قضية هوية

قال صديقي شيرلوك هولمز وقد انتحى كلٌّ منَّا جانبًا من جانبَيِ المِدفأة في منزله في شارع بيكر: «الحياةُ — يا صديقي العزيز — أغرب تمامًا من أي تصوُّرٍ يمكن لعقل المرء أن يَبتدِعه. ولو لم تكن الأشياء الشائعة موجودةً في حياتنا ما كُنَّا لنجرؤ على تخيُّلها. ولو استطعْنا التحليق من تلك النافذة معًا، وحُمْنا فوق هذه المدينة العظيمة، وأزلْنا الأسطح بلُطفٍ واختلسْنا النظر إلى ما يدور بداخلها من أحداثٍ غريبة، ومُصادفاتٍ عجيبة، ومُخطَّطات، ومقاصد مُتقاطعة، وسلاسل الأحداث الرائعة وهي تتصاعدُ عبر الأجيال لتؤدي في النهاية إلى النتائج الأشدِّ غرابة؛ لو حدث ذلك، لصارت كلُّ القصص الخيالية بتفاصيلها التقليدية وخواتيمها المُتوقَّعة، مُبتذلةً وتافهة.»

أجبتُه: «لكنني لستُ مقتنعًا بذلك؛ فالقضايا التي تُنشَر في الصُّحف هي — كقاعدةٍ عامة — خالية من التشويق ومُبتذَلة بما فيه الكفاية. كما أنَّ الواقعية تبلُغ أقصى مداها في تقارير الشرطة، ولكن يجِب الاعتراف أنها ليست آسِرةً ولا إبداعية.»

قال هولمز معلقًا: «لكي تُحدِثَ تأثيرًا واقعيًّا، يجب أن يكون لديك قدْر معين من حُسن الاختيار وحُسن التقدير، وهذا ما يعوز تقارير الشرطة؛ حيث يَنصبُّ التركيز على ملاحظات القضاة السطحية دون التفاصيل، التي تحوي جوهر الأمر كله. كن على يقينٍ أنه لا يُوجَد ما هو أشدُّ غرابةً من المألوف.»

ابتسمتُ وهززتُ رأسي قائلًا: «أستطيع أن أتفهَّمَ تفكيرك ذلك تمامًا؛ فكونك مُستشارًا غير رسمي ومساعدًا لكلِّ من تتملَّكه الحيرة المُطلَقة في ثلاث قارَّات، جعلك تتعرَّض لكلِّ ما هو غريب وعجيب. لكن انظُر هنا.» والتقطتُ جريدة الصباح من فوق الأرض وواصلتُ قائلًا: «لنختبرِ الأمر عمليًّا. إليك أول عنوان وقعتْ عليه عيناي: «قسوة زوجٍ على زوجته». ثمَّة نصف عمود مكتوب تحت هذا الخبر، لكنني أعلم دون أن أقرأ أنَّ كلَّ ما به مألوفٌ بالنسبة إلي. هناك بالطبع المرأة الأخرى، والشراب، والدفع، والضرب، والكدمات، والأخت أو صاحبة العقار المُتعاطفة. لا يمكن حتى لأكثر الكُتَّاب سذاجةً أن يكتُبَ شيئًا ساذجًا أكثرَ من هذا.»

قال هولمز وهو يلتقط الجريدة ويقرؤها سريعًا: «في الواقع، مثالك غير ملائم لحُجَّتك؛ هذه قضية طلاق آل دونداس، وحدث أنني قد انخرطتُ في تحليل بعض النقاط الصغيرة المُتعلقة بتلك القضية. لم يكن الزوج يشرب الكحول على الإطلاق، ولم يكن ثمَّةَ أي امرأة أخرى، والسلوك موضع الشكوى أنه اعتاد بعدَ كلِّ وجبةٍ أن يخلع طقم أسنانه الاصطناعية ويقذِف به زوجته. واسمح لي، ليس هذا مما قد يخطُر بخيال روائيٍّ عادي أو قاصٍّ. هاك بعض السَّعُوط يا دكتور، ولتعترف أنني غلبتُك في مثالك.»

أخرج هولمز علبة السَّعُوط خاصَّته المصنوعة من الذهب العتيق، والتي زُيِّنَ غطاؤها بحجَرٍ كريم كبير في منتصفه. كانت في روعتها تُخالف ما كان عليه من أسلوب حياةٍ بسيط لا تَكلُّف فيه، حتى إنني لم أستطع مقاومة التعليق عليها.

قال هولمز: «آه، نسيت أنني لم أرك منذ بضعة أسابيع. إنها تَذْكار بسيط من ملك بوهيميا؛ تقديرًا لمساعدتي إياه في قضية أوراق أيرين أدلر.»

سألته، وقد لمحتُ شيئًا لامعًا في أصبعه: «والخاتم؟»

«لقد كان هديةً من العائلة المالكة في هولندا، وإن كان لا يُمكنني الإفصاحُ عن الأمر الذي كنتُ أُحقِّق لهم فيه حتى لك، رغم تكرُّمك بتدوين واحدةٍ أو اثنتين من قضاياي الصغيرة؛ نظرًا لكونه على درجةٍ عالية من الحساسية.»

سألته في اهتمام: «وهل تعمل على أيٍّ منها حاليًّا؟»

«أجل، ثمَّة حوالي عشر أو اثنتي عشرة قضية، ولكن ليس بها ما يدعوني للاهتمام. إنها مهمة، كما تعلم، ولكنها لم تُثِر اهتمامي. في الواقع، لقد وجدتُ أن الأمور غير المُهمة عادةً ما يكون بها مجال للملاحظة. والتحليل السريع للسبب والنتيجة هو ما يُعطي للتحقيق سحرًا خاصًّا. إن الجرائم الكبرى عُرضة لأن تكون أبسط. وكقاعدة عامة: كلما كانت الجريمة أكبر، كان الدافع وراءها أكثر وضوحًا. كل تلك القضايا ليس بها ما يُميِّزها، باستثناء قضيةٍ واحدةٍ معقَّدةٍ إلى حدٍّ ما أُحيلَتْ إليَّ من مرسيليا. ومع ذلك، من الممكن أن يكون لديَّ شيءٌ أفضل في غضون دقائق قليلة؛ لأن هذا الرجل أحدُ عملائي، إن لم أكن مخطئًا.»

قام من مقعده ووقف بين الستائر المفتوحة ينظر إلى شارع لندن الغائم الباهت اللون. وعندما نظرتُ فوق كتِفه، رأيتُ امرأةً طويلة ترتدي شالًا ثقيلًا من الفرو حول رقبتها، وتضع ريشةً حمراء مجعَّدة على قُبَّعة عريضة الحواف تنثني على أُذنَيها كأنها دوقة لعوبٌ من دوقات ديفونشاير. كانت تختلس النظر من تحت هذه القبعة الكبيرة إلى نافذتنا بعصبية وتردُّد، بينما تُقدِّم ساقًا وتؤخِّر الأخرى، وتعبَثُ بأصابعها في أزرار القُفَّاز. وفجأة، وفي حركة اندفاعٍ مُتهوِّرة، قطعت الطريق بسرعةٍ كسبَّاح يقفز في البحر، ثم سمِعْنا رنين الجرس الحاد.

