الفصل الأول

عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله، ثامن ملوك بني أمية في الأندلس، ناصية معروفة في التاريخ الإسلامي، وعَلَم من أعلام الأندلس، ما كاد يجلس على عرش الخلافة حتى بذل ما في وسعه لترقية المملكة وإعلاء شأنها، إلى أن وصلتْ أعلى درجات الرقي وفاقت ممالك أوروبا مدنية وحضارة في المدة التي تقلد أثناءها الحكم وتُقدر بنصف قرن.

عاش هذا الخليفة المقتدر وله أمل واحد، سعى لإدراكه وتحقيقه طول الحياة، ذلك الأمل: هو مجد الأندلس وعظمتها، وقد كانت همته أكبر من أن تكلَّ، فواصلَ ليله بنهاره مجدًّا مجتهدًا حتى صيَّر قرطبة جنة فيحاء، تتخللها القصور الشاهقة والمساجد الكبيرة والمدارس العالية والمستشفيات العديدة ودور الكتب الحاوية لأنفس الآثار والمآثر، أراد ترقية العلم في ربوع بلاده؛ فأحضر لها العلماء والحكماء من سائر ممالك العلم،١ ورغب كذلك في زينتها وبهرجتها فلم يألُ جهده في تخطيط الشوارع وغرس الأشجار وحفر الترع والجداول الموصلة للأنهار، وإن هي إلا عشية وضحاها حتى كانت قرطبة تنافس بغداد في أبهة الحضارة وأسباب الرفاهة والعمران، وأصبحتْ موضع إعجاب كل مَن يقصدها من الزوار بحسن نظامها وبديع ترتيبها، واجتمعت كلمتهم على أنها عروس المدائن ومعدن الظرف ومنبع أنواع الكمالات،٢ وإن التاريخ لن ينسى أياديَه البيضاء على العلوم والفنون وترويجه الزراعة والتجارة في تلك البلاد الجميلة التي أضاءت نفوس أهلها من رجال ونساء بأنوار العلم والعرفان٣ حتى أصبحتْ ترفل في تلك الحلل الجميلة، حلل المدنية في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في ظلمات الجهل، تتلمس لنفسها سبيل النور والضياء.
وجَّه همَّتَه إلى تنظيم الجيش وبناء الأساطيل؛٤ وبذا أصبح صاحب الكلمة العليا في مياه البحر الأبيض، ولم يكتفِ بما كان يحرزه في ميادين الحرب والقتال، بل تطلع أيضًا إلى التغلب في ميادين السياسة، فما لبث أن نال فيها قصب السبق وعُقدت له بها ألوية الظفر والفخار.

أكبر المسلمون من كافة أنحاء العالم ما كانوا يرونه فيه من أمارات الذكاء ودلائل العدل مع ما كان عليه من حسن التدبير ووفرة الجاه وقوة السلطان وعزة الملك، فعظمت منزلة قرطبة في أعينهم وأصبحت بمثابة القلب النابض لأجزاء الممالك الإسلامية الأخرى المنتشرة من أقصى المعمورة لأقصاها.

كان عصر نهضة وزمان تجدد وانتباه، وكان للعلوم والفنون وقتئذٍ تجارة نافقة، وللأندلس من هذه النهضة نصيب وافر حيث كانت مطمحًا لأنظار الشعراء والعلماء وقبلة أهل الأدب وغيرهم من الوجوه ورجال الفضل من كل صوب وحدب.٥

قال عبد الرحمن الناصر يخاطب ابنه الحَكَم: «كلما طال عهدي قصر زمانك يا بني.» وقد طال حقيقة عهد عبد الرحمن، وكان ذلك لمجد الإسلام وعظمته؛ لأنه من أحسن الأزمنة التي عادتْ على الأمة الإسلامية بالخير العميم، بل أقول: بأنه كان بلا مراء العصر الذهبي للإسلام المتوج تاريخه بإكليل المجد والفخار.

حسبك حسنة من حسنات عبد الرحمن؛ جامع قرطبة الشهير والقصر المعروف ببيت الزهراء،٦ ذلك القصر المشيد على مقربة من قرطبة في أجمل بقعة من بقاع الأندلس.

لقد عجز المؤرخون عن وصف هذا القصر، وأوقع قلوب زائريه من أهل الفن في الدهشة والإعجاب؛ لأنه كان أجلَّ من أن يوصف وأبدع من أن يُصوَّر؛ كان مملوءًا بضروب الصناعة وصنوف البهرجة وأنواع الزينة من الداخل والخارج بحيث لا تقع العين إلا على آية من آيات الفن أو منظر من المناظر الرائعة الجديرة بالإجلال والتقدير.

