الفصل الثاني

تمَّ زواج السيدة فاطمة الزهراء من الإمام عليٍّ — كرم الله وجهه — في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة النبوية المباركة، ولقد كانت سيدة النساء إذ ذاك في أزهى أوقات الحياة، في الثامنةَ عشرةَ من عمرها، أما الإمام عليٌّ فقد كان يبلغ الحادية والعشرين، كلاهما شخصيتان يحيط بهما جلال الإيمان ونور الهدى، متكافئان متعادلان من كل الوجوه مناسبٌ أحدهما للآخر كلَّ المناسبة.

كلاهما عالي الفكر رقيق الحس حميد الخلق، صبيح الوجه، فكلاهما زوجان مفتونان بالمعالي، عاشقان مغرمان بالمحامد.

بدأتْ حياتهما المشتركة التي امتزجتْ فيها الفضيلة بالكمال والأصالة بالجمال على هذا الوجه من الصفاء والإخلاص.

حضر الإمام عليٌّ ذات يوم من أيام السنة الثانية للهجرة إلى الدار النبوية بنفسه، وبعد أن دخل الدار سلَّم على الرسول فخر الكائنات وسكت.١

فسأله الرسول ما إذا كان يطلب شيئًا، فردَّ عليه مجيبًا بأنه حضر ليطلب كريمته السيدة فاطمة، فقال له الرسول: مرحبًا أهلًا، ولم يَزِدْ على ذلك بل ظلَّ ساكتًا بعدها؛ مما اضطر عليًّا إلى العودة محتارًا مدهوشًا.

لم يستطع أن يميز وجه الحقيقة من رد الرسول فسأل بعضًا من الأنصار فبشَّروه وطيَّبوا خاطرَه وأفهموه بأن في هذا الرد ما يُشعِر بالقبول والإيجاب ففرح الإمام واغتبط بذلك.

ونرى الرسول — صلوات الله عليه — بعد قيام علي يطلب كريمته السيدة فاطمة ويخبرها بهذا الأمر ويسألها رأيها فلا تجيبه بل تُطرِق ساكتة، فيعد فخرُ الكائنات سكوتَها علامة الإيجاب والرضا فيقرِّر إتمام عقد الزواج، ثم يرسل بطلب عليٍّ — كرم الله وجهه — ذلك ويسأله هل عنده من شيء، فيجيبه أنه لا يملك سوى فرسه ودرعه، فيأمره ببيع الدرع لتجهيز السيدة فاطمة بثمنها.

يهرع عليٌّ إلى السوق فيبيع الدرع إلى عثمان بن عفان بأربعمائة وسبعين درهمًا ويعود بالثمن معقودًا في طرف ثوبه ويضعه أمام الرسول وهو يقول: «ها هو بدل الدرع يا رسول الله.» فيقبض الرسول بعض دراهم منها ويناولها بلالًا ليشتري بعض الطيب والروائح ويسلم الباقي إلى أم سلمى لتشتري الجهاز، وإلى القارئ جملة ما بعثه الرسول مع ابنته سيدة النساء.
  • ثوبان من الصوف.

  • خميلة.

  • سواران من الفضة.

  • طاقية.

  • قِدْر.

  • رحًى.

  • وعاءان صغيران للماء.

  • وعاء صغير للماء.

  • كوز.

  • حشيتان: إحداهما من ليف النخل والأخرى من قطع الجلد.

  • أربع وسادت: اثنتان منها محشوتان صوفًا والأخريان ليفًا.

ها هو جهاز سيدة النساء، كريمة فخر الأنبياء في السنة الثانية من الهجرة، فما أبلغه درسًا في الاقتصاد للأمة الإسلامية!

•••

وبعد أن أحضرت أمُّ سلمى ذلك الجهاز، دعا الرسول جمعًا غفيرًا من الأنصار، ثم خطبهم خطبة بليغة أثنى فيها على الله ما هو أهله، وذكر فيها فوائد الزواج وختمها بقوله: قد زوجتُ فاطمةَ من عليٍّ بأمر الله، ثم دعا لهما عقب ذلك بحسن المعاشرة وبالذرية الصالحة، وعندما تمَّ عقد النكاح على هذا الوجه البسيط أحضر الرسول للحاضرين من الأنصار وعاء فيه بعض التمر وقدَّمه إليهم بقوله: تخاطفوا.

