الفصل الثاني
مات عبد الرحمن وبموته طُوي بساط ذلك الزمن الزاهر وفُتح للأندلس أبواب عهد جديد هي: أيام الحَكَم المستنصر بالله.
كثيرًا ما يصادف الإنسان في حياته وجوهًا جميلة تترك جاذبيتها أثرًا في النفس لا يمكن نسيانه إلى الأبد، وصبيحة كانت إحدى هذه الخوارق، ذات جمال ساحر ونفس جذابة وروح حلوة ذات لطافة ورقة ففتنت الخليفة بخفة روحها وجميل صورتها، فغدا أسير اللحاظ مكبلًا بقيود الهوى.
كانت الفتاة على شيء من الأدب؛ أدب العلم والنفس، وكانت تسامر الخليفة بأحاديثها الحلوة وفكاهاتها العذبة فلا يطيق مفارقتها طول يومه، أما الليالي فكانا يقضيانها في حدائق الزهراء الخيالية تحت ظلال أشجارها العطرة جنبًا لجنب، وهي تسكب في نفسه كئوسًا من صوتها الرخيم لتزيده سكرًا وهيامًا.
كان لصبيحة جسم شفاف ذات طراوة تحاكي نداوة الفجر؛ ولذا كان الخليفة يدعوها على الدوام باسم «صبح»، فهل أراد بهذا النداء المصغر المحبوب، ذكرى تلك السهرات المسكرة والأوقات اللذيذة؟ أم أنه أراد بذلك أن يعيد إلى ذاكرته أحلام الفجر المشوبة بحمرة الشفق؟ لا أدري! وإنما يخيَّل لي أنه إذا ذُكر اسم صبيحة لأي إنسان تمثلت له صورة متوردة وتجسمت في مخيلته مناظر تلك الحدائق العطرة، حدائق الزهراء فتحيا في ذهنه صورة الأندلس بخواطرها العذبة وذكرياتها اللذيذة بكل ما فيها من لطف وظرف.
وبعد عامين؛ أي في سنة ثلاثمائة وأربعة وخمسين هجرية ابتسم لها الدهر مرة ثانية، فولدت للخليفة غلامًا آخر سُمِّي هشامًا فعظمتْ منزلتها في نفس الحَكَم، وازداد حبه لها إلى حدٍّ بعيد المدى؛ لأن مولوده الجديد ضمن له حصر الملك في أولاده وذراريه.
كان الخليفة عبد الرحمن مَلِكًا جليل القدر وحاكمًا مقطوع القرين، أما ابنه الحكم فكان عالمًا يُجِلُّ العلم ويحترم أهل الفضل، ولا يحجم في سبيل نصرة العلم والأدب عن تضحية أمور دولته، فانتهزت صبيحة هذه الفرصة وأخذت تشارك زوجها في إدارة الحكومة، ولم يمضِ على ذلك زمن كبير حتى كانت تشغل مركزًا ساميًا في ميدانَيِ السياسة والإدارة، وتمكنتْ من إظهار ذكائها الفطري وقدرتها على ممارسة الأحكام بشكل أدهش رجال الدولة، وكان الحَكَم من أولئك الذين يقدرون الأشياء قدرها ويقيمون للأمور أوزانها، ففطن إلى مزايا زوجته في مسائل الحكم والإدارة فأشركها في الحكم علنًا ووسَّع المجال لدائرة نفوذها وتأثيرها.
كانت صبيحة في أول أمرها صاحبة السلطان المطلق على عقل الخليفة وقلبه، ثم أصبحت بعد ذلك بفطنتها وذكائها تملك روحه، وما زالتْ تتدرج في مراتب الكمال حتى صارت المَلِكة النافذة الكلمة في كل بلاد الأندلس.