الفصل السابع

قدم المملوكان فروض الطاعة ورضخا لحكم الزمان مؤقتًا، إلا أنهما لم ينسيا قتل المغيرة ومدبري تلك المؤامرة؛ ولذلك لم ينفكا عن تحريك الفتنة وإذكاء نارها الخامدة كلما استطاعا إلى ذلك سبيلًا، اندفعا في هذا السبيل حبًّا في الانتقام من المصحفي وابن أبي عامر، وأوشكت ثمار أعمالهما تنضج؛ فإن الشعب بدأ يشكو من احتجاب الخليفة عنه، وأخذ الناس في مجامعهم يتحدثون عن صغر سنه، وقد كان لهم بعض العذر في التذمر؛ لأنهم في عهد عبد الرحمن وابنه الحكم اعتادوا أن يروا خليفتهم من وقت لآخر، أما هشام فقد بقي منزويًا في حجرات القصر منذ يوم المبايعة.

اغتبط لهذه النتيجة مدبروها وقلقت لها صبيحة التي كانت تراقب مجرى الحوادث بعين يقظة، فاستدعت المصحفي وابن أبي عامر وطلبت منهما إبداء الرأي في هذه الصدمة، فقرَّ رأيهما على إخراج الخليفة لشعبه، وفعلًا ظهر هشام للأندلسيين في حفلة عظيمة جمعت كل دواعي الهيبة والعظمة، وكان ممتطيًا جواده وعلى يمينه حاجبه المصحفي وعلى يساره ابن أبي عامر، وقد زاد أبهة المهرجان اشتراك فرق عديدة من الجنود في الموكب، وفي نفس هذا اليوم أُلغيتْ إحدى الضرائب «ضريبة السمن» عن كاهل الأندلسيين، فهلل القرطبيون لرؤية خليفتهم وكبروا، وقد ازدادوا محبة له والتفافًا حول عرشه.

لم يفُتَّ ذلك في عضد المملوكين، بل أغراهما على التمادي في إشعال نار الفتن، وقد أدت بهما الجرأة إلى نصب حبائل مكيدة داخل القصر كانت سببًا في فضيحتهما ونفيهما إلى الجزيرة، أما أعوانهما وأتباعهما فقد نالوا الجزاء الصارم من أبي عامر، وبينما كانت الأحوال في داخل البلاد على هذا الوجه كان أمراء الفرنجة في الخارج قد اشتدت قوتهم وتعددت منهم حوادث النهب في البلاد الآمنة، فقلقت صبيحة لهذه الحالة لعلمها أن قيام هؤلاء الأقيال دفعة واحدة بعد سكونهم مدة طويلة منذ عهد الحكم ينذر بقرب وقوع حروب شديدة بينها وبينهم، فأمعنت الفكر في ذلك واستمدت كعادتها برأي الحاجب وصنيعتها أبي عامر، فأشارا عليها بعرض الأمر على وجوه الأمة وأعيانها، فجمعتهم في مجلس عام وطرحت المسألة على بساط البحث والتدقيق، وكان رأي سوادهم فصل المشكلة بحد السيف وقد خطبهم ابن عامر خطبة بليغة شرح فيها الأسباب الموجبة لشن الغارة على الأعداء وتأديبهم قبل استفحال الأمر، فاستهوت الخطبة ألبابهم، ولم يبقَ في المجلس نفر على غير رأيه، غير أنهم لفتوا نظره إلى نفقات الحملة وما تستدعيه من المصاريف، فطلب منهم بيانًا بجملتها فلم يحِرْ أحدهم جوابًا، عند ذلك أجابهم بأنها ربما بلغت مائة ألف دينار تقريبًا، فردَّ عليه أحد الحاضرين مستعظمًا ذلك فأجابه على الفور: «خذ إذا شئتَ مائتَيْ ألف وتولَّ قيادة الحملة وخفِّف عن عاتقي هذه المسئولية.» فأفحمتْ هذه الكلمات قول المعترض، وبعد أن وصل المجلس إلى هذا الحد أخذ يفكر في تعيين من يعهد إليه بقيادة الجيش، وكانت هذه مشكلة جديرة بالبحث حيث لم يقبل أحد من الحاضرين أن يتولى مثل هذه المأمورية، إلا أن ابن أبي عامر فض الإشكال بأن قبل القيام بذلك على شرط أن يُدفع إليه مقدار النفقات وأن تكون له الحرية١ في انتخاب رؤساء الجيش، فرضي الحاضرون وباركتْه صبيحة ولم تتمالك من المجاهرة بأنها تؤمل النجاح في مهمته وأنها مطمئنة على سلامة الدولة ما دام يعضدها في إدارة الملك والدفاع عن حقوق السلطنة أمثاله من الرجال العاملين، فرد عليها شاكرًا حسن ظنها، وقد ضمن كلامه بعض التلميح في ضعف سياسة المصحفي ولين جانبها إزاء هذه الصعاب، فلم تجبه صبيحة إلا أنه فهم ما لكلامه من الأثر في نفسها.
تحرَّك جيش الأندلسيين وعلى رأسه ابن أبي عامر حتى تقابل بأمراء الفرنجة والتحم بجيوشهم في معارك شديدة انجلت عن هزيمة الأعداء وانتصار المسلمين واستيلائهم على بعض المدن عدا الأسلاب الوافرة والغنائم الكثيرة، وبعد حروب دامت خمسين يومًا عاد ابن أبي عامر إلى قرطبة مقر الملك، منصورًا غانمًا، تحف به رايات الفوز والظفر،٢ لقد برهن على دراية تامة في قيادة الجيوش، وأظهر صفاته الحربية المغروسة في نفسه ومواهب الفروسية الموروثة عن آبائه فأحبته الجنود، ودهش من أمره مَن كان يظنه على جهل بأمور الحرب، وقد أعد القرطبيون لاستقباله يومًا مشهودًا، وكان في مقدمة المحتفلين بقدومه الأميرة وابنها الخليفة هشام وقد أغرقاه بطوفان من الإنعامات وحسن الاستقبال، وكان هو كعادته في كل الأمور البطل الموفق، مظهر احترام الأعيان والأشراف ومعقد آمال أهل القصر ورمز أماني العامة وطبقة الشعب، وقد أجمع الكل على تسميته بالمنصور؛ إعزازًا له وإكبارًا لشأنه، واعترافًا بخدمته في تلك الحروب.

أصبح الآن لا يحفل كثيرًا بالمصحفي، وعلاقاته بالخليفة رسمية محضة؛ لعدم بلوغه سن الرشد أما صبيحة فحدِّث عن منزلته لديها ولا حرج، فهل يوجد في العالم مخلوق أسعد من المنصور؟

ها قد تحققت آماله الذهبية الواحدة تلو الأخرى بقوة ساحرة، وها لم يمضِ على حديثه مع رفقائه في الجامعة أمد كبير حتى نال ما تمنى، ها هو الآن أكبر رجل في قرطبة وها هي الأنظار موجهة إليه، وها هو التاريخ خص له في طياته صحيفة بيضاء لتدوين أعماله المجيدة، إن الآمال التي كان يتصورها والمشاريع التي كان يرسمها وهو جالس في حانوته الصغير بميدان قرطبة أمام القصر قد تحققت جميعها، ذكر ذات يوم لأصدقائه بأنه سيكون حاكم الأندلس الفذ، وها هو الآن الحاكم الحقيقي للأندلس ومن أكبر رجالات العالم الإسلامي.

١  تاريخ الأندلس لضيا باشا.
٢  دوزي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