هكذا تم زفاف سيدة النساء وابنة فخر الكائنات بلا ضجيج ولا ضوضاء، ولكنه بالسرور يملأ أرجاء القلوب، بالصفاء الذي يعدل الصفاء يشعر به المرء أيام الأعياد. ما السعادة؟ أليست صفاء القلوب، فإذا كان القلب مغمومًا كئيبًا فما هي قيمة الحياة مهما ازَّينتْ وأُنِيرتْ وحفَّ بها أسباب الأنس وألوان السرور؟

بعد أن تفرق المدعوون طلب الرسول أم سلمى وأمرها بأن تذهب بكريمته إلى دار علي، وبأن تخبرهما أنه آتٍ إليهما عن قريب، فنفذت أمْرَه وسارتْ بسيدة النساء إلى دار زوجها.

أما الرسول فقد صلى صلاة العشاء ويمَّم عقب الصلاة دار علي وفي يده قِرْبة من الجلد تستعمل لسقى الماء، وعند وصوله دار صهره قرأ عليها سورة المعوذتين وبعضًا من الأدعية وأمرهما بأن يشربا ويتوضآ من الإناء، ثم أخذ قليلًا منه ونثره على رأسيهما وعندما أراد مفارقتهما وقد همَّ بالقيام كانت فاطمة — رضي الله عنها — تبكي فخاطبها بما معناه: «أي بنيتي، قد تركتُك وديعة عند رجل إيمانه أقوى من إيمان أي إنسان آخر، وعلمه أكثر من علم الجميع، إنه من أفضل قومنا أخلاقًا وأعلاهم نفسًا.»

أهدى نفر من الأنصار الكرام سيدة النساء كبشًا وبضع كيلات من الذرة بمناسبة هذا الزفاف، وكانت الدار النبوية قد أرسلتْ إليهما بعضًا من التمر والزبيب، فأوْلَما من هذه الأشياء وليمة حسنة.

على هذا الوجه تمَّ عَقْد الشركة القلبية بين سيدة النساء فاطمة والإمام علي — كرم الله وجهه — فلا يمكن المزيد على هذا النوع من الصفاء والضرب من البساطة، لأن يُحِبَّ الإنسانُ ويُحَبَّ وليصير سعيدًا ويُسعِدَ مَن حوله هذه أمور تتوقف على ما يؤسسه المرء من دعامات الحب فوق أُسُس الإخلاص ليعيش في مأوًى محكم يقاوم عواصف الدهر وأزمات الزمان، وتزيده آلام النفس قوة، وتجعله مواسم العمر أزهى وأبهر مما كان.

بمثل هذه المتانة والرزانة أحبَّ عليٌّ زوجتَه سيدة النساء، وببركة الدعاء النبوي كنتَ ترى إشراق الشمس وألوان السماء الصافية ونشوة الشباب وما إلى ذلك من المعنويات مجتمعة في دار عليٍّ تقطع مراحل العمر مع ذينك القلبين الطاهرين وتغمرهما بأنوارها الزاهية.

كل يوم من هذه الأيام السعيدة في سلسلة العمر البشري تلك التي تمر بين أنوار السرور وأضواء الابتسامات، ألَا تكون كالجواهر النفيسة قيمة بمقدار ما يكون نصيبها من تأثر وانسياق؟! فالأوقات المملوءة بالمحبة هي أوقات الياقوت، وأيام الأمل تشابه الزمرد، والأزمان التي تمضي بالصداقة تحاكي الفيروز، والأعمار التي تنقضي بالوئام والاتحاد تكون كاللآلئ، فهذه الأوقات النفيسة كم هي جديرة بالاهتمام والعناية! هذه النفائس بعد أن يمضي وقتها وبعد أن تتزين بها النحور يجب أن تصان في مَحَافِظ قَيِّمة، يجب أن يُعنَى بشأنها؛ لئلا يصيبها أذًى أو يعتورها فساد أو يلحقها غبار ينقص ويقلل من شأنها، فإذا ما انقضى ربيع الحياة ومضت أنوار العمر وذبلت أزهار السرور والبسمات فإن إخراج هذه النفائس من مكامنها للتملِّي بمشاهدتها وإعادة الذكريات الحلوة برؤياها وتجريد خواطر الصبا بواسطتها، سعادة يا لها من سعادة!

