الفصل الخامس

في العام الخامس والستين بعد الثلاثمائة مرض الخليفة الحَكَم واشتدت عليه وطأة المرض حتى لزم فراشه، ولما أيقن من نفسه أنه في مرض الموت وأنه أصبح من المنية على قاب قوسين أو أدنى، اضطرب باله وازداد قلقه لأمر واحد: هو أمر ابنه هشام البالغ من العمر إذ ذاك أحد عشر عامًا، وكانت العادة المتبعة إلى عهده في أمر الخلافة هو انتقالها بالإرث من الأرشد إلى الأرشد، غير أن الحَكَم كان لا يُطِيق أن يرى أخاه المغيرة متقلدًا زمامها يومًا ما، أضف إلى ذلك أن كاهنًا تنبأ له بأن الخلافة قد يتزلزل ركنها في بني أمية وتتقوض دعائمها إن لم يتقلدها أولاد من صلبه، وهذه النبوءة جعلتْه يعتقد بأنه من أكبر الواجبات عليه نحو أمته إقناعها بقبول خلافة ابنه هشام من بعده.

وأخذت زوجته صبيحة تناصره في هذا الأمر وعضدتْه فيما ذهب إليه من وجوب حصر المُلك في ذريته من بعده، فإن فكرة تنحية هشام عن منصب الخلافة هيجت عواطفها وأثارت ما في نفسها من كوامن الذكاء والفطنة، فقدحت زناد الفكر أملًا في الوصول إلى حل مرضٍ، وكانت كلما أمعنت في البحث هالها الأمر وأضناها لهيب الفكر، كانت تقول في نفسها: كيف تكون النتيجة إذا لم يرضَ الشعب بخلافة هشام؟ وكيف تكون العاقبة إذا ثارت ثائرة الأندلسيين ألا ينتهز أمراء الفرنجة هذه الفرصة لسوق جيوشهم على قرطبة؟ وكيف تكون حالتها هي إذا لم يصبح ابنها الخليفة؟ ألا تكون في هذه الحالة كمية مهملة مقضيًّا عليها بالانقراض والتلاشي؟

كانت قد يئست من شفاء زوجها وأيقنت بأن كل يوم يمضي يدنيه من حافة القبر؛ ولذا شعرت بوجوب الإسراع في التدبير وإعمال الرأي لإيجاد طريقة تحل هذه العقدة، وما زالت تفكر وتقلب الرأي على وجوهه حتى توصلت أخيرًا إلى رأي صائب أوحت به إلى الخليفة فسارع إلى تنفيذه في الحال، وفي غرة جمادى الأولى من سنة ثلاثمائة وخمس وستين هجرية انعقد مجلس كبير١ ضم كل ما في الأندلس من الأشراف والأعيان وأصحاب الكلمة العليا وذوي الحيثيات، حيث قرأ الخليفة عليهم إقرارًا بقبولهم تولي هشام للخلافة من بعده للتوقيع عليه ممن حضر ذلك المجلس.

لم يجبرهم الخليفة على توقيع الإقرار ولم يستعمل نفوذه أو تأثيره للضغط على حريتهم في قبول التوقيع، غير أنهم لم يجدوا من اللياقة عصيان أمر رئيسهم وخليفتهم المحبوب فوقَّعوه عن رضا نفس وطيب خاطر، وفي تلك الجلسة أمر رئيس الكتاب وكان من مماليك الأميرة بنسخ هذا الإقرار وأخذ جملة صور منه لتوزيعها في جهات مختلفة من الأندلس للتوقيع عليها من وجوه البلاد وأصحاب الشأن فيها تحت إشراف ابن أبي عامر مأمور الضبط ورئيس شرطة البلاد، وقد أُرسلت نسخ متعددة إلى جهات أخرى غير بلاد الأندلس، مثل مراكش وأفريقيا فكنت ترى عامة الشعب يتسابقون إلى توقيعها من الكبراء والأعيان حبًّا في إظهار إخلاصهم وولائهم لخليفتهم.

