الفصل الثالث

موسى والخروج من مصر

قضى الإسرائيليون في مصر نحو أربعمائة سنة ذاقوا في خلالها حلاوة رغد العيش وصفائهِ، وتجرعوا مرارة الذل والاستعباد، فبعد أن قبلهم الفراعنة على الرحب والسعة وأقطعوهم الأراضي الخصبة لهم ولمواشيهم عادوا فانتقضوا عليهم واستبدوا بهم وأقرُّوا على قرضهم من مصر، فاتخذوا لذلك جميع الوسائل من مثل تشغيل الرجال بالأشغال الشاقة، وقتل الذكور من المولودين فيهم، ولا يعلم بالتأكيد أي الفراعنة بدأ بظلمهم والجور في معاملتهم، وإنما يظنُّ كثيرون من علماء الكتاب أنهُ آمس (أموسس) الأول، وهو أول ملوك السلالة الثامنة عشرة، وقال بعضهم: بل هو رعمسيس الثاني (الملك الثالث من الأسرة التاسعة عشرة)، وهو سيزوستريس اليوناني صاحب الغزوات المشهورة والمباني الفخيمة.

ولما شبَّ موسى ورأى ما يحيق ببني جنسهِ من الإرهاق والظلم وما يقاسونهُ من صنوف العذاب، ثارت في صدرهِ النخوة الجنسية وهاجتهُ العصبية إلى الانتصار لهم، فأخذ يطوف بينهم لعلهُ يرى بابًا للفرج، ورأى مرة أحد الوكلاء المصريين يضرب إسرائيليًّا ضربًا مبرحًا، فانتصر للإسرائيلي وقتل المصري، ولما شاع الأمر وخشي أن ينالهُ عقاب القاتل، فرَّ إلى أرض مديان، وهي في البرية واقعة عند خليج العقبة إلى طور سيناء، فتزوج فيها بابنة يثرون كاهن المكان، وأقام هناك أربعين سنة، وجاءَ في التوراة أن الله ظهر لهُ في طور سيناءَ وأمرهُ بالعودة إلى مصر لإنقاذ بني إسرائيل، وأظهر لهُ من العجائب ما أثبت بهِ قدرتهُ وأتى إليه بأخيه هارون، فعاد الاثنان إلى مصر وبذلا جهدهما في إقناع فرعون؛ كي يأذن للإسرائيليين في الخروج من بلاده إلى حيث يعبدون إلههم، فلم يذعن لمطالبهما، وأخيرًا أمرهما الله بأن يضربا مصر بالضربات العشر المشهورة، ففعلا حتى إذا ما عِيل صبر المصريين أذن فرعون للإسرائيليين في مغادرة بلادهِ، فخرجوا منها وفيهم ستمائة ألف مقاتل ما عدا النساء والأولاد، ولما انفصلوا عن المصريين ندم هؤلاء على ما فرط منهم، إذ تركوا عبيدهم يفلتون من أيديهم فتبعوهم حتى أدركوهم على شاطئ البحر الأحمر، فخاف الإسرائيليون من المصريين لقرب عهدهم بظلمهم واستبدادهم، فشق الله البحر الأحمر وعبروا فيهِ على اليابسة، ولما حاول المصريون اللحاق بهم عاد البحر، فاتصلت أمواجهُ وطمت عليهم فأغرقت جيشهم.١

ولم تنتهِ علاقات الإسرائيليين بالمصريين عند الخروج، فإنهُ بعد قيام الملكية فيهم عادت المواصلات بين الفريقين، فكان بعضها حبيًّا سلميًّا، وبعضها حربيًّا عدائيًّا، فمن ذلك أن سليمان بن داود تحالف مع ملك مصر واتخذ ابنتهُ زوجة لهُ، ومنها أن المصريين غزوا أرض كنعان فأخضعوها وقتلوا أحد ملوك الإسرائيليين ثم عادوا مرة أخرى فأعانوهم على رد هجمات البابليين، هذا فضلًا عن الروابط التجارية والصناعية التي كانت بين البلادين، كما ورد في أخبار ملوك بني إسرائيل، فقد كانوا يأتون بالخيل ونحوها من مصر، ويصنعون فيها المركبات، ثم إن مقام الإسرائيليين في مصر زمانًا طويلًا كالذي أشرنا إليهِ أثَّر في أخلاقهم وعاداتهم وأساليب معيشتهم، والظاهر أنهم تناولوا الشيءَ الكثير عن المصريين الذين كانوا في أوج مجدهم، ومنتهى عزهم وسؤددهم حتى كانوا أرقى الأمم المعروفة في ذلك العصر وأشهرها في العلوم والمعارف، وقد بدا شيءٌ من هذا التأثير في الإسرائيليين أيام كانوا في البرية والتيه، كما يرى من مراجعة أخبارهم المدونة في سفر الخروج من التوراة.