كان الرسول قد أَمَرَ كريمته العزيزة بأن تقوم بما يخصها في هذه الحياة من شئونه وأعبائه أي كل ما يتعلق بإدارة المنزل من خبز وطبخ وكنس وتنظيف، كما كان علي يقوم بما يترتب على الرجل من وظائف الحياة خارج المنزل؛ إذ كان يرعى الإبل ويشتري لوازم بيته من السوق.

وهما في ذلك وإذا بعليٍّ يقول لزوجته يومًا: «لقد سَنَوْتُ حتى اشتكيتُ صدري وقد جاء الله بسبْيٍ فاذهبي فاستخدمي.» فقالت: «وأنا والله قد طحنتُ حتى مَجِلَتْ يداي.»٢ فأتتِ النبيَّ فقال: ما جاء بك أيْ بنية؟ فقالتْ: جئتُ لأسلِّم عليك، واستحيَتْ أن تسأله ورجعتْ، فأتياه معًا هي وزوجها، فذكر له عليٌّ حالهما، قال: لا والله لا أعطيكما وأَدَع أهل الصُّفَّة تتلوَّى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم ولكن أبيع وأنفق عليهم أثمانهم فرجعا، فأتاهما وقد دخلا على قطيفتهما إذا غطَّيَا رءوسَهما بدتْ أقدامُهما وإذا غطَّيَا أقدامَهما انكشفتْ رءوسُهما فثارا فقال: مكانكما، أَلَا أُخبِرُكما بخير مما سألتُماني؟ فقالا: بلى، فقال: كلمات علَّمنِيهن جبريل، تُسبِّحان في دبر كل صلاة عشرًا وتحمدان عشرًا وتكبِّران عشرًا، وإذا أويتُما إلى فراشكما تسبِّحان ثلاثًا وثلاثين واحمدا ثلاثًا وثلاثين وكبِّرا أربعًا وثلاثين، فسكتا وعَمِلَا بإشارة الرسول.
لفاطمة الزهراء من الأولاد خمس: ثلاث صبيان وبنتان، وهم: الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم وزينب، وقد مات محسن صغيرًا.٣
كانتْ — رضي الله عنها — ذات عقل ودراية، عالية النفس تجيد الشعر وتعرف مسائل الفقه والشريعة ولها إلمام بالتاريخ، ولم يأخذها الغرور يومًا لعلو منزلتها في الإسلام، وكانت سَلِسَة القياد حلوة اللسان تحب معونة الفقراء كزوجها علي، وقد كان أكثر خرجه في وجوه البر والقرب، فكان له ارتفاع طائل من أملاكه يخرجه جميعه على الفقراء والضعفاء ويقتنع هو وعياله بالثوب الغليظ من الكرباس وبالقرص من خبز الشعير.٤
مرض الحسن — رضي الله عنه — ذات يوم في إبَّان صباه واشتدتْ عليه وطأة المرض شدة أقلقتْ بال ذويه، وبينما كان سيدنا عليٌّ — كرم الله وجهه — في المسجد مع نفر من أصحابه، مطرقًا حزينًا على حالة ولده، وإذا بهم يشيرون عليه بأن ينذر أمرًا لله إذا عاودتْه الصحة، ولما عاد إلى داره نوى أن يصوم ثلاثة أيام لوجه الله فاستصوبتِ السيدة فاطمة هذا الرأي وشاركتْه في الصيام، وقد اعتقد الحسين أيضًا أن في مثل هذا النذر شفاءَ أخيه فنسج على منوال أبويه في الصيام، وكان الإمام علي — كرم الله وجهه — قد أحضر مقدارًا من الشعير من أحد معارفه فطحنتِ السيدة فاطمة نحو ثلثه وجعلتْه خمسة أرغفة، وبينما كانت هذه العائلة العلوية المباركة على المائدة انتظارًا لوقت الإفطار ساعة الغروب، مرَّ فقير على بابهم وسأله شيئًا من القوت فترك عليٌّ ما بيده وتبعتْه السيدة فاطمة وناولا الرجل جميع الأرغفة المعدَّة للطعام ذلك اليوم، وقد حدث لهما ذلك في اليومين التاليين من صيامهما حتى إن العائلة جميعها اضطرت أن تمسك عن الطعام والشراب ثلاثة أيام متواليات اللهم إلا قليل من الماء يترشفانه رشفًا، ولكن الله قَبِل صيامهم؛ إذ إن الحسن أخذ يتماثل نحو العافية في اليوم الرابع ففرح والداه بذلك فرحًا شديدًا وأخذا الحسن والحسين إلى جدهما الرسول — صلوات الله عليه وسلامه — وقصَّا عليه ما وقع لهما، وقد أخبره الإمام٥ — كرم الله وجهه — ما لاقتْه السيدة فاطمة من عناء وشدة في أيامها الثلاث، فبشرهما النبي فخر الكائنات بأن الله قَبِل منهما صيامهما وبرهما.

