الفصل الثاني
لما صار المُلك إلى العباسيين واستقر نصاب الخلافة فيهم بتدبير السفاح، وبمعونة الإيرانيين أتباعه وأشياعه، نقل عاصمة الملك ومقر الخلافة من دمشق إلى «الكوفة» ليكون قريبًا من رجاله وحزبه، غير أنه لم يجد فيها ما كان يطلبه من الراحة والطمأنينة فغادرها إلى «الأنبار» على شاطئ الفرات ومكث فيها إلى آخر أيامه وفيها انتقل المُلك إلى ابنه المنصور، وكان مطَّلعًا بالأمر قوي الشكيمة حازمًا متدبرًا فتخوف من أبي مسلم الخراساني، ذلك القائد العظيم الذي ارتفعت دولة أبيه على أكتافه وتمت له الكلمة بهِمَّته وفضله، فدبَّر له مكيدة أودت بحياته، ثم ابتنى مدينة «الزوراء» على نهر دجلة من العراق؛ ليكون بنجوة عن شغب أهل الكوفة ممن يكيدون للدولة ويقومون بمناصرة آل علي، والدولة إذ ذاك في ميعة شبابها وإبان نشأتها وسماها «بغداد» أو دار السلام، وكانت تنقسم إلى قسمين أحدهما: يدعى «الرصافة»، وفيه قصر الخلافة وإلى جانبه قصور الأمراء من أقارب الملك وذوي رَحِمه، ثم يتلو ذلك قصور الأشراف وسَراة بغداد، والثاني: وبه بيوت الباعة وأخلاط الناس ودور الصناعة والأسواق، ويكتنفها سوران عظيمان يزيدانها منعة وقوة.
وبذلك أصبحت بغداد كعبة الجمال وآية الحسن وأصبح الخليفة في أمن ودعة، قرير العين ناعم البال في قصره المحاط بتلك الأسوار المنيعة، ثم بنى خارج هذا الحصن المحكم قصر «الخلد» الشهير، وظلت تلك القصور الذهبية الفخمة حتى أيام الرشيد، فكان يقضي أكثر أوقاته بها، وفي أيامه صارت بغداد كعبة الجمال وآية الحسن، ثم حذا من جاء بعده من الخلفاء حذوه فكانوا يأخذون مغارم الحروب من كتب اليونان، وعندما ارتفع شأن الدولة ارتفع معها شأن العلوم والمعارف في بغداد، وبدأ يؤمها العلماء والحكماء على اختلاف طبقاتهم، وينزحون إليها من أقاصي البلدان على بُعْد المشقة رغبة في العطايا وأملًا في النوال، ولم يكن الخلفاء ليغفلوا أمر ذلك بل أجلُّوا العلماء وعرفوا لهم أقدارهم من الكرامة وأحلوهم أسمى الدرجات وأعلى المراتب، وأسال الرشيد عليهم الذهب النضار وأوسع لهم العطاء، فتمشى العمران على جانبي الدجلة شرقًا وغربًا بالأبنية البديعة والقصور الأنيقة المحاطة بالحدائق الغناء والبساتين الزهراء؛ حتى أصبحت الدجلة كالحوض البديع يخترقها بغداد وما يليها من الضواحي والمنتزهات كأنها المرآة الصافية يحف بها إطار شتى النماء والألوان.
سقيًا لتلك الأزمان والعهود التي كان الغرب ينهل فيها من موارد الشرق، ففي بغداد عظم شأن الفلك وفيها تقدَّم علم الكيمياء، وفي ذلك العهد الزاهر تدرجت الفصاحة والبلاغة وأساليب القول في الخطب والإنشاء إلى أسمى المراتب، فاستنارت العقول ورقت الطباع والمشاعر وتنافس الخلق في ضروب البهرجة والزينة وأنواع الرفاهة، وأصبح التظرف والتجمل ودقة الصناعة ديدن كل إنسان وشعاره، فسالت أنهر الدنانير وتغالى الناس في اقتناء المجوهرات وأواني الزينة من الفضة والذهب بكثرة لا تقع تحت حصر ولا قياس، إلى حد أن ضاعت قيمتها الأصلية، وكانت العطايا والجوائز من الزمرد والياقوت والفيروز وغيرها من النفائس تنهال على الشعراء والأدباء والحكماء كالسيول الدافقة بلا عدد أو حساب؛ إذ كان الشاعر أو النديم أو العالم يأخذ ما يتمناه من سامعيه إذا أجاد القول أو أحكم الشعر في قولة يقولها أو حكمة يفسرها، ولهم في ذلك قصص متواترة تتناقلها الألسن جيلًا بعد جيل، وكذلك الغناء كان له شأن يُذكر حتى وصل إلى ما وراء الغاية في تشعب طرقه وكثرة مذاهبه، وتفنَّن الناس فيه استدرارًا للرزق وطلبًا للحظوة لدى الأمراء والكبراء، فنبغ فيه كثيرون نقل التاريخ إلينا أسماءهم دون ألحانهم ومجهوداتهم التي بقيت للأسف كالألغاز التي لا يتوصل المرء إلى حلها.
في هذه الأيام السعيدة المبهجة من العصر الثاني للهجرة النبوية، وُلدتْ بطلة من بطلات الإسلام زادت نور عصرها إشراقًا، هي زبيدة حفيدة أبي جعفر المنصور، منشئ بغداد.