الفصل التاسع

تراجم مشاهير اليهود

اعلم أن المتقدمين من اليهود الذين لهم علاقة بالدين دُوِّن أشهر تاريخهم وتراجم حياتهم في التوراة، وهي كثيرة الشيوع يقرؤُها الجميع ويعرفون منها أخبار هؤلاءِ المشاهير؛ ولذلك نقتصر هنا على ذكر بعضهم تبيانًا لما حازوهُ من الشهرة العظيمة وما أتوهُ من الأعمال المعروفة، حتى إن المتأخرين على سعة اطلاعهم وغزير علمهم لا يزالون يترنمون بنظم أولئك الأفاضل وسمو أقوالهم ووافر حكمتهم.

(١) داود

وهو ثاني ملك لإسرائيل وأصغر بني يسي وُلد في بيت لحم يهوذا سنة ١٠٨٥ق.م، واضطجع داود مع آبائهِ ودُفن في مدينة داود، وكان الزمان الذي مَلك فيهِ داود على إسرائيل أربعين سنة، في حبرون مَلك سبع سنين وفي أورشليم ملك ثلاثًا وثلاثين سنة، وكان لا يزال يرعى غنم أبيهِ عندما أرسل الله صموئيل إلى بيت لحم في العيد السنوي؛ لكي يقيمهُ ملكًا على إسرائيل بدلًا من شاول الذي وقع عليهِ غضب الله، وكان في صغرهِ على جانب عظيم من الجمال والشجاعة والهمة عارفًا بالألحان والتواقيع الموسيقية، وكان قصير القامة أشقر الشعر متلألئَ العينين قوي البنية خفيف الحركة يسابق الإبل، وكانت ذراعاهُ القويتان تحني قوسًا من النحاس، وقد دخل بلاط شاول الملك؛ ليسكِّن اضطرابهُ ويريحهُ بضربهِ على قيثارهِ من السويداء التي كانت تستولي عليهِ فجعلهُ واحدًا من حاشيتهِ وحامل سلاحهِ، وطلب من يسي أن يسمح لهُ بالبقاءِ في البلاط الملكي.

وبعد ذلك بعدة سنين حارب داود جليات جبار الفلسطينيين وقتلهُ فحرَّك انتصارهُ حسد الملك فأخذ في تدبير الحيل لإهلاكهِ وحاول قتلهُ مرارًا، وقد أحبهُ يوناثان بن شاول وتعاهدا سوية على المحبة والإخاء إلى آخر حياتهما ورأتهُ ميكال أخت يوناثان فشغفت بهِ ومال قلبها إليهِ، وكان الملك قد وعدهُ بإعطائهِ ابنتهُ، غير أنهُ حنث بوعدهِ وأخذ يفكِّر جهارًا في قتلهِ والتخلص منهُ، فأوقعهُ في أعمالٍ خطرة منها أنهُ طلب منهُ مائة غلفة من الفلسطينيين مهرًا لابنتهِ ميكال فقتل داود منهم مائتين وصاهر الملك بعد ذلك.

ولما أخبرهُ صديقهُ يوناثان أن أباهُ عازمٌ على قتلهِ هرب إلى أراضي الفلسطينيين ومعهُ سيف جليات، ولكنهُ لم يأمن شرهم وخاف على نفسهِ منهم فادَّعى الجنون وعاش عيشة عاصٍ في أراضٍ وعرة المسالك قرب اليهودية لا يعرفها أحد وجمع هناك زمرةً من الأتباع الأشقياء الشاردين، وجعل والديهِ الشيخين تحت حماية ملك موآب لان يسي هو صغير راعوث الموآبية، وأحبط مساعي شاول في القبض عليهِ وسنحت لهُ الفرصة بأن يقتل شاول منتقمًا منهُ لنفسهِ، إلا أنهُ لم يشأ أن يضع يدهُ على مسيح الرب.

وقد رجع داود إلى فلسطين ومعهُ زمرة قوية من أتباعهِ وبقي هناك إلى أن قُتل شاول وابنهُ يوناثان في واقعة جلبوع، وذلك نحو سنة ١٠٥٥ق.م، فاعترفت بهِ حينئذٍ قبيلتهُ ملكًا عليها فجعل حبرون (أي: الخليل) موطنًا لهُ، وأسف داود على موت صديقهِ يوناثان وأظهر في مرثاتهِ عظم محبتهِ لهُ وتعلقهِ بهِ وما كان يظهرهُ يوناثان من صدق الولاءِ لهُ بإخبارهِ بعداوة شاول لهُ وسوءِ تصرفهِ معهُ.

أما أبنير قائد جيوش شاول فنادى باسم ابنهِ أيشبوشث خلفًا شرعيًّا على كرسي المملكة، غير أنهُ ما لبث أن مال إلى داود لما رأى من اتساع سلطانهِ وتزايد جندهِ وأعوانهِ، ثم قتل يوآب أبنير فأسف داود على قتل أبنير ورثاهُ أعظم رثاءٍ، كما هو مذكور في التوراة في سِفْر الملوك وقتل الشعب إيشبوشث الملك، وكان داود قد انتقل بأمرٍ إلهي إلى حبرون، حيث لاقاهُ رؤساءُ يهوذا ونادوا بهِ ملكًا على سبطهم، وبعد أن ملك سبع سنوات في حبرون اعترفت بهِ الأمة الإسرائيلية ملكًا عليها، وأخضع داود بقية الوثنيين ووسع نطاق مملكتهِ من الفرات إلى البحر المتوسط ومن دمشق إلى الخليج العربي، وأقام قوات عسكرية للمملكة، وبعد أن طرد اليبوسيين من صهيون جعلها قاعدة لملكهِ فوسعها وأقام فيها المباني الباذخة الفخيمة والحصون المنيعة، وأخذ يكمل العبادة العامة وأتى بتابوت الرب إلى أورشليم ونظم خدمة الكنائس المقدسة، وكان يحيط بهِ جمهورٌ من الأنبياءِ والمرسلين، وكان عازمًا على بناءِ هيكل بيت مقدس للرب، فنهاهُ ناثان النبي؛ لأنهُ كان قد سفك دماءً غزيرة في الحروب، وإنما وعدهُ بأن الولد الذي يولد لهُ هو يبنيهِ ووبخهُ على قتلهِ أُوريا الذي اتخذ زوجتهُ بتشبع حليلةً له وولد لهُ منها سليمان الحكيم، وكانت شيخوختهُ محفوفة بالمتاعب والشقاءِ، وحدثت قلاقل كثيرة في بيتهِ بسبب النساءِ وشهوات أولادهِ وأطماعهم.

وكان لداود ابنٌ اسمهُ أبشالوم فشق عصا الطاعة لوالدهِ وخرج عليهِ غير أن يوآب قائد الجيوش استظهر عليهِ وظفر بهِ فقتلهُ، فأسف داود لقتل ولدهِ ورثاهُ أرق رثاءٍ من عواطف أبوية وشفقة زائدة، وقام أدونيا ابنهُ الثاني بمؤامرة ضدهُ ففشل في مسعاهُ وأُعلن سليمان وارثًا للملك، ولم يمضِ حين بعد هذه الحوادث والاضطرابات حتى توفي داود شيخًا متقدمًا في السن بعد أن حكم على إسرائيل ما ينيف على ٣٣ سنة، وأسس لملوك العبرانيين دولةٌ ثابتة متينة الأركان، ووسع حدود مملكتهِ وتركها عند مماتهِ قويةً عظيمةً.

وقد كان داود شاعرًا مجيدًا ذا أفكارٍ سامية ومعانٍ جميلة، كتب مزامير كثيرة غاية في البلاغة، والمرثاة التي رثا بها شاول ويوناثان هي وحدها كافية للدلالة على أنهُ كان شاعرًا كبيرًا نشيطًا ذا قوة فكر يندر وجودها في غيرهِ، وفي شعرهِ ما يشفُّ عن سريرتهِ وأحوالهِ، ويوضح عن أعمالهِ وقد جمع في أخلاقهِ بين قساوة الرجل وحنو المرأة، فإن الرجل الذي قتل جليات الجبار وأصلى نار الحروب يرثي يوناثان بكلامٍ يرق لهُ الجماد شفقةً وحنوًّا، والذي أخطأ ببتشبع ولُعن من أعدائهِ يبكي خطاياهُ بخشوعٍ عظيم ويبارك لاعنيهِ والمتمردين عليهِ، وكفاهُ فضلًا سفر المزامير المملوء حكمة وعقلًا، وقد تركهُ للعالم للتعزية وللأفراح وللأحزان والمواسم والأعياد ينير العقول ويرشدها إلى طرق الصواب والهدى، وقد تفنن علماءُ النصرانية بترجمتهِ ونظمهِ واستعمالهِ في العبادة، وهذا مثال مما نُظم للكنائس البروتستانية.

المزمور الأول

١ طوبى لمن لم يتَّبعْ مشُورةَ الأشرارْ ولمْ يكن بواقفٍ في طُرْقِ ذي الأوزارْ
٢ ولا يكونُ مجلسُ الـهازي لهُ قرارْ لكن بناموسِ العلي يُسَرُّ باستمرارْ
٣ يلهجُ في ناموسهِ في الليل والنهارْ يكونُ مثلَ شجرٍ في جانب الأنهارْ
٤ وفي الأوان دائمًا قد ينتجُ الثمارْ أوراقهُ نضيرةٌ تدومُ في اخضرارْ
٥ وكلُّ ما يصنعهُ تراهُ في يسارْ ليس كذا الأشرارُ بل كالعصف في انتثارْ
٦ فليس في الدين تقومُ زمرُ الأشرارْ كلَّا ولا الخطاةُ في جماعةِ الأبرارْ
٧ فإنَّ ربي عالمٌ بطُرُقِ الأخيارْ أمَّا طريقُ فاعلي الـشرِّ فللبوارْ

(٢) سليمان

ويقال لهُ: سليمان الحكيم، وهو ابن داود النبي الذي مرَّ بنا اسمهُ وثاني ملوك بني إسرائيل، أُمهُ بتشبع أو بتشابع اقترن بها داود بعد أن قتل بعلها أوريا، وكانت ولادتهُ في أورشليم سنة ١٠٣٣ق.م، وملك أربعين سنة ١٠٢١ إلى ٩٨١ق.م، ويسمونهُ بالعبرانية شلومو ومعناها ذو سلام.

لما توفي أخوهُ أبشالوم انتخبهُ أبوهُ من بين إخوتهِ للجلوس على عرش المملكة وكان أصغرهم سنًّا، ثم تآمر بعضٌ من الإسرائيليين واتفقوا على أن يملكوا أخاهُ أدونيا مكانهُ، غير أنهُ تثبيتًا للأمر الإلهي أمر داود صادوق الكاهن أن ينزل سليمان إلى جيجون ويقلدهُ الصولجان وينادي بهِ ملكًا، ثم توفي الملك داود فجلس سليمان على كرسي المُلك، وكانت المملكة في أعلى ذُرى المجد والسؤْدد قد اتسعت مساحتها وانبسطت حواشيها، وتأيدت سطوتها وامتدت شوكتها من نهر الفرات إلى تخوم مصر ومن البحر المتوسط إلى خليج العقبة.

ولم تمضِ سنة على تَسَنُّمِهِ العرش حتى أصدر أمرًا بقتل أخيهِ أدونيا لذنبٍ اقترفهُ، وألحق بهِ يوآب رئيس جيشهِ الذي قتل أخاهُ أبشالوم، وقتل أيضًا شمعي الذي أهان أباهُ عند هربهِ أمام أبشالوم عملًا بوصية أبيهِ داود، فخلا لهُ بذلك الجو وخضع لهُ الشعب ودانت الحكام وتعزَّزت بهِ دعائم الملك وامتدت سطوتهُ وبعد صيتهُ واشتهر بحكمتهِ الباهرة ودرايتهِ وعدالة أحكامهِ، وواسع اطلاعهِ وعلمهِ، وانحاز إليهِ السواد الأعظم وأحبهُ شعبهُ لما رآهُ من شدة ميلهِ إليهِ وسعيهِ في المحافظة على حقوقهِ وزيادة رفاههِ، وزاد إيراد خزينتهِ واتسعت التجارة في أيامهِ اتساعًا لا مثيل لهُ في تاريخ بني إسرائيل، وصاهر فرعون ملك مصر وعقد معاهدة تجارية مع حيرام ملك صور، فكانت سببًا لزيادة المعاملات بين الدولتين اللتين اشتركتا في تجارتهما البحرية وتوثقت عرى المودة بينهما، وكان السلام والأمن سائدَيْن مدة حكمهِ، والمُلك سعيدًا عظيمًا.

وأتى سليمان أعمالًا جليلة دلَّت على توقد ذهنهِ وسامي حكمتهِ، واشتهر بلاطهُ بالغنى والأبهة، فصارت تتقرب الملوك منهُ وتحمل الهدايا النفيسة إليهِ خاطبةً صداقتهُ وودهُ، وأتتهُ ملكة سبأ في موكبٍ عظيم لتختبرهُ فرأت من دلائل ذكائهِ وحكمتهِ شيئًا كثيرًا حتى صغرت نفسها في عينيها، وعلمت أن ما سمعتهُ عنهُ لم يكن شيئًا مذكورًا في جانب علمهِ الزاخر، وأعطاهُ الله من الحكمة والغنى ما فاق بهِ سائر ملوك الأرض، وقد استخدم سليمان ما تركهُ لهُ أبوهُ من المال الكثير والجيش المنظم لنشر رايات السلام في أنحاءِ المملكة، وأفرغ جهد طاقتهِ في تحسين أحوالها وترويج مصالحها وتجاراتها، وكان ينفق الجزية التي تؤديها الأمم الخاضعة له في تشييد المباني العظيمة حاصرًا اهتمامهُ ببناءِ هيكل الرب الذي شادهُ في جبل أرنان في أورشليم، وهو أعظم هيكل في العالم اشتغل بهِ ما ينيف على مائة وخمسين ألف نحات ونقاش، فأتقنوا بناءَهُ وزخرفتهُ فجاءَ بناءً فخيمًا جامعًا لبهاءِ المنظر ومتانة البناءِ، والذي ساعدهُ على تشييدهِ هو حليفهُ حيرام ملك صور فإنهُ أرسل إليهِ عددًا كبيرًا من الرجال الماهرين في صناعة البناء والنقش، وأهدى إليهِ شيئًا كثيرًا من خشب أرز لبنان وسروهِ وصندلهِ، وباشر سليمان بناءَ الهيكل في السنة الرابعة لملكهِ وأتمهُ في السنة الحادية عشرة، ونقل إليهِ تابوت العهد، واحتفل بذلك احتفالًا عظيمًا دام عشرة أيام، أما رسم الهيكل وأثاثهُ ومحتوياتهُ فمدونٌ في سفر الملوك الأول، وهو شيءٌ كثير يضيق عن وصفهِ هذا الكتاب، فاقتصرنا بالإلماع إليهِ لضيق المقام.

ومن أعمال سليمان العظيمة المفيدة بناؤُهُ مدينة تدمر في العراءِ بين الشام والفرات تسهيلًا للمواصلات التجارية وتوسيعًا لنطاق التجارة، وعقد تجارة مع أوفير وهي فرضةٌ على خليج العقبة في الهند، وأرسل سفنهُ مع سفن ملك صور إلى ترشيش وغيرها من البلدان فربح بذلك شيئًا لا يُحصى من الذهب والحجارة الكريمة، وأتى بخيل كثيرة من مصر لفرسانهِ ومركباتهِ، وكان حرسهُ مؤلفًا من اثني عشر ألف فارس وعدد مركباتهِ الحربية ١٤٠٠.