لا أدري بأي لسان أصف مثل هذا العمل الصالح وكيف أصور للقارئ أمثال هذه النفوس الطاهرة، أمثال هذه الحوادث تبعث الأمل والتسلية في النفوس وتغري المرء بالاقتداء بمثل هذه التضحيات الدالة على الكمال الخلقي.

كانت السيدة فاطمة امرأة من بنات حواء مثلنا، ولكنها نزعتْ طول حياتها إلى العلو ووقفت دقائق العمر على ما فيه صلاح النفس وكمالها، ولنا من ذلك مثال جدير بالاقتداء، ودرس أخلاقي بليغ.

تلك الحياة النزيهة الصافية يصيبها ما يعكر صفاءها ذات يوم، فترى عليًّا في طريقه إلى المسجد مغمومًا كئيبًا يتنفس الصُّعَداء حتى إذا وصله وصلى قليلًا تغلب عليه النعاس فنام منزويًا في أحد الأركان، فرآه الرسول على هذه الحالة وكان قد علم بالنزاع الحاصل بينه وبين كريمته السيدة فاطمة، فتقدم نحوه ومسح ما عليه من التراب وهو يقول: «ما جلوسك هنا يا أبا تراب»،٦ ثم أمره بالعودة إلى داره، فأصبح يلقَّب بذلك منذ ذلك، وكان ذلك من دواعي سروره.

•••

كانت السيدة فاطمة تشابه أباها في كلامها وتحاكيه في مشيتها محاكاة تامة تثير دهشة الناس، أما محبتها لوالدها فخر الكائنات تلك المحبة الخارقة للعادة، فإن الكتب والأسفار مشحونة بقصائدها وأحوالها وحوادثها في هذا الصدد.

وأستطيع أن أقول: إن هذه المحبة التي تفوق كثيرًا محبتها لزوجها وأولادها كانت محور حياتها النزيهة والعنصر الأساسي فيها، فإن آثار الشفقة والحنان التي كان يظهرها لها الرسول — صلوات الله عليه وسلامه — ونصائحه الأبوية وكلماته الطيبة، هذه المعنويات هي التي سطع بريقها وأشرق نورها في تلك الحياة الطاهرة التي دامتْ ثمانية وعشرين ربيعًا، فصحبتْها الروحانية لوالدها الرسول هو الذي رفع شخصيتها وألقى شعاعًا من النور على نسويتها.

قد كانت عالية النفس بفطرتها ولكنها بهذا الاتصال الروحي تمكنتْ من أن تكون ذات شخصية لاهوتية وأن تكون مظهرًا لعنوان سيدة ربات الخدور.