كان ما يراه الإنسان خارج القصر لا يُقاس بما تقع العين داخله؛ فقد كان لكل زخرفة من زخارفها حالة جذابة خاصة بها، وبالإجمال فهو من تلك القصور التي لا نسمع عن نظائره إلا في أقاصيص الجان وأساطير الأولين.

كانت الحديقة المحيطة بالقصر من أجمل البساتين البالغة غاية الكمال في التنسيق والترتيب، تزينها أبسطة زمردية خضراء وأشجار باسقة شامخة بأنفها في الفضاء، وأحواض رخامية تحيط بها صنوف شتى من الورد والأزاهير.

وقد كان في القصر مائتان وألف عمود من أفخر الرخام، وقاعة استقباله مزينة بالذهب مطرزة باللؤلؤ، والأبواب من خشب الأرز منقوشة نقشًا يحير الألباب، والعمد غاية في الإتقان والإحكام كأنها أفرغت في قوالب، وكان بها بِرَك عظيمة يجري منها الماء الصافي إلى أبدان تماثيل غريبة الشكل والصنعة تكاد المخيلة تعجز عن تصورها.

قال «المَقَّرِيُّ» يصف أحد مجالس هذا القصر: «سقفه من الذهب والرخام الغليظ الصافي لونه، المتلونة أجناسه وكانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك، وجعلت في وسطه اليتيمة التي أهداها «لاون» ملك القسطنطينية إلى الناصر، وكانت قراميد هذا القصر من الذهب والفضة وفي وسطه صهريج مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدتْ على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر قامت على سوار من الرخام الملون ذي البللور الصافي، وكانت الشمس تدخل تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار.»٧

كل زينات هذا القصر كانت بديعة مونقة، وكل النقوش التي تزينه دقيقة ومحكمة، أما الحوائط فقد كانت لوحات فنية نفيسة والأعمدة شفافة رقيقة ذات قوام جاذب، وجماع هذه النفائس كان ينبعث منها نور وجلال يتضاءل أمامها أبهة قصر الخلد الذي بناه الرشيد في بغداد.

قصر الزهراء تاج أعمال عبد الرحمن الناصر، شيَّده لتخليد اسم زوجته المحبوبة، فزاد بذلك من شأن قرطبة وأهميتها وكان سببًا في لفت أنظار العلماء والأدباء إليه واكتسابه محبة الشعب ونواله حمد أهل المشرق واستحسان أهل الغرب، هذا إلى تخليد اسمه في طيات التاريخ بطريقة لا يمكن محوها إلى أبد الآبدين.

ولقد توفي سنة ثلاثمائة وخمسين هجرية وهو في الثانية والسبعين من عمره بعد أن سلخ خمسين حجة في حكم بلاده.

كانت قرطبة عند وفاته تحتوي على ١٣٠ ألف مسكن وثلاثة آلاف جامع وخمسين مستشفًى وثمانمائة مدرسة وتسعمائة حَمَّام وستمائة خان، بينما كانت المكتبة الملوكية تضم بين جدرانها كتبًا يتراوح عددها بين ٤٠٠ ألف و٧٠٠ ألف مجلد،٨ إلا أنه ترك ما هو أبلغ من ذلك وأعظم شأنًا؛ فقد ترك بين أوراقه الخصوصية جملة حكمية ضرُبت بها الأمثال وسارت بذكرها الركبان، هي قوله: «أحصيتُ أيام حياتي التي عشتُها في صفو وهناء لا تظللها سحب الأكدار فإذا هي أربعة عشر يومًا فقط.»

مَلِك عظيم دانتْ له الرقاب وتوفرت له أسباب العز والجاه عاش مبجلًا، معززًا، ترمقه العيون بالمهابة وتحفه الأنظار بالإجلال ولم يتمتع من أيام حياته الطويلة إلا بجزء صغير — أربعة عشر يومًا فقط — فما أبلغ هذه الحكمة السامية التي تتضاءل أمامها جلائل المعاني!

١  الأمير علي.
٢  دوزي.
٣  روزفيت.
٤  الأمير علي.
٥  دوزي.
٦  تاريخ الأندلس لضيا باشا.
٧  نفح الطيب للمقري.
٨  المقري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