الفصل الأول
أفنتْ حياتها في العبادة والتقوى وإصلاح النفس وكبح جماح الشهوات، فقد كانتْ نموذج الكمال في عصرها، آثرتْ كل تضحية وعاشتْ فقيرة معوزة لتصل إلى هذه الدرجة العالية، فهي بحق من أعيان عصرها في الإسلام.
كانت تفوق نساء زمانها وتمتاز عليهن لا بالزهد والتقوى فحسب، بل بفضلها وعرفانها، بعلمها وأدبها، حتى رَنَتْ إليها الأبصار وتطاولتْ نحوها الأعناق، كان يتلذَّذ بصحبتها ويستفيد من معاشرتها أمثال حسن البصري التقي الشهير، وشقيق البلخي الصوفي العظيم، وسفيان الثوري المجتهد الكبير، والملك دينار، حاكم الكرج والشاعر البليغ، كل هؤلاء الأفاضل صاحبوها وجالسوها وحضروا مباحثها في الدين والعلم، فأجلُّوها وقدَّروا عقلها وذكاءها، وأعظموا حال زهدها وتقواها.
مات أبواها في مقتبل عمرها فنشأتْ في وقت استحكمتْ فيه حلقات الغلاء والقحط في مدينة البصرة، فأوقعها نكد الطالع تحت أسْر رجل ظالم مستبدٍّ احتبسها عنده مدة ثم باعها إلى رجل آخر بعد أن أذاقها أنواع العسف والعذاب، ولم يكن حالها في هذه الدار الثانية خيرًا مما كانت عليه في الأولى، فقد تعذبتْ كثيرًا وقاستْ شدة مريرة قابلتْهما بصدر رحب دون تململ أو تذمر؛ إذ كانت ترى الشكوى مزرية بها.
لم ينَمْ سيدها ذات ليلة فسمع صوتًا يرِنُّ في أرجاء داره فخرج من غرفته يتلمس مبعث الصوت حتى قادتْه أذناه إلى غرفة رابعة حيث رأى ما أدهشه وحيَّر لُبَّه، رأى رابعة تعبد ربها بخشوع ينِمُّ عن إيمان عميق فوقف يراقبها ويسمع مناجاتها وإذا بها تقول: «ربي إنك تعلم أن أشد ما أتوق إليه هو عبادتك وتأدية ما لك من حقوق، ولكنني أسيرة لا أملك حريتي الشخصية فلا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية فلتعذرني يا إلهي.»
فبُهت سيدُها ووجد من العار إبقاء فتاة طاهرة عفيفة كرابعة تحت ذل الأسر، فلما مثلتْ أمامه في اليوم التالي قال لها: «أنت حرة طليقة يا رابعة، ولك الخيار في أن تمكثي هنا أو تذهبي إلى حيث تشائين.» فآثرتْ هي أن تترك دار مولاها لتعيش من كسب يدها، ومنذ ذلك اليوم أصبحتْ حياتها درسًا ممتعًا وعظة بالغة؛ إذ وقفت حياتها على أعمال البر والخير، واضعة نصب عينها الدستور النبوي الجليل: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.» فأمضتِ الثمانين عامًا التي عمرتها لم تُخِلَّ بحرف من هذا الحديث الشريف؛ إذ كانتْ ترى لذة في تضحية راحتها الدنيوية في سبيل سعادتها الخالدة.
حادثة أخرى: زارها أحد التجار يومًا ما فوجد دارها خربًا يحتاج إلى إصلاح وتعمير، فأخبرها أنه يعطيها دارًا من دُوره مؤقتًا فقبلت رابعة ذلك وانتقلت إلى الدار الجديدة، كانت دار الرجل يحف بها أسباب النعيم والرفاهة وتزدهي جدرانها بأنواع الزينات والزخرف، ولما كان نظر رابعة لم يتعود أن يقع على أمثال هذا الزخرف فقد أطالت النظر في الغرف الزاهية بصنوف الزينة وضروب الأشكال المبهجة ولم تتمالك أن تمتنع من هذا الأمر وهي حيرى والهة، وبعد أن أمعنتِ النظر فيما حولها وتأملتْ طويلًا ما يحيط بها رجعتْ إلى نفسها فخرجتْ من الدار توًّا وهي تقول: «سوف لا أعود ثانية إلى هذه الدار، ولو مكثتُ بها ائتلفتْ نفسي بهذه الأشياء الجميلة فيستهويني لطفها فيحُول دون ما أنا صائرة إليه من الأخذ بأسباب الآخرة.»