قال هولمز وهو يلقي بسيجارته في نار المدفأة: «لقد رأيتُ تلك الأعراض من قبل. التردُّد على الرصيف يعني دائمًا علاقة غرامية. إنها ترغب في الحصول على مشورة، لكنها لا تعرِف إن كان من الجائز مناقشة أمر بهذه الحساسية مع آخرين. ولكن حتى هنا قد يمكننا أن نُميِّز بعض الأمور. عندما تتعرَّض امرأة لإساءة جسيمة من قِبَل رجل، تكفُّ عن التردُّد، وعادةً ما تتمثَّل الأعراض في رنينٍ مُتواصلٍ لجرس الباب يُنهِكُ أسلاكه. وهكذا هنا قد نَعدُّها قضية حب، لكن الآنسة ليست غاضبةً بقدْر ما هي حائرة أو حزينة، وها هي قد أتَتْ شخصيًّا لتحسم شكوكنا.»

وبينما كان يتحدَّث، جاءه صوت نقْرٍ على الباب، ودخل الخادم ببزَّته المُميَّزة ليعلن عن قدوم الآنسة ماري ساذرلاند، بينما كانت السيدة نفسها تقِف خلف قامَتِه السوداء الصغيرة كسفينةٍ تجارية ضخمة تُبحِر خلف زورق إرشادي صغير. رحَّب بها شيرلوك هولمز بكياسته المعهودة، وبعد أن أغلق الباب انحنى لها داعيًا إيَّاها للتفضُّل بالجلوس، وأخذ يتفحَّصها بأسلوبه الدقيق والمُجرَّد في الوقت ذاته، وهو الأسلوب الذي كان مميِّزًا له.

سألها: «أَلَا تجدين أنَّ كثرة الكتابة على الآلة الكاتبة رغم قِصَر نظركِ مُرهقةٌ بعض الشيء؟»

أجابتْه: «كنت أجده كذلك في البداية، لكنني الآن أعرف مكان الحروف بدون النظر …» ثم أدركتْ ما قاله فأجفلتْ بشدَّة ونظرتْ إليه، وقد ارتسمَتْ على وجهها العريض ذي الملامح الرقيقة علامات الدهشة والخوف وصاحت: «حتمًا سمعتَ عنِّي يا سيد هولمز، وإلَّا فكيف لك أن تعلم كلَّ هذا؟»

قال هولمز ضاحكًا: «هَوِّني عليكِ، فمعرفة الأشياء من صميم عملي. ربما أكون قد درَّبتُ نفسي على رؤية ما يُغفِله الآخرون. لو لم أكن كذلك، فما الذي سيدفعُكِ إلى المجيء إليَّ لاستشارتي؟»

«أتيت إليك يا سيدي لِما سمعتُه عنك من السيدة إيثريدج، التي عثرتَ على زوجها بسهولة بعد أن عجزتِ الشرطة والجميع عن إيجاده، وسلَّموا بموته. آه يا سيد هولمز، أتمنَّى أن تقوم بالشيء نفسه معي. أنا لست ثرية، لكنَّ دخلي السنوي يبلُغ مائة جنيه إسترليني تحت تصرُّفي، بالإضافة لبعض المال الذي أجنيه من الكتابة على الآلة الكاتبة، وأنا على استعدادٍ لإعطائك كلَّ ذلك لأعرفَ ماذا حلَّ بالسيد هوزمر أنجيل.»

سألها شيرلوك هولمز وقد ضمَّ أطراف أصابعه معًا وصوَّب بصرَه تجاه السقف: «وما سبب استعجالكِ في القدوم لاستشارتي؟»

أجابت الآنسة ماري ساذرلاند وقد بدت أمارات الاندهاش مرة أخرى على وجهها الخالي من أي تعبير: «لقد خرجتُ مُسرعةً من المنزل، بعدما أغضبني ما رأيتُه من السيد وينديبانك — والدي — من استهتار في التعامُل مع الأمر كله. فهو لم يذهب إلى الشرطة، ولم يأتِ إليك، وفي النهاية، وبما أنه لن يفعل شيئًا وظلَّ يُردِّد أنه لا يُوجَد أيُّ ضررٍ وقَع، ممَّا كاد يدفعني إلى الجنون، حسمتُ أمري وها قد جئتُ إليك على الفور.»

قال هولمز: «والدكِ؟ تقصدين زوج والدتكِ بالتأكيد؛ نظرًا إلى اختلاف الأسماء.»

«نعم، إنه زوج أمي؛ ولذا أدعوه والدي، ما يجعل الأمر يبدو غريبًا أيضًا؛ فهو يكبُرني بخمسة أعوام وشهرين فقط.»

«وهل والدتُك على قيد الحياة؟»

«نعم، وبصحَّة جيدة، ولم أكن مسرورةً بزواجها ثانيةً بتلك السرعة يا سيد هولمز بعد وفاة والدي، ومن رجلٍ يصغُرها بخمسة عشر عامًا. كان والدي يعمل في مجال السباكة وكان مقرُّ عمله في طريق توتنهام كورت، وقد ترك عملًا ضخمًا قامَتْ أمي بإدارته بمساعدة السيد هاردي، رئيس العمال، ولكن عندما أتى السيد وينديبانك جعلها تبيع الشركة؛ لكونها لا تَليق به؛ نظرًا لعمله مندوبًا مُتجوِّلًا لتسويق الخمور. وقد حصلا على مبلغٍ قدره ٤٧٠٠ جنيه إسترليني مُقابل الشركة وسُمعتها الحَسَنة، وهو مبلغ لا يقترب بأي حال مما كان والدي سيحصل عليه لو كان حيًّا.»

توقعتُ أن ينفدَ صبر شيرلوك هولمز من حديثها المُسترسِل والذي لا يمتُّ للموضوع بصِلة، لكن على العكس من ذلك، فقد كان يُنصِتُ إليها بتركيزٍ واهتمام شديدَين.

سألها قائلًا: «وهل دخلكِ البسيط مصدره تلك الشركة؟»

«أوه، لا يا سيدي، إنه أمرٌ مُنفصلٌ تمامًا، فقد ترك لي عمي نيد في أوكلاند أسهمًا في بورصة نيوزيلندا بعائد يبلُغ أربعةً ونصفًا في المائة، أما المبلغ فكان ألفَين وخمسمائة جنيه إسترليني، لكن لا يمكنني التصرُّف إلا في العوائد فقط.»

قال هولمز: «أنت تُثيرين اهتمامي للغاية، وبما أنكِ تحصلين على مائة جنيه إسترليني في العام وهو مبلغٌ كبير، بالإضافة إلى حِصتكِ في الصفقة، فلا شكَّ أنكِ تسافرين قليلًا وتتنعَّمين بكلِّ السُّبل. وأعتقد أن سيدة بمُفردها يمكنها أن تعيش حياةً جيدة جدًّا بدخل يبلغ حوالي ٦٠ جنيهًا إسترلينيًّا.»

«بل أستطيع أن أعيش بأقلَّ من ذلك بكثيرٍ يا سيد هولمز، لكنك تفهم أني ما دمتُ أعيش في المنزل، فأنا لا أرغَب أن أكون عبئًا عليهما؛ ومن ثَمَّ فهما يتحصَّلان على المبلغ خلال فترة بقائي معهما، وهذا وضعٌ مؤقَّت بالطبع. فيقوم السيد وينديبانك بتحصيل عوائدي كلَّ ثلاثة أشهر ويدفعها إلى أمي، وأرى أنني يمكنني العَيش على نحوٍ جيد بما أتكسَّبه من الكتابة على الآلة الكاتبة. فهي تدرُّ عليَّ بنسين على كلِّ صفحة أكتُبها، وأستطيع في الغالِب كتابة ما بين خمس عشرة إلى عشرين صفحةً في اليوم.»