وهنا تغيرت سيرة سليمان وانقلبت طباعهُ، فقد رأى ما وصل إليهِ من الجاه والسطوة والغنى، وما بلغته مملكتهُ من المنعة والمجد، فطغى وتجبر واتخذ في آخر أيام ملكهِ سبعمائة زوجة وثلاثمائة حظية من الأمم الأجنبية، مع كون التوراة حرمت على الملك تكثير النساء، فملكنَ قيادهُ وسلبنَ لبهُ وأغرينهُ على عبادة الأوثان وتقديم الذبائح للآلهة الكاذبة، وارتكب خطايا كثيرة جرَّت عليهِ وعلى بلادهِ قصاصًا شديدًا وبلاءً جسيمًا، وثقلت وطأة الضرائب على رعاياهُ، بعد أن كانوا في أمان ورغد عيش يُحسدون عليهما، وانقلبت حالتهم إلى الفقر والمذلة، وقد استغنم رزون بن رداع السوري فرصة هذا الانقلاب السريع، فاستولى على دمشق وأنشأ فيها مملكةً مستقلة، وضايق بها الإسرائيليين مضايقة شديدة، وغضب الله على سليمان فأسقطهُ من عالي مجدهِ وباسق فخرهِ إلى دركات الذل، وأنذرهُ أن مملكتهُ ستنقسم بعد مماته ولا تخضع لابنهِ إلَّا قبيلةٌ واحدة، وقد سمِّي جبل الزيتون جبل الهلاك لكثرة الخطايا المتعددة التي ارتكبها سليمان عليهِ، وتوفي سليمان سنة ٩٧٥ق.م، فانقسمت المملكة بعد وفاتهِ إلى مملكة يهوذا، وكانت مؤلفة من عشر قبائل، ومملكة إسرائيل وكانت مؤلفة من قبيلتين فقط.

ويظن أكثر المؤرخين والباحثين أن سليمان تاب بعد حماقتهِ وكفَّر عن ذنبهِ، واستغفر الله على ما ارتكبهُ من الخطايا، وأن سِفْر الجامعة دليلٌ كافٍ على توبتهِ وندمهِ، وهو سفرٌ جليلٌ يعلمنا بطل الأشياء الدنيوية ومخافة الله تعالى وحفظ وصاياهُ.

حكمة سليمان: يقال: إن الله وهب سليمان الحكمة والذكاء، بعد أن تراءَى لهُ في الحلم، وقال له: اسأل ماذا أُعطيك؟ قال: أعطِ عبدك قلبك فهيمًا، وقد كان سليمان ذا فطنةٍ وذكاءٍ وذاكرةٍ قوية قلَّما توجد في مخلوق، وأعظم دليلٍ على ذلك فتواهُ في قضية الأُمَّيْن اللتين تخاصمتا أمامهُ على الولد الحي والولد الميت، ولهُ دلائل كثيرة غير هذه يطول ذكرها، وقد تقدم سليمان في كثير من العلوم بعد أن درسها طويلًا وبرع في الطبيعيات وعلم الحيوانات والطيور والدبابات، وكتب في ذلك فصولًا طويلة، ونطق بثلاثة آلاف مثل وألف وخمسين نشيدًا، وكلها آياتٌ في الحكمة وكنزٌ لا يفنى لبني الإنسان، وكتب غير ذلك نشيد الأنشاد والجامعة.

وقد تفنن حضرة الأستاذ الفاضل والشاعر الشهير المعلم أسعد شدودي بنظم أمثال سليمان فاتت مثالًا بديعًا في متانة المبنى وجمال المعنى، ونحن ننقل منها هنا الإصحاح الثالث تفكهةً للقُرَّاءِ لما فيهِ من الفوائد الجزيلة والنصائح الثمينة؛ وذلك لتبيان شيءٍ من أمثال سليمان الحكمية وإقرارًا بفضل الناظم وبراعتهِ:

يا ولدي لا تنسينْ شريعتي
بل احفظنَّ في الحشى وصيتي
فإنَّ حفظها يطيلُ العمرَا
وليس هاويها يخافُ الضرَّا
إياك تركَ رحمةٍ وحقِّ
فالبسها قلادةً في العُنقِ
واكتبهما يا ابني على الجنانِ
ليرسخا تبغي رضا الرحمنِ
فنعمةً وفطنةً في ذا ترى
في عين مولاك وأعين الورى
ولذ بصخرة الدهور الصمدِ
لكن على فهمك لا تعتمدِ
في كل طرقك اعرف القديرَا
فهو الذي يقوم المسيرَا
لا تعتقد بكونك الحكيما
واخشَ القديرَ الخالقَ العظيما
واقصد لذلك اجتناب الإثمِ
فخشيةُ الباري انتعاش الجسمِ
وأكرمنَّ الرب من أموالكَ
وأعطهِ المبكارَ من أغلالكَ
فتمتلي من حنطةٍ خزينتُكْ
كذا تفيض عنبًا معصرتُكْ
تأديبَ رب الناس لا تحتقرَا
يا ابني ومن توْنيبهِ لا تضجرَا
لأنَّ من يحبهُ يؤَدبهْ
ربُّ الورى وكابنهِ يؤَنبهْ
طوبى لفائزٍ بنور الحكمةِ
فإنها للمرءِ خير قنيةِ
قيمتها أغلى من الجواهرِ
وهي تفوق كل شيءٍ فاخرِ
العمر في يمينها والسعدُ
وفي يسارها الغنى والمجدُ
لسالكٍ في طرقها اغتنامُ
وكل مسلكٍ لها سلامُ
شجرةُ الحياة في جنانها
طوبى لمن يعطو جنى أفنانها
قد أسس الأرض العلي بحكمتهْ
وأثبتَ الباري السما بقدرتهْ
بعلمهِ قد شقَّ لجَّ البحرِ
والسحبُ جادت بالندى والقطرِ
لا تنسينَّ يا ابنيَ التحذيرَا
ولاحظنَّ الرأيَ والتدبيرَا
هما حياة النفس بل سعادهْ
تزين عنقَ المرءِ كالقلادهْ
حينئذٍ تمشي بلا عثيرِ
بالأمن تخشى الله في المسيرِ
ترتعُ في بحبوحة السلامِ
وفي الدجى تلتذُّ بالمنامِ
لا ترْتعب من باغتٍ إذا بدا
ولا تخفْ من مفسدٍ إذا عدا
بل عذ بخلَّاق الورى من الأذى
فهو يصون الرجل من أن تُؤخذا
لا تمنع المعروفَ عن شخصٍ يرى
مستأهلًا إسعافهُ بين الورى
ما تستطيعُ العملَ الجميلَا
ولا تراعِ مانعًا مقولَا
ولا تقل لصاحبٍ يأتيكا
يطلب حقهُ غدًا أُعطيكا
ماذا ترى يفيدك الإمهالُ
في دفع حقٍّ ولديك المالُ
لا تخترع شرًّا على الصديقِ
والجار والقريب والرفيقِ
وارفق بهِ لكي يعيش ساكنا
أرغد عيشٍ مطمئنًّا آمنا
ولا تخاصم أحدًا لم يذنبِ
إليك لا تظلمهُ دون سببِ
لا تحسدنَّ ظالمًا قد نجحا
في طرقهِ وبات يخشى مرحا
لا تمش في سبيلهِ الذميمِ
فإنهُ رجسٌ لدى العليمِ
باري البرايا سرُّهُ يُعطيهِ
لمستقيم القلب من يرضيهِ
في منزل الشرير لعنةُ العلي
فلا ترى من بهجةٍ في المنزلِ
لكن يبارك القدير الباري
مشرفًا منازل الأبرارِ
يهزأُ بالمستهزئِ الشنيعِ
ويمنح النعمة للوديعِ
الحكما يلقون مجدًا زاهرَا
ويحملُ الحمقى هوانًا ظاهرَا

ونظم المرحوم رزق الله ابن نعمة الله حسون الحلبي سفر الجامعة وسفر نشيد الأنشاد وغيرها من أسفار التوراة باللغة العربية شعرًا، وطبعت في ديوان سُمِّي أشعر الشعر ننقل عنهُ الفصل الثاني عشر من الجامعة، وهو:

١ عليك في الشباب ذكر الخالقِ
قبل زمان الشر والبوايقِ
وحججٍ تقول فيها ما بقي سرورُ
٢ قبيل ما عين الضحى تُعوَّرْ
ويظلم النور النجوم والقمرْ
ويرجع السحابُ من بعد المطر يمورُ
٣ إذ زُعزعت حفظةُ المساكن
أن يتلوَّى الغلب الدهاقن
إذ نزرت وتبطل الطواحن تدورُ
يومئذٍ يغشى على الأحداقِ
تطل من نوافذٍ أو طاقِ
من دامسٍ مقتنمِ الأغساقِ ديجورُ
٤ إذ تغلقُ الأبواب في السوق دَعه
إذ ليسَ للإرحاءِ بعد الجعجعه
يقامُ للصوت إذا ما أسمعه عصفورُ
٥ تحت قينات الغنا الغوالي
أيضًا يخافون القدير العالي
وفي الطريق كثرة الأهوالِ نذيرُ
ويزهر اللوز بهِ لا يُحفلْ
والجندب يومئذٍ يستثقلْ
وشهوة الحيوان أيضًا تبطل تبورُ
لأنهُ يسري بكلِّ أحدِ
والمرءُ ذاهبٌ لبيتٍ أبدي
في السوق للنعاةِ وسط الجددِ تبورُ
٦ قبل انفصامِ سبب اللجينِ
أو سحقِ كوز الذهبِ الثمينِ
أو كان للجرَّةِ عند العينِ تكسيرُ
وقبلَ يوم إذ على البئر تقف
من لغب الأحشاءِ تبغي ترتشف
بكرة الرشاءِ تلوى تنقصف تغورُ
٧ فيرجعُ التراب للأرض كما
كان ورجعُ الروح لله سما
إلى الذي قد كان أعطى منعما تحورُ
٨ غر الأباطيل وساءَت خادعه
بئس الأماني للنفوس الطامعه
الكل في الدنيا يقول الجامعة غرورُ
٩ بقي أن الجامعة كان حكيمًا، وأيضًا علم الشعب علمًا عظيمًا، ووزن خبيرًا
١٠ وبحث تنقيرًا، وأتقن من الأمثال كثيرًا، الجامعة طلب أن يجد كلمات مسرة، مكتوبة بالاستقامة والمبرة، كلمات حق غرة
١١ كلام الحكماءِ كالمناسيس، وكأوتاد منغرزة التأسيس، أرباب الجماعات
١٢ قد أعطيت من راعٍ واحد رئيس، وبقي فمن هذا يا ابني الوقاية الوقاية لعمل كتب كثيرة لا نهاية
كثرةُ الدرس ضنًى تعبٌ للجسدِ
١٣ فلنسمع ختام الأمر كلهِ
اتَّقِ الله وصاياهُ احفظنْ
إنما الإنسان هذا كلهُ
١٤ يحضر الأعمال تخفى كلها
خيرها والشرَّ يومَ الدينِ هوْ

(٣) دانيال

هو دانيال النبي وأحد الأنبياء الأربعة العظام، قيل: إن معنى اسمهِ الله قاضٍ، أو قاضي الله، وهو من عائلة شريفة عريقة في الحسب والنسب، ويظنُّ أنهُ ولد في أورشليم حسب ما حققهُ المؤرخ الشهير يوسيفوس، وأنهُ هو الذي كتب سفر دانيال الذي أُخذ منهُ معظم تاريخهِ.

وقد مدح النبي حزقيال حكمتهُ السامية وتقواهُ.

وقد أُتي بدانيال سنة ٦٠٦ق.م إلى بابل مع ثلاثة شبان عبرانيين وهم: حنانيا وميشايل وعزاريه، وذلك بعدما تغلب نبوخذ نصَّر ملك بابل على يهوياقيم ملك يهوذا وسبأ سبطهُ، واختارهُ البابليون هو ورفقاؤُهُ ليتعلموا لغة الكلدانيين وعلومهم، وأدخلوهم في القصر الملكي وغيَّروا أسماءَهم، وسُمي دانيال بلطشاصر، وبعدما تعلَّم ثلاث سنوات أعطاهُ الله فرصةً لإظهار علمهِ وحكمتهِ، وما خصَّ بهِ من الفكر الثاقب والمواهب السامية، ففسر حلمًا للملك نبوخذ نصر كان قد أزعجهُ وأقلق بالهُ فكافأهُ على ذلك بجعلهِ رئيس الشحن على حكماءِ بابل، ثم فسر حلمًا آخر للملك وهو أن الله سيقاصصهُ على عنفوانهِ وكبريائهِ.

ولم يُذكر دانيال بعد ذلك في أيام خلف نبوخذ نصَّر، ولا في أيام خلف خلفهِ القصيرة، ولكن تردد ذكرهُ في أيام بيلشاصر آخر ملوك بابل الكلدان الذي رأى وهو في وليمة أصابع إنسان تكتب على حائط القصر، ولم يستطع حكماءُ المملكة على قراءَة هذه الكتابة أو تفسيرها، ولما دُعي دانيال لينظر فيها فسرها بسقوط مملكة بابل وتسلط الماديين والفرس عليها، وذلك لسبب استخدامهِ في الوليمة إناء الذهب المأخوذ من بيت الرب، وفي مدة ملك بيلشاصر حلم دانيال حلمَيْن مذكورين في الإصحاح السابع والثامن من سفرهِ.

ولما تغلب الماديون والفرس المتحدون على بابل وملكوها، وجلس داريوس على كرسي المملكة وجه دانيال عنايتهُ إلى تدبير أمور شعبهِ الإسرائيلي وإرجاعهِ إلى وطنهِ، وكان قد قرب الزمان الذي ينتهي فيهِ سبي الإسرائيليين حسب نبوءة أرميا، ففي ذلك الحين عظم شأنهُ وعلت منزلتهُ عند داريوس لما رأى من همتهِ وثباتهِ وحصافة عقلهِ فقرَّبهُ إليهِ وجعلهُ أول وزرائهِ الثلاثة، فحسدهُ كثيرون على منزلتهِ وقام لهُ أعداءٌ أقوياءُ، فكادوا لهُ المكايد لإسقاطهِ وإهلاكهِ، ومما أتوهُ أنهم سعوا عند الملك فاستصدروا أمرًا ملكيًّا ينهى الجميع عن تقديم صلاة إلَّا للملك واعتبارهُ إله مدة ثلاثين يومًا، ومن خالف هذا الأمر يطرح في جُبِّ الأسود، وقد حدث ما كانوا ينتظرون، فإن دانيال لم ينقطع عن إقامة الصلاة حسب عادتهِ ثلاث مرات في اليوم تاركًا كوى بيتهِ مفتوحة فوشوا بهِ إلى الملك فأمر بطرحهِ في جُبِّ الأسود، ولكنَّ الله خلصهُ من أفواهها بأعجوبةٍ عظيمةٍ، وبعد ذلك أعادهُ الملك إلى منصبهِ معززًا مكرمًا كما كان من قبل وزاد نفوذهُ وعلت مكانتهُ وأعاد الإسرائيليين إلى أوطانهم.

وقد نجح دانيال أيضًا في ملك كورش الفارسي، ويظهر أنهُ فارق بابل بعد قليل؛ لأن رؤياهُ الأخيرة كانت إلى جانب دجلة وبابل على الفرات، وكانت تلك الرؤيا في السنة الثالثة من ملك كورش، وذلك سنة ٤٣٥ق.م.