كانت السيدة فاطمة الزهراء محبوبة من أهلها يحبها الجميع، أما هي فقد كانتْ مشغوفة بحب والدها أكثر من أي إنسان آخر، كانت تحب الرسول فخر الكائنات من أعماق القلب والروح، وقد تركتْ ذكريات حسنة في قلب كل إنسان عرفها أثناء فترة السنوات العشرة التي مضتْ من يوم زواجها حتى ساعة وفاتها، فكان الإمام عليٌّ ينفذ كل طلب لها ويعمل بكل كلمة تقولها، وكان أولادها وعيالها يطيعونها ويحترمونها في كل حين ولحظة.

كانت تحب أولادها وتعتني بشأنهم، وكانت في صلاتها وعبادتها، في مبراتها وخيراتها من أكثر السيدات أنسًا في محفل ربات الخدور.

روي عنها أحاديث نبوية كثيرة، ونظمت قصائد ذات أبيات عامرة، وأظهرتْ دراية ومهارة في حل كثير من المعضلات.

على هذا النحو البديع مرت حياتها العذبة حتى السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية المباركة، تجبر القلوب الكسيرة وتعين المحتاجين وتغيث الملهوفين، وقد ظلت هذه الحياة السعيدة على هذه الوتيرة حتى السنة الحادية عشرة من الهجرة، أي في العام الذي انتقل فيه الرسول إلى جوار ربه، فتناثرت أوراق تلك السعادة وأظلم قلبها بعد أن غاب عن سمائه تلك النجمة العالية التي سطعتْ فيه ردحًا من الزمن، وهكذا الدهر لا ينقضي يوم حتى يعقبه ليل.

أقبلت ذات مرة تزور الرسول — صلوات الله عليه — وكان معه السيدة عائشة، فقال: مرحبًا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه ثم أسرَّ إليها حديثًا فبكتْ، ثم أسرَّ إليها حديثًا فضحكتْ. فقالت السيدة عائشة: «ما رأيتُ كاليوم أقرب فرحًا من حزن؟ فسألتْها عما قال، فقالتْ: ما كنت لِأُفشِيَ٧ على رسول الله — صلى الله عليه وآله وسلم — سرَّه. فلما قُبض سألتْها، فأخبرتْها أنه قال: إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين، وما أراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقًا بي ونعم السلف أنا لك. فبكيتُ، فقال: ألَا ترغبين أن تكوني سيدة نساء العالمين، فضحكتُ.»

لم تترك السيدة فاطمة أباها الرسول لحظة واحدة وهو على فراش الموت، فقالت له يومًا وهي تبكي: «إنك يا أبي تعاني سكرات الموت هلَّا أقمتَ من خواصِّ صحابتك مَن يليك في أمر النظر في شئون العامة قبل أن تُنقل من دار جهادك إلى الآخرة مقر خلدك وسعادتك، وها قد بدأ النحول والإعياء يظهران عليك فلو تعلم مقدار محبتي لك، إنك قد خلفتَ لي ذكريات كثيرة تذكرني بك أما أنا فلا أملك شيئًا أعده، قلبي أسيف يملؤه الحزن أحاول اليوم تعزيته إنني سأفقدك فوا مصيبتاه! وما أشدَّ بلواي! أما أنا لا يرثى لحالي إنسان.» فأجابها الرسول بما معناه: أيْ «بنيتي هذا يومٌ لم يبقَ لي فيه شأن مع أحد، وسوف أرى جزاء ما صنعتُ إن خيرًا وإن شرًّا، لقد علمتُ حالهم ومضيتُ في أمرهم بالعدل، والله على ما أقول شهيد، حافظتُ على التأني وجاهدتُ من أجلهم وارتديتُ لباسهم وصليتُ معهم دون أن يعتريني فخر أو كِبْر، ولم أتخذ لنفسي ما يشبع جوعي، ولم أرتد ثوبًا ناعمًا يرفه جسمي، بل قضيتُ حياتي في فقر وضرورة، فإذا انتقلتُ إلى جوار ربي لينظروا في شأن أنفسهم بنفسهم وأعطي إليهم لباسي الذي أتقي به البرد والغطاء الذي أتدثر به وتلك الحشية المصنوعة من ليف التمر التي أجلس عليها وقاية الرطوبة.» عندما توفي — صلوات الله عليه — لم يكن معه سوى السيدة عائشة وعمه العباس وكريمته فاطمة وزوجها الإمام علي — كرم الله وجهه.