قال هولمز: «لقد أوضحتِ لي موقفكِ بجلاء. هذا هو صديقي، الدكتور واطسون، والذي يمكنكِ التحدُّثُ أمامه بحُريَّة كما تتحدَّثين إليَّ. نرجو منكِ إخبارنا الآن عن صلتكِ بالسيد هوزمر أنجيل.»

تسلَّلتْ حُمرة خجلٍ إلى وجه الآنسة ساذرلاند، وأخذت تعبَثُ بتوتُّرٍ بطرف سترتها، وقالت: «أول مرةٍ التقَيتُه كانت في حفل عمال توصيل الغاز. لقد اعتادوا إرسال دعوات لأبي عندما كان على قيد الحياة، وبعد وفاته بمُدةٍ تذكَّرونا، وأرسلوا الدعوات إلى أمي. لم يكن السيد وينديبانك يرغب في أن نذهب إلى الحفل، بل كان يرفُض دائمًا أن نذهب إلى أي مكان. وكان ينتابُه غضب شديد إذا رغبتُ في الانضمام إلى مأدُبةٍ من مآدب مدرسة الأحد. لكن هذه المرة كنتُ عازمةً على الذهاب؛ فبأيِّ حقٍّ يمنعني؟ قال: إن القوم ليسوا بالمستوى اللائق لنتعرَّف عليهم. بينما كان مُزمَعًا أن يكون أصدقاء أبي جميعًا هناك. وقال إنه ليس لديَّ ما أرتديه، بينما كان لديَّ ثوب أرجواني مخملي لم أكن قد ارتديتُه من قبل إلَّا قليلًا. وأخيرًا، عندما لم يجد بدًّا، ذهب إلى فرنسا بِعِلَّة تسيير أعمال الشركة، لكننا ذهبنا، أنا وأمي، مع رئيس العمال السيد هاردي، وهناك التقيتُ بالسيد هوزمر أنجيل.»

قال هولمز: «أفترِضُ أنه عندما عاد السيد وينديبانك من فرنسا، كان مُنزعجًا للغاية من ذَهابكما إلى الحفل.»

«أوه، حسنًا، لقد كان ردُّ فِعله على الأمر جيدًا جدًّا. أتذكر أنه ضحك، وهزَّ كتفَيه، وقال إنه لا فائدة من منْع المرأة من أيِّ شيءٍ تريده؛ لأنها ستجد وسيلةً للوصول إليه.»

«فهمت، وفي حفل عمَّال توصيل الغاز، قابلتِ سيِّدًا نبيلًا يُدعى السيد هوزمر أنجيل.»

«نعم سيدي. قابلتُه في تلك الليلة، واتَّصل في اليوم التالي للسؤال عمَّا إذا كنَّا قد وصلْنا إلى المنزل بأمان، وبعد ذلك قابلناه، أو بالأحرى يا سيد هولمز التقيتُ به مرَّتَيْنِ للتنزُّه، ولكن بعد أن عاد أبي للمنزل، لم يعُدِ السيد هوزمر يستطيع القدوم إلى المنزل.»

«حقًّا؟»

«حسنًا، أنت تعرف أن أبي لا يُحِبُّ أيَّ شيء من هذا القبيل. لو كان باستطاعته لما زارَنا أحد. وكان يقول دائمًا: إن المرأة يجِب أن تكون سعيدةً في مُحيط أسرتها فقط. ولكن بعد ذلك، كما اعتدتُ أن أقول لأمي، كل امرأة تريد أن تحظى بدائرتها الخاصَّة، وأنا لم أكن قد حظيتُ بها بعد.»

«لكن ماذا عن السيد هوزمر أنجيل؟ ألم يبذُل أيَّ محاولة لرؤيتكِ؟»

«حسنًا، كان أبي سيتوجَّه إلى فرنسا مرةً أخرى في غضون أسبوع، وكتب لي هوزمر يقول إنه سيكون من الأفضل والأسلم ألَّا يرى أحدُنا الآخر حتى يرحل. كان بإمكاننا التراسُلُ في هذه الأثناء، وكان يكتُب لي كلَّ يوم. كنتُ آخُذ الرسائل في الصباح؛ ولذا لم يكن هناك ما يدعو لأن يعرف أبي بأمرها.»

«هل خُطبتِ للسيد هوزمر أنجيل في ذلك الوقت؟»

«أوه، نعم، سيد هولمز. لقد خطبَني بعد أوَّل نُزهةٍ لنا معًا. كان هوزمر — أقصد السيد أنجيل — يعمل صرَّافًا في مكتبٍ في شارع ليدنهول و…»

«أي مكتب؟»

«هذا أسوأ ما في الأمر يا سيد هولمز؛ فأنا لا أعرف.»

«أين كان يعيش إذن؟»

«كان يُقيم في مبنى يتبَع مقرَّ عمله.»

«ولا تعرفين عنوانه؟»

«لا، لا أعرف سوى أنه في شارع ليدنهول.»

«إلى أين كنتِ تُرسِلين الرسائل إذن؟»

«إلى مكتب بريد شارع ليدنهول، وتظلُّ هناك حتى يطلُبها المُرسَل إليه. فقد قال إنني إذا أرسلتُ إلى المكتب، فسوف يسخر منه زملاؤه لتلقِّيه رسائل من امرأة؛ لذلك عرضتُ عليه أن أكتُبها على الآلة الكاتبة، كما يفعل هو مع رسائله، لكنه لم يكن يرغَب في ذلك؛ لأنه قال إنني عندما أكتُبها بخطِّ يدي يبدو عليها أنها جاءت منِّي مباشرة، لكن عندما أكتُبها على الآلة، يُراوِده دائمًا شعور بأنَّ الآلة تحُول بيننا. إن ذلك يُظهِر لكَ كم كان مُولعًا بي يا سيد هولمز، بجانب الأشياء الصغيرة التي كان يفكر فيها.»

قال هولمز: «لقد كان ذلك مُثيرًا للعاطفة إلى أبعد الحدود. من بديهيَّاتي منذ فترةٍ طويلة أنَّ الأشياء الصغيرة هي الأهمُّ على الإطلاق، فهل يمكنكِ أن تتذكَّري أيَّ أشياء صغيرة أخرى عن السيد هوزمر أنجيل؟»

«لقد كان رجلًا خجولًا للغاية يا سيد هولمز؛ فكان يُفضِّل التنزُّه معي في المساء عن وضَح النهار؛ لأنه قال إنه يكرَه الظهور ولفتَ الأنظار. وكان مُنكفئًا على نفسه ورقيقًا جدًّا. حتى صوته كان رقيقًا. أخبَرَني أنه كان قد أُصيب بالتِهابٍ في اللوزتَين وتوَرُّمٍ في الغُدَد الليمفاوية عندما كان صغيرًا، وقد خلَّفَ لديه ذلك ضعفًا في الحلْق، وجعل أسلوب حديثه مُتردِّدًا وهامسًا. كان دائمًا حسَنَ المظهر، وفي غاية البساطة والأناقة، لكن عينيه كانتا ضعيفتَين كعينيَّ، وكان يرتدي نظارةً ذات عدسات مُعتِمة لتحميَه من الأضواء المُتوهِّجة.»