قالتْ في مناجاة لها: «إلهي، أتحرق بالنار قلبًا يحبك؟» فسمعتْ هاتفًا يقول: «ما كنا لنفعل ذلك.»
كانتْ لها شخصية ممتازة ولم تصل فاضلة ممن عاصرتها إلى مثل ما وصلت إليه أم الخير، فقد جمعتْ مزايا كثيرة أكسبتْها لقبًا جديرًا بالاحترام خلَّد لها اسمًا عاطرًا في صفحات التاريخ؛ إذ كانتْ تُدعى «تاج الرجال»، سئلتْ ذات يوم: هل يتوب المولى — عز وجل — حقيقة عن عباده النادمين؟ فأجابتْ: لو أن الله لم يُعطِ الندامة لعباده فكيف يتوبون؟ فما دام أشعرهم بالندامة وألقى إليهم حسن التوبة، فمِن البديهي أن يشملهم بواسع عفوه وأن يقبل توبة التائب منهم.
كان يزورها كثيرون من الناس لشهرتها وشيوع صيتها، ويتبرك بمجالسها رجال من أفاضل أهل العلم، ويجدون في محاضراتها أنسًا عميقًا.
وعندما ماتتْ زوجة حسن البصري طلبها للزواج فلم تقبل وأرسلتْ إليه قصيدتها المشهورة التي ضمنتْها كثيرًا من التغزل الإلهي، وقد سألها عقب ذلك في محادثة دارتْ بينهما: «أليس لك رغبة في الزواج قط؟» فأجابتْ تاج الرجال: إنما يتزوج من يملك إرادته بنفسه، أما أنا فليس لي إرادة، إن أنا إلا عَبْدة المولى — عز وجل — «وضعتُ نفسي تحت إرادته وتصرفه.» فقال لها الحسن البصري: كيف وصلتِ إلى هذه الدرجة من الزهد والصلاح؟ فأجابتْ أم الخير: «بمحو النفس وفنائها تمام الفناء.»
قال لها أحد العلماء الأفاضل ذات يوم أثناء زيارته لها: «إن المولى فاطر السموات يا رابعة يكافئ الذين يصطفيهم من عباده بموهبة من المواهب ليزداد قدْرُهم، ولكن من الغريب أننا لم نجد مثل هذه القدْرة والكفاءة في امرأة، فكيف وصلتِ إلى هذه المرتبة؟ وكيف أصبتِ مثل هذه السعادة؟»
فأجابتْ: «أنت محقٌّ في ذلك؛ لأن النساء لم يفتتنوا يومًا من الأيام بكفاءتهم فلم تتظاهر بدعوى القدسية.»
تاريخ أم الخير مملوء بالمدهشات من الغرائب ننقل هذه الحادثة كأنموذج لما سواها.
