الفصل الثامن

استفحل نفوذ المنصور وارتفعت كلمته في شئون الإدارة والسياسة،١ وبنى له قصرًا فخمًا بجوار قرطبة، بل قل: مدينته الصغيرة التي سماها «الظاهرة» فنقل مأمورو الدولة مساكنهم بجوارها، وأسس التجار والباعة أماكن لهم على مقربة منها حتى أصبحت تضارع في شهرتها بيت الزهراء.

كانت الظاهرة محاطة بالحدائق الغناء والبساتين الزاهرة والأحواض الجميلة، وبها من دواعي الأنس وموجبات السرور ما يشهد لمنسقها بالذوق، وكم شهدت هذه المدينة من ولائم المنصور واحتفالاته العظيمة، تلك الأعراس التي بهرت أنظار الأندلسيين وأوقعتهم في دهشة من مظاهر تلك الرفاهة!

هل كان المنصور، وقد وصل إلى هذه المكانة وارتفع إلى تلك الغاية التي ليست وراءها غاية يحب صبيحة وهو في حالته هذه؟ أم أن ما يجيش بصدره من الإحساس لها هو أثر من آثار الشكر والامتنان لحسن صنيعها معه؟

كانت الأميرة صبيحة تحبه وتقدس ذاته إلى درجة الهيام، ولكن هل كان لشعورها هذا رجع صدًى؟ وهل كان محمد المنصور يخصها بمحبة تكافئ هذا الحب؟

إنني استنادًا على أعماله وعلى ما أظهره بعد تمكنه من إدارة الأندلس أقول: إنه لا يحبها! وإنما كان يحترمها ويظهر لها دلائل المودة والاعتبار؛ لأنها سبب نعمته ومنشأ رقيه وإليها يرجع الفضل في السعادة التي يرفل في بحبوحتها الآن.

قد ظهر الآن أمامها بثوبه الحقيقي وأصبح يأنف من رؤية يدها — تلك اليد التي طالما قبَّلها بإعزاز وتقديس — تشترك معه في الحكم منذ أصبح يشعر بأنه في غنًى عن حياتها، نعم كان يتوق إلى رؤية الأوامر غفلًا من اسمها ليس عليها إلا كلمة المنصور، غير أنه لم يستطع أن يرفع لواء عصيانه دفعة واحدة، فظل محافظًا على سابق مودته لها، يكلمها بلسانه العذب ويعاملها بلطفه المعهود ولا يقصِّر في أمر يكون فيه راحتها، وهو هو في كل أطواره وحركاته التابع الأمين والخادم المخلص للعرش والخلافة.

عُرضت عليه ذات يوم جارية ليشتريها، وكان نخاسها قد لقنها بعض أبيات وأمرها بإنشادها بين يديه.

دخلت الجارية قصر المنصور، وهناك في حضرته أمام جمع حافل من جلسائه غنت تلك الأبيات بصوت رخيم، فاسترعت الأغنية مسامعه وأخذ يصغي إليها باهتمام زائد وهو يرتجف من غضبه، وما كادت تتم الإنشاد حتى هجم عليها شاهرًا سيفه وألقاها على الأرض تتضرج بدمائها.٢

لماذا؟ لأن الجارية نطقتْ بأبيات مضمونها التلميح بعلاقته مع صبيحة، فلم يحتمل أن يرى اسم الأميرة مضغة في أفواه الناس فأنزل العقاب بمن تجرأ على تلويث ذلك الاسم أمامه، وأمر بجمع وإحراق ما قيل في حقها من الهجاء ومجازاة قائليها بشدة دلت على مكانة الأميرة من نفسه.

