الفصل الثالث
أخذ عهد الحَكَم يمر براحة وسكون تُظلِّله رايات الأمن والسلام؛ لأن أمراء الفرنجة الذين ناوءوه في مبدأ حكمه كانوا قد تعبوا من كثرة ما لقوه من الهزائم المنكرة والاندحارات المتوالية، فلم يرَوْا بُدًّا من إعادة السيف إلى نصابه والإخلاد إلى السكينة والمسالمة، وقد كان لهذه الحالة أثر بيِّن في توطيد أسباب الراحة في أطراف البلاد الإسلامية؛ مما جعل المسلمين من أهل الأندلس يرتعون في بحبوحة الأمن داعين لخليفتهم بالعز والإقبال، أما الخليفة نفسه فقد انكبَّ على مكتبته يرتبها ويزيد في نفائسها، حتى بلغت قائمة ما فيها من الكتب ثمانية وأربعين مجلدًا، قنع بهذه الحالة ولذَّ له أن يغوص في لُجَج من العلوم لا حدَّ لها، ناسيًا كل شأن من شئون الحياة اللهم إلا مقابلة جماعات العلماء الوافدين إليه من سائر أطراف الممالك الإسلامية، لا سيما من بغداد ودمشق والقاهرة، فازدادت بذلك شهرة قرطبة وأخذت جامعاتها تنافس الأزهر والمدرسة النظامية في أهميتهما العلمية.
يقولون: إن العلم ليس له جنس ولا يمت إلى وطن أو دين بآصرة قرابة أو نسب؛ ولذا كان الخليفة يشجع كل عالم ويأخذ بيده من أي جنس كان، لا فرق لديه بين مسلم أو نصراني، وكثيرًا ما جادت يده بالعطايا والهبات لكتاب قَيِّم أو مجلد نفيس، أما الكتب النادرة التي لا يرى سبيلًا إلى مشتراها فكان يأمر بنسخها وأخذ صورها، وبهذه الوسيلة أصبحتْ مكتبة قرطبة شعلة نور يستضيء العالم بأنوارها.
في أيامه وصلت الآداب العربية إلى ذروة عزها وسامق مجدها، كما نضجت علوم كالفلسفة والبلاغة والشعر، وكما تعددت الطرائق وسبل التحسين في علمَي الجغرافيا والتاريخ وفنَّي الرصد والكيمياء، أما دروس الفقه والتشريع فكانا يدرسان بشرح وتطويل، ويهرع الطلبة إلى ورود مناهلها باشتياق كبير من كل حدب وصوب، فقد كان عدد الطلبة الذين أمُّوا حلقات دروس الفقه في ذلك المعهد يتجاوز عدة آلاف، أجل، إن جامع قرطبة هو مهبط النور والهدى، فيه كان يعظ أبو بكر بن معاوية ليملأ قلوب الموحدين بأنوار الدين الإسلامي، بينما كان ابن رشد وابن سينا والمسعودي وأحمد بن سعيد الحمداني وغيرهم من أقطاب الحكمة وأولياء الحجى يزينون عهد الحكم ومَن وليه من الخلفاء بثمار قرائحهم وأنوار معارفهم.
في هذا المعهد الزاهر الساطع بأشعة الحكمة، كنت ترى طالبًا منكبًّا على دروس الجامعة بكليته، يميل إليه الطلبة وتخدمه الأساتذة، كان هذا الطالب شابًّا ذكي الفؤاد جميل الصورة، إذا صادف وجوده وسط جماعة من الناس أصبح هدفًا لأنظارهم، وإذا مرَّ على قوم جذب إليه التفاتهم، كنت ترى في عينيه بريقًا من صور الآمال وفي حاله وطوره وكلامه حالة خاصة به، كانت تظهر عليه أمارات عظمة تترك الناظر إليه في دهشة وحيرة، فكل مَن رأى هذا الشاب يحكم لأول وهلة وبدون أن يعرف أصله بأنه أحد أولئك الذين سيرتفع شأنهم في بلاد الأندلس ويحرزون مقامًا ساميًا في مناصبها العالية.
هذا الشاب هو محمد بن أبي عامر، فخر الإسلام والشرق الذي أصبح بعد حين وزير الأندلس الملقب بالمنصور.