الخاتمة
كتب موسى بن نصير والي المغرب، إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، يصف له الأندلس
ترغيبًا في فتحها، فقال:
الأندلس جنة فيحاء تشابه الشام بحسن موقعها، واليمن باعتدال مناخها،
والهند بأزهارها ونباتها، ومصر بخصوبتها ونمائها، والصين بأحجارها الكريمة
ومعادنها النفيسة.
وأعقب ذلك خروج طارق بن زياد لغزوها وتحت إمرته اثنا عشر ألفًا من المجاهدين، وإن
هي إلا أيام قلائل حتى تم فتحها، مضى على هذا العهد عصور ثلاث تمكَّن الفاتحون
أثناءها من إيقاظ أمة جاهلة خامدة وأخذوا بيدها إلى مناهج العلم والعرفان تحت أشعة
النور الإسلامي، فلم يمضِ إلا القليل حتى اعتلى الأندلسيون، اعتلتْ تلك الأمة التي
كان القساوسة تسوقها كالأغنام ويذيقها الحكام صنوف العسف وألوان الاضطهاد، وأصبحتْ
بعد زمن وجيز مطمح أنظار أوروبا وموضع الدهشة والإعجاب من أهلها.
دهشتْ أوروبا من مدنية إسبانيا، ثم أخذتْ تقترب منها على مهل
١ وتَرِد مناهل علمها وعرفانها وحياض مدنيتها إرواء لظمئها، وبعد فتح
الأندلس وجَّه العرب همتهم إلى عمرانها وزينتها، وكانت الحروب قاصرة إما على دعوة
الأمراء المسيحيين القاطنين في شمالها إلى الهداية، وإما على رد هجماتهم من حين
لآخر، إن المسلمين الشغفين بالأمور الزراعية شغفهم بالحروب صيَّروا الأندلس حديقة جميلة.
٢
الصناعة والتجارة، العلم والعرفان، الشهامة والمروءة كل هذه مزايا كان مسلمو تلك
الأيام يتهافتون على التحلي بها واكتسابها، أما أخلاقهم الحسنة وشرف نفوسهم فكانت
عالية تفوق أخلاق المسيحيين حسنًا، حتى إن أعداءهم أمراء الشمال كانوا لا يستنكفون
من مداواة مرضاهم ومجروحيهم في البيوت الإسلامية بمعرفة أطباء المسلمين ارتكانًا
على مروءتهم وشهامتهم.
في تلك الأيام وقد اتسعت دوائر العلوم والفنون ارتقت الأمة تبعًا لذلك، وأصبحت
المروءة وعزة النفس غريزة في نفس كل مسلم، إن الخصال الحميدة التي كان يتصف بها
طائفة الفرسان في أوروبا، تلك الخصال التي تقرأ وصفها في كتب الفرنسيين فتعجب بها
هي خصال المسلمين الحقيقيين، ولو علمنا مقدار ما كان يبذله المسلمون في تلك الأيام
من الاحترام والاعتبار للمخدرات الإسلامية، بل لكل النساء مسيحيات كن أو مسلمات،
٣ لو علمنا مقدار احترامهم واعتبارهم لهن، ثم نظرنا إلى حالتنا اليوم فلا
أدري كم يكون الأسف مرًّا أليمًا!
عندما حاصر والي قرطبة مدينة «توليدو» عام ١١٣٩ ميلادية، كانت الملكة «برانجر»
محصورة في قلعة «آزاقا» داخل المدينة، وعندما هجم الوالي بعساكره على المدينة يريد
فتحها أرسلتِ الملكة تقول: «ليس من الشهامة الإسلامية محاصرة امرأة في مدينة
والهجوم على القلعة التي هي بها.» فاستصوب الوالي رأيها وغض النظر عن الهجوم، وإنما
طلب أن تُظهر نفسها لهم من إحدى شرفات قصرها وبمجرد إظهار نفسها لهم قدَّم الوالي
احترامه وعاد بعسكره إلى قرطبة بعد أن اعتذر لها، فقل لي بربك: ألا تستحق أن تضاف
هذه الحادثة إلى سجل الشهامات والمروءات؟ وهل تقل درجة عن أعمال «بايارا»
و«سيدني»؟
سمع محمد المنصور بعد رجوعه من غزوة «قومبوستال» أن امرأة مسلمة محبوسة داخل
القلعة، فأمر بإحضار ملك النافار أمامه ليقدم المعذرة على هذا العمل الفظيع وهو على
ركبتيه، فحضر الملك وطلب العفو والمعذرة جاثيًا على ركبتيه،
٤ وبعد أن تمَّ تخليص المرأة المسلمة على هذه الصورة عاد بجنوده إلى
العاصمة.