هذا وسيرة دانيال وسلوكهُ في بلاط بابل تشبه سيرة يوسف في بلاط فرعون؛ لأنهما كليهما كانا عاقلين حكيمين متضلعين في العلوم وأمور تدبير المملكة حسني السيرة والسريرة، وقد حافظا كلاهما على ديانتهما وتمسكا بها تمسكًا شديدًا، مع أنهما كانا محاطين بعبادة الأوثان وأصناف العوائد الفاسدة، وقد ارتقى كلٌّ منهما بحكمتهِ واستقامتهِ من العبودية إلى أعظم منصب في مملكةٍ وثنية، وكانا مثالًا عظيمًا في مخافة الله والأمانة والفضيلة الشخصية.

(٤) إستير

من لم يسمع باسم هذه المرأة الشهيرة التي خلصت شعبها من الهلاك ودافعت عنهُ مدافعة الأبطال، وأعلتهُ إلى ذُرى المجد ورفعة الشأن وأتت أعمالًا خطيرة دُوِّنت في صحف التاريخ، ولا يزال صداها يردد على توالي الأيام، اسمها الأصلي بالعبرانية «هَدَسَّه»، وهي لفظة تفيدُ معنى الآس، أما اسمها الفارسي فإستير، ومعناهُ الكوكب أو السيار المسمى بالزهرة، وهي معروفة بالاسم الأخير الذي لقِّبت بهِ عندما أحبها الملك وعظمت في عينيهِ، وقد اعتاد ملوك الشرق في قديم الزمان أن يغيروا اسم كل من كان محبوبًا منهم مشمولًا بعواطفهم وأنظارهم دلالة على علو مكانتهِ، وعليهِ لقِّبت إستير بهذا الاسم عندما دخلت القصر، أو عندما وُضع التاج على رأسها.

وُلدت إستير منفيةً في بلاد فارس واسم أبيها إبيحايل توفي وتركها صغيرة السن فتبنَّاها عمها مردخاي، واعتنى بتربيتها وتثقيف عقلها، وكان لها أبًا ووصيًّا.

وبعد أن عزل أحشيورش ملك الفرس الملكة وشتي لمخالفتها أوامرهُ، وعدم انقيادها إلى إرادتهِ أرسل رجالًا من قبلهِ يطوفون أنحاءَ المملكة وينتقون الفتيات العذارى الجميلات، ويبعثون بهنَّ إلى القصر ليختار الملك واحدةً منهنَّ ويجعلها ملكةً مكان وشتي، فجيءَ بكثيرات، وكانت إستير منهنَّ فأُدخلت على الملك فنالت حظوةً في عينيهِ أكثر من سائر العذارى وأحبها حبًّا شديدًا لما كانت عليهِ من الجمال الباهر والأدب الكامل، ووضع التاج على رأسها في الحال، وذلك في السنة السابعة من ملكهِ وأولم يوم تمليكها الولائم وفرَّق العطايا وعفا عن المجرمين وخفَّف الضرائب عن رعاياهُ، ويظهر من الحوادث التي جرت بعد ذلك أن ما وصلت إليهِ إستير من علو المكان كان بإرادة إلهية لتخليص الشعب الإسرائيلي من أعظم الويلات وإعلاءِ شأنهِ ومنزلتهِ.

وبعد مضي زمن قليل على تمليكها أعلمها عمها أن بعضًا من حُرَّاس القصر يتآمرون على قتل الملك ويدبرون الحيل لإهلاكهِ، فأبلغت الملك ذلك ففحص عنهُ، وبعد أن تأكد صحتهُ أمر بصلب المتآمرين، وكانت في كل أعمالها ملتزمة الحياد لا تظهر ميلًا إلى شعبها، مع أنها كانت تحبهُ حبًّا عظيمًا، فتبعت في ذلك نصائح عمها مخافة أن تثير البغضاءَ والحسد في قلوب أشراف الفرس، فيسعون في إسقاطها وتنقلب النعمة نقمة عليها ووبالًا على أُمتها، ومع ما اتخذتهُ من التدابير لإخفاء هذا الميل العظيم ظهر أخيرًا، وظهرت معهُ عناية الله ببني إسرائيل في إقامة إستير ملكةً على الفرس.

في ذاك الوقت كان الوزير الأول في المملكة رجل يسمَّى هامان الأجاجي، هذا كان محترمًا عند الشعب، وكان الملك يعزُّهُ ويظهر من إكرامهِ والاحتفاءِ بهِ الشيءَ الكثير، حتى إنهُ أمر أن يسجد لهُ خدام القصر، فكانوا يسجدون للأذقان ما عدا مردخاي عم إستير، فإنهُ لم يسجد لهُ ترفعًا من جثوهِ أمام رجلٍ عماليقي يقل عنهُ معرفةً وإدراكًا، فاحتدم هامان غيظًا وحنقًا على مردخاي، ولا سيما بعد أن علم أنهُ يهودي وأضمر لهُ ولشعبهِ الشرَّ، وجعل يسعى في تدبير المكايد لإبادة يهود المملكة عن بكرة أبيهم، فأغرى الملك بذلك فوافقهُ على مشروعهِ وأصدر منشورًا عموميًّا للحكام والولاة بقتل اليهود في اليوم الثالث عشر من الشهر من الصبي الصغير إلى الشيخ الكبير، وبلغ الخبر مدينة شوشن فخافوا خوفًا عظيمًا ومزَّق مردخاي ثيابهُ حزنًا، وكاد ينفطر غيظًا من هامان كل ذلك جرى ولم يبلغ مسامع إستير شيءٌ؛ لأنها كانت مع بقية نساءِ القصر في غرف متطرفة تُحرَس ليلًا ونهارًا، فلا يسمح لهنَّ بالمداخلة في الشئون السياسية ولا لأحدٍ بمقابلتهنَّ، غير أنها علمت أن عمها منحرف الصحة متكدر حزين، فأرسلت تستعلم عنهُ فأخبرها بكل ما حدث وطلب منها أن تجتهد في مقابلة الملك، وتتضرَّع إليهِ أن يعفو عن شعبها وتبذل جهدها في إنقاذهِ.

ومن عادات ملوك الفرس المحفوظة أنهم كانوا يحكمون بالموت على أي شخص دخل عليهم دون استئذان ما لم يمدوا إليهِ قضيب الذهب علامة العفو والمغفرة، وقد ذكر المؤرخون أن السيَّاف كان يبطش بمن يدخل بغير أن ينتظر أمر الملك، وكانت إستير تعرف جيدًا مآل هذه الشريعة، غير أن حبها الشديد لعمها وتعلقها القوي بأمتها ودينها حملاها على مقابلة الملك والمخاطرة بحياتها لخلاص شعبها، وأكبر دليل على تقواها واتكالها على الله في جميع أعمالها أنها صامت هي وجواريها ثلاثة أيام، وطلبت من يهود المدينة أيضًا أن يصوموا معها، وفي اليوم الثالث لبست ثيابًا بديعة مطرزة من القصب ودخلت على الملك.

وكان يصحب إستير خادمتان، فكانت متكئة على إحداهما، أما الأخرى فكانت ترفع أذيال ثوبها، وهكذا حضرت أمام الملك واحمرار الخجل يعلو محياها والسرور والبهاءُ يكللان طلعتها الجميلة الزاهرة، إنما سمات الخوف أبت إلا أن تظهر عليها، وكان الملك جالسًا في الدار الداخلية حيث مسكنهُ الخصوصي، ولا يقدر أحدٌ على المكوث فيها إلا خصيانهُ، ومن كان عزيزًا عندهُ، ولما وقع نظرها عليهِ ورأتهُ جالسًا على العرش تعلوهُ سماتُ الهيبة والوقار، وقد تقطَّب وجههُ غيظًا، لمَّا دنت منهُ ارتمت بين ذراعي واحدة من وصيفاتها وقد أُغمي عليها، فتأثر الملك من هذا المنظر ودبَّت فيهِ عواطف الحب والحنو، فوثب عن كرسيهِ وأخذها بين ذراعيهِ واضعًا قضيب الذهب في يديها؛ ليؤكد لها أنهُ لا ينالها شر ولو كانت غير مراعية حرمة القانون.

وقد سلكت إستير في جميع أعمالها بذكاءٍ غريب ونباهة قوية أُوتيت بهما من العلاءِ، فإنها لما رجعت إلى نفسها من الإغماءِ لم تفاتح الملك بما كان يخالج فؤادها ولم تخبرهُ بسبب مجيئها إليهِ؛ لأنها لو فعلت ذلك للحقها الفشل والخذل، ولكنها طلبت إليهِ أن يأتي هو وهامان إلى وليمة تُعدها لهما، فرضي بذلك وأمر هامان أن يصحبهُ فسرَّ هامان وعدَّ دعوة إستير الملكة شرفًا لهُ ورفعة لمقامهِ، ولم تذكر إستير شيئًا للملك في الوليمة الأولى، بل دعتهُ إلى وليمة ثانية وفي أثنائها قصَّت عليهِ ما تعرفهُ عن هامان، وأخبرتهُ بحقيقة الأمر وما أضمرهُ من الشر لليهود، وأظهرت لهُ بأجلى بيان رداءَة وزيرهِ وخبث طويتهِ ونيَّاتهِ وفظاعة العمل الذي شرع في ارتكابهِ، فنجحت مساعيها وأثَّرت كلماتها في الملك تأثيرًا شديدًا، فانقلب على وزيرهِ هامان، فأمر بصلب هذا الظالم الغشوم على ذات الخشبة التي كان أعدَّها لمردخاي ووهب جميع ما يملكهُ من مالٍ وعقار إلى الملكة إستير، وقد رأى الملك مهارة مردخاي وجدارتهُ وما طُبع عليهِ من الصفات الحسنة، وتذكر خدماتهِ السابقة ومن جملتها كشف الستار عن الدسيسة التي دبَّرها رجال القصر لاغتيالهِ، فأعطاهُ وظيفة هامان بكل حقوقها وامتيازاتها.

ولما كان الأمر الذي أصدرهُ الملك بقتل جميع اليهود لا يمكن إبطالهُ؛ لأن ذلك مغايرٌ لسنَّة من سنن مادي وفارس، وهي أن أمر الملك لا يُرَد في أي حال من الأحوال، فكر أحشويروش في طريقة لتلافي هذا الخطب، وكانت إستير تلاحقهُ دائمًا وتريهِ فظاعة هذا العمل وما سيجلبهُ من العار والهوان على المملكة، وبعد التفكُّر طويلًا أمر الملك فأُرسلت كتابات لجميع يهود المملكة تؤْذن لهم من قبلهِ أن يجتمعوا في اليوم الثالث عشر من شهر آذار (وهو اليوم الذي عينهُ هامان لإيقاع الأذى بهم)، ويدافعوا عن أنفسهم ويقتلوا كل من يتعدَّى عليهم ويبادئهم بالعدوان، فعمل اليهود حسب إشارة الملك وقتلوا من أعدائهم في شوشن القصر وحدها ما ينيف عن خمسمائة رجل، ومن جملتهم أولاد هامان العشرة الذين صُلبوا إرهابًا للبقية، أما اليهود المتفرقون في المملكة فقد قتلوا في اليوم ذاتهِ ٧٥٠٠٠ نفس مدافعة عن أنفسهم، غير أنهم لم يمدوا أيديهم إلى النهب والسلب، وقد وقع هذا الحادث العجيب العظيم في اليوم الثالث عشر من شهر آذار، فأنشأ مردخاي وإستير عيدًا تذكارًا لهذا الخلاص وعيدًا أيضًا اسمه عيد البوريم والاقتراع، ولا يزال اليهود إلى الآن يحتفلون بالعيد المذكور في ١٤ و١٥ آذار.

هذا بعضٌ من سيرة إستير الشهيرة التي تُكتب وإلى جانبها أسماءُ الذكاءِ والشجاعة وعلو الهمم وحب الأمة والوطن، وهي تعلمنا كيف يجب على الإنسان أن يحب شعبهُ ودينهُ، ويخاطر بحياتهِ في المدافعة عنهما والذود عن حقوقهما المقدسة.

أما سِفْر إستير فهو من أصغر الأسفار التاريخية المذكورة في التوراة العبرانية وأحد الكتب المسماة «المجلة»، وتمتاز لغتهُ العبرانية عن غيرها بما فيها من الكلام المحدث وعدم ذكر الله البتة، وهذا مما يدل على أن هذا السفر تُرجم من تاريخ فارسي، وقد نُسب تأليفهُ إلى عزرا ومردخاي وغيرهما من مشاهير اليهود، وكتب العلماءُ المعاصرون عدة مؤلفات في سيرة إستير منها كتاب بومفرتن بالألمانية، وكتاب رائدسون بالإنكليزية، وكتاب أوبرت بالفرنسوية، وقد نظم راسين الشاعر الفرنسوي الطائر الصيت سيرة إستير وجعلها رواية تمثيلية وحيدة في بابها، وكتب مثل ذلك بعض النبهاء في مصر وسورية بالعربية.

(٥) يوسيفوس

figure
يوسيفوس المؤرخ الشهير.

إذا عُدَّت رجال اليهود الذين نبغوا في العلوم والمعارف واشتهروا بعلو الهمم وسامي المدارك، فكانوا مثالًا حميدًا في حب الوطن والمدافعة عنهُ وتضحية حياتهم إعلاءً لشأن أمتهم ورفع منارها عُدَّ يوسيفوس في طليعتهم جهادًا، وكان من أشهرهم بلا منازعة، فمن لا يعرف هذا الاسم الشهير، وقد ملأ ذكرهُ صفحات التاريخ، ومن لم يقرأ شيئًا من كتاباتهِ ومباحثهِ التاريخية المفيدة، ولا يخلو تاريخ مدقق منها، فيوسيفوس هو المؤرخ الذائع الصيت الذي قضى حياتهُ باحثًا ومنقبًا، فاكتشف كثيرًا من أسرار التاريخ الغامضة التي كان يعزُّ الوقوف على مبادئها ونتائجها، وهو الذي أتى أعمالًا مجيدة قرنت اسمهُ بالمجد وأذاعت في العالمين شهرتهُ، فكم مرةً خاطر بحياتهِ ذائدًا عن حقوق أمتهِ ووطنهِ، ولا بدَّ من إعلان ذلك تدوينًا لذكرهِ، بحيث يرى من ترجمتهِ أنهُ كان جامعًا بين بلاغة المؤرخ وتضلعهِ والحاكم العادل والقائد الخبير المُحنك والقاضي المتشرع إلى غير ذلك من الخلال العزيزة المنال.

كتب يوسيفوس ترجمة حياتهِ بنفسهِ ودوَّن في كتابهِ حرب اليهود أخبارهُ وأعمالهُ مسهبًا فيها، فلم يُبقِ لأحدٍ مجالًا إلى البحث للوقوف على ما لهُ علاقة بسيرتهِ.

وُلد هذا الرجل العظيم في السنة الأُولى من ملك كاموس قيصر «كاليفولا»، أي: سنة ٣٧ أو ٣٨ للميلاد، ويؤخذ من كتابهِ أنهُ عريق في الحسب والنسب يمتدُّ تاريخ عائلتهِ إلى زمنٍ بعيد، واسم أبيهِ متياس، وقد كان في أعلى درجات الكهنوت وأُمهُ من آل حشمناي الذين تولوا الملك ورئاسة الكهنوت معًا، فهو إذن يوسف بن متياس، وليس ابن كوريون كما قال ابن خلدون، فأضلَّ كثيرين من الباحثين، ولم يُذكر في كتب التاريخ إلا باسم يوسيفوس وعُرف بهذا الاسم أيضًا، ويقال: إنهُ كان في أيام يوسيفوس رجل آخر بهذا الاسم، وكان شاغلًا مركزًا مهمًّا في الحكومة.

