خاتمة
يمكن تمامًا تفهُّم إصابة القارئ ببعض الاكتئاب لدى بلوغ هذه المرحلة من هذه المقدمة القصيرة، فالاستعراض الموجز لبعض المشكلات والتحديات الكبرى أمام العلاقات الدولية يكشف أننا نعيش في عالم خطير جدًّا، وأن التهديدات الأكثر خطورة على سلامنا وأمننا ورفاهيتنا الاقتصادية والاجتماعية أغلبها ناتج عن تصرفات البشر.
و«النظام العالمي الجديد» الذي أمل الرئيس جورج بوش الأب أن يدفع به لدى نهاية الحرب الباردة يبدو الآن أنه كان فكرة مفرطة التفاؤل مستحيلة التحقيق، ومعظم المراقبين العقلاء اليوم يدركون أن ثمة حدودًا صارمة لما يمكن لمبادرات السياسة الخارجية أحادية الجانب أن تحققه؛ فالتغيرات الدولية الكبيرة مثل إصلاح الأمم المتحدة لا يمكن تحقيقها إلا بحدوث اتفاق بين القوى الكبرى. وحتى إصلاح الاتحاد الأوروبي لا بد من موافقة الدول الأعضاء الخمس والعشرين عليه.
أحد الدروس المهمة التي يمكن للمرء أن يستخلصها من التاريخ الحديث للعلاقات الدولية، هو أهمية الدبلوماسية المحنكة الصبورة، التي تقيم أواصر التعاون، ليس مع الدول فحسب، وإنما مع المنظمات الحكومية الدولية والمنظمات من غير الدول أيضًا. وينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن ثمة إنجازات ضخمة تحققت عن طريق الدبلوماسية السلمية على مدى نصف القرن الماضي، ومعظم الأعمال اليومية لوزارة الخارجية والكومنولث وسفرائنا في الخارج، تتضمن علاقات مع دول تكون بالأساس دولًا صديقة ومتعاونة، وتلتزم حكوماتها بالاتفاقات الدولية، وتمارس التجارة والدبلوماسية وفقًا للقواعد، وما إلى ذلك.
ولا يسري ذلك على القوى الصغيرة ومتوسطة الحجم فحسب، فقد تعلَّم الزعماء المتعاقبون للقوة العظمى الوحيدة في العالم بالتجربة أن النهج أحادي الجانب غير مجدٍ، فثمة حدود لقوتهم ونفوذهم، وبما أنهم لا يستطيعون التحكم في سير العلاقات الدولية، فلا بد لهم من الاعتماد على دبلوماسية منتهجي التعددية، ومنهم الأمم المتحدة التي لا تتسم بالكمال، ولكنها لا غنى عنها.
ويتبع ذلك أنه في عالم تمتلك الدول فيه أسلحة دمار شامل، لا يمكن قياس الحنكة السياسية الدولية والقيادة الدولية فقط من منطلق استعمال القوة العسكرية — أو التهديد باستعمالها — كأداة منتظمة للسياسة الخارجية. بالطبع، كملاذ أخير — عندما يكون أمنك الوطني معرضًا للخطر بحق — لا بد أن تكون مستعدًّا لاستعمال القوة العسكرية، إلا أن الاعتماد المفرط على «الحلول» العسكرية أمر خطير للغاية، ومن المحتمل أن يأتي بنتائج عكسية. وحتى القوة العظمى لا يمكنها إعادة تشكيل النظام الدولي بأكمله على شاكلتها، وعليها أن تتعلم «إدارة» التوترات والخلافات ومنع وقوع النزاعات؛ لأن المخاطر التي ينطوي عليها تفاقم النزاعات داخل الدول كبيرة، حتى إنه ليس من مصلحة الأمن القومي أن تُجَرَّ الدولة إلى «حروب استباقية» مزعومة ضد جميع نظم الحكم غير الديمقراطية الوحشية في العالم.
ومن المهم أن يوضَع في الحسبان أن قلَّة قليلة فقط من الدول تتمتع بنظم سياسية ديمقراطية؛ فالنظام الدولي أبعد ما يكون عن النظام الديمقراطي، ولكن ذلك لا يعني أن سياساتنا الخارجية ينبغي ممارستها دون الرجوع إلى مبادئ أساسية محددة.
وقد أكَّدتُ سابقًا على المساهمة الحيوية، التي قدمها البارعون من رجال الدولة على الصعيد الدولي، والزعماء السياسيين على الصعيد الوطني؛ في حل المشكلات والتحديات. فما المبادئ الرئيسية التي ينبغي أن يسترشد بها صانعو السياسات والبرلمانات والشعوب في الوقت الحالي في صنع السياسة الخارجية في دولة ديمقراطية؟ ينبغي أن يكونوا في المقام الأول ملتزمين بالسلم والأمن الدوليين؛ لأننا دون ذلك الالتزام قد نعجِّل بنهاية الحياة البشرية على هذا الكوكب. وينبغي أيضًا أن نتوقع منهم المناصرة الحقيقية للمصالح الدولية، بالإضافة إلى الالتزام بخدمة صالح البشرية، وليس مجرد مصلحة قومية أو مصلحة طائفية ضيقة. وينبغي أن يسعوا إلى الترويج للتسامح القائم على التعدد الديني والعرقي، ليس داخل دولنا الديمقراطية فحسب، وإنما على الصعيد العالمي أيضًا، من خلال السياسات المعنية بحقوق الإنسان والمساعدات الإنمائية المُقدَّمة إلى بلدان نصف الكرة الجنوبي.
ومن نافلة القول أنه ينبغي لهم أن يكونوا ملتزمين التزامًا تامًّا بدعم الحقوق والحريات الأساسية، المنصوص عليها في مواثيق؛ مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (١٩٤٨)، والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية (١٩٥٠).
وأخيرًا وليس آخرًا، ينبغي أن نتوقع من زعمائنا السياسيين الديمقراطيين أن يلتزموا بنشر مبادئ الحوكمة الديمقراطية وممارساتها، ومراعاة سيادة القانون، مع إدراك أن هذه مهمة صعبة حتمًا، ولا بد من متابعة تأديتها عبر القدوة والإقناع الهادئ لا فرضها بالقوة، وهذه هي الاستجابة الديمقراطية الليبرالية المُثلى للتحديات والمخاطر التي تواجه الدول الديمقراطية والدول غير الديمقراطية على حد السواء، في منظومة دولية باتت قادرة تمامًا الآن على تدمير ذاتها.