كان الزمان زمان عظمة وقدْرة وجلال، وكانت الأخلاق الإسلامية على أصلها لم يتطرق
إليها عوامل الضعف وبذور الفساد، وكان المسلمون أصحاب القوة والسطوة، وكانت الأيام
أيام نور وخير ونماء، وكانت الأمة المحمدية أمة العلوم والصناعات، وصلتْ مدنية
الأندلس أيام عبد الرحمن وابنه الحكم وفي عهد صبيحة والمنصور إلى ذروتها وغايتها،
حتى إن إسبانيا لم ترَ قبلَ أو بعدَ هذا العهد مثل ما رأتْه في أيام هؤلاء الأبطال؛
٥ الزراعة والصناعة والتجارة وزخرفة الذهب والفضة والنسيج والحياكة لم
تكن في قرطبة فقط، بل كانت منتشرة في غرناطة وإشبيلية ومرسيه، وقد كانت هذه المدن
أشهر من نار على علم في صناعة الأسلحة.
كتب «دون بدرو» في وصية له في القرن الرابع عشر للميلاد، يقول:
بين المخلفات التي أتركها يا بُني سيفٌ مصنوع في إشبيلية محلًّى بالنقوش
الذهبية ومرصع بالأحجار الكريمة، فأوصيك بالمحافظة عليه.
أما اشتغالهم بالصنائع النفيسة وفي العمارات والعلوم الفلكية فقد أوقع أوروبا في
مهاوي الحيرة والإعجاب.
سفراء أوروبا وملوكها وملكاتها الذين
أمُّوها للزيارة كانوا يفتتنون بأبهة قصور عبد الرحمن وما فيها من آلات النعمة
ورياش الترف، لم تكن قرطبة زينة الأندلس فحسب، بل كانوا يعدُّونها أعجوبة العالم،
٦ لم يبقَ إنسان لم تدهشه المدارس المنشأة في عهد الحَكَم الثاني وما
تجلَّى في عصره من مظاهر العلوم والفنون،
٧ لم يبقَ إنسان في ذلك الزمن لا يعرف القراءة والكتابة، أما كفاءة
المنصور وقدرته وعدله فقد سار بذكرها الركبان حتى أصبحت إسبانيا من أقصاها لأقصاها
ترتجف فَرَقًا من صولته وبأسه، يذكرون عنه أنه في غزوة من غزواته لإخضاع إحدى المدن
الثائرة، نسي أحد الجنود وكان من حَمَلة اللواء لواءه في المعسكر أمام المدينة،
وبعد انتهاء الغزوة وعودة المنصور بجنوده ظل اللواء في مكانه منسيًّا وأخذ
الإسبانيون يرمقون اللواء ولا يستطيعون الوصول إليه خوفًا من عودة المنصور بجنوده،
ولم يتمكنوا أخذه إلا بعد مُضيِّ أيام عديدة واطمئنانهم من عدم رجوع الجيش.
أما سياسة صبيحة ومهارتها في الأحكام وآثار الرحمة والشفقة التي كانت تُبديها
للفقراء والمحتاجين وبذل ما في وسعها لعمران المملكة بإنشاء الجسور وحفر التُّرَع
وعيون الماء وتأسيس المدارس والجوامع؛ فهذه أمور مسجَّلة بالفخر والثناء، ليس في
التواريخ الإسلامية وحدها، بل في التواريخ الإفرنجية، لا سيما ما كان متعلقًا منها
بتاريخ إسبانيا.
إن ظهور صبيحة في مثل هذا العصر المشرق المنير برهان كافٍ على فضلها وجميل
مزاياها. لو أردتُ أن أحصي الشهيرات من نابغات الإسلام في ذلك العصر لاحتاج الأمر
إلى عدة صفحات.
كانوا في هذا العهد شغفين بالعلوم والمعارف، حتى إنهم جميعًا، كبارًا وصغارًا،
رجالًا ونساء، وقفوا حياتهم في سبيل العلم والنور، في ذلك العهد لم يكن للرجال فضل
على النساء في العلوم والفنون، بل إن النساء كن المرشدات المُلقِّنات، وكان الرجال
يستفيدون من هذا الإرشاد أيما فائدة، كان الرجال يخدمون نساءهم في الأندلس
لاقتدارهن وذكائهن وفضلهن، وإنهن لجديرات بذلك.