وكان في صغرهِ قويَّ الذاكرة متوقد الذهن تلوح عليهِ مخايل النجابة والذكاء، ولم يبلغ الرابعة عشرة من عمرهِ حتى برع في كثيرٍ من العلوم التي كانت معروفة في عصرهِ، واشتهر بين قومهِ بالهمة وأصالة الفكر فصار الكهنة ووجوه أورشليم يستشيرونهُ في جلائل الأمور، ويرجعون إليهِ في تفسير المسائل الشرعية العويصة، ولا يخلو هذا القول من الإغراق والمبالغة، ولكن يوسيفوس يبالغُ في الكلام عن نفسهِ مبالغة تثبت ما قيل عنهُ، ولما بلغ السادسة عشرة جعل يدرس مذاهب اليهود الشائعة في ذاك الأوان، واختار منها مذهب الفريسيين وتمذهب بهِ.

وذاع بين قومهِ أنهُ مخلص لوطنهِ يريد الخير لبني جنسهِ، ولنا على ذلك أدلة ساطعة وشواهد قاطعة لا تفنَّد ولا تُنقض، فمن ذلك أنهُ قصد رومية متحملًا مشاق السفر وغير مبالٍ بأخطار الطريق سعيًا في تخليص الكهنة الذين قبض عليهم والي اليهودية وكبَّلهم بالقيود، وقد غرقت السفينة بهِ ونجا مع بعض الركاب فركب سفينةً أُخرى وبلغ رومية، وما زال يسعى ويجدُّ حتى توصَّل إلى مقابلة بوبيا زوجة نيرون القيصر، فتوسطت لهُ في إطلاق سراح الكهنة وأعطتهُ هدايا وتحفًا نفيسة.

ولما رجع إلى وطنهِ ورأى اليهود مستظهرين على الرومانيين يتشاورون في نبذ سلطتهم لما أنزلوهُ بهم من الظلم والجور نهاهم عن فعلهم، وأنذرهم بوبيل العقبى إذا ثابروا على خطتهم؛ لأن الرومانيين كانوا أُناسًا أقوياءَ متدربين على الفنون الحربية، وأجزل من اليهود عددًا وعُددًا فلم يصغوا إلى كلامهِ والاهتداءِ بنصحهِ وإرشادهِ، وخشي أنهم يحسبونهُ للأعداءِ أو مشاركًا إذا زاد في تحذيرهم، فهرب إلى دار الهيكل الداخلية، ثم استظهر العصاة على قائد الرومانيين وهزموهُ شرَّ هزيمة فشقَّت البلاد كلها عصا الطاعة وأقام الشعب يوسيفوس واليًا على الجليل، فكان أول ما فكر فيهِ جمع كلمة قومهِ؛ ليكونوا يدًا واحدة في اتحادهم، وسعى جهدهُ في توثيق عرى التوادِّ والإخاءِ ليعود إلى البلاد استقلالها وتتحسن أحوالها، ورأى ورأيهُ الموفق إلى الصواب والخير أن البلاد لا تتقدم إلا برفع منار العدل ومعاملة أهلها بالسواءِ، فاختار سبعين رجلًا من الوجهاءِ النافذي الكلمة الحسني السيرة، فأشركهم معهُ في السلطة وأقامهم حكامًا على الجليل، وعيَّن سبعة قضاة في كل مدينة للفصل في المشكلات، وأمر أن تُرفع إليهِ الدعاوى الكبيرة لينظر فيها هو والسبعون شيخًا.

ولما استوثق لهُ الأمر وعيَّن الحكام وسنَّ القوانين أعمل فكرهُ في صيانة البلاد وصد هجمات الأعداء عنها، ودفع تيار طمعهم فيها؛ لأنهُ كان معتقدًا أن الرومانيين يتأهبون سرًّا لاسترجاعها على حين غرَّة، وكانت باكورة أعمالهِ بناءَهُ أسوارًا عظيمة حول المدن الكبيرة وإنشاء الحصون والمعاقل المنيعة، وانتقى من أشداءِ الرجال مائة ألف ونظمهم جيشًا وسلحهم ودرَّبهم على الفنون الحربية، وعلَّمهم كيف يستعملون البوق ويزحفون ويهجمون ويتقهقرون، وأقام عليهم رؤساء وقوَّادًا إلى غير ذلك من الفنون الحربية، وكان يشجعهم ويشدد عزائمهم، ويقول لهم: إن الرومانيين من أشد الناس بأسًا وأصعبهم مراسًا، وأنهم لا يصدون هجماتهم عن البلاد، ويأمنون عن العباد إلا إذا مهروا في فنون الحرب، وفرقهم بعد ذلك فرقًا على المدن للدفاع عنها إذا استوجبت الحال، ومن كلامهِ المأثور أن الجندي لا يتغلَّب على غيرهِ إلا إذا كان شجاعًا باسلًا كبير النفس، حسن الأخلاق، وأنهُ لا يُرجى تقدُّم ولا فلاح لمن كان فاسد السيرة والسريرة؛ لأنه يفقد الشجاعة الأدبية، ومن كان جبانًا في نفسهِ فلا تنفعهُ قوة بدنهِ وعضلاتهِ؛ لأنهُ يحجم عن القتال مثل أضعف الناس.

وقام لهُ أعداءٌ أقوياءُ دبَّروا الحيل ودسوا الدسائس للتمثيل بهِ، مدفوعين إلى ذلك بما طُبعوا عليهِ من الحسد والخساسة، وقد كادوا لهُ المكايد الكثيرة، ولكنهُ نجا منها بحزمهِ وثباتهِ، ومن هؤلاء الأعداءِ يوحنا بن لاوي ويشوع بن صفياس حاكم طبرية، قال يوسيفوس: «وكان يشوع بن صفياس رجلًا شريرًا مفسدًا، فأخذ شريعة موسى بيده، ونادى أهل طريخية قائلًا: إن لم تكرهوا يوسيفوس من قِبَل أنفسكم فاكرهوهُ لأنهُ أساءَ إلى شريعتكم، وأوقعوا بهِ العقاب الذي يستحقهُ. ثم أخذ بعض الرجال المسلحين وأسرع إلى البيت الذي كنت فيهِ ليقتلني وكنت مستغرقًا في النوم من شدة التعب، لا أعي على شيءٍ، ولكن سمعان الذي كان قائمًا على حراستي رآهم آتين فأيقظني وأخبرني بالخطر المحدق بي، وطلب مني أن أسمح لهُ ليقتلني فأموت موت الأبطال قبل أن يقبض عليَّ أعدائي ويقتلوني بأيديهم، أو يضطروني أن أقتل نفسي بيدي، أما أنا فسلمت أمري لله ولبست جبةً سوداءَ، وخرجت في طريقٍ آخر وأتيت ساحة المدينة، حيث كان الشعب مجتمعًا وطرحت نفسي على الأرض وبللتُ التراب بدموعي، حتى إذا رأيت أمارات الشفقة والحنو على وجوههم عزمت أن أُوقع فيهم الشقاق قبلما يرجع الرجال المسلحون الذين مضوا إلى بيتي ليوقعوا بي، فقلت لهم: هبوا أني مذنب كما تقولون، ولكن اسمعوا حتى أخبركم لماذا حفظت المال المنهوب، ثم اقتلوني إن أردتم (وكان بعض من اليهود قد هجموا على امرأة بطليموس وعلى اليهودية، وسلبوا ما كان معها من الجواهر والنقود وأتوا بها إلى يوسيفوس، فلم يسمح لهم بأخذها وحفظها عندهُ لردها لأصحابها قائلًا: إن الشريعة لا تُجيزُ لنا سلب الأعداء، وكانت غايتهُ أن يصطلح مع الرومانيين إذا وجد سبيلًا إلى ذلك، فأخذها يشوع خصمهُ حجةً عليهِ)، ولم أُتِمَّ كلامي حتى عاد الرجال الذين ذهبوا إلى بيتي، فهجموا عليَّ يريدون قتلي إلا أن الشعب منعهم من ذلك، فامتنعوا حاسبين أنني إذا أخبرتهم بحفظي المال المنهوب لأردَّهُ إلى الوالي ثبتت لهم خيانتي فيسمحون بقتلي، فلما سكتوا كلهم وقفت وقلت: يا أبناءَ وطني لست ممن يكره الموت إذا أستحقهُ عدلًا، ولكنني أريد أن أخبركم بحقيقة هذا الأمر قبل أن أموت، فإني أعلم أنكم ترحبون بالغرباء؛ ولذلك كثر النزلاءُ في مدينتكم وجاءُوكم ليشاركوكم في السراءِ والضراء، فعزمت أن أبني بهذا المال سورًا حول مدينتكم؛ ولذلك أراكم غضابًا عليَّ. ولما قلت ذلك جعلوا يشكرونني ويشجعونني إلا أن أولئك اللصوص الذين قصدوا الإيقاع بي خافوا أن أعود فأنتقم منهم، فاختاروا ستمائة رجل مدجج بالسلاح وتبعوني إلى بيتي عازمين أن يحرقوهُ بي، وبلغني ذلك فرأيت أنهُ لا يليق أن أهرب من وجههم، وقلت: إن الحزم أولى في هذه الحال، فأمرت أن تقفل أبواب البيت وصعدت إلى غرفة عالية، وخاطبت الجمع منها قائلًا: أرسلوا إليَّ واحدًا منكم لأدفع إليهِ المال الذي تطلبونهُ فلا يبقى داعٍ لهذا السخط، فأرسلوا رجلًا من أشدهم بأسًا، فلما مثل بين يديَّ أمرت بهِ أن يجلد ثم قطعت يدهُ وعلقتها في عنقهِ وأرجعتهُ إليهم على هذه الصورة، فلما رأوهُ خافوا وحسبوا أني لم أفعل ذلك إلا وعندي جيش أقوى منهم، وأني أُعاقبهم مثلهُ إذا قبضت عليهم، فأركنوا إلى الفرار.»

ولم يكتفِ خصومهُ بما فعلوا، بل أعادوا الكرة عليهِ وأخذوا يغرون اليهود للانتقام منهُ، وادَّعوا أنهُ رجلٌ ساحرٌ استخدمهُ الرومانيون لقضاءِ مآربهم وتنفيذ غايتهم، فنصح لهم وأقنعهم بالبراهين القوية أنهم مغرورون، فالواجب أن لا يصغوا إلى كلام المفسدين، ولكن أعداءَهُ لم ينفكوا عن إيغار الصدور وتلفيق الدسائس والوشايات ضدهُ، وما زالوا يسعون ويهيجون حتى قام أهل طبرية عليهِ وكادوا يقتلونهُ لو لم ينجُ من بين أيديهم بحيلة عجيبة، وأخذ يبحث بعد ذلك عن مثير هذه الفتنة حتى عثر عليهِ وأمرهُ بقطع يدهِ فقطعها.

ولما بلغ القيصر نيرون أن اليهود هزموا عسكرهُ، وألقوا بهم الويل والنكال وقتلوا منهم عددًا كبيرًا أرغى وأزبد، ولكنهُ أخفى غيظهُ وغضبهُ وأظهر الصبر والجلد، ونسب ما لحق بجيوشهِ من الفشل إلى إهمال القواد وعدم تبصُّرهم، وجعل يفكر في أخذ ثأرهِ وكَبْحِ جِماحهم وإخضاعهم لسلطتهِ، ويسعى في تعبية الجيوش وإعداد المعدات اللازمة، وانتخب لذلك أشهر قواد عصرهِ المدعو أسبسيانوس (أوفسبسيان)، وهو رجلٌ قضى عمرهُ في الحروب والغزوات حنكتهُ أهوال المعارك حتى صار قائدًا خبيرًا بعيد النظر ملمًّا بالفنون الحربية كلها، وقد حفظ القيصر أبناءَ هذا القائد رهائن عندهُ خوفًا من أن يغدرهُ.

وبعد أن جمع أُسبسيانوس الجنود الرومانية سافر لساعتهِ عن طريق الدردنيل ومرَّ بأنطاكية، وكان الملك أغريباس الثاني في انتظارهِ هناك مع جنودهِ فرحلوا سويةً إلى عكاءَ، ولما وصلوها وجدوا كثيرين من اليهود الذين لم يشتركوا في الثورة، بل بقوا خاضعين للرومانيين، ثم جاءَ ابنهُ تيطس، وجاءَت جنود كثيرة من الشام وبلاد العرب حتى بلغ عدد جنودهِ ستين ألفًا.

وجمع يوسيفوس جنودهُ في مدينة جثباتا، وهي أمنع معاقل الجليل وأخذ في التأهب والاستعداد لمقاتلة الأعداءِ، وأما أسبسيانوس فسُرَّ بتحصن اليهود فيها وزحف عليهم بخيلهِ ورجلهِ ظانًّا أنهُ متى تغلب على هذه المدينة، وقبض على يوسيفوس دانت لهُ البلاد كلها، وقد أمر قوادهُ فأحاطوا بالمدينة وبنوا حولها الحصون والمعاقل، واستولى الرعب على اليهود في بادئِ الأمر، ولكن حرص أعدائهم واستعدادهم زاداهم شجاعةً ونشاطًا، وفي اليوم التالي هجم الرومانيون على المدينة فصدهم اليهود عنها وردوهم على أعقابهم، ولما رأى أُسبسيانوس أن المدينة حصينة جدًّا شرع في إقامة أكمة عالية إلى جانب السور ليصل إلى أعدائهِ، فزاد يوسيفوس ارتفاع السور عشرين ذراعًا وبنى عليهِ أبراجًا كثيرة وقال لرجالهِ: الآن ابتدأنا الحرب الحقيقية والموت خيرٌ من حياة الذليل فافعلوا ما يذكركم بهِ الخلف وموتوا موت الأبطال، وقد رأى الرومانيون ذلك فوقعوا في حيرةٍ عظيمة واغتاظ قائدهم، واقتصر على تشديد الحصار على المدينة حتى يموت أهلها عطشًا وجوعًا.

ومضت أيامٌ كثيرة واليهود يخرجون كل يومٍ إلى المدينة ويقاتلون الأعداءَ، ويصدون هجماتهم حتى عيل صبر أُسبسيانوس وسئمت نفسهُ، فعزم أن يتقرب من الأسوار ويرميها بالكبش (وهو خشبةٌ كبيرةٌ في إحدى طرفيها قطعة من الحديد)، فخاف يوسيفوس العاقبة وأمر أن تملأ أكياس كبيرة بالنخالة وتُدلى على الأسوار حتى تمنع عنها فعل الكبش، ووثب رجلان شجاعان من الجليل إلى ما بين الرومانيين وأثخنا فيهم وتبعهما يوسيفوس مع بعض رجالهِ أوقدوا النار بين معداتهم وأحرقوا آلاتهم، وصوَّب رجلٌ من اليهود سهمهُ إلى أُسبسيانوس فأصابهُ وجرحهُ جرحًا خفيفًا، ولكنهُ تجلد وأخفى الألم وأخذ يستنهض همة رجالهِ حتى عزموا أن ينتقموا لهُ أشد نقمة، وما زالوا يضربون الكبش على السور حتى تمكنوا من ثغرهِ، ونصبوا عليهِ السلالم وأخذوا يتسلقون عليها ويرشقون النبال إلى المدينة.

ولما رأى يوسيفوس أن الرومانيين اقتربوا كثيرًا وهم يفوقون رجالهُ عَددًا وعُددًا استولى عليهِ الخوف والجزع، ولكنهُ لم يقطع الأمل ولجأ إلى استنباط حيلة يخلص بها، فأمر بصب الزيت المغلي على الرومانيين وهم يتسلقون السلالم فنزل على أبدانهم فوقعوا يتمرغون في التراب من شدة الألم، وهلك منهم كثيرون.

