الفصل الأول
السيدة عائشة، هي بنت أبي بكر الصديق، من أعلام قريش عزة وجاهًا، وأحد الأربعة المقربين إلى الرسول ﷺ في الإسلام، وأمها أم رُومان بنت عامر بن عويمر الكنانية.
عقد الرسول ﷺ عليها في العام الثالث من انتقال زوجه السيدة خديجة إلى دار الخلد والبقاء، إلا أنه لم يدخل بها في عامه ذلك؛ لأن الزمان والمكان لم يسمحا بتلك السعادة إذ ذاك.
•••
نالت قريش من رسول الله ﷺ ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب؛ إذ كانوا يخشَوْن بأسه ويهابون سطوته، فلا يستطيعون إظهار البغض له علانية، مع أن مراجل قلوبهم كانت تغلي حقدًا عليه، ونفوسهم الشريرة تضمر له ألوان السوء والكيد، ولما ماتت خديجة — رضي الله عنها — بعده بثلاثة أيام تضاعف حزنه ﷺ.
في مثل هذا الوقت العصيب؛ أي في الآونة التي اشتد فيها حزن الرسول ﷺ على فراق هذين الحبيبين، جهر المشركون بعدواته وأطلقوا العنان لحقدهم الكامن يثور ثورة البركان، حتى أصبحت الإقامة في مكة على هذه الحال مشقة ليس بعدها مشقة؛ بدأ المشركون يناوئون الرسول وأتباعه المقيمين في مكة ولا يَدَعون وسيلة من وسائل الأذى والإقلاق دون إيصالها إليهم، وقد جرَّبوا كل ما في استطاعتهم من صنوف الكيد والأذى لإرجاع النبي عن دعوته والحيلولة بينه وبين رسالة ربه إلى الخلق؛ فقد كان كل واحد منهم حريصًا على الفتْك به واستئصاله والفراغ منه لو يقدر على ذلك، وقد دام الحال على هذا الوجه من الشدة والقساوة ثلاثة أعوام، فضاقت الصحابة ذرعًا ولم يرَوْا بُدًّا من الالتجاء إلى المدينة المنورة، فساروا إلى دار السلام مهاجرين أَرْسالًا آحادًا وثلاثًا.
ومن الغريب أنه بينما كان المسلمون يلاقون مثل هذا الاضطراب في مكة، إذا بهم يتكاثرون ويحتشدون في المدينة، ولما كانت الدعوة قد وصلت كثيرًا من القبائل وآمنوا بالرسول كانوا يكرمون وفادة المهاجرين في طريقهم إلى المدينة، ويبذلون لهم المعونة والتعضيد، ولم يتخلَّف من أتباعه ﷺ إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق؛ فإنهما حبسا أنفسهما على صحبة الرسول.
أما رسول الله ﷺ، فأقام ينتظر أمر ربه بالهجرة دون أن يظهر ذلك، وكان أبو بكر — رضي الله عنه — قد تجهز للمهاجرة إلى المدينة وألحَّ على النبي بأن يأذن له بذلك، فقال له: «على رِسْلك، وإني أرجو أن يؤذن لي.»
فاحتبس أبو بكر لذلك.
ولما رأتْ قريش ما لقي أصحاب رسول الله ﷺ من طيب الحال وحسن الجوار في المدينة والمعونة التي بذلتْها لهم القبائل التي آمنتْ، رهبوا ذلك وحذروا خروج رسول الله، وكان أخوف ما يخافونه هجرة النبي إلى المدينة فيلتفُّ حوله عصبة من المؤمنين يكونون نواة قوة إسلامية كبرى، فاجتمعوا في دار الندوة كعادتهم وتشاوروا في أمره، فقرَّ رأيُهم على أن يجمعوا من كل قبيلة شريرًا فيقتلونه دفعة واحدة فيفترق دمه بين القبائل، فافترقوا على ذلك بعد أن أقام الذين اختاروهم لهذا العمل على باب الرسول، فخر الكائنات، في تلك الليلة.