كان من عادتها أن تعتزل الناس فتخلو إلى ربها للدعوة والمناجاة، فكانتْ تصوم سبعة أيام وتنقطع إلى العبادة والزهد لياليَ لا تفتر أثناءها عن مناجاة النفس بهذا الخطاب: «إلى متى تعذبين نفسك يا رابعة وتُحمِّلينها مشقة ليس بعدها مشقة؟» وهي في ذلك وإذا برجل يدق عليها الباب وفي يده صحن من الطعام يتركه لديها ثم ينصرف، أما هي فتأخذ الصحن وتضعه في زاوية من الغرفة وتتشاغل بإصلاح القنديل، وهي على ذلك الشأن فتدخل هِرَّة فتأكل الطعام الذي في الصحن، وطالما تعود رابعة ترى الصحن خاويًا فتقول رابعة في نفسها: «لا بأس أفطر على الماء.» وعندما تذهب لتعود بالماء ينطفئ القنديل فلم تُطِقِ احتمالًا وتقول: اللهم لِمَ هذا العذاب؟ فتسمع هاتفًا يقول: لو شئتِ يا رابعة وهبناك جميع ما في الدنيا ومحونا ما في قلبك من نار العشق؛ لأن قلبًا مشغولًا بحب الله لا يشغل بحب الدنيا، سمعت ذلك فعزمتْ على ألا تعود فتتمنى سعادة الدنيا وراحتها، بل ظلتْ ثلاثين عامًا تذكر ربها ولا تُعيد تلك الجملة أو غيرها مما ينِمُّ عن الشكوى والألم، بل كان وِرْدُها: ربِّ لا تجعل في قلبي مكانًا لغير حبك.
قال عنها الملك دينار وقد كان شغفًا بها مفتونًا بفضلها: ذهبتُ أزور أم الخير يومًا فوجدتُها على حصيرة بالية وموضع الوسادة قطعة من الآجر وتشرب من إناء مكسور، فقلتُ لها: أعرف يا أم الخير أصحابًا لي من ذوات اليَسَار فاسمحي لي أن أذهب إليهم وأطلب منهم معونتَهم في أمْر رفاهيتك وراحتك، فردتْ طلبه قائلة: إن الله رازق الأغنياء يهون على الفقراء أيضًا حاجاتهم، فما علينا إلا الصبر والقناعة، ورضاء الإنسان بما قسمه الله فرض محتم.
وزارها يومًا بعض أهل الفضل وسألوها لماذا تعيش منزوية ولا تتزوج، فأجابتْ: إنما يشغل خاطري ثلاثة أمور؛ أولاها: هل أموت وأنا على إيمان كامل؟ والثاني: هل أنال صحيفتي بيدي اليمنى يوم الحساب؟ والأمر الثالث: لا أدري مع أي فريق أكون يوم الحشر، أمع الذاهبين إلى الجنة، أم مع الهالكين في جهنم؟ فإذا كنتُ مشغولة اللبِّ بأمثال هذه الأمور، فكيف أبحث عن الزواج؟
•••
•••
وكان موتها عام ١٣٥ هجرية، وقبرها في رأس جبل الطور شرقي القدس يزوره الناس حتى اليوم.
وإن القارئ يرى من خلال ما شرحناه أنها — رحمها الله — شخصية غريبة ذات مزايا انفردتْ بها من بين ربات الخدور في العصر الإسلامي، كما كانتْ مثالًا نادرًا للتصوف والزهد والخشوع، عمرتْ ثمانين سنة كانتْ فيها مثال الكمال والعمل على التدرج الروحي، ضحتْ دنياها لقاء أخراها؛ إذ كانتْ تستطيع أن تعيش مرفَّهة منعَّمة كمعاصريها، ولكنها لازمتِ الفقرَ والضرورة وأنواع العذاب والمشقة لمحو كل عاطفة دنيوية من نفسها.
لا يمكن الوصول إلى درجة الكمال التي وصلتْ إليها رابعة؛ إذ يصعب تضحية دنيانا لأجل آخرتنا في مثل هذا العصر الذي اشتدتْ فيه الرغبة في الحياة والصدوف عما سواها، وإنما لو اتخذنا من حياتها اليومية دستورًا ننسج على منواله نزيد في تدرجنا الروحي ورقيِّنا الكمالي!
لو أننا فهمنا أوامر النبي وتعاليمه التي جاء بها منذ أربعة عشر قرنًا لعملنا للدنيا والآخرة معًا، ولَكُنَّا ارتقيْنا نحو ذُرَى الكمال.