وجاءَ في مجلة المقتطف الأغر مترجمًا عن النسخة الإنكليزية التي نقحها العالم شلتو ما نصهُ:

وفي اليوم السابع والأربعين من حصار المدينة كانت التلال التي نصبها الرومانيون أمامها قد صارت أعلى من أسوارها، وفي ذلك اليوم هرب واحدٌ من المدينة ومضى إلى أُسبسيانوس وأخبرهُ بما حل بأهلها من الفناءِ والوهن، وأنهُ يسهل عليهِ دخولها في الهزيع الأخير من الليل حينما يرين الكرى على الحراس فلم يصدقهُ أُسبسيانوس لما رآهُ من أمانة اليهود وبعدهم عن الخيانة، لكن كلامهُ كان معقولًا ولا خوف من تصديقهِ فأمر أن يحتفظ بهِ.

ولما جاءَت الساعة زحفوا من غير صوت حتى بلغوا السور فصعد عليهِ تيطس أولًا مع بعض رجالهِ وقتلوا الحراس، ودخلوا المدينة وتبعهم غيرهم ولم يدرِ بهم أحد؛ لأن الجميع كانوا نيامًا من شدة التعب فوضعوا السيف فيهم ولم يرحموا أحدًا، وقتل كثيرون أنفسهم بأيديهم لكيلا يقتلهم الرومانيون، ولجأ بعضهم إلى برج في الجهة الشمالية من المدينة وتحصنوا فيهِ ففتحهُ الرومانيون عَنْوةً وقتلوهم ولم يستحيوا ممن وجدوهُ في المدينة غير النساءِ والأطفال، وكانوا اثني عشر ألفًا فسبوهم، وقُتل من اليهود في فتح المدينة وحصارها أربعون ألفًا، وأمر أسبسيانوس أن تهدم كل البيوت والأبراج والأسوار فهدموها، وكان ذلك في السنة الثالثة عشرة من ملك نيرون واليوم السابع من شهر تموز.

ولما دخل الرومانيون المدينة وامتلكوها هرب يوسيفوس، والتجأ إلى كهف منفرد مع أربعين رجلًا ريثما يتسنى لهُ الهرب من وجه الأعداءِ، وقد عرفت بمكانهِ امرأة فأخبرت أسبسيانوس فأرسل في الحال أحد قوادهِ المدعو نيكانور لمقابلتهِ وإعطائهِ الأمان من قبلهِ، وكان نيكانور صديقًا حميمًا ليوسيفوس من زمانٍ قديم، فلما قابلهُ طلب إليهِ أن يسلم نفسهُ إليهم ولا يخاف على حياتهِ، وقال لهُ: إن الرومانيين يحبون الرجال الشجعان ويحترمونهم، ويعترفون أنك رجلٌ شجاع باسل دافع عن بلادهِ مدافعة الأبطال؛ ولذلك يجلون قدرك ولا يمدون إليك يدَ الأذى، بل تكون عندهم عزيزًا مكرمًا، فتردَّد يوسيفوس بادئَ بدءٍ في قبول ذلك، ولكنهُ عزم أخيرًا على التسليم، ولما عرف رفقاؤُه تجمهروا عليهِ وتهددوهُ بالقتل، وقالوا لهُ: «الآن تئن نواميس الآباءِ ويسخط الله الذي خلق نفوس اليهود من معدنٍ يحتقر الموت، فهل أنت راغبٌ في الحياة يا يوسيفوس؟ وهل تستطيع أن ترى النور وأنت عبدٌ ذليل؟ ما أسرع ما نسيت نفسك وكم من رجلٍ أقنعت لكي يضحي حياتهُ على مذبح الحرية، لقد كذب من قال: إنك رجلٌ وإنك حكيمٌ إذا كنت ترجو أن يبقي عليك الذين عاملتهم هذه المعاملة، ولكن إن كانت مواعيد الرومانيين تنسيك نفسك فنحن لا ننسى مجد آبائنا، إذا كنت تموت باختيارك فتموت قائدًا لليهود، وإلا فتموت ميتة خائن.» فأخذ يوسيفوس يخاطبهم وينصحهم أن يرجعوا عن غَيِّهم بعد أن جرى ما جرى ويقلعوا عن المقاومة؛ لأنهُ لم يبقَ منهم رجالٌ إلا القليل، وكانت غايتهُ الصلح مع الرومانيين وإبقاءَ الحالة على ما هي عليهِ مع الاعتراف بسيادة الرومانيين، فلم ينتصحوا لكلامهِ، ولما أعيتهُ الحيل عرض عليهم أن يعملوا قرعة فيقتلوا بها بعضهم البعض فرضوا، وصار الواحد يقتل الآخر حتى لم يبقَ إلا هو ورجلٌ آخر، فنصح يوسيفوس أن يستأمن إلى الرومانيين ولا يسعى إلى حتفهِ بظلفهِ؛ لأن الله يريدُ حياتهُ فقبل بذلك، وأُتي بهِ إلى أُسبسيانوس فقال له: «لو كان يمكنني لقتلت نفسي بيدي ومتُّ موت الأبطال، ولا أسلم لك، ولكني كاهن ونبي فلا يليق بي ذلك، وبأمر الله أقول لك: إنك أنت وابنك تيطس ستجلسان على سرير الملك في رومية فضع الحديد برجليَّ حتى إذا لم تتمَّ نبوتي اقتلني.» فضحك من كلامهِ ولم يصدقهُ، ولكنهُ عاملهُ بكل رفقٍ ولين وقد تمت نبوتهُ بعد ذلك.

وبعد أن انتهى أسبسيانوس من أخذ جثباتا وأسر يوسيفوس دوَّخ بلاد اليهود وفتح يافا وطبرية والكرك (طريخية)، وأم قيس (جدرا) وغيرها، ومشى من هناك على أورشليم يريد افتتاحها.

وفي هذه المدة توفي نيرون الظالم فخلفهُ على كرسي الملك بعضٌ من القواد، ولكنهم لم يحسنوا التصرف ولم يكونوا أهلًا للقيام بأعباءِ هذه الوظيفة السامية، وحينئذٍ اجتمع القواد الذين مع أسبسيانوس ونادوا بهِ إمبراطورًا على المملكة الرومانية، فرفض في بادئِ الأمر وفضَّل أن يبقى في قيادة الجيش، فتجمهر عليهِ رجالهُ وهددوهُ بالقتل فقبل وبايعهُ أهل الشام ومصر وآسيا الصغرى وغيرها من البلدان التي كانت تحت سلطة الرومان.

وقد تذكر أسبسيانوس نبوءَة يوسيفوس فاستدعى جميع قوادهِ وأخبرهم بشجاعتهِ وبسالتهِ وما أنبأهُ بهِ، وقال: عارٌ علينا إذا أبقينا هذا الرجل في القيود بعد أن أنبأني بما وصلت إليهِ الآن، وكان واسطة لإبلاغ صوت الله إليَّ، ثم أمر أن يؤْتى بهِ وتفك قيوده، وكان ابنهُ تيطس حاضرًا، فقال: يا أبتاهُ لا تكفي أن تُفك القيود، بل يجب أن تكسر كسرًا؛ لكي تزيل وصمة العار التي لحقتك منها، فأمر أسبسيانوس بكسرها وأحسن إليهِ كثيرًا وأكرمهُ، وسافر راجعًا إلى بلادهِ تاركًا قيادة الجيش لابنهِ تيطس.

فسار تيطس وجميع رجالهِ إلى أورشليم وحاصرها وبنى حولها الآكام العالية، وأخذ يرميها بالحجارة الكبيرة، وكان اليهود والخوارج هناك منقسمين إلى أحزابٍ عديدة يقاتلون بعضهم بعضًا، فلما رأوا الرومانيين اجتمعوا يدًا واحدةً على الدفاع حتى آخر نقطة من دمائهم.

وحصلت بين اليهود والرومانيين معارك عديدة أظهر فيها الفريقان من الشجاعة والإقدام ما يحفظ لهم الذكر الحسن والفخر الجزيل في صفحات التاريخ، ولكن الرومانيين كانوا أكثر رجالًا وأقوى في الآلات ومعدات الدفاع، فتغلبوا أخيرًا عليهم وهدموا الأسوار الثلاثة التي كانت تحيط بالمدينة ودخلوها بعد قتالٍ تشيب لهُ الأطفال، دافع فيهِ اليهود مستقتلين فراح كثيرون منهم شهداءَ وطنهم وبلادهم.

وارتفعت جلبة عظيمة عند فتح المدينة فلم يعد أحدٌ يعي على أحد، واغتنم واحدٌ من جنود الرومانيين الفرصة فأسرع إلى الهيكل وأضرم النار فيهِ وتبعتهُ بقية الجنود، ولما رأى اليهود أن النار تلتهم الهيكل حاولوا إطفاءَها بما بقي فيهم من القوة، ولكنهم لم يفلحوا.

ونظر تيطس لهب النار يتصاعد من الهيكل، فأسرع ودخل قدس الأقداس فرآهُ بديعًا عظيمًا يفوق وصف الواصفين، ولم تكن النار قد وصلت إليه فصار يحرض الجنود على إطفاءِ النار وبذل الجهد الجهيد لمنع امتدادها، لكنهُ لم يفلح ولم تعبأ الجنود بكلامهِ وأخذوا في سلب الآنية الثمينة والحجارة الكريمة، ولما أعيتهُ الحيل وعجز قوادهُ عن رد الجنود خرج آسفًا ووقف ينظر إلى هذا البناء الفخيم وقلبهُ ينفطر حزنًا وكآبةً.

وجاءَ في المقتطف الأغر: قال يوسيفوس: إن المرءَ لا يستطيع إلا أن يأسف على خراب ذلك البناءِ الفخيم؛ لأنه أعظم بناءٍ رأيناهُ أو سمعنا بهِ في شكلهِ وحجمهِ وفي النفقات الطائلة التي أُنفقت عليهِ، وفي شهرة قدس الأقداس المجيدة، ولكنهُ يتأسَّى بأن الأقدار قضت بذلك ولا مردَّ لقضائها، ومن عجيب الاتفاق أن الهيكل خُرب هذه النوبة في الشهر واليوم اللذين خربهُ فيهما البابليون، حيث الخراب الأول كان في اليوم التاسع من شهر آب، والخراب الثاني في اليوم التاسع من شهر آب، ومن بناءِ الهيكل أولًا في عهد سليمان إلى خرابهِ في السنة الثانية من ملك أسبسيانوس ألف ومائة وثلاثون سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يومًا، ومن بنائهِ ثانيةً في زمن حجي في السنة الثانية من ملك قورش إلى خرابهِ في عهد أسبسيانوس ستمائة وتسع وثلاثون سنة وخمسة وأربعون يومًا، ويُقدر عدد الأسرى من أورشليم بسبعة وتسعين ألفًا، وعدد الذين ماتوا قتلًا ومرضًا وجوعًا بمليون ومائة ألف نفس أكثرهم يهود، واستأمن أحد الكهنة إلى تيطس وأعطاهُ منارتين من الذهب وموائد وآنية مختلفة، وسلم إليهِ أيضًا الستائر والحلل الكهنوتية.

ولم يكتفِ الرومانيون بما أتوهُ من الفظائع، بل أحرقوا جميع مباني أورشليم وتركوها تندب عزها، أما يوسيفوس فبقي مع تيطس كل مدة الحصار، وكان اليهود يجتهدون لإلقاءِ القبض عليهِ وقتلهِ والرومانيون يسعون في هلاكهِ كلما قهرهم اليهود؛ لأنهم كانوا ينسبون فشلهم إلى خيانتهِ، ولكن تيطس كان يدافع عنهُ دائمًا ويحترمهُ كثيرًا، وقد أذن لهُ بعد خراب أورشليم أن يأخذ شيئًا من مسلوباتها، وطلب يوسيفوس أن يطلقوا سبيل خمسين رجلًا من رفقائهِ وأن يعطوهُ بعضًا من الكتب المقدسة فأُجيب طلبهُ.

ولما انتهى الرومانيون من الحرب وخضعت لهم البلاد سافر تيطس إلى رومية، وأخذ يوسيفوس معهُ فاستقبلهُ أسبسيانوس استقبالًا باهرًا وأحسن وفادتهُ، وأفسح لهُ مكانًا في منزلهِ الخاص ومنحهُ الرعوية الرومية، وربط لهُ معاشًا سنويًّا، وبالغ في إكرامهِ كل مدة حياتهِ، وهكذا بقي يوسيفوس عزيزًا مكرمًا في مدة حكم ابنهِ تيطس وخلفهِ دوميتيان.

ولم يصل أحدٌ من الباحثين إلى معرفة الوقت الذي توفي فيهِ يوسيفوس، ولكن يُستنتج أنهُ كان حيًّا في عهد أغريبا الثاني الذي توفي سنة ٩٧ للميلاد ولهُ مؤلفات تاريخية عديدة منها حرب اليهود في سبعة كتب، وعاديات اليهود في عشرين كتابًا، وكتاب ضد أبيون، وكتاب ترجمة حياتهِ «ولا توجد كتبهُ بالعبرانية مع أنهُ كتبها بها وباليونانية، أما الكتاب العبراني المنسوب إليهِ فموضوع، وقد كتب في القرن العاشر للميلاد، ولعل النسخة العربية مأخوذة عنهُ»، ويقال: إن يوسيفوس كتب عدة تواريخ ومنها تاريخ باللغة اليونانية وآخر باللغة العبرانية.

هذا شيءٌ من ترجمة يوسيفوس الشهير أوردناها هنا بالاختصار؛ لأننا لو أردنا الإطالة والإسهاب في وصف هذا الرجل وأطوارهِ وأعمالهِ لضاقت بنا المجلدات، وقد تعدينا في الكتابة عنهُ إلى ذكر حرب الرومانيين وانتصارهم عليهِ وفتحهم أورشليم وإحراق الهيكل؛ لأننا رأينا أن هذه الحوادث لها علاقة تامة بسيرتهِ، فضلًا عن أنها من أهم النقط والمباحث التاريخية المفيدة التي يجب معرفتها والوقوف على حقائقها فأوردناها فائدةً للقُرَّاءِ.