كان لا يشغل باله في هذه الفترة إلا أمر واحد أقلقه غاية القلق، هو استكانة المصحفي وظهوره بمظهر الضعف، أراد أن يتخلص منه؛ لأن حاجب البلاد ترك مصالح الأمة ليلتفت إلى مصالحه الشخصية، وكان المنصور يظهر هذا الأمر لصبيحة ويشير إليه من طرف خفي، وكانت هي كلما أمعنت النظر في أحوال المصحفي ازدادت وثوقًا بصدق أقوال المنصور الذي كان يجتهد بإعلاء شخص آخر بنسبة اجتهاده في إسقاط الحاجب، هذا الشخص هو القائد غالب، وقد تمكَّن أخيرًا بمعونة المنصور وحسن وصايته أن ينال رتبة الوزارتين.٣
بعد هذا وضع المنصور يده في يد غالب واخترقا حدود المملكة في سبيل شن الغارة على أعداء البلاد، حيث كان أمله الوحيد جعل إسبانيا جميعها في قبضة يده،٤ وسرعان ما تكللت أعمالهما بالنجاح، وأعقب غزوتهما هذه غزوات أخرى عُقد للمنصور في جميعها رايات الظفر، حتى أصبح شخصه طلسم النصر لجيوش المسلمين لا يشن على الأعداء غارة إلا يعود منها غانمًا رابحًا.
وإذ هما منهمكان في خوض غمار الحروب وإعلاء شأن الأندلس خارجًا، كانت صبيحة تدبر شئون البلاد وتشيِّد ما يخلِّد ذكرها في التاريخ،٥ أما المصحفي فلم يبقَ له بعد ذلك أدنى نفوذ وأصبح يشعر متألمًا بأفول نجمه وإدبار طالعه، لقد انفضَّ من حوله الناس ولم يبقَ مَن يعضده من الأمراء٦ والكبراء، وقد آذى الكثيرين منهم بغروره وكبريائه أيام أن كانت له الدنيا، ومع ذلك عز عليه أن يترك مركزه بسهولة وانقياد، فأراد أن يجرب حظه ويقامر بآخر جهوده، علم شأن غالب فأراد أن يتقرب إليه بأن يزوج ابنته أسماء من ابنه عثمان، وما كاد يخطر في باله هذا المشروع حتى كتب إليه في الحال يعرض عليه ذلك.

فكَّر غالب في الأمر مليًّا وقلَّبه على وجوه كثيرة، وفي النهاية اقتنع بنفع هذا الزواج فكتب إليه يخبره بالقبول، ففرح المصحفي بذلك وقد كاد يطير من شدة ما ناله من السرور وشاع خبر هذه الخطبة وذاع حتى وصل أسماع المنصور، فلم يشأ أن يصدق بادئ ذي بدء، إلا أنه عندما تحقق صحتها استشاط غضبًا والتجأ إلى كل باب من الأبواب التي رآها مؤدية إلى منع هذا الزواج، وكان منه أن استدعى غالبًا ووسوس إليه بالضرر العائد عليه من أمر الخطبة، وأن زواج ابنته من مثل عثمان لا يولد شرفًا ولا يكسبه فخرًا؛ لأن المصحفي لا ينتسب إلى بيت حسب ونسب، فاحتار غالب في أمره ولم يجد لنفسه مخرجًا من ذلك المأزق، لم تكن حفلة الزفاف قد جرت بعد، إلا أن الخطوبة كانت قد تمت، فماذا يفعل الآن ولقد ندم ولا ندامة الكُسَعِيِّ؟ ولكن لات حين مندم! فما كاد المنصور يرى منه ذلك حتى أضرم في نفسه ما يذكي نيران ندمه بقوله: «إن ابنتك جديرة بمثلي، فهل تقبل أن تزوِّجها مني؟»

أدهشه هذا التصريح؛ لأنه ما كان يعتقد بنوال مثل ذلك الشرف، فقَبِل مسرورًا أن تُزف ابنته إلى أكبر رجل تعرفه الأندلس، أما المنصور فكان فرحًا في سره لتمكنه من إحباط خطة منافسه المصحفي، فأصبح بعد ذلك من أسهل الأمور عليه عزله من منصبه، لا سيما وقد كانت أغلاطه ظهرت لصبيحة، فتم له ما أراد وزاد من نكايته له رجوع غالب عن كلمته ورفضه زواج أسماء من ابنه عثمان.