١  اختلف الكُتَّاب والمؤرخون وأهل الكتاب في تعيين فرعون الخروج هذا، فقال بعضهم: إنهُ ثوثمس الثاني، وقال غيرهم: بل هو منفثاح على أن الحقيقة لا تزال مجهولة؛ لأن آثار المصريين القدماء صامتة عن هذه الحادثة فلا ترى لها فيها خبرًا، وعليهِ فيصعب تعيين فرعون الخروج كما يصعب تعيين سميهِ الذي شرع يظلم الإسرائيليين، وقد وقع في جرائد مصر ومجلاتها منذ سنتين مناقشة في هذا الشأن بعد أن أُشيع أنهم اكتشفوا جثة فرعون الخروج أو «فرعون موسى»، كما دعوهُ فاستفتى بعضهم المقتطف، وإليك ما قالهُ في الجواب:

لا ندري كيف يبحث العلماءُ عن فرعون موسى بحثًا علميًّا، وهم لم يجدوا حتى الآن دليلًا واحدًا أثريًّا على أن بني إسرائيل كانوا ساكنين في مصر، وهذا لا ينفي رواية التوراة، ولكنهُ يمنع رجال العلم من البحث عن فروع قضية بحثًا علميًّا قبل إثبات القضية نفسها إثباتًا علميًّا، فعلم الآثار المصرية لم يثبت حتى الآن أن بني إسرائيل كانوا ساكنين في مصر في عهد منفتاح أو قبلهُ، فكيف يستطيع أن يبحث عن خروجهم من مصر في زمنهِ أو زمن غيره (انظر المقتطف مجلد ٢٥ صفحة ١٨٤).

وعندنا أن ما قالهُ المقتطف صحيح من وجهَيْهِ العلمي والأثري، وأنهُ يستحيل على أبناءِ الزمان الحاضر أن يختصوا أحد الفراعنة دون غيرهِ بما اتفق للإسرائيليين في أيامهِ من الظلم والاستبداد، أو الخروج من ربقة العبودية حتى يكون لهم في الآثار المصرية شاهد أو دليل يرجعون إليهِ، وقد يحدث أن يكتشف هذا الدليل، كما أنهُ يمكن أن يبقى مخفيًّا إلى الأبد على أنَّ ذلك لا ينفي صحة الخبر كما نصَّت عليهِ التوراة، وإنما يظل الخبر مفتقرًا إلى الشاهد الأثري حتى يصبح حقيقة علمية لا ريب فيها، وحتى يتعين الأفراد الذين كانت لهم اليد الطولى في تنسيق هذه الحوادث على النمط الذي نصت عليهِ التوراة، وإلا فإن الكتابيين على اختلاف فرقهم يؤمنون بحكاية التوراة وأعظم المؤرخين على اتخاذها دستورًا في حكاية تاريخ اليهود إلى أن يبدو ما ينقضها، وهذا ما نظنه مستحيلًا، نعم إن في بعض آثار المصريين القدماءِ ما يمكن تأويلهُ بحيث يجيءُ مطابقًا لرواية التوراة، وإن غابت فيهِ الأسماءُ أو اختلفت، فمن ذلك ما وجد منقورًا على أحد القبور:

قد جمعت حبوبًا، وأنا خليل إله الغلَّة، فكنت ساهرًا وقت الزرع، وعندما صار جوع مدة سنين عديدة قد فرقت الحبوب في المدينة في كل الجوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