(٦) السموأَل

هو السموأَل بن غريض بن عادياء اليهودي من يهود يثرب، وأكثر المؤرخين يسمونهُ السموأل بن عادياء، فيتركون اسم أبيهِ وينسبونهُ إلى جدهِ، وهو أحد شعراءِ الجاهلية المشهورين وأكثرهم طلاوة ورونقًا في كلامهِ، وصاحب الحصن العظيم المعروف بالأبلق الفرد الذي بناهُ جدهُ عادياء، فكانت العرب تنزل فيهِ فيضيفها وتقيم هناك سوقًا كبيرًا، وكما أن السموأل اشتهر بشعرهِ، فإنهُ اشتهر أيضًا بوفائهِ حتى صار يُضرَب بهِ المثل في الوفاءِ والأمانة، وسبب ذلك أن امرؤَ القيس بعد أن غزى بني كنانة وأوقع بهم الويل والنكال سار إلى الشام يريد قيصر وعرَّج في طريقهِ على السموأل ونزل ضيفًا عليهِ في حصن الأبلق وأودعهُ دروعًا كانت لأبيهِ ومضى في سبيلهِ، وبعد ذلك بقليل أقبل الحارث بن ظالم، وقيل: الحرث بن أبي شمر الغساني، وطلب من السموأل أن يسلمهُ الدروع المودوعة عندهُ فرفض رفضًا باتًّا وتحصن منهُ، وكان لهُ ابنٌ قد يفع، وكان مولعًا بالصيد والقنص، فبينما هو راجعٌ ذات يوم من صيدهِ قبض عليهِ الحارث وسجنهُ وخيَّر أبيهِ؛ إما أن يسلم الدروع أو يقتل ابنهُ، فأجابهُ السموأل شأنك بهِ، فأنا لا أسلم الدروع ما دام فيَّ عرقٌ ينبض؛ لأني إذا سلمتُ مال جاري الذي اؤتمنتُ عليهِ ثلمَ شرفي ولحق بي العار، فأنا لا أغير بذمتي، وأولى بالإنسان أن يموت شريفًا عزيزًا من أن يموت حقيرًا مهانًا، فاحتدم الحارث غيظًا من هذا الجواب، وضرب وسط الغلام فقطعهُ قطعتين وانصرف، فقال السموأل:

أعاذلتي ألا لا تعذليني
فكم من أمر عاذلةٍ عصيتُ
وفيتُ بأدرع الكندي إني
إذا ما ذم أقوامٌ وفيتُ
وأوصى عاديا يومًا بأن لا
تهدم يا سموأل ما بنيتُ
بنى لي عاديا حصنًا منيعًا
وماءً كلما شئت استقيتُ

وفي رواية أخرى وهي أقرب إلى الصواب على ما قالهُ المؤرخون أن أحد الملوك غزى السموأل مدعيًّا أنهُ من ورثة امرئِ القيس، وأن لهُ حقًّا بالدروع فلم يصدق السموأل كلامهُ وأبى أن يسلمهُ الدروع، واتفق أن الملك ظفر بابن السموأل خارجًا من الحصن، قيل: راجعًا من الصيد وهو الراجح فقبض عليهِ، وقال لأبيهِ: إن لم تعطني الدروع قتلت ابنك لا محالة، فقال لهُ: أجلني وأعطني فرصة للافتكار فأجلهُ، فجمع السموأل أهل بيتهِ وشاورهم في الأمر فأشاروا عليهِ جميعًا بالتسليم لينقذ ابنهُ من وهدة الهلاك، فلما أصبح ذهب إلى الملك، وقال لهُ: لا أسلم لك الدروع فاصنع ما أنت صانع فذبح الملك ابنهُ وهو ينظر إليهِ، وأتى السموأل بعد ذلك إلى المرسم ومعهُ الدروع فدفعها لورثة امرئ القيس، ومن ذاك الوقت ضُرب بهِ المثل في الوفاءِ والأمانة، ولا غَرْوَ فهذا دليلٌ ساطع على أمانة شعب اليهود ووفائهِ واستقامتهِ من قديم الزمن.

أمَّا شعر السموأل فمشهورٌ وهو مثالٌ في الطلاوة ورشاقة المبنى، وأشهر شعرهِ قصيدتهُ اللامية نذكرها هنا لما فيها من الحكم والمعاني الشعرية البديعة:

إذا المرءُ لم يدنس من اللؤم عرضهُ
فكلُّ رداءٍ يرتديهِ جميلُ
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حُسن الثناء سبيلُ
تُعيِّرنا أنَّا قليلٌ عديدنا
فقلت لها: إنَّ الكرام قليلُ
وما قلَّ من كانت بقاياهُ مثلنا
شبابٌ تسامى للعُلى وكهولُ
وما ضرَّنا أنَّا قليلٌ وجارنا
عزيزٌ وجار الأكثرين ذليلُ
لنا جبلٌ يحتلهُ من نُجيرهُ
منيعٌ يرد الطرف وهو كليلُ
رسا أصلهُ تحت الثرى وسما بهِ
إلى النجم فرعٌ لا ينال طويلُ
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكرهُ
يعزُّ على من رامهُ ويطولُ
وإنا لقومٌ لا نرى القتل سُبَّةً
إذا ما رأتهُ عامرٌ وسلولُ
يقرِّب حب الموت آجالنا لنا
وتكرههُ آجالهم فتطولُ
وما مات منا سيدٌ حتف أنفهِ
ولا طلَّ يومًا حيث كان قتيلُ
تسيلُ على حد الظباةِ نفوسنا
وليست على غير الظباةِ تسيلُ
صفونا ولم نكدر وأخلص سرَّنا
أناثٌ أطابت حملنا وفحولُ
علونا إلى خير الظهور وحطَّنا
لوقتٍ إلى خير البطونِ نزولُ
فنحن كماءِ المزن ما في نصابنا
كَهامٌ ولا فينا يُعدُّ بخيلُ
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقولُ
إذا سيدٌ منا خلا قام سيدٌ
قئُولٌ لما قال الكرامُ فعولُ
وما أُخمدت نارٌ لنا دون طارقٍ
ولا ذمنا في النازلين نزيلُ
وأيامنا مشهورةٌ في عدونا
لها غررٌ معلومةٌ وحجولُ
وأسيافنا في كل شرقٍ ومغربٍ
بها من قراع الدارعين فلولُ
معودةٍ أن لا تُسلَّ نصالها
فتغمد حتى يُستباح قتيلُ
سلي إن جهلتِ الناس عنا وعنهم
فليس سواءً عالمٌ وجهولُ
فإن بني الريان قطبٌ لقومهم
تدور رحاهم حولهم وتجولُ

وقد خمس هذه القصيدة صفي الدين الحلي تخميسًا بديعًا، واقتصرنا عن ترجمة السموأل بما تقدم حبًّا بالاختصار.

(٧) ابن سهل

هو إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي الشاعر الطائر الصيت الذي اشتهر بالذكاءِ، وتوقد الذهن وعرف بسعة الاطلاع ووافر الأدب، ولد سنة ٦٠٩ هجرية، وهو شاعر مشهورٌ ولهُ ديوان معروف فيهِ من القصائد الغراءِ والمقاطيع البديعة شيءٌ لا يُحصى خصوصًا في الغزل؛ لأنهُ كان — رحمهُ الله — ممن ملك الحب قلوبهم فأذلهم، وقد مات ابن سهل غريقًا مع ابن خلاص والي سبتة سنة ٦٤٩ هجرية، وعمرهُ نحو الأربعين سنة.

ومما يُروى عن مقدرتهِ في الشعر أن الهيثمي نظم قصيدةً غرَّاءَ يمدح بها المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود ملك الأندلس، وكانت أعلامهُ سودًا؛ لأنهُ كان بايع الخليفة ببغداد، فوقف ابن سهل على القصيدة وناظمها ينشدها لبعض أصحابهِ، وكان ابن سهل إذ ذاك صغير السن، فقال للهيثمي: زد بين البيت الفلاني والبيت الفلاني:

أعلامهُ السود أعلامٌ لسؤْددهِ
كأنهنَّ بخدِّ الملك خيلانُ

فقال لهُ الهيثمي: هل تروي هذا البيت أم تنظمهُ؟ قال: بل نظمتهُ الساعة، فاستعجب الهيثمي من ذكائهِ وتوقد ذهنهِ وسرعة خاطرهِ، وقال لأصحابهِ: والله إن عاش هذا ليكوننَّ أشعر شعراءِ الأندلس.

وأغلب شعر ابن سهل وأحسنهُ هو في الغزل، ولهُ فيهِ من المعاني البديعة الدقيقة شيءٌ وافر، ونحن ننقل عنهُ بعضًا من محاسن شعرهِ وهو قولهُ من قصيدة:

سَلْ في الظلام أخاك البدر عن سهري
تدري النجوم كما يدري الورى خبري
أبيت أهتف بالشكوى وأشرب من
دمعي وأنشقُ ريَّا ذكركَ العطرِ
حتى يُخيَّل أني شاربٌ ثملٌ
بين الرياض وبين الكأس والوترِ
من لي بهِ اختلفت فيهِ الملاحة إذ
أومت إلى غيرهِ إيماءَ مختصرِ
معطَّلٌ فالحلى منهُ محلأةٌ
تَفنى الدراري عن التقليد بالدررِ
بخدِّهِ لفؤادي نسبةٌ عجبٌ
كلاهما أبدًا يدْمى من النظرِ
وخالهُ نقطةٌ من غُنْجِ مقلتهِ
أتى بها الحسن من آياتهِ الكبر
جاءَت من العين نحو الخد زائرةً
وراقها الورد فاستغنت عن الصدرِ
بعض المحاسن يهوى بعضها طربًا
تأملوا كيف هام الغُنْج بالحورِ

ومن قولهِ:

وركبٍ دعتهم نحو طيبةَ نيةٌ
فما وجدت إلا مطيعًا وسامعا
يسابق وخدُ العيس ماءَ شئُونهم
فيقفون بالسوق الملي المدامعا
إذا انعطفوا أو رجَّعوا الذكر خلتهم
غصونًا لُدانًا أو حمامًا سواجعا
تضيءُ من التقوى خبايا صدورهم
وقد لبسوا الليل البهيم دوارعا

ولابن سهل شهرة في الشعر تراجع في غير هذا الكتاب.

(٨) أطباءُ اليهود

اشتهر كثيرون من الأطباء اليهود في علم الطب، وأخذ الخلفاءُ والأمراءُ عنهم هذا الفن وتبحروا فيه، وعددهم عظيمٌ نكتفي بذكر بعضٍ من مشاهيرهم، فمنهم أبو حفص يزيد مولى مروان بن الحكم طبيب يهودي في اليمامة كان في خلافة ابن عفَّان سنة ٣٠ للهجرة/٦٥٠م.

وماسرجويه الطبيب البصري سرياني اللغة يهودي المذهب، تولى ترجمة مؤلف القس أهرون من السرياني إلى العربي في خلافة مروان، وكان طبيبًا ماهرًا مشهورًا بالبراعة والذكاء، روى أيوب بن الحكم قال: كنت جالسًا عند ماسرجويه فأتاهُ رجلٌ من الخوز، وقال لهُ: إني بليت بداءٍ عُضال لم يُبلَ أحدٌ بمثلهِ، فسألهُ عن دائهِ، فأجابهُ: أُصبح فبصري مظلمٌ عليَّ وأُصاب بألم في معدتي فلا تزال هذه حالي إلى أن آكل شيئًا، فإذا أكلت سكن ما أشعر بهِ إلى وقت انتصاف النهار، ثم يعاودني ما كنت فيهِ، فإذا عاودت الأكل سكن ما بي إلى وقت صلاة الليل، ثم يعاودني ثانيةً فلا أجد لهذا الداءِ دواءً إلا الأكل، فقال لهُ ماسرجويه: على دائك هذا غضب الله فإنهُ أساءَ لنفسهِ الاختيار عندما حل بك وإنني لأودُّ أن هذا الداءَ يتحول إليَّ وإلى أولادي فكنت أعوضك عنهُ، فقال لهُ الخوزي: لم أفهم ما تقول، فأجابهُ ماسرجويه: هذه صحة لا تستحقها، وإني أسأل الله نقلها عنك إلى مَنْ هو أحق بها منك.

ومنهم أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الصوفي الطرسوسي، وُلد في الكوفة واشتهر في علم الكيمياء وجمع خمسمائة رسالة من رسائل جعفر في ألف صفحة طبعت في ستراسبور سنة ١٥٣٠، وأيضًا سنة ١٦٢٥، وطبع أيضًا كتاب أصول الكيمياء لجابر وابن سينا في باسل سنة ١٥٧٢، ولهُ كتاب في علم الهيئة طبع في نورسبرج سنة ١٥٣٤.

ومن الذين اشتهروا في علم الأدوية والعقاقير أبو داود سليمان بن جلجل الطبيب الأندلسي القرطبي اليهودي، نبغ في أواسط القرن الرابع للهجرة، وقد ترجم عدة مصنفات طبية منها كتاب الأدوية البسيطة لديسقور يدس اليوناني بمساعدة بعض الأطباء، فجاءَت ترجمةً في غاية الدقة والضبط، ولا سيما في أسماءِ العقاقير فاكتسب بذلك شهرة كثيرة وصيتًا بعيدًا.

ومن الأطباءِ المشهورين جبرائيل بن بختيشوع الذي كان أيام الرشيد سنة ٨١٤ ميلادية، واشتهر في حذقهِ وبراعتهِ في الطب وامتدحهُ أبو الفرج، وذكر عنهُ الأمير حيدر الشهابي في تاريخهِ المطبوع في مصر في الصفحة ١٣٦ وما بعدها نوادر غريبة تدل على فطنتهِ وإخلاصهِ في مهنتهِ.

ومنهم موسى بن ميمون الذي شهرتهُ تغني عن ترجمتهِ، ولهُ عدا اشتغالهُ بالطب المؤلفات النفيسة في مواضيع مختلفة، وقد مرَّ ذكرهُ في غير هذا المكان.

ومن الأطباء المشهورين منقة وصالح بن بهلة وعبدوس بن يزيد وموسى بن إسرائيل الكوفي وزين الطبري اليهودي، وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق، وقد نبغ كثيرون من الأطباء اليهود الحاذقين يضيق المقام عن ذكر أسمائهم فاكتفينا بما تقدم، وأما أطباءُ اليهود الحديثون وكتابهم المشهورون، فكثيرون لا يسعهم هذا المختصر، وربما عدنا إلى ذكر كثير منهم في طبعةٍ أخرى.

(٩) ابن تبُّون

هو يهوذا بن شاول بن تبون الكاتب العبراني والمعرب الشهير، وُلد في بلدة لونل بفرنسا سنة ١١٢٠، ولم يقم طويلًا فيها؛ لأن سكانها اضطهدوا اليهود وعاكسوهم كثيرًا حتى اضطروا إلى مزايلتها، والسفر منها إلى مدن أخرى، وقد هاجر مع من هاجروها، وجاء بروفنسة فاستوطنها، واشتهر بعد ذلك بالتعريب والتصنيف، فقد عرب إلى العبرانية أعظم مؤلفات اليهود العبرية ولُقِّب بأمير المعربين، وألَّف كتابًا في أصول اللغة العبرانية، ولكنهُ فُقِدَ ولم يعثر عليهِ أحد، وتوفي ابن تبون سنة ١١٩٠ للميلاد.

وولد ابنهُ صموئيل بن تبوك بن يهوذا سنة ١١٦٠، وتوفي سنة ١٢٣٠، وكان كاتبًا معدودًا ومعربًا شهيرًا مثل أبيهِ، فقد عرب إلى العبرانية عدة مؤلفات فلسفية لكثير من علماء اليهود وغيرهم وعلق شروحًا كثيرة على سِفر الجامعة وسِفر التكوين من الإصحاح الأول إلى التاسع، وقد طُبعت هذه الشروح في برسبرج سنة ١٨٣٧.

(١٠) ابن شعيب

هو يوئيل بن شعيب اليهودي التطيلي الأندلسي الكاتب المفسر، نبغ في تطيلة في القرن الخامس عشر للميلاد، ووضع شروحًا مفيدة على بعض أسفار الكتاب طبعت في ونديق، ويظن أنهُ ولد سنة ١٤٣٠، وتوفي سنة ١٤٩٠.