ارتقى المنصور إلى درجة حاجب، أي وزير الوزراء، كما كان المنتظر! فيكون قد وصل الدرجة الأخيرة من عرش آماله الذهبية وجلس مفتخرًا على أريكتها العلياء، ولقد أصبح بعد تلك الحادثة معكس أنظار العالم الإسلامي في جميع الأقطار؛ إذ كان رقيُّه سريعًا مدهشًا لدرجة أنه هو نفسه كان في حيرة من أمر هذه السعادة وحسن ذلك الطالع.

أرأيت أيها القارئ كيف يكون سحر الحب وفعله العجيب؟!

الحب هو الذي خلق هذه المعجزة، والحب هو الذي أخذ بيد كاتب صغير لم تحنكه التجارب إلى ذروة المجد وسنام العظمة.

المحتكون بالمنصور الحائمون حوله ذُهلوا من رقيه السريع، بينما كانت صبيحة تبارك نفسها لإتحافها الأندلس بنابغة قلَّ أن تجود الأجيال بمثله.٧

مصاهرة المنصور لقائد مثل غالب، صاحب المنزلة الكبيرة في نفوس القبائل القاطنة مراكش وشمال إفريقية أمر ارتاح إليه جد الارتياح، حيث كان يطمع في مد نفوذه وشهرته حتى تلك الأصقاع، فكم سهر الليالي وهو يذهب بتصوراته إلى تلك البلاد ويبني القصور والعلالي لإدارتها وتسخيرها لحكمه كما يريد ويشاء، فها هي الآن في مقدوره ومتناول يده.

لندع المنصور جانبًا بين آماله وأمانيه ونفكر قليلًا في حالة صبيحة الروحية في تلك الفترة؟ فإلى أي حد وصلت تصوراتها يا ترى؟ وكيف قابلتْ تلك الصدمة؛ صدمة زواج حبيبها وأعز مخلوق لديها بامرأة أخرى؟ وكيف رضيت هي بمثل هذا الأمر وأمكنها إسكات النزاع القائم في نفسها وامتلاك شعورها والتوقيع على عقد النكاح بيدها ودعوة غالب وابنته إلى قرطبة ومقابلتهما بحفاوة وسرور؟

لم يكن في مقدورها تدبير أمر يعكس هذه الحالة؛ لأنها لم تستطع أن تجري مع عواطفها، لقد منعها مركزها السامي من إظهار ما في نفسها من الآلام والآمال، إن سمو مقامها وقف في سبيل منع المنصور من مثل هذا الأمر المؤلم، فلم ترَ بُدًّا من الاستسلام لحكم الأقدار ومقابلة الضربة بشجاعة وثبات، لقد أبدت شجاعة تفوق حد التصور والإدراك في كتم عواطفها، وظهرت بمظهر الرزانة الجديرة بملكة جليلة القدر عظيمة الشأن، فأشرفت بنفسها على حفلة الزفاف التي دفع الخليفة جميع نفقاتها، قد يكون في نفسها بقية من الأمل ولِمَ لا؟ ألم يكن الغرض من هذا الزواج سياسيًّا؟ إن الزواج المبني على غرض مخصوص يكون ذا أساس واهٍ لا يبشر بدوام البقاء والخلود، كان الغرض من هذا الزواج أن يكون سهام تحقير مسددة إلى صدر المصحفي، فليس في الأمر ما يوجب القلق.

بمثل هذه الآمال كانت صبيحة تعلل النفس إلى أن تم الأمر وزُفَّت أسماء إلى المنصور، حبيب الأميرة وأقرب الناس إلى نفسها، في العام السابع والستين بعد الثلاثمائة من الهجرة النبوية.

