الفصل الثاني

بعد الإسلام

بعد أن ثكلتِ الخنساء أخويها جاءتْ إلى الرسول مع وفود قبيلتها وتشرفت بنعمة الإسلام.

ولم تنقطع عن أوجاعها وأناتها حتى بعد الإسلام، بل كانت تَقُصُّ شَعْرَها وتلبس ثوبًا خلقًا من الخيش الأسود وتندب أخويها على عادة العرب في جاهليتها.

رآها سيدنا عمر بن الخطاب ذات يوم أثناء طوافها بالكعبة وهي على هذه الحال فتقدم إليها ونصحها كثيرًا فأجابتْه: لم تصب امرأة بمثل ما أُصبت به، فكيف أتحمل مضض فراق فارسين فقدتهما؟

فأجابها سيدنا عمر بما هوَّن عليها المصيبة وذكر لها أن مصائب كثير من الناس أشد هولًا لو اطلعت على بواطن أمرهم، وقال لها: إن ما هي عليه من الحداد من بدع الجاهلية التي حرمها الإسلام فامتثلتْ لأمره.

ورأت السيدة عائشة على الخنساء صدارًا من شعر وهو ثوب صغير فقالت: يا خنساء أتلبسين الصدار وقد نهى الرسول عنه؟ قالت: لم أعلم بنهيه وله سبب، قالت: وما هو؟ قالت: زوجني أبي رجلًا متلافًا لماله فأسرع فيه حتى نفذ، فقال لي: أين تذهبين يا خنساء؟ فقلت: إلى أخي صخر، فلقيناه، فقسم ماله بيننا شطرين، ثم خيَّرنا فقالت زوجته: أما كفاك أن تقسم مالك حتى تُخيِّرهم فقال:

والله ما أمنحها شرارها
وهي حصان قد كفتْني عارها
ولو أموت مزقَتْ خمارها
وجعلت من شَعَر صدارها

ثم أنشدت قصيدتها التي تقول فيها:

يذكرني طلوع الشمس صخرًا
وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي
على موتاهم لقتلتُ نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزِّي النفس عنه بالتأسي

لم تستطع الخنساء أن تمحو من ذاكرة الخيال مرارة الحزن وألم الفراق، بل ذهبت أيام عمرها مع سيل عبراتها واستنزفت دموع القلب زهرة حياتها، لم تصغِ إلى نصيحة إنسان، بل إن الحزن انطبع على قلبها بحروف من نار وكوى فؤادها كيًّا لا يزول أثره ما دام فيها عرق ينبض، لو ابتسمتْ لخلتَ الحزن مرتسمًا في تلك الابتسامة، ولو تنفست لشعرت بحرارة الألم تتصاعد مع الزفرات، لم يحلق في سماء حياتها سوى غمامة كثيفة، هي: شبح الذين ثكلتْهم وبكتْ من أجلهم.

وفي أيام خلافة سيدنا عمر جاء إليه نفر من أصحابها وشكوا إليه حالها وطلبوا منه إحضارها وبذل النصيحة لها عسى أن ترجع عن حدادها، فلما مثلت بين يدي رجل العدل عمر وجد عينيها غائرتين من كثرة البكاء فقال لها: ما دهاكِ يا خنساء؟ وما الذي صيَّرك إلى هذا الحال؟

فأجابت: بكائي لفحول مضر جعلني في هذا الحال، فأنَّبها عمر وطلب منها أن تلتجئ إلى رحمة المولى — عز وجل — وقال لها: إن الإسلام يحرم أمثال ذلك، وإننا ظلال زائلة في هذه الحياة، ولو أن البقاء من نصيب الأحياء لبقي الرسول حيًّا، ثم أتمَّ الحديث بقوله: «إن أخويك في النار»، فأجابتْ: ذاك أطول لحزني، كنت أبكي لهما من الثأر وأنا اليوم أبكي لهما من النار.

فطلب منها أن تقول ذلك شعرًا، فقالتْ دعني أنشدك بعض ما قلتُه فيهما، ثم أنشدتْه قصيدتها التي مطلعها:

سقى جدثًا أكناف عمرة دونه
من الغيث ديماتُ الربيع ووابلُه

فتأثر سيدنا عمر من قولها، وعزم على أن يتركها في حالها ثم التفت إلى أصحابه وقال لهم: دعوها بعد اليوم في شأنها، فإن للمرء أن يبكي ما شاء لمصيبته ونكبته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