(١١) ابن جبرول

ويُعرف عند الإفرنج باسم أويسبرون، وُلد في مالقه في أوائل سنة ١٠٢١، وتوفي سنة ١٠٧٠، ونبغ بين معاصريهِ، واشتهر بسعة علمهِ وزادت شهرتهُ عند أهل القرون المتوسطة بكتابٍ سماهُ «ينبوع الحياة»، وقد وثق بهِ بعضهم وأعلوا مقامهُ وأحلوا كلامهُ محل القبول ونبذهُ آخرون وعدوهُ كافرًا، وكانوا في الحقيقة يجهلون ما هو دينهُ ولا يعرفون إن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مسلمًا، وما زال مجهولًا حتى عثر بعض الباحثين على نسخة عبرانية من كتابهِ ينبوع الحياة معربة عن الأصل العربي، فعرفوا منها أن أويسبرون هو سليمان بن يهوذا بن جبرول المعروف عند العرب بأبي أيوب سليمان بن يحيى، وكان متضلعًا عالمًا وفيلسوفًا شهيرًا راسخًا في علم اللغة العبرانية، ولهُ منظومات دينية تدل دلالة واضحة على صحة عقيدتهِ وتمسكهِ بدينهِ، ولهُ منظومة بديعة في نحو العبرانية ألفها وهو ابن تسعٍ وعشر، وهي مثالٌ في الطلاوة وحُسن الإنشاءِ، ولهُ كتاب في إصلاح الأخلاق باللغة العربية نقلهُ يهوذا بن تبون إلى العبرانية، وطبع سنة ١٥٥٠، ولم يقم طويلًا في سرقطسة؛ لأنهُ أورد في كتابهِ آراءً جديدة في الطبيعة البشرية والشهوات وتعرض لأمور شخصية ألزمتهُ الرحيل، وتنقل كثيرًا في بلاد إسبانيا من مدينة إلى أخرى بغير أن يقرَّ لهُ قرار حتى استدعاهُ الوزير الأول صموئيل صاناكد الإسرائيلي وقرَّبهُ إليهِ وأعلى مقامهُ، ولابن جبرول شروحات كثيرة على بعض أسفار التوراة ومنظومة سماها «التاج الملوكي»، وفيها كثيرٌ من جودة المعاني والشوق الروحاني حتى صار اليهود يرتلونها في صلاتهم ليلة عيد الحزن.

أما كتابهُ «ينبوع الحياة» المعروف بكتاب المادة العامة فقد عُرب إلى اللاتينية، ويظهر منهُ ماهية فلسفتهِ ومذهب بعض فلاسفة اليهود، وكتب في مؤلفهِ هذا في مباحث فلسفية عويصة وتعرض لشرح أرسطاطاليس عن وجود عنصرين متحدين هما المادة والصورة، وقد أسهب في هذا المعنى وشرحهُ شرحًا وافيًا حتى صارت كتاباتهُ موضوع جدالٍ وخلاف عظيمين بين أهل الحقائق وأهل الفلسفة الاسمية، وبحث أيضًا في علم الإرادة بكتاب جاءَ ذكرهُ، ولكنهُ فُقد ولم يُعثر عليهِ، ويتضح من كتاب ينبوع الحياة أن صاحبهُ يعتقد بصحة القليل من المذهب الأفلاطوني، ولكنهُ غير موافق لهُ تمامًا فقد خالفهُ في كثير من المباحث والمواضيع الجوهرية التي أُسندت إليها كل آرائهِ وأفكارهِ.

وجاءَ في كتاب آثار الأدهار أن ابن جبرول كان من الحقائقيين لقولهِ: إن كل حقيقة كائنة في الجنس ومهما اختلفت الأجناس فمرجعها إلى الشيئين الكبيرين، وهما المادة والصورة اللتان عُدتا أصل كل حقيقة إلا ما كان من الطبيعة الإلهية، وقد قال أيضًا بوجود مادَّة عامة مشتركة بين الأرض والسماء والأرواح والجواهر المتوسطة بين الإنسان والخالق، وقال: إننا إذا نظرنا إلى الأجسام على اختلافها نرى لها أصلًا عامًّا هو موضوع جميع الصفات الهيولية، وهو المسمى حصرًا بالمادَّة، ولولا هذه المادة لما كان بين الأجسام غير فروق، ولكن الجسم اسمٌ بل معنى، وبحث أيضًا في الأرواح العمومية والخصوصية التي فوق الأجسام، وجاءَ بآرائهِ فيها وهي شاذة تخالف كل ما تقدمها من آراء العلماءِ والفلاسفة وأبحاثهم حتى استوجبت الردَّ والدحض، وقال: إن الأرواح مركبة كغيرها من المادة والصورة، ولو كانت غير مركبة لاستحال أن تؤلف جنسًا، ولا يصح أن يقال لها على الإطلاق: روحانية، وذهب إلى أن الجنسين الروحاني والجسداني ليسا سوى نوعين من جنس أرفع منها، وهو المادة التي في كلٍّ منهما، وأن المادة الهيولية والمادة الروحانية ليستا سوى جزأَيْن من المادة العامة، والمراد بالمادة هنا على مذهب الحكماءِ إحدى علل الوجود.

والخلاصة أن تعاليم ابن جبرول وآراءَهُ على ما فيها من الخلل والشطط والابتذال تعدُّ من المباحث الفلسفية والعلمية، وهي كثيرة الأهمية بقيت زمنًا طويلًا موضوع بحث وتنقيب عند الفلاسفة والحكماءِ، وقد كانت بادئَ بدءٍ مجهولةً لو لم يطلع عليها بعض المؤرخين، وقد تكلم ابن رشد الفيلسوف الشهير على أحد مبادئِ كتاب ينبوع الحياة، وهو مبدأُ العقل العام، وذكر بعض المؤرخين مذهب ابن جبرول وعدُّوه مخالفًا للمعتقد الإسرائيلي، وعرب العالم دومنيكو غُنديَسلفي كتاب ينبوع الحياة في منتصف القرن الثاني عشر، فأحدث اضطرابًا شديدًا وتمسك بعض بهِ وناقضهُ آخرون، ومنهم إمبرت الكبير، فإنهُ دحض آراء ابن جبرول في المادة العامة والعقل العامل، وقد أجاد توما الإكويني في مناقضتهِ لهُ أيضًا، أما روجر باكون المشهور، فقد عزَّز آراءَهُ واعتقد بصحتها ونقحها على قدر الإمكان، وحذا كثيرون من العلماءِ حذوهُ.

فيظهر مما تقدم أن ابن جبرول مع تطرفهِ في آرائهِ ومباحثهِ يعدُّ عالمًا كبيرًا وكاتبًا نحريرًا ومن أشهر فلاسفة الزمن.

(١٢) أغنياء اليهود

(١٢-١) البارون موريس هرش وزوجته

البارون موريس ده هرش أكبر أولاد البارون يوسف هرش الذي رقَّاهُ الملك لويس الثاني ملك بافاريا إلى رتبة البارونية لأجل إخلاصهِ لعرشهِ وخدمهِ الكثيرة النافعة لهُ، كان جدُّهُ تاجرًا بالبقر فأثرى وصار ملك بافاريا يستدين المال منهُ، قيل: سألهُ الملك مرةً كيف أثريت وأنت تتاجر بالبقر، فقال: أثريت لأني أتاجر بالبقر ومع البقر.

وُلِد البارون موريس هرش في مونخ عاصمة بافاريا في ٩ ديسمبر سنة ١٨٣١، ودرس في بركسل عاصمة البلجيك، ولما بلغ الثامنة عشرة من العمر دخل بنك بيشوفسهيم وغولد شمت، وهما من أكبر صيارفة بركسل فظهرت حالًا نجابتهُ ومقدرتهُ المالية واقترن بابنة بيشوفسهيم، وهي أصغر منهُ بسنتين، فاقترن بهِ السعد باقترانهِ بها؛ لأنها كانت كملاك يحرسهُ ويرشدهُ، ويبثُّ البهجة والحبور في حياتهِ.

ولم يمضِ عليهِ زمن طويل حتى صار المدير لذلك البنك والموسع لأعمالهِ، وكان متوقد الفؤاد قوي العزيمة مقتدرًا على إدارة الأعمال وتنظيمها، فأنشأ سكة الحديد من بودابست إلى وارنه على البحر الأسود، وكان العمل ثلاثة أقسام أُخذت بالقرعة وأصابت قرعتهُ القسم الأصعب منها، لكنهُ ربح منهُ ربحًا طائلًا، والاثنان الآخران خسرا؛ لأنهُ كان أكثر منهما سهرًا على إدارة الأعمال.

وأفلس المسيو ديمنسو المالي البلجي العظيم سنة ١٨٦٩ فابتاع البارون هرش منهُ سندات سكة الحديد التركية، وكان المظنون أنها أبخس ممتلكاتهِ قيمة وأقلها جدوى، لكنهُ أحسن إدارتها حتى صارت أساس ثروتهِ، وظلَّ ينشئُ سكك الحديد متغلبًا على المصاعب الطبيعية والعراقيل السياسية، حتى قدرت ثروتهُ بعد خمس عشرة سنة بعشرة ملايين جنيه إلى ثلاثين مليونًا.

وكانت هذه الثروة الطائلة في يدهِ ويد زوجتهِ وسيلة لإغاثة الفقراءِ والمظلومين من أبناءِ ملتهِ، فلما طُرد اليهود من روسيا عرض على حكومة الروس مليونين من الجنيهات لتنفقها على التعليم، حاسبًا أن السبب الأكبر لطردهم من بلاد الروس هو الجهل الضارب أطنابهُ فيها، فإذا انتشر التعليم والتهذيب زال منها التعصب والتحمس، فرفضت حكومة الروس هذه الهبة السنية.

وكان يحسب اليهود من أقدر الناس على الفلاحة والزراعة بناءً على ما رأى منهم في بلاد المجر، قال: «إن أكثر الفلاحين منهم هناك، حتى إن خَدَمة الدين الكاثوليكي يعتمدون عليهم فقط في زراعة أوقاف الكنائس وكل أصحاب الأملاك الكبيرة يفضلون اليهود لاجتهادهم واستقامتهم ومهارتهم، فهذه الأمور دعتني إلى الاهتمام بإصلاح شأنهم، وسيظهر أنهم لم يفقدوا الميل إلى الزراعة الذي امتاز بهِ أسلافنا، وسأبذل جهدي لأهيئَ لهم أوطانًا أخرى في بلدان مختلفة حيث يستطيع الفلَّاح أن يكون مستقلًّا بحرث أرضهِ ويستفيد من جدهِ واجتهادهِ.»

فابتاع الأراضي الفسيحة في جمهورية أرجنتين وولاية نيوجرزي بأميركا وأماكن أخرى وأعطاها لأبناءِ أمتهِ، ووهب جمعية استعمار اليهود مليونين من الجنيهات، وأعطى اليهود الروسيين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية نصف مليون جنيه؛ لكي يتعلم أبناؤُهم ويتهذبوا ويصيروا مثل الأميركيين، فمضى كثيرون منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية واستوطنوها وزرعوا الأرض، وأنشئوا المعامل وربوا المواشي ولهم في ولاية نيوجرزي مدرسة صناعية ومدرسة زراعية.

وقد يُظن لأول وهلة أن رجلًا يبلغ اهتمامهُ بأمر أمتهِ وملتهِ هذا المبلغ لا يهتم بغيرها، لكنَّ البارون هرش لم يكن كذلك، بل كان يعتمد على الأكْفاء من كل الأمم ويهتم بالمساكين من كل الطوائف، وهو الذي بعث بالمؤَلف هال كاين إلى روسيا ليبحث عن أحوال العامة من شعبها وما يحتاجون إليهِ، وبعث إليها أيضًا بالكاتب الشهير أرنلد هوَيت — مكاتب جريدة التيمس — لهذه الغاية. كتب المستر هويت عن البارون هرش «أنهُ يشتغل بأمر روسيا وتوزيع الصدقات فيها من الساعة السادسة صباحًا، وأنا أكتب هذه السطور الآن وإلى جانبي ثلاثة مجلدات كبيرة كلها مكاتيب منهُ تدلُّ على اهتمامهِ الشديد ورثائهِ للمحتاجين والمظلومين، وقد تصدَّق بأكثر من المال، فإنهُ تصدَّق بوقتهِ وقواهُ العقلية لنفع أبناءِ ملتهِ.»

وكانت زوجتهُ تشاركهُ في كل أعمالهِ وصدقاتهِ، قال المستر إسكار ستروس سفير الولايات المتحدة في تركيا: «إنها أكبر مساعد لزوجها، فقد كان يستشيرها في كل أمر ويخبرها بكل شيءٍ وكانت تقرأُ مكاتيبهُ وتساعدهُ في كتابة أجوبتها وترافقهُ في أسفارهِ، وتشاركهُ في أمانيهِ ولم تكن تشاركهُ في يأسٍ؛ لأنهُ لم يكن ييأس من أمرٍ قط، وهي امرأة فاضلة أنيسة المحضر رقيقة القلب، كريمة جدًّا أنفقت جانبًا كبيرًا من ثروتها الخصوصية على المدارس والملاجئِ والمستشفيات، وكانت تزورها بنفسها وتهتمُّ بإدارتها، رأيتها في القسطنطينية تزور أحياءَ الفقراءِ يومًا بعد يوم وتساعدهم بيدها مسلمين كانوا أو مسيحيين أو يهودًا بلا تمييز بينهم.»

وقصَّ المستر ستروس على السيدة سارة بولتن القصة التالية، قال: أخبرني رئيس مهندسي سكة الحديد التي أنشأها البارون هرش أن أول قسم من السكة وصل من أسوار القسطنطينية إلى قرية تبعد عنها عشرة أميال، وكانت الحكومة العثمانية قد عينت لهُ مكان المحطة في وسط القرية، واشترطت على نفسها أن تشتري مكان المحطة وتهدم البيوت التي فيهِ وتسلمهُ إلى البارون هرش، فقام السكان ونادوا بالويل والحرب مخافة أن لا تدفع الحكومة إليهم شيئًا من ثمن بيوتهم وأرضهم، وبلغ الخبر زوجة البارون هرش وهي في الأستانة، فسألت زوجها عن جليتهِ، فقال: هو كما بلغكِ، ولكن الأمر ليس في يدي، بل في يد الحكومة العثمانية، والشروط التي بيني وبينها تقضي عليها أن تبتاع البيوت والأراضي من أصحابها وتسلمنيها، فقالت: إن لم يكن الأمر في يدك فهو في يدي، كم ثمن هذه البيوت والأراضي؟ فقال: نحو مليون فرنك، فكتبت تحويلًا على البنك بمليون فرنك، وأرسلت وكيلها فدفع إلى الناس ثمن بيوتهم وما يملكون وطيَّب خواطرهم، وبعد أيام أُحتفل بفتح القسم الأول من سكة الحديد، وكان أولئك المساكين أشد الناس جذلًا وحبورًا.

وأنشأَت مدارسَ في القسطنطينية قبل مغادرتها أنفقت عليها ٢٥ ألف جنيه ولها ولزوجها مدارس كثيرة، وملاجئُ في أكثر بلدان المشرق.

ومن صدقات البارون هرش الكثيرة أربعون ألف جنيه بعث بها إلى إمبراطورة الروس على أثر الحرب الروسية التركية؛ لتنفق على المحتاجين، ومليون جنيه لتنفق على أربعين مدرسة في غاليسيا يتعلم فيها الأولاد من كل المذاهب؛ لأنهُ كان يقول: إني أسمع صوت المعوز فلا أسأل: أهو من ملتي أو من غير ملتي، ولكن لا عجب إذا سمعتُ أكثر هذه الأصوات من أبناءِ ملتي وبذلت جهدي في إغاثتهم.

وقد قدَّر المستر ستروس الهبات التي وهبها البارون هرش في حياتهِ بأكثر من خمسة عشر مليون جنيه.

وكان لهُ قصور كثيرة في لندن وباريس وبلاد المجر وبعضها من القصور الملكية القديمة، ومنها قصر في باريس بنتهُ الإمبراطورة أوجيني لدوكة البا، ولم يكد البارون هرش ينزل فيهِ هو وزوجتهُ سنة ١٨٨٧ حتى مرض وحيدهما، وتوفي فيهِ وتركهما مصدوعي الفؤاد، لكن وفاتهُ زادت رغبتهما في مؤاساة الحزانى والبائسين، وكان متجملًا بكثير من مناقب أبيهِ وأمهِ، عاكفًا على عمل الخير، مغرمًا بالخيل عندهُ كثير من الجياد الكريمة فباعها أبوهُ بعد موتهِ وتصدَّق بثمنها كلهِ، وبكل ما ربحتهُ خيلهُ في السباق وهو مائة ألف جنيه، ولما مات باعت زوجتهُ جيادهُ وتصدَّقت بثمنها كما فعل هو بجياد ابنهِ.