كانت الحفلة من أحسن حفلات الأندلس في التاريخ، وذات أبهة ملوكية قلَّ أن يسمح الزمان بمثلها، وقد زاد من بهائها أن الأميرة نفسها كانت زينتها وبهجتها، أما موكب العروس فحدِّث عن فخامته ولا حرج، تقاطر الناس لرؤيته من كل صوب وناحية مدهوشين من عظمته وجلاله، ولقد شاءت الأقدار أن يكون ختام العرس السياسي مقرونًا باليمن والسعادة، فقد كانت العروس ذات جمال نادر، على جانب عظيم من الظرف والكياسة والأدب فافتتن المنصور بها وملأت نفسه بملاحتها الروحية، حتى أصبح لا يرى غيرها من النساء ولا يصبر عنها ساعة واحدة، لقد أحبها محبة غير محدودة، حبًّا يماثل غرام صبيحة له، فتصور حالة الأميرة الروحية إذ ذاك وهي منعزلة في بيت الزهراء، تقاسي مرارة الهجران؟

لم تكن صبيحة إذ ذاك في نضارة الشباب، لقد انقضى موسم الأماني العذبة وفات أوان الاسترسال في التأمل والتخيل، لقد انطفأت شعلة آمالها ولم يبقَ لديها ما يذكي نيرانها، فليس أمامها إلا رماد من اليأس، لقد أنزلت بمحض اختيارها الستار على رؤيا غرامها، واضطرت أن تفتح عينها في نور الحقيقة المؤلمة.

ولكن بعد هذا ماذا هي فاعلة؟ وما الذي تستطيعه وبأي الألوان تصبغ حياتها الآن؟ هل تنزل إلى حدائق قصرها وترمي بنفسها في أحضان الورود والزنابق والياسمين لتجد التسلية في مناظرها وما يتصاعد من شذاها وعبيرها؟ إنها الآن في خريف العمر ومن كان في مثل سِنِّها لا تسلِّيه هذه الأشياء، إن هي إلا امرأة بائسة كسيرة الخاطر انتهى غرامها على غير ما تشتهي، ولكن قد حُمَّ القضاء ووقعت الواقعة فتزلزل بنيان عشقها وانهار، فهي الآن تشاهد بين الأنات والآهات أنقاض ما تخرب من إحساسها، وتنظر وعيناها مملوءتان بالدموع في القطع المبعثرة من آمالها المحطمة، فتشفق على نفسها عندما ترى الأجنحة الدامية من خيالاتها السابقة ترفرف حائرة على تلك الخرائب.

كان تقهقرها مدهشًا فيا لهول الهزيمة! ما أقرب الاتصال بين نقطتي الفوز والاندحار! ليست السعادة إذن إلا غشاء واهي الجدران، مؤسسة دعائمه على شفا هاوية عميقة، ولكن ما الفائدة؟ كل هذه ملاحظات ترد الخاطر بعد فوات الوقت وضياع الفرصة.

•••

تحملت صبيحة ما أصابها وتلقت الضربة بشجاعة نادرة، ولكنها بذلت في سبيل ذلك ثمنًا غاليًا، هي دموع القلب التي كانت تسكبها وهي جالسة على عرش الحكم والإدارة، يالله! كم كانت أناشيدها التي ترنمت بها في ليالي الصيف مؤثرة حزينة ذات نغمة محرقة! لا ريب أنها بعد الانتهاء من أناشيدها كانت تفتح غرفتها تترحب بالنسيم، وربما ألقت في مسامعه ما يخفف من لوعة قلبها.

فإن الصَّبا ريحٌ إذا ما تنفَّستْ
على كبدٍ حرَّاء قلَّتْ همومُها

مَن لنا الآن بمعرفة كلماتها في تلك الساعات التي كانت تخلو فيها إلى النجوى، ولكن هيهات قد أطارت نسمات الأندلس تلك الكلمات وقذفت بها إلى أعماق اللانهاية.

١  تاريخ الأندلس لضيا باشا.
٢  ابن الأطهاري.
٣  ابن خلكان.
٤  تاريخ الأندلس.
٥  تاريخ الأندلس لضيا باشا.
٦  دوزي.
٧  دوزي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