الفصل الثالث
على مقربة من الموصل قصر جميل بناه المنصور وسماه «قصر الحرب»، ثم وهبه إلى ابنه
جعفر عندما عيَّنه واليًا على الموصل، في هذا القصر وُلدت زبيدة وفيه مات أبوها
جعفر بعد ولادتها بثلاثة أعوام.
نشأت زبيدة في مهد الدولة العباسية، فكانت مهبط الحب وموطن العناية والتجلة
والإعزاز من قلوب بني العباس، لا سيما جدها المنصور، ركن الدولة العباسية ومقرها
الأشرف وعميدها الأجل، فقد كان يؤثرها بقلبه ويختصها بحب فوق كل حب، وهو الذي لقبها
بزبيدة لما رأى من بضاضتها ونعومتها فغلب عليها هذا اللقب وصارت تسمى به دون اسمها
الحقيقي، وقد قام جدها بتربيتها فأحسن أدبها وتربيتها؛ فعلَّمها القراءة والكتابة
وروَّاها الشعر وحفَّظها الأخبار والسير؛ فشبَّتْ كَلِفة بالشعر
١ والهة بالأدب حتى كانت تزين حوائط غرفتها بالستائر الموشاة بالنظم
البديع والأبيات الموثقة.
كانت ذات ملامح جذابة وجمال خاص بنساء عصرها، فاشتهر عنها الأدب والكمال والجمال
مع علو النسب حتى صار يُضرب بها المثل في الأندية العالية والمجامع الراقية، وقد
ظهر من إعزازها والمغالاة بشأنها يوم أن زُفت على ابن عمها الرشيد، فقد عُقد له
عليها عام ١٦٥ هجرية وهي في السابعة عشرة من عمرها وتمت حفلة قرانها بأبهة خارقة
للعادة لا يسع له مجال الخيال، فكانت من أبدع الحوادث التي يرويها التاريخ
٢ بإسهاب وإطناب يقصر دونهما كل قول ووصف، وقد نالت تلك الحادثة استحسان
جمهور المسلمين المنتشرين في أصقاع العالم، ووقعت من نفوس كبرائهم وأمرائهم موقع
الاستحسان فتهافتوا على هذه الحفيدة الهاشمية بأنواع الهدايا وضروب المجوهرات وصنوف
الطيب وأدوات الزينة استجلابًا لرضاها ورغبة في حظوتها، ولقد أُلقِي عليها في حفلة
زفافها من غوالي اللآلئ ما أثقل سيرها وعاق مشيها، ولقد نُثر اللؤلؤ في جنبات
طريقها على البسط الموشية بأسلاك الذهب وهي تتهادى في الثياب المزخرفة التي بالغوا
في تطريزها وتزيينها بأنواع الجواهر التي يعجز المرء عن تقديرها أو تقويم
قيمتها.
كان الزفاف في قصر الخلد المطل على مناظر الدجلة البديعة، وفي وسط تلك المناظر
الخلابة تمتعا بأشهر الغرام وأوقات السعادة، وما كاد يمضي على زواجها أربعة أعوام
حتى ولدت له محمدًا الأمين، ثم بعد ذلك بعام واحد أي سنة ١٧٠ هجرية تقلد الرشيد
زمام الخلافة بعد أخيه موسى وهو في العشرين من عمره.