٨
هذه هي الأندلس في عصورها الثلاثة، أما وقد ماتت صبيحة وظل هشام على العرش كما
يريد ويهوى فقد ابتدأ أساس السلطنة في التزلزل، وتطرقت إليه عوامل الفساد، أراد كل
إنسان أن يستفيد ويعمل لنفسه على حساب هذا الخليفة العاجز، وفي النهاية دبتْ عوامل
النزاع والشقاق بين عائلته ووزرائه وأمرائه وتابعيه، وعصفت عواصف الفتن والدسائس في
بيت الزهراء، وصار الخليفة ألعوبة بينهم يجلسونه على العرش ويخلعونه منه من حين
لآخر، وصارت غرفة العرش مسرحًا يتقاتلون فيه ويتنازعون في أرجائه، وفي مدة وجيزة
جلس على العرش عشرون خليفة على التوالي بسرعة يصعب على الإنسان تمييز المدة التي
يستغرقونها بين الجلوس والخلع وبين الارتقاء، وولي ذلك ظهور القلاقل واندلع لسان
اللهيب إلى أطراف الأندلس قاطبة، فاستقلَّ كل والٍ بولايته ثم تشاحن الولاة فيما
بينهم وتقاتلوا وظهرتْ على أثرها المذابح، فتخربت المدارس والمكاتب وانهدمت المساكن
والقصور، ثم التجأ بعضهم إلى أمراء الفرنجة وطلبوا معونتهم، ولم يمضِ إلا أشهر
قلائل حتى استولى العدو على نحو عشرين مدينة وقلعة،
٩
أما بيت الزهراء وقصر الظاهرة فأصابهما ما أصاب
غيرهما من الخراب والدمار وأصبحا في أربعة أيام أثرًا بعد عين، احترقا ولم يبقَ من
أنقاضهما إلا الرماد، وتعاقبتْ في قرطبة فرق وأحزاب وشِيَع، فمضى ذلك العهد
كالأحلام السارة التي يراها المرء في منامه، ولم يبقَ من آثاره إلا حسرة في النفس
نرددها من حين لآخر.
بينما كان محمد المنصور جالسًا في قصر الظاهرة ذات يوم نظر إلى أطرافه بحزن وتأوه
يقول: «أيتها الظاهرة التعسة أي يد ستشعل النار في أطرافك؟ وأي حرص سيسبب خرابك
ودمارك؟» لم يمضِ على قوله زمن كبير حتى أحرقتْها أيدي أحزاب مختلفة؛ فذهبتْ ضحية الفتن.
١٠
فهل خطر مثل ذلك على بال صبيحة أيضًا؟ مَن يدري؟ ربما تأوهتْ مثلما تأوه المنصور،
وربما قالت تناجي نفسها: «أي يد ظالمة سوف تتحكم فيك يا قصر الزهراء ويا نجمة
الغروب؟ في أي الأحواض تعكسين شعاعك الضئيل وقت حصول هذه الفاجعة؟» ولكن لا لا، أنا
لا أريد أن أحدثكم بمصائب الأندلس، ولا أريد أن أُدمي جراحكم بأحزانها، لا أستطيع
ذلك لأنني لا أملك من الكفاءة أو العرفان ما يؤهلني لدخول هذا الميدان، إنما أريد
أن أقول: إن أبهة الأندلس وبهرجتها ماتتْ وانطفأتْ بموت الأميرة صبيحة.
بعد أن مرَّ على قرطبة عاصمة الأندلس المشرقة أزمان خاضتْ فيها في الدماء
والأحزان، لم يبقَ للسلطنة ثمت نفس أو روح، فانطفأتْ أنوارها في قرطبة، ولم يظهر
فيها قبس من الضوء بعد ذلك، وإنما ظلت عائشةً كجمهورية إشبيلية.
وظهرت بعض الأنوار في ربوع غرناطة، ولكن لم يُجْدِ ذلك أيَّ نفْع؛ لأن بذور
التفرقة كانت قد نَمَتْ في نفوس المسلمين، وثمار المصائب كانتْ قد أينعتْ، فأُجبروا
على ترك الأندلس بعد حكم دام ستمائة عام.
عندما سودتُ هذه الصفحات من ترجمة حياة صبيحة لم أتمالك نفسي من الخروج عن الصدد،
ولكن كان لزامًا عليَّ إجمالُ أدوار ثلاث، كنتُ أستطيع أن أهمل هذه الأدوار، ولكن
كان لها تماسٌّ بشخصية صبيحة ومحيطها؛ ولذا لم أُبالِ من قيدها بكل فروعها
وتفصيلاتها، فالقصة وإن طالتْ إلا أنني أؤمل أن قرائي وقارئاتي لم يتطرق إليهم
الملل أثناء تصفحها.
لا أقصد أن أكتب تاريخًا، وإنما الغرض الذي أرمي إليه هو النهضة النسائية في
عصرنا هذا، وهذا الأمر لا يأتي إلا من طريق العِظَة والعبرة، فسعيتُ جهد استطاعتي
للوصول إلى هذه الغاية، واللهَ أسألُ سواءَ القصْد.