لقد حزنتِ الزهراء حزنًا شديدًا لوفاة فخر الكائنات، ودام حزنها إلى أن توفاها الله، فلم يظهر على وجهها إمارة من السرور طول تلك المدة.

خُيل إليها بعد مصيبتها أن العالَم كئيب مغموم وأن الشمس مظلمة والسماء مغبرة قاتمة؛ ذلك لأن المناظر التي يراها المرء من خلال الدموع تظهر غبراء باهتة لونها يغم الناظرين، كثرة دموع اليأس تقلل بهجة الحياة وتنقص مقدار أذواقها، فإذا بكى القلب دمعت العين، وما في العالم من جاذبية وأشواق يتوقف على ما يفيضه القلب من السرور والبِشْر؛ إذ تنعكس أضواء العالم على مرآة القلوب، فاليوم الذي نشعر فيه بالحزن والكآبة لهو يوم أغبر لا طعم ولا لون له، أما أيام سرورنا فهي أيام بيضاء ذات ألوان يشع من خلالها كل بريق للأنس والصفاء، وكما أن رونق الحياة متوقف على نشاط الأنفس فهناك علاقة وارتباط بين جواذبها وإحساس ذواتنا.

وقد أعقب بكاء الزهراء فترة هي فترة السكون والهدوء، ودل ذلك على أن ارتباطها بالحياة الدنيا قليل آخذ في الانحلال رغم ما كانت تشعر به من الحنو والمحبة إلى أهل بيتها، وكانت تشعر بأن فراقها سيكون سهلًا مستساغًا؛ لأنه سيوصلها إلى حبيب قلبها، إلى والدها الرسول — صلوات الله عليه.

الرابطة القلبية التي تربطنا بهذه الحياة الفانية منشؤها أننا نعيش فيها مع مَن نحبهم، فكل منا يربطه بالكتلة البشرية رباط معنوي كالخيوط الحريرية المتماسكة في شيرازة واحدة، فإذا انحلت إحداها قلَّت إحدى الروابط، وإذا ما انفصمتْ عراها بمرور الزمن لم تبقَ لنا علاقة بكائن ما وأصبحنا ننظر إلى الحياة بجمود وهدوء، وقد يحدث أحيانًا أن انفكاك رابطة من أقرب الروابط إلى قلوبنا — كرابطة الزهراء بأبيها الرسول — يؤدي إلى فصم عرى الروابط الأخرى، فلا نشعر إذ ذاك إلا بالأمل يحيا في النفوس انتظارًا ليوم الوصال.

زارت الزهراء قبرَ أبيها الرسول بعد وفاته بأيام وأخذت بيدها حفنة من ترابه واستنشقتْها بشوق زائد وأخذتْ تبكي وَلِهة، ثم لم تتمالك أن فاهتْ بهذه المرثية:

اغبرَّ آفاق السماء وكورتْ
شمس النهار وأظلم العصران
والأرض من بعد النبي كئيبة
أسفًا عليه كثيرة الرجفان
فلْتبْكِه شرق البلاد وغربها
ولْتبْكِه مُضَر وكل يماني
وليبْكِه الطود المعظَّم جوه
والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك وصفه
صلى عليك منزل الفرقان

فلم يسمعها إنسان حتى بكى معها، وبعد أن أفاضت دموع العين بما في القلب من نيران الحزن عادت إلى منزلها واجمة مطرقة.

١  السيرة الحلبية.
٢  روضة الأحباب.
٣  الفخري.
٤  الدر المنثور.
٥  الفخري.
٦  تاريخ الخلفاء.
٧  العقد الفريد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