سُرَّ الخليفة من نجاح المشروع وقدَّر عمل زوجته هذا حق قدره، أما هي وقد رأت انحلال قواه ودنوه من الموت، فقد بذلت ما في وسعها ليكون ابن أبي عامر المفتش العام للقصر السلطاني ووصلت إلى ما تريد كما كان منتظرًا.٢

الآن وقد تم توقيع الإقرار وبدئ بذكر هشام في خطب الجمعة بعد اسم الخليفة، اطمأن بال كل من الحَكَم وصبيحة إلا أن الظروف كانت لا تزال خطيرة، فإن للمغيرة أعوانًا ومريدين على أهبة الاستعداد عند ظهور أي حركة تنبئ بسوء التدبير، أضف إلى ذلك أن أمراء الفرنجة المقيمين في شمال الأندلس كانوا على ساق وقدم لتعبئة الجيوش وإعداد الرجال، يتربصون سنوح الفرص وقد سمعوا بمرض الخليفة.

أخذت وطأة هذه الأحوال تزداد شدة وازداد تبعًا لها قلق الأميرة فإنها كانت تنظر إلى المستقبل، إلى يوم وفاة الحكم فترى أفق السياسة ملبدًا بالغيوم، فبدأت بالتدبير والتجهيز استعدادًا للطوارئ بكل ما فيها من قوة وعزم، غير أنها كانت رغم كل وقاية واحتياط لا تدري كيف يكون خروجها من تلك المشاكل، فهناك المغيرة، أخو الخليفة هل يجب منازلته أولًا؟ أم الأجدر مجابهة أمراء الفرنجة والاهتمام بما قد يحدث من الموقعين على الإقرار ظاهرًا والمتمردين على الحالة باطنًا؟ كل هذه أمور خطيرة تستحق النظر والاهتمام، لا تدري أية طريقة تتبع للتخلص منها، فحصت هذه المشاكل ودققت النظر بمعونة المصحفي وباستمداد الرأي من أبي عامر لترتيب الخطط اللازمة، وكانت وطأة المرض قد اشتدت على الخليفة ولم يبقَ لديها أمل في شفائه، وما كادت تطلع شمس اليوم الثالث من شهر صفر سنة ثلاثمائة وست وستين هجرية حتى فاضت روحه إلى بارئها.

مات الحكم وقد حكم ستة عشر عامًا كلها أمان وسلام، بالغًا من العمر أربعةً وستين عامًا، محبوبًا من الشعب مبكيًّا عليه من أقاربه وأهله لفضله ومكانته بينهم، تاركًا دولته وهشامه وديعة في أيادي زوجته المحبوبة صبيحة وحاجبه الأمين المصحفي وكاتبه النشط محمد بن أبي عامر، مات مطمئن البال، مرتاح الضمير لوثوقه من حسن سياستهم وجميل تدبيرهم، ولعلمه بأنه ترك وديعته لأشخاص أكفاء لا تغمض أعينهم لحظة واحدة عن حفظها ووقايتها من كوارث الدهر ونوازل الزمان.

في اللحظة التي توفي فيها الخليفة لم يعلم بوفاته سوى صبيحة والمصحفي وابن أبي عامر ومملوكان يسميان جوهرًا وفائقًا، أما أهل القصر عدا هؤلاء فكانوا يعتقدون بأنه ما زال في فراش المرض؛ لأن صبيحة بذلت ما في وسعها لكتمان الخبر، ولعبت دورها بكل إتقان إلى أن وفقها الله لتخليص الدولة من اختلال كبير يهدد البلاد، اهتمت أولًا بالمملوكين وتدبرت معهما أمر كتمان الخبر عن الشعب وعن أهل القصر، أما المصحفي وابن أبي عامر فكانت واثقة من صداقتهما مطمئنة لإخلاصهما، هنا في هذه اللحظة ظهرت صبيحة بكل ما فيها من نبوغ ودهاء، حيث كان مستقبل الأندلس في يدها وأقل إهمال أو خلاف يكفي لإنتاج أخطر العواقب ويوقع بيت الزهراء في يد المغيرة وقرطبة لحكم الحزب المخالف، ثم تقع الأندلس جميعها بعد ذلك فريسة في يد الأعداء، غير أن حسن الحظ خدمها ومكَّنها من إتمام دورها بإتقان خلَّد لها شهرة ذائعة في صفحات التاريخ، أجل، إنها جاهدت وكافحت ولكنها انتصرت وتوفقت لتخليص التاج والعرش لابنها هشام؛ وبذا تمكنت من الاحتفاظ بمكانتها ووقاية شوكتها ونفوذها بعد أن كانت من السقوط قاب قوسين أو أدنى.

١  ابن الزهاري.
٢  المقري وابن الأثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