«حسنًا، وماذا حدث بعد عودة السيد وينديبانك — زوج والدتك — إلى فرنسا؟»

«جاء السيد هوزمر أنجيل إلى المنزل مرةً أخرى، واقترح أن نتزوَّج قبل أن يعود أبي. لقد كان في غاية الجدِّية وجعلني أُقسِم على الكتاب المُقدَّس، إنَّني سأكون دومًا مُخلصةً له مهما حدث. قالت أمي إنَّ من حقِّه أن يجعلني أُقسِم، وإنَّ ذلك كان علامةً على قوة حُبِّه؛ فقد كانت أمي في جانبه منذ البداية وكانت مَفتونةً به أكثر منِّي. ثُمَّ عندما تطرَّقا إلى الحديث عن إتمام الزواج في غضون أسبوع، شرعتُ أتساءل عن أبي، فأخبَرَني كلاهما بألَّا أشغلَ بالي به أبدًا، وأنه سيَعلَم بعد إتمام الزواج، وقالت أمي إنها ستُسوي الأمرَ معه وتُقنعه. لكنَّ ذلك لم يُعجبني يا سيد هولمز. ومع أنه بدا غريبًا أن أطلُب مُوافقتَه؛ لأنه كان يكبُرني بسنواتٍ قليلة؛ فإنني لم أشأ أن أفعل شيئًا خِلسة، فكتبتُ إلى أبي في بوردو؛ حيث فرع الشركة في فرنسا، لكن الرسالة عادت لي في صباح يوم الزفاف.»

«لَمْ يتسلَّم الرسالة إذن؟»

«نعم يا سيدي، فقد غادر إلى إنجلترا قُبَيْل وصولها إليه.»

«ها، يا لَسوء الحظ! وكان مُقررًا لزفافكِ إذن أن يكون يوم الجمعة. هل كان مُخططًا له أن يكون في الكنيسة؟»

«نعم يا سيدي، ولكن وسط تكتُّمٍ شديد. كان من المُقرَّر أن يكون في كنيسة سانت سافيور، بالقُرب من كينجز كروس، وكان المُقرَّر أن نتناول وجبة الإفطار بعد ذلك في فندق سانت بانكراس. قدِمَ إلينا هوزمر في عربة تجرُّها الخيول تتَّسِع لشخصين، ولأنَّنا كنا اثنتَين، فقد تركها لنا وركب هو عربةً أخرى، تصادَف أنه لم يكن هناك عربة سواها في الشارع. وصلتْ عربتُنا إلى الكنيسة أولًا، وعندما وصلتْ عربة هوزمر، انتظرْنا أن يخرج منها، لكنه لم يفعل. وعندما ترجَّل سائق عربة الأجرة من فوق مقعده ونظر في العربة لم يجِد أحدًا هناك! قال السائق إنه لا يُمكنه تصوُّر ما حدَث له؛ لأنه رآه يدخل العربة بأمِّ عينَيه. كان ذلك يوم الجمعة الماضية، يا سيد هولمز، ولم أرَ أو أسمعْ أيَّ شيء منذ ذلك الحين يساعد في تفسير ما حدَث له.»

قال هولمز: «يبدو لي أنكِ عُوملتِ بطريقةٍ مُشينة.»

«أوه، لا يا سيدي، لقد كان أفضل وأكرم من أن يترُكني بهذه الطريقة؛ فقد ظلَّ طوال الصباح يقول لي إنني يجِبُ أن أكون مُخلصةً له مهما حدَث، وإنه لو حدَث أيُّ شيء غير مُتوقَّع وفرَّق بيننا، فعليَّ أن أتذكَّر دائمًا أن ثمَّةَ عهدًا بيننا بأنني سأكون له، وأنه سيأتي آجلًا أو عاجلًا؛ ليُطالبني بالوفاء بالعهد الذي بيننا. بدا ذلك حديثًا غريبًا ليُقال في صباح يوم زفاف، لكن ما حدَث بعد ذلك يجعله ذا مَغزى.»

«لقد كان حديثًا غريبًا بكلِّ تأكيد. في رأيكِ إذن أنَّ كارثةً ما غير مُتوقَّعة قد حلَّتْ به؟»

«نعم يا سيدي، أعتقد أنه تنبَّأَ بوجود خطرٍ ما، وإلَّا فلِمَ قال ما قاله؟ لذا أظنُّ أنَّ ما توقَّعَه قد حدَث.»

«لكن أليس لدَيكِ أية فكرة عمَّا يمكن أن يكون قد حدَث؟»

«نعم، على الإطلاق.»

«لدي سؤال آخر، كيف تقبَّلَتْ أمكِ الأمر؟»

«لقد غضبتْ، وقالت إنني يجِب ألَّا أتحدَّث في هذا الشأن مرة أخرى.»

«وماذا عن أبيك؟ هل أخبرتِه؟»

«نعم فعلت، وبدا مُتَّفِقًا معي في الرأي أنه قد حدَث خطبٌ ما، وأن هوزمر سيتَّصِل بي ثانية. فكما قال: ما الفائدة العائدة على أي شخص من إحضاري إلى باب الكنيسة ثم التخلِّي عنِّي هكذا؟ لو كان قد اقترَض منِّي مالًا، أو كان حصل على مالي بعد الزواج، لصار هناك سبب، لكن هوزمر كان مُستقلًّا جدًّا فيما يخصُّ المال، ولم يكن لينظُر قطُّ إلى مالي. ولكن ما الذي يمكن أن يكون قد حدَث؟ ولمَ لا يُمكنه الكتابةُ إليَّ؟ يا إلهي! إنَّ التفكير في الأمر يدفعني للجنون، ولا يكاد يغمِض لي جفنٌ طوال الليل.» ثم أخرجتْ منديلًا صغيرًا من غِطاء من الفِراءِ كانت تُدفِّئ به يدَيها وظلَّتْ تَنتحِبُ فيه نحيبًا شديدًا.

قال هولمز وهو ينهض: «سأنظُر في القضية من أجلكِ، ولا يُساورني أدنى شكٍّ في أننا سنصِل إلى نتيجةٍ قاطعة. اترُكي الأمر لي الآن، ولا تُرهِقي نفسكِ بالتفكير فيه بعدَ الآن. وفوق كلِّ شيء، حاوِلي أن تَطوي صفحة السيد هوزمر من ذاكرتكِ، كما تلاشى من حياتك.»

«إذن هل تعتقد أنَّني لن أراه بعدَ اليوم؟»

«أخشى ذلك.»

«إذن ماذا حدَث له؟»

«ستترُكين هذا السؤال بين يديَّ. أودُّ الحصول على وصفٍ دقيق له وأي خطاباتٍ منه يمكنكِ توفيرها.»

«لقد نشرتُ إعلانًا عنه في عدد السبت الماضي من جريدة «كرونيكال»، وها هي أربع رسائل منه.»

«شكرًا لكِ. وما عنوانكِ؟»

«المنزل رقم ٣١ شارع ليون بليس، كامبرويل.»

«أفهم أنكِ لم تعرفي عنوان السيد أنجيل قط، فما عنوان عمل أبيكِ؟»

«إنه مندوب مبيعات لدى شركة ويستهاوس آند ماربانك أكبر مُستوردي النبيذ في شارع فينْتشيرش.»

«شكرًا لكِ. لقد أدليتِ بأقوالكِ بوضوحٍ شديد. اترُكي الأوراق هنا ولتتذكَّري النصيحة التي أسديتُها لكِ اليوم. اعتبِري الأمر كلَّهُ كأنْ لم يكُن، ولا تسمحي له بالتأثير على حياتكِ.»

«أنت لطيف للغاية يا سيد هولمز، لكنني لا أستطيع فعل ذلك. سأكون مُخلصةً لهوزمر. يجِب أن يجِدَني في انتظاره عندما يعود.»