وكان البارون هرش يضع صدقاتهِ في موضعها حتى تنتج عنها الفائدة المقصودة، قال البرنس بسمارك في هذا الصدد: «إن هرش هو الرجل الوحيد الذي لا يفتقر الذين يتصدق عليهم.» وكان يأتيهِ كل يوم أربعمائة مكتوب في طلب الصدقات وبعضها من أبناءِ الملوك، وهؤلاءِ كانوا يستدينون منهُ ولا يوفونهُ غالبًا، فيعدُّ ما يعطيهم إياهُ صدقةً.

وليلة العشرين من أبريل سنة ١٨٩٦ قضى نحبهُ بغتةً بالسكتة الدماغية بعد أن عاش سنين كثيرة مثالًا للهمة والاجتهاد والإحسان، وعلم الأغنياء بسيرتهِ وقدوتهِ كيف ينفعون الفقراء، ويكونون بركة لنوع الإنسان لا لعنةً عليهِ.

وبقيت زوجتهُ ثلاث سنوات بعدهُ سائرة في خطتهِ خطة التصدُّق، قالت لامرأة زارتها في فرساليا: إن الغنى الوافر عبءٌ ثقيل على صاحبهِ، وغاية ما أطلبهُ وما أرجوهُ أن أتمكن من إنفاق أموالي كلها حتى يحصل من إنفاقها أكبر نفع لأكبر عدد من الناس.

ولم تمضِ سنة على وفاة زوجها حتى أرسلت أكثر من مليون ريال إلى مدرسة الصنائع التي أنشأها في نيويورك، حيث يتعلم شبان اليهود الذين هاجروا من روسيا، ولم تمضِ ثلاث سنوات على وفاتهِ حتى أنفقت على الصدقات ثلاثة ملايين من الجنيهات، وجملة ما تصدقت بهِ هي وزوجها في حياتهما أكثر من خمسة وعشرين مليونًا من الجنيهات.

كتب المستر ستروس:

إن حياة البارونة هرش مثال للإيثار وإنكار الذات، فإن شغلها الشاغل كان كيف تستطيع أن تتصدق على الناس من غير أن يشعروا بالذل في نفوسهم، وكثيرًا ما كنت أساعدها على فتح المكاتيب التي ترد إليها، وكان متوسط ما يرد إليها في اليوم خمسمائة مكتوب من كل أقطار المسكونة، وكان لا بدَّ من قراءة كل مكتوب منها واختيار ما تظن أصحابهُ أهلًا للمساعدة، فتختار المكاتيب التي يجب أن يُجاب أصحابها عليها وتملي على الكتبة، وتقضي بضع ساعات كل يوم في إجابة السائلين وإرسال التحاويل المالية، هذه هي صدقاتها الإفرادية غير صدقاتها العمومية الجمهورية كهباتها للمدارس والمستشفيات وما أشبه ذلك.

وكانت على غاية الوداعة والرصانة قلبها قلب ملاك، ورأسها رأس فيلسوف، قال زوجها لي مرةً: إنها لو كانت زوجة رجل فقير لكانت مثالًا لنساءِ الفقراءِ في الاجتهاد والتدبير.

لما كانت فتاة في بيت أبيها كانت سكرتيرًا لهُ فيما يتعلق بصدقاتهِ الكثيرة التي كان يتصدَّق بها، ولما تزوجت صارت سكرتيرًا لزوجها في صدقاتهِ، وكانت تحسن الكتابة بالإنكليزية والألمانية والفرنسوية، ولم تقتصر على أن تكون سكرتيرًا لزوجها في كل أعمالهِ الخيرية، بل كانت تحضهُ دائمًا على عمل الخير وترشدهُ إلى أساليبهِ، وقد كتبت إليَّ مرة تقول: إن الثروة الوافرة مزية كبيرة، ولكنها وديعة في يد صاحبها يُطلب منهُ أن يستعملها حيث يكون منها النفع الأعظم.

ولم تكن تنفق على نفسها أكثر مما تنفقهُ امرأة من أواسط الناس ولا كانت تهمل ترتيب بيتها وخدمها، وكانت تعمل أعمالها على غاية الدقة والانتظام، كنت راكبًا معها مرةً في ضواحي باريس فأوقفت المركبة بغتة وطلبت من أحد خدمها أن ينزل ويفرِّق على بعض الفقراءِ مبلغًا من المال، ثم التفتت إليَّ وقالت: إن الذين درسوا أحوال المساكين لا يستصوبون هذا النوع من الإحسان، وأنا أعلم أنهم مصيبون، ولكن ما حيلتي وأنا أسرُّ بأن أعطي وأريد أن أسرَّ نفسي مثل غيري، وكانت تقول هذا القول على غاية الدعة والبساطة.

توفيت في مدينة باريس في غرة أبريل سنة ١٨٩٩، وكان الاحتفال بدفنها بسيطًا جدًّا، واحتفل بجنازتها في أماكن كثيرة في أوروبا وأميركا ومن صدقاتها المعروفة:

٤٠٠٠٠٠ جنيه لجمعية الاستعمار اليهودية في لندن
٤٠٠٠٠٠ جنيه للجمعية الخيرية الإسرائيلية في باريس
٤٠٠٠٠٠ جنيه معاشات لمستخدمي سكة الحديد الشرقية
٢٠٠٠٠٠ جنيه ليهود بودابست.
١٢٠٠٠٠ جنيه لجمعية الأوصياء في لندن
١٢٠٠٠٠ جنيه لمدرسة هرش في جاليصيا
١٢٠٠٠٠ جنيه لجمعية الإحسان في فينا
٨٠٠٠٠ جنيه لبناء مستشفى للأولاد المسلولين في الرفيرا
٨٠٠٠٠ جنيه لبناء ملجأ للنساء الشريفات اللواتي افتقرنَ
٧٠٠٠٠ جنيه لدار الناقهين في مستشفى همستد بلندن
٤٠٠٠٠ جنيه لجمعية الإحسان

هذه الصدقات الكبيرة، أما الصدقات الصغيرة التي تقلُّ الواحدة منها عن عشرين ألف جنيه فكثيرة جدًّا، ويبلغ مجموع ما تصدَّقت بهِ هي وزوجها أكثر من خمسة وعشرين مليون جنيه، كما تقدَّم ولعلها كل ثروتها أو أكثرها.

هذا هو الكرم الحميد، وهذه هي المناقب التي يفتخر بها الرجال والنساءُ، والرجل وزوجتهُ شرقيان من بني إسرائيل من أرض فلسطين، ولو كانت أوروبا دارهما ومسقط رأسهما.

المقتطف

(١٢-٢) بيت روتشلد

لا مشاحة في أن بيت روتشلد أكبر البيوتات المالية والتجارية في العالم كلهِ، ولهُ معاملات كثيرة مع حكومات أوروبا وآسيا وعلاقة كبرى مع الحكومة المصرية وهي مديونة لهُ بملايين كثيرة من الجنيهات، فلا عجب إذا قلنا: إن جميع الممالك تحسب حسابهُ وتهتزُّ لكلمةٍ منهُ، وكلمةٌ منهُ تكفي لخراب ألوف من البيوتات المالية وعمار ألوفٍ، وهو عنوان الثروة الطائلة والاتحاد الأخوي وأصالة الرأي، ومن لم يسمع بشهرة أفراد هذا البيت وهم أعظم العائلات قدرًا وأوسعها جاهًا وأسبقها في حلبة الاجتهاد، فالمطلع على تاريخهم وتراجم حياتهم يرى من مظاهر الحزم والإقدام وعلو الهمة، وعمل الخيرات والمبرات ما يُتخذ قدوة لرجال المال وأصحاب الثروات في إدارة الأعمال، وعمل الخير والإحسان ومساعدة الجنس البشري.

أول من غرس دوحة مجد هذا البيت هو ماير أنسليم روتشلد، وُلد في فرانكفورت سنة ١٧٤٣، وتوفي فيها سنة ١٨١٢، وأصلهُ من عائلة إسرائيلية فقيرة الحال أرسلهُ أبوهُ من صغرهِ إلى مدينة فرس ببفاريا فدخل إحدى مدارسها، حيث تلقى الدروس الابتدائية، ثم استعد لدرس العلوم الدينية؛ لأن أباهُ كان يريد أن يكون حاخامًا، ولكنهُ غيَّر فكرهُ عند رجوعهِ إلى فرانكفورت وعزم على الدخول في مضمار التجارة لشدة ميلهِ إليها من صغر سنهِ، ودخل في بيت أوبنهيم الصيارفة في مدينة هانوفور فمكث فيهِ ثلاث سنوات تعلم في خلالها المساومة والصرافة والمضاربات المالية، وتدرب على إدارة الأعمال وبرع فيها حتى صار من مديري المحل، وبعد أن جمع مبلغًا قليلًا من المال رجع إلى مدينتهِ الأصلية سنة ١٧٨٠ وفتح فيها محلًّا صغيرًا للصرافة، واقترن بعد ذلك بالآنسة شسنيبر، وكانت على جانب عظيم من الذكاءِ فساعدتهُ كثيرًا في توسيع محلهِ وإدارة أشغالهِ، فكانت هي تدير أشغال المحل بكل اجتهاد وهو يتنقل في البلاد المجاورة، حيث يبيع بضائعهُ ويشتري غيرها، ولم تمضِ إلا سنوات قليلة حتى تقدمت تجارة روتشلد ونجح محلهُ نجاحًا باهرًا، كل ذلك راجعٌ إلى اجتهادهِ وأصالة رأيهِ وبعد نظرهِ في عواقب الأمور، واشتهر بالاستقامة والأمانة ووثق بهِ التجار الكبار في فرانكفورت ومانيس ودرمستاد؛ لأنهُ كان يدفع ما عليهِ في مواعيدهِ فأجمعوا على احترامهِ واستشارتهِ في كثيرٍ من المسائل، وصاروا يقضون جميع أشغالهم عن يدهِ، فكان ينجزها في سرعةٍ ودقة واستقامة حتى إنهم لقبوهُ «باليهودي الأمين»، وفي أيام الثورة الفرنساوية كان اسم روتشلد معروفًا بين كثيرين، ولكنهُ كان صغيرًا إذا قورن مع غيرهِ من الماليين العظام والتجار الكبار، وقد ساعدتهُ التقادير وأتتهُ فرصةٌ غير منتظرة فتحت لهُ موارد الثروة ورفعتهُ إلى أعلى مقام وصيرتهُ أكبر رجل مالي في العالم.

ذلك أن حكومات أوروبا كانت قائمة في ذلك الأوان على نابوليون بونابرت خوفًا من بطشهِ واتساع سلطتهِ، وكانت جيوش نابوليون تخترق أوروبا شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، وقد زحف قسمٌ كبيرٌ منها بقيادة الجنرال هوش فرانكفورت للانتقام من أمير هيس؛ لأنهُ كان يؤجر رجالهُ للإنكليز ليحاربوا بها بونابرت ويأخذ الأموال الكثيرة مقابل ذلك، ولما قرب الجنود من المدينة بلغ الأمير الخبر فعزم على الهرب من وجه الأعداءِ، ولكنهُ وقع في حيرةٍ ولم يدرِ ماذا يعمل بأموالهِ الكثيرة، فبعث إلى روتشلد وأْتَمنهُ على جانب كبير منها بغير ربًا، فابتدأت من ذلك الحين ثروة بيت روتشلد، وكان الأقرب إلى الظن أن روتشلد يرفض طلب أمير هيس؛ لأن المال شرك الردى، ولا سيما في مثل هذه الأحوال ولو رفض لتغير تاريخ أوروبا، فإنهُ يقال عن ثقة: إن بيت روتشلد حفظ السلم ثلاث مرات، ولكنهُ قبل أموال الأمير وخبأها في حفرة تحت الأرض؛ لأنهُ عرف أن الجنود ستدخل بيتهُ لا محالة، ودخلت الجنود الفرنساوية بعد قليل إلى فرانكفورت، ودخلت البيوت تنهب ما فيها، وجاءت بيتهُ فأخذ يتوسل إليهم أن يتركوا لهُ شيئًا من مالهِ فلم يصغوا إليهِ، بل نهبوا كل ما وجدوهُ في البيت، ولو أخفى أموالهُ الخاصة مع أموال الأمير لفتشت الجنود عنها ووجدتها ووجدت أموال الأمير معها، ولكنهُ افتدى أموال الغير بمالهِ، وذلك مما يدل على أمانتهِ ووفائهِ، والوفاءُ مشهورٌ عن اليهود من أيام السموأل بن عادياء فإنهُ جاءَ بابنهِ دون دروع امرئ القيس.

ولما أجلت الجنود عن المدينة ورجع الأمن إليها أرسل روتشلد جانبًا من المال إلى ابنهِ في لوندرا، وأخذ يستعمل الباقي ويدينهُ برِبًا فاحش إلى ملوك أوروبا الذين كانوا في حاجةٍ كبيرة؛ لينفقوا على الحروب ويقوموا بتعبئة الجيوش، وهم يأخذون هذا الربا من شعبهم، وحتى يومنا هذا كل مكلف في أوروبا ومصر يدفع شيئًا من مالهِ الخاص إلى بيت روتشلد عن يد حكومتهِ، فاعجب ببيت يأخذ الجباية من نحو ٤٠٠ مليون نفس.

هكذا استعمل روتشلد المال المودع بطرقٍ شريفة وربح من ورائهِ أرباحًا عظيمة وجمع ثروةً طائلة لا تُحصى ولا تقدر، ولما رجع أمير هيس إلى فرانكفورت عرض عليهِ روتشلد أن يُرجع إليهِ مالهُ فرفض وأبقاهُ عندهُ لعشرين سنة بربا اثنين في المائة، وأهدى إلى ابنهِ هدايا سنية.

وزادت شهرة روتشلد بعد ذلك فصار يسلف الأمراءَ والأشراف في أوروبا، ويقدم لوازم جيش نابوليون، وعقد قرضًا كبيرًا لحكومة الدانيمرك بمبلغ عشرة ملايين سالير (السالير أربعة فرنكات)، وعقد سلف كثيرة أخرى لحكومة روسيا وهولاندا وإنكلترا، واستعانت بهِ هذه الأخيرة على إرسال النقود إلى البلاد الأوروبية نفقةً للجنود ودفع الرواتب التي كانت خصتها بملوك أوروبا ليقاوموا معها نابوليون، ولم يستطع أحدٌ من الماليين مجاراتهُ ولم يلبِّ طلب إنكلترا غيرهُ، ويقال: إنهُ ربح ما ينيف على مليون جنيه بإرسال المال إلى الجنود الإنكليزية وأنصارها في إسبانيا في أقل من ثماني سنوات، وكان روتشلد على جانب عظيم من الفطنة والنباهة لا يشترك في دَيْن إلَّا إذا أنعم النظر فيهِ، وتأكد من عواقبهِ السليمة وأرباحهِ الكثيرة، وبهذه الطريقة جمع أموالهُ الطائلة وخلف لبنيهِ من بعدهِ مركزًا ماليًّا يحسدهم عليهِ سائر العالم، وقلَّما حصل عليهِ أحدٌ من قبلهم أو بعدهم.

وكان ماير روتشلد حسن السيرة دمث الأخلاق فعالًا للخيرات مساعدًا لأبناءِ جنسهِ، ولم يمنعهُ مقامهُ وثروتهُ من المداومة على المعيشة البسيطة المنفردة، ولم يغير منزلهُ الأصلي الذي كان يسكن فيهِ وهو متوسط الحال، وقد توفي فيهِ وبقيت امرأتهُ فيهِ حتى استأثرت بