الفصل الثاني

مات عبد الرحمن وبموته طُوي بساط ذلك الزمن الزاهر وفُتح للأندلس أبواب عهد جديد هي: أيام الحَكَم المستنصر بالله.

كان الحَكَم قبل تقلُّده منصب الخلافة عالمًا وقورًا محبوبًا من الشعب، وفي مصافِّ أكابر الأمراء في عهده،١ ذا دراية بتدبير المُلْك وفنون السياسة، خاض غمار الحرب بنفسه واشترك في إدارة دفة الأحكام على عهد أبيه؛ ولذلك قابل أهل الأندلس خبر توليته وهو في الثامنة والأربعين من عمره بمظاهر الارتياح والسرور؛ إذ كان خير خلف لخير سلف.
كان — رحمه الله — من حُماة العلوم وأنصار الفنون، يعتبر الكتاب من أحسن الندماء ويلذُّ له الاعتكاف في مكتبته الحاوية لنفائس الآثار الساعات الطوال، يقطع أوقات فراغه من العمل بالدرس والمطالعة، وكان للشعر والموسيقى في نفسه منزلة لا تقل عن منزلة الكتب، وبالإجمال كان موسيقيَّ الطبع، مغرمًا بكل أمر معنوي نفيس، تخلبه نغمة العود والناي ويستهوي لبَّه الصوت الموسيقي الرنان، سمع ذات يوم وهو يروض النفس في حدائق بيت الزهراء تلك الحدائق الوارفة الظلال المزينة بالورد والأزهار، صوتًا جميلًا نفذ إلى أعماق قلبه وملك كل جارحة من جوارح نفسه، فبحث عن مصدره وعلم أنه صوت فتاة جذابة الملامح، جمال صورتها يضارع حسن صوتها،٢ تلك الفتاة هي: صبيحة التي ملكت على الخليفة حواسه وجعلتْه يتطرف معها إلى حد الجنون في الحب، هاجرًا مكتبته ناسيًا كل شيء في العالم حتى كتبه، وقد كانت أحب الأشياء لديه.

كثيرًا ما يصادف الإنسان في حياته وجوهًا جميلة تترك جاذبيتها أثرًا في النفس لا يمكن نسيانه إلى الأبد، وصبيحة كانت إحدى هذه الخوارق، ذات جمال ساحر ونفس جذابة وروح حلوة ذات لطافة ورقة ففتنت الخليفة بخفة روحها وجميل صورتها، فغدا أسير اللحاظ مكبلًا بقيود الهوى.

كانت الفتاة على شيء من الأدب؛ أدب العلم والنفس، وكانت تسامر الخليفة بأحاديثها الحلوة وفكاهاتها العذبة فلا يطيق مفارقتها طول يومه، أما الليالي فكانا يقضيانها في حدائق الزهراء الخيالية تحت ظلال أشجارها العطرة جنبًا لجنب، وهي تسكب في نفسه كئوسًا من صوتها الرخيم لتزيده سكرًا وهيامًا.

كان لصبيحة جسم شفاف ذات طراوة تحاكي نداوة الفجر؛ ولذا كان الخليفة يدعوها على الدوام باسم «صبح»، فهل أراد بهذا النداء المصغر المحبوب، ذكرى تلك السهرات المسكرة والأوقات اللذيذة؟ أم أنه أراد بذلك أن يعيد إلى ذاكرته أحلام الفجر المشوبة بحمرة الشفق؟ لا أدري! وإنما يخيَّل لي أنه إذا ذُكر اسم صبيحة لأي إنسان تمثلت له صورة متوردة وتجسمت في مخيلته مناظر تلك الحدائق العطرة، حدائق الزهراء فتحيا في ذهنه صورة الأندلس بخواطرها العذبة وذكرياتها اللذيذة بكل ما فيها من لطف وظرف.

أراد الله أن يتم نعمته على صبيحة فرزقت من الخليفة غلامًا كان موضع سروره وفرحه، كأنما ملكَ به الدنيا بأسرها، ومبعثًا لسعادة الوالدة حيث كانت هذه الحادثة سببًا في عقد نكاح الخليفة عليها، وقد اشترك الشعب في أفراح الخليفة وعُد هذا العام، عام ٣٥٢ من الهجرة النبوية، أحسن الأعوام في تاريخ الأندلس، فتهافت الشعراء على مدح المولود وتخليد ذكراه، وهرع الكبار والأعيان لتهنئة مليكهم والقيام بفروض التبريك، حتى إن وزير الحكم خاطب الخليفة بقوله: «إن هذا المولود الشريف، سليل ملوك بني أمية ليسطع علينا بنوره منذ الآن، فلماذا لا تشرق علينا كذلك الأميرة صبيحة التي منها هذه الشمس المنيرة؟»٣ ومنذ ذلك اليوم توطد مركز صبيحة وعرف أهل القصر قدْرها فأحلوها المقام اللائق بها.

وبعد عامين؛ أي في سنة ثلاثمائة وأربعة وخمسين هجرية ابتسم لها الدهر مرة ثانية، فولدت للخليفة غلامًا آخر سُمِّي هشامًا فعظمتْ منزلتها في نفس الحَكَم، وازداد حبه لها إلى حدٍّ بعيد المدى؛ لأن مولوده الجديد ضمن له حصر الملك في أولاده وذراريه.

كان الحكم يعد نفسه إذ ذاك أسعد مخلوقات الأرض؛ له زوجة محبوبة هي صبيحة، وله من زينة الحياة الدنيا كل ما تصبو إليه النفوس؛ مال وبنون، فلم يبقَ شيء بعد ذلك يرغب فيه، فكان يخصص مقدارًا من وقته لإدارة أمور المملكة، والجزء الأكبر من أوقاته كان مصروفًا إلى مشغوليته المحبوبة لنفسه وهي المطالعة واقتناء نفائس الكتب، وبذلك أخذت مكتبته تزداد قدرًا.٤

كان الخليفة عبد الرحمن مَلِكًا جليل القدر وحاكمًا مقطوع القرين، أما ابنه الحكم فكان عالمًا يُجِلُّ العلم ويحترم أهل الفضل، ولا يحجم في سبيل نصرة العلم والأدب عن تضحية أمور دولته، فانتهزت صبيحة هذه الفرصة وأخذت تشارك زوجها في إدارة الحكومة، ولم يمضِ على ذلك زمن كبير حتى كانت تشغل مركزًا ساميًا في ميدانَيِ السياسة والإدارة، وتمكنتْ من إظهار ذكائها الفطري وقدرتها على ممارسة الأحكام بشكل أدهش رجال الدولة، وكان الحَكَم من أولئك الذين يقدرون الأشياء قدرها ويقيمون للأمور أوزانها، ففطن إلى مزايا زوجته في مسائل الحكم والإدارة فأشركها في الحكم علنًا ووسَّع المجال لدائرة نفوذها وتأثيرها.

كانت صبيحة في أول أمرها صاحبة السلطان المطلق على عقل الخليفة وقلبه، ثم أصبحت بعد ذلك بفطنتها وذكائها تملك روحه، وما زالتْ تتدرج في مراتب الكمال حتى صارت المَلِكة النافذة الكلمة في كل بلاد الأندلس.

١  المسعودي.
٢  المسعودي.
٣  دوزي.
٤  ابن خلدون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