة السامية في الحياة، وحفظ جميل ذكرها بعد الممات، فيا لله من تلك الجاذبية الشديدة والشخصية العالية! وهل أستطيع بعد ذلك كله إلا أن أختم سيرتها العبقة بالحديث النبوي الجليل: «الوفاء من الإيمان.»

١  قصص الأنبياء.
٢  كانت عبادته فيه الفكر وقيل الذكر، وهو الصحيح، واختلفوا بأي الشرائع كان يدين تلك الأيام؛ فقيل بشريعة نوح، وقيل إبراهيم، وهو الظاهر، وقيل موسى، عليهم السلام، وقيل غير ملتزم شريعة أحد، وهو المختار؛ لظاهر قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، واتفقوا أنه لم يعبد صنمًا ولم يقارف شيئًا من قاذورات الجاهلية. (المعرِّب)
٣  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.
٤  أي شابًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