على الرغم من القُبَّعة السخيفة والوجه الأبله، كان ثمَّةَ شيء نبيل في الإخلاص الساذج لزائرتنا فرَضَ علينا احترامَها. وَضَعَت مجموعةَ أوراقها الصغيرة على الطاولة ومضتْ في طريقها، مع وعدٍ بالمجيء مرةً أخرى متى دُعيَتْ للحضور.

جلس شيرلوك هولمز صامتًا لبضع دقائق وظلَّ ضامًّا أطرافَ أصابعه معًا، مُمدِّدًا ساقَيْهِ أمامه، مُصوِّبًا نظرَهُ للسقف، ثم أخذ من الرفِّ غليونَه الفخاري المُشحَّم العتيق — والذي كان بمثابة مُستشار له — وبعد أن أشعله، اضطجع في كرسيِّه، بينما تصاعدَتْ حوله على نحوٍ دائري سحبٌ كثيفةٌ من الدُّخان الأزرق، وبدَتْ على وجهه نظرةُ إرهاقٍ وضجَر لا نهائيَّيْن.

قال مُعلقًا: «هذه الآنسة موضوعٌ جديرٌ بالدراسة، وأجِدُها أكثر إثارةً للاهتمام من مُشكلتها البسيطة، والتي هي — بالمناسبة — مشكلة تافِهة. ستجِد قضايا مُشابهة لها، لو راجعتَ دليل القضايا خاصَّتي، جرتْ أحداثها في أندوفر في عام ٧٧، وكان ثمَّة شيءٌ مشابهٌ أيضًا في لاهاي العام الماضي. ومع أنَّ الفكرة قديمة، فإن بعض التفاصيل كانت بها نقطةٌ أو اثنتان جديدتان بالنسبة لي. لكن الآنسة كانت مُفيدة لي للغاية.»

قلت: «يبدو أنك رأيتَ فيها ما خفي عليَّ منها.»

«لم يخفَ عليك يا واطسون، وإنما لم تُلاحظه؛ فأنت لم تدرِ أين يجِب أن تنظُر؛ لذا فاتك ما يُهم. لا يُمكنني أن أُنبِّهك إلى مدى أهمية الأكمام، وما يُوحي به ظُفر الإبهام، أو عِظَم دلالة ما يتدلَّى مع رباط الحذاء. والآن، ما الذي استخلصْتَهُ من مظهر هذه المرأة؟ صِفْه لي.»

«حسنًا، لقد كانت ترتدي قُبَّعة رمادية داكنة من القشِّ ذاتَ حافة عريضة، مع ريشة ذات لون أحمر طوبي. كانت سترتها سوداء، مُطرَّزة بحبَّات الخرَز السوداء، ومُزيَّنة الأطراف بالقليل من حبَّات الكهرمان الأسود. كان فستانها بُنيًّا أكثر دُكنة من لون القهوة، مُزينًا بخمائل أرجوانية صغيرة على الرقبة والأكمام. كانت قفازاتها ضاربة إلى الرمادي وكانت إصبع السبابة اليمنى منها بالية. أما حذاؤها فلمْ ألاحِظه. كانت ترتدي أقراطًا ذهبية صغيرة دائرية تتدلَّى من أذنيها، ما يعطي انطباعًا عامًّا بأنها مُوسِرة إلى حدٍّ ما وتعيش حياة رغيدة مُريحة.»

صفَّق هولمز بلُطف ضاحكًا وقال: «يا للعجب يا واطسون! إنك تتقدَّم على نحوٍ مُذهل. لقد قمتَ بعملٍ جيد جدًّا في الحقيقة. صحيح أنه فاتك كلَّ ما هو مُهم، لكنك اقتربتَ كثيرًا، كما أنَّ لديك عينًا سريعة الملاحظة فيما يخصُّ الألوان. لا تثِقْ في الانطباعات العامة يا صديقي، بل التفاصيل هي ما يجِب أن تُركِّز عليها. إن أول ما يقع عليه نظري في المرأة دائمًا هو أكمامُها، أما الرجل فالأفضل أن أبدأ بالنظر إلى رُكبتي بنطاله. وكما ترى، لقد كان على كُمَّيْ هذه الفتاة قماش مخملي، وهو أفضل الأقمشة في إظهار الأثر. فالخطُّ المزدوَج فوق المعصم بقليل، حيث يسند كاتب الآلة الكاتبة يدَيه على الطاولة، كان جليًّا. ماكينة الخياطة اليدوية أيضًا تترُك أثرًا مُشابهًا، لكن على الكمِّ الأيسر فقط، وعلى جانبِه الأبعَدِ من الإبهام، بدلًا من أن يكون عبر الجزء الأعرض، كما كان في حالتِنا هذه. بعد ذلك، نظرتُ إلى وجهها، ولاحظتُ تجويفًا على جانبي أنفها من أثر ارتداء نظارةٍ أنفية، فجازفتُ بإبداء الملاحظة الخاصة بالكتابة على الآلة الكاتبة وقصر النظر، والتي بدتْ مُفاجئةً لها.»

«لقد فاجأْتَني أنا أيضًا.»

«لكن، بكلِّ تأكيد، كان الأمر واضحًا. بعد ذلك فوجئتُ — وأُثِير فضولي كثيرًا عندما نظرتُ إلى قدَميها — أن فردَتَي حذائها الذي كانت ترتديه كانتا مُختلفتَين إحداهما عن الأخرى، لقد كانتا غريبتَين تمامًا؛ فقد كانت إحداهما ذات مُقدِّمة مُغطَّاة بقليلٍ من الزينة، والأخرى كانت عادية بلا أي زخارف. كانت إحداهما مغلقة عند اثنين فقط من الأزرار السُّفلية الخمسة، والأخرى كانت مُغلقة عند الزرِّ الأول والثالث والخامس. والآن، عندما ترى أن سيدة شابة، ترتدي ملابس أنيقة، قد خرجت من منزلها بحذاء غريب، أزرار نصف مغلقة، فليس من العظمة في شيء أن نستنتِج أنها كانت على عجلةٍ من أمرها.»

سألتُه باهتمامٍ شديد كعادتي عندما يبدأ صديقي باستنتاجه المنطقي للأمور: «وماذا أيضًا؟»

«لاحظتُ، عَرَضًا، أنها كَتَبَتْ رسالة قبل مُغادرتها للمنزل، ولكن بعد أن ارتدَتْ ملابسها بالكامل. فقد لاحظتَ أن قفَّازها الأيمن ممزَّق عند السبابة، لكنك لم ترَ على ما يبدو أن كلًّا من القفاز والإصبع مُلطَّخٌ بالحِبر البنفسجي؛ ذلك يعني أنها كتبتْ في عجلةٍ من أمرها فانزلَق قلمُها عميقًا في الحِبر. لا بُدَّ أن يكون هذا قد حدث صباح اليوم، وإلَّا لما بقِيَت العلامة واضحةً على الإصبع. كان هذا مُسلِّيًا، رغم أنه أساسي، لكن يجِب أن أستأنف العمل يا واطسون. هل تُمانع في أن تقرأ عليَّ وصف السيد هوزمر أنجيل كما جاء في الإعلان؟»

أمسكت بالقُصَاصة المطبوعة الصغيرة وسلَّطتُ عليها الضوء.

يقول الإعلان: «فُقد في صباح يوم الرابع عشر من الشهر الجاري، سيد يُدعى هوزمر أنجيل، يبلغ طوله حوالي خمسة أقدام وسبع بوصات، ذو بِنيَةٍ قوية، شاحِب البشرة، أسود الشعر، به بعض الصَّلع في منتصف الرأس، ذو شَعْرٍ كثيف وأسود عند السوالف والشارب، يرتدي نظَّارة مُعتمة، وفي صوته وهَن. آخِر مرة شُوهد فيها كان يرتدي معطفًا طويلًا أسود مُقدِّمته من الحرير، وصدرية سوداء، وسلسلة ساعة جيب ذهبية، وبنطالًا من الصُّوف رماديَّ اللون، وواقيَ ساقين بنيَّ اللون، فوق حذاءٍ مطاطيِّ الجانبين. كان يعمل في أحد مكاتب شارع ليدنهول. أي شخص يُدلي …»

قال هولمز: «يكفي هذا.» ثم نظر إلى الخطابات وأردف قائلًا: «أما هذه فمجرد خطابات عادية للغاية، وليس فيها ما يدلُّ على شخصية السيد أنجيل على الإطلاق، عدا اقتباسه مرة واحدة كلمات لبلزاك. غير أن ثمَّةَ شيئًا واحدًا جديرًا بالملاحظة، ولا شكَّ أنه قد لفت نظرك.»

قلت: «إنها مكتوبة على الآلة الكاتبة.»

«ليس ذلك فحسب، ولكن التوقيع أيضًا مكتوب على الآلة الكاتبة. انظر إلى اسم «هوزمر أنجيل» الصغير الأنيق في الأسفل. هناك تاريخ كما ترى ولكن لا يُوجَد عنوان للرسالة باستثناء شارع ليدنهول، وهو غامض إلى حدٍّ ما. والنقطة التي تتبَع التوقيع لها دلالة كبيرة؛ بل يُمكننا أن نقول إنها حاسِمة.»

«وما وجه الدلالة والحسْم؟»

«صديقي العزيز، هل من المعقول ألَّا تكون قد رأيتَ مدى قوة تأثير ذلك على القضية؟»

«لا يُمكنني الادِّعاء أنني أرى ذلك، إلَّا إذا كان يرغب في أن يكون بمقدوره إنكار صحَّة التوقيع إن أُقيمت ضدَّه دعوى لنكثِ الوعد بالزَّواج.»

«لا، لم يكن هذا هو المقصود. ومع ذلك، سأكتُب رسالَتَين ستحسُمان الأمر، إحداهما لشركة في المدينة، والأخرى لزَوج والدة الفتاة الشابة، السيد وينديبانك، أسأله فيها عمَّا إذا كان بإمكانه مُقابلتنا هنا في الساعة السادسة من مساء غدٍ؛ فسيكون من الجيد كذلك أن نتعامل مع الأقارب الذكور. والآن يا دكتور، لا يُمكننا فعلُ أيِّ شيء حتى تأتي الردود على تلك الرسائل؛ لذلك فلنضعْ قضيتنا الصغيرة جانبًا لفترةٍ مؤقتة.»

كان لديَّ الكثير والكثير من الأسباب للإيمان بقُدرات صديقي الفائقة في الاستدلال وطاقته الاستثنائية العملية؛ لدرجة أنني شعرتُ أنه لا بدَّ أن يكون لديه بعض الأُسس القوية لأسلوبه الواثق والسهل في التعامُل مع اللُّغز الغريب الذي دُعِيَ إلى سبْرِ أغواره وحلِّه. لم أعلم أنه فشِل في ذلك من قبل إلَّا مرةً واحدة، في قضية ملك بوهيميا وصورة أيرين أدلر، ولكن عندما تذكرتُ غرابة قضية «علامة الأربعة»، والظروف الاستثنائية المُرتبطة بقضية «دراسة في اللون القرمزي»، شعرتُ أنه سيكون به عقدة غريبة بالفعل لن يستطيع حلَّها.

تركتُه عند ذاك وهو لا يزال يُدخِّن من غليونه الفخاري الأسود، وكُلِّي قناعةٌ أنني عند عودتي مجددًا في المساء التالي، سأجده قد توصَّل إلى كلِّ الأدلَّة التي من شأنها أن تؤدِّيَ إلى كشف هُوِيَّة عريس الآنسة ماري ساذرلاند المفقود.

كانت لديَّ حالة طبية شديدة الخطورة تشغل بالي في ذلك الوقت، وانشغلتُ في اليوم التالي بمُتابعة حالة المريض، ولم أفرغ من ذلك حتى الساعة السادسة تقريبًا، وتَمَكَّنْتُ من القفز في عربة أُجرة مُتوجِّهًا إلى شارع بيكر، مُتخوِّفًا بعض الشيء من أن يكون الأوان قد فات لتقديم يد المساعدة في حلِّ اللغز الصغير. ولكنني وجدتُ شيرلوك هولمز وحده يُغالب النُّعاس، بجسده الطويل النَّحيل مُكوَّرًا في كُرسيِّه. وعلمتُ من المجموعة الكبيرة من الزجاجات وأنابيب الاختبار، ومن الرائحة النفَّاذة لحمض الهيدروكلوريك، أنه قضى يومه في التجارب الكيميائية التي كان مُغرمًا بها.

قلت: «حسنًا، هل تمكَّنتَ من حله؟»

«نعم بالفعل. كانت النتيجة ثانيَ كبريتات الباريوم.»

صِحْتُ: «لا، لا، أعني اللغز!»

«أوه، تقصد هذا! ظننتُكَ تعني الملح الذي كنتُ أعمل عليه. لم يكن بالأمر أيُّ غموض، وإن كانت بعض التفاصيل مُهمة كما قلتُ بالأمس. لكن أخشى أن العقَبة الوحيدة هي أنه ما من قانون يُمكنه أن يُحاكم الأوغاد.»

«من كان إذن؟ وما كان هدفه من هجْر الآنسة ساذرلاند؟»

لم يكَدْ يخرُج السؤال من شفتي وما لبِثَ هولمز يفتح شفتَيه للإجابة عنه، حتى سمِعْنا وقْعَ أقدامٍ ثقيلة في المَمرِّ ثم طرقًا على الباب.

قال هولمز: «لا بُدَّ أن هذا زَوج والدة الفتاة، السيد جيمس وينديبانك. لقد أرسل إليَّ ليُخبرني أنه سيكون هنا في تمام السادسة. تفضَّل يا سيد جيمس.»

دخل رجلٌ قويُّ البنية مُتوسط الحجم، يبلُغ من العمر حوالَي ثلاثين عامًا، حليق الذقن، شاحِب البشرة، رقيق الملامح، ذو عينَين رمادِيَّتَين ثاقِبتَين بهما حدَّة بالِغة. رمَقَ كلًّا منا بنظرة مُتسائلة، ثم وضع قُبَّعته ذات السطح اللامع على نَضَدِ المائدة، وجلس بعد انحناءةٍ خفيفة في أقرب كُرسي.

قال هولمز: «مساء الخير، يا سيد جيمس وينديبانك، أعتقِد أن هذه الرسالة المكتوبة على الآلة الكاتبة هي منك، وقد حددْتَ فيها موعد لقائنا عند تمام الساعة السادسة؟»

«نعم يا سيدي. أخشى أنَّني تأخرتُ قليلًا، لكنَّني لا أملك وقتي كما تعلمان. أنا آسف لأن الآنسة ساذرلاند قد أزعجتْكَ بشأن هذه المشكلة الصغيرة؛ لأنني أعتقد أنه من الأفضل بكثيرٍ عدَم طرح المشاكل الشخصية على الملأ. لقد جاءتْ إليكم على عكس رغْبتي، لكنها فتاة سريعة الانفعال ومُندفعةٌ للغاية، وربما لاحظتَ ذلك، ويصعُب السيطرة عليها عندما تقتنِع بأمرٍ مُعيَّن. لكنني لم أُعارض قدومها إليكَ كثيرًا، كونك لا تتبَع الشرطة الرسمية، ولكن ليس من اللطيف أن تنتشِر أصداء مِحنةٍ أُسرِيَّة كهذه في الخارج. علاوة على ذلك، فهي تكلفة غير مُجدية؛ فكيف يمكن أن تجِد هوزمر أنجيل؟»

قال هولمز بهدوء: «على العكس، فلديَّ كلُّ الأسباب التي تجعلني أعتقد أنني سأنجح في الكشف عن مكان السيد هوزمر أنجيل.»

جفل السيد وينديبانك بشدَّة فأسقط قُفازَيه وقال: «يُسعدني سماع ذلك.»

علق هولمز قائلًا: «إنه لأمرٌ مُثير للفضول أن تتَّسِم الآلة الكاتبة بقدْرٍ كبير ممَّا يتميَّز به خطُّ اليد من التفرُّد. ولا يُوجَد آلتان تكتُبان على نحوٍ مُتطابق قطُّ ما لم تكونا جديدتَين تمامًا؛ فبعض الحروف تبلى أكثرَ من غيرها، وبعضها يَبلى فقط من أحد الجوانب. والآن، ستُلاحظ يا سيد وينديبانك في رسالتك هذه، أن ثمَّة لطخةً بسيطةً فوق كلِّ حرف e، وعيبًا طفيفًا في ذيل كلِّ حرف r. يُوجَد أربع عشرة علامة مُميَّزة أخرى، ولكن هذه هي الأكثر وضوحًا.»

قال ضيفُنا وهو ينظر بعَينَيه الضيِّقَتَين البرَّاقَتَين في حدَّة إلى هولمز: «إننا نستخدِم هذه الآلة في جميع مُراسلات المكتب، ولا شكَّ أنها قد بَلِيتْ بعض الشيء.»

تابع هولمز: «والآن سأريك يا سيد وينديبانك ما يُعدُّ بحقٍّ دراسة مُثيرة جدًّا للاهتمام. أفكر في كتابة دراسة صغيرة أخرى هذه الأيام عن الآلة الكاتبة وعلاقتها بالجريمة، وهو موضوعٌ كرَّستُ له بعض اهتمامي. لديَّ هنا أربع رسائل يُدَّعى أنها أُرسلت لابنة زَوجتك من الرجل المفقود، جميعها مكتوب على الآلة الكاتبة. وفي كلِّ حالة لن تُلاحظ فقط وجود «لطخة» على حرف e أو عدم وجود ذيل حرف r، لكنك ستُلاحظ أيضًا إذا كنتَ مُهتمًّا باستخدام العدسة المُكبِّرة، أن العلامات الأربع عشرة الأخرى التي أشرتُ إليها من قبلُ موجودةٌ أيضًا.»

انتفض السيد وينديبانك من كرسيه والتقط قُبَّعته قائلًا: «لا يُمكنني تضييع الوقت في سماع مثل هذا الكلام الخيالي يا سيد هولمز، لو كان في استطاعتك أن تُمسكَ بالرجل فلتُمسكْ به، وأخبرْني عندما تفعل.»

قال هولمز: «بالتأكيد.» ثم سار نحوَ الباب وقال وهو يُدير المفتاح في القفل: «وها أنا الآن أُخبرك أنَّني قد أمسكتُ به!»

شحبَ وجه السيد وينديبانك وابيضَّتْ شفتاه وصار يتلفتُ حوله كفأرٍ في المصيدة ثم صاح قائلًا: «ماذا! أين؟»

قال هولمز بلُطف: «لن يُجديَ ذلك، بالفعل لن يُجديَ يا سيد وينديبانك، فما من طريقةٍ يُمكنك أن تتملَّص بها، فالأمر في غاية الوضوح، ولم يكن من الجيد إطلاقًا قولك إنه من المُستحيل عليَّ أن أحُلَّ قضية بهذه السهولة. هذا صحيح! اجلس ولنُناقِش الأمر معًا.»

انهار ضيفُنا على أحد الكراسي، وشحب وجهُه وتلألأت قطرات العرَق على جبينه، وتمتم قائلًا: «إن … إنه لا يستوجب رفع دعوى قضائية.»

قال هولمز: «للأسف هذا صحيح، لكن فيما بيننا يا وينديبانك، لقد كانت تلك من أكثر الحِيَل التي مَرَّتْ بي قسوةً وأنانيةً وانعدامًا للرحمة والشفقة. والآن، دعْني أعرِض عليك باختصار مسار الأحداث ولتُعارضني إن أخطأتُ.»

تقوقَع الرجل على الكرسي، وتهدَّل رأسه على صدْره، كحال رجلٍ سحقَهُ القهر سحقًا. مدَّد هولمز قدمَيه على زاوية المِدفأة، وبدأ يميل إلى الخلْف واضعًا يدَيه في جيوبه ثُمَّ بدأ في الكلام، وبدا كأنه يتحدَّث إلى نفسه لا إلينا.

قال: «تزوَّج رجل امرأة تكبُره بكثيرٍ من أجل المال، كما استمتع بأموال ابنتِها ما دامت تعيش معهما، وكان المبلغ كبيرًا لأُناسٍ في مركزهما الاجتماعي، وخسارَتُه كانت ستُحدِث فرقًا بالغًا، ولذا كان الأمر يستحقُّ جهدًا من أجل الحفاظ عليه، خاصَّةً أن الابنة لم تكن ذات طباع ودودة ولطيفة فقط، بل كانت حنونةً ورقيقة القلب أيضًا؛ لذا كان من الواضح أنها لن تبقى بدون زَواجٍ لفترة طويلة، بالنظر لمزاياها الشخصية الجميلة ودخْلها المعقول، وزواجها يعني بالطبع خسارة مائة جُنيه سنويًّا، إذن ماذا يفعل زَوج الأم ليمنع حدوث تلك الخسارة؟ يسلك الطريق الواضح بإبقائها في المنزل ومنعها من الاختلاط بمن هُم في مِثل سنِّها، لكن سُرعان ما اكتشف أن ذلك لن يؤتيَ جدواه للأبد؛ فقد صارتْ عنيدة، وأصرتْ على المُطالبة بحقوقها، وأعلنتْ أخيرًا نِيَّتها القاطعة في الذَّهاب إلى حفلٍ مُعيَّن، فماذا يفعل زوج أمها الحاذق؟ نسج فكرة نابعة من عقله أكثر من قلبه تنمُّ عن مكرٍ وقسوة؛ فتنكَّر بمساعدة زَوجته ومُباركتِها مُغطِّيًا عينَيه الحادَّتَين بنظارةٍ مُعتمة، ومُقنِّعًا ذلك الوجه بشاربٍ وزوجٍ من السوالف الكثيفة، كما خفَضَ صوته ليصير همسًا غير مُبين، بالإضافة إلى قِصَر نظر الفتاة، ليظهر في صورة السيد هوزمر أنجيل، الذي يقوم بدور المُحبِّ ليُبقِيَ المُحبِّين الآخرين بعيدًا.»

قال ضَيفُنا مُتذمِّرًا: «لقد كان الأمر مُزحةً في البداية. لم نظنَّ قطُّ أنَّ عاطفتها ستنجرِف بهذا الشكل.»

«لا يبدو أنه كان كذلك. وبغضِّ النظر عن حقيقته، فقد انجرفَتِ الفتاة في الأمر بلا رَيب، وبما أنها مُقتنِعة بأن زَوج أمها في فرنسا، فلم يتطرَّق احتمال الخيانة إطلاقًا إلى ذهنها. لقد كان في إعجاب السيد النبيل بها إرضاءٌ لغُرورها، وممَّا زاد هذا التأثير إعجابُ أُمِّها الصريح به أيضًا. عند ذلك بدأ السيد أنجيل في الاتصال عبر الهاتف؛ إذ كان واضحًا أنَّ الأمر يحتاج لأقصى قدْرٍ ممكن من الدفع إذا كنَّا نرغَب في إحداث تأثير حقيقي. فصار هناك مُقابلات، وخطبة، الأمر الذي من شأنه أن يُؤمِّن عواطف الفتاة من التَّحوُّل نحوَ أيِّ شخصٍ آخر، ولكن الخداع لا يُمكن أن يدوم للأبد، كما أنَّ تلك الرحلات المزعومة إلى فرنسا كانت شاقَّةً إلى حدٍّ ما؛ لذا لم يكن هناك بدٌّ من وضع نهاية درامية للعلاقة تترُك أثرًا دائمًا في عقل الفتاة الشابَّة، وتمنعُها من النظر إلى أي خاطبٍ آخر لفترة. ومن هنا جاء القسم بالوفاء على الكتاب المُقدَّس، إلى جانب تلك الإلماحات إلى احتمال وقوع خطْبٍ ما صباح يوم الزفاف. لقد أراد جيمس وينديبانك أن ترتبط الآنسة ساذرلاند بالسيد هوزمر أنجيل ولا تعرِف ما حدَث له، لمدة عشر سنوات قادمة على الأقل، تحت أي ظرف، وبذلك لن تلتفت لرجل آخر. وعندما أحضرها إلى باب الكنيسة، ولأنه لا يُمكنه المضيُّ لأبعدَ من ذلك، فقد اختفى بسهولةٍ مُستخدمًا الحِيلة القديمة بالركوب من باب إحدى العربات التي تجرُّها الخيول والنزول من الباب الآخر. أعتقد أنَّ هذا هو تسلسُل الأحداث يا سيد وينديبانك!»

استعاد ضيفُنا بعض ثقتِهِ بنفسه بينما كان هولمز يتحدَّث، فنهض من كُرسيِّه وقد عَلَتْ وجهه نظرةُ تهكُّمٍ باردة، وقال: «قد يكون ما قلتَه صحيحًا يا سيد هولمز وقد يكون خاطئًا، ولكن بما أنك تتمتَّع بهذا الذكاء الحاد، فمِن المُفترَض أنك من الذكاء لتعلم أنك الآن من يخرِق القانون وليس أنا. فأنا لم أفعل شيئًا يُعاقِب عليه القانون، بينما بإبقائك هذا الباب مُغلقًا، تُعرِّض نفسك لعقوبة الاعتداء والاحتجاز غير القانوني.»

قال هولمز وهو يفتح الباب على مِصراعيه: «كما قلتَ، لا يمكن أن يُعاقبك القانون، ولكنك أكثر من يستحقُّ العقاب. لو كان لهذه الفتاة الشابَّة أخٌ أو صديق، لوجَبَ عليه جلدُك على ظهرك بالسوط.» واحتقنَ وجهه غضبًا عندما رأى نظرة التهكُّم البادية على وجه الرجل ثم أردف قائلًا: «يا ألله! إن ذلك ليس من واجباتي تجاه عميلتي، لكن ها هو السوط في مُتناوَل يدي وأظنُّ أنني سأستمتع ﺑ…»ثم اتَّخذ خطوتَين سريعتَين نحو السوط، وقبل أن يتمكَّن من الإمساك به كانت هناك جلبةٌ من خطواتٍ راكضة على السُّلَّم، ثم صوت إغلاق باب القاعة السُّفلي بقوة، ورأينا السيد جيمس وينديبانك من النافذة وهو يُطلِق ساقَيه للرياح ويجري بأقصى سرعته عبر الطريق.

قال هولمز ضاحكًا وهو يُلقي نفسه في كرسيِّه مرة أخرى: «يا له من نذلٍ عديم الشفقة! سينتقِل هذا الشخص من جريمة إلى أخرى حتى يقترف جريمةً بالغةَ السوء، وينتهي به الحال على مِقْصَلَة الإعدام، ولكن القضية لم تخلُ في بعض نقاطها من الإثارة.»

علَّقتُ قائلًا: «لا يُمكنني أن أفهم تمامًا الخطوات التي بَنيْتَ عليها استنتاجك.»

«حسنًا، كان من الواضح منذ البداية بالطبع أن السيد هوزمر أنجيل هذا يجِب أن يكون لديه دافعٌ قوي يُفسِّر سلوكه الغريب، وكان من الواضح بالقدْر نفسه أنَّ الشخص الوحيد الذي استفاد بالفعل من الواقعة، حسبما نعلم، كان زوج الأم. ثم كانت حقيقة أن الرُّجلَين لم يجتمِعا معًا قط، بل كان دائمًا ما يظهر أحدُهما حين يختفي الآخر، وكانت تلك الحقيقة تُوحي بشيء. كذلك الحال بالنسبة إلى النظارة المُعتِمة والصوت الغريب اللذين يدُلَّان على التنكُّر، كحال السوالف الكثيفة. وتأكدتْ جميع شكوكي من خلال تصرُّفاته الغريبة في كتابة توقيعه على الآلة الكاتبة، الذي يدلُّ بالطبع على أن خطَّ يدِه كان مألوفًا لها لدرجة أنها كانت تتعرَّف حتى على أصغر عيِّنةٍ منه. كل هذه الحقائق المُنفصِلة، إلى جانب العديد من الحقائق الثانوية، كلها تُشير إلى الاتجاه ذاته.»

«وكيف تأكدتَ من صحَّتِها؟»

«ما إن وضعتُ الرجل في موضع الاتهام، حتى صار من السهل تأكيد الاتهامات. لقد عرفتُ الشركة التي يعمل بها هذا الرجل؛ فأخذتُ الوصفَ المطبوع وحذفتُ منه كلَّ ما يُمكن أن يكون نتيجة تنكُّر — السوالف، والنظارة، والصوت — وأرسلتُه إلى الشركة، وطلبتُ منهم إبلاغي إن كانت تلك المواصفات تنطبِقُ على أيٍّ من مندوبي الشركة. وقد لاحظتُ بالفعل الخصائص المُميزة للآلة الكاتبة، وكتبتُ إلى الرجل نفسه على عنوان عمله وطلبتُ منه أن يأتي إلى هنا. وكما توقَّعت، فقد كان ردُّه مطبوعًا بالآلة الكاتبة وظهرتْ فيه نفس العيوب المُميزة رغم تفاهتِها. وقد استلمتُ مع البريد أيضًا خطابًا من شركة ويستهاوس آند ماربانك، الكائنة بشارع فينتشيرش، يقولون فيه: إن الوصف ينطبق تمامًا على موظف عندهم يدعى جيمس وينديبانك. هذا كلُّ ما في الأمر!»

«وماذا عن الآنسة ساذرلاند؟»

«لو أخبرتُها بحقيقة الأمر فلن تُصدِّقَني. لعلك تذكُر المثل الفارسي القائل: «إن سلْبَ المرأة وهمًا تعيشُه، كصُعوبة انتزاع شِبل النمر.» إن في أشعار حافظ الشيرازي الكثير من المنطق كما في أشعار هوراس، والكثير من المعرفة بالعالم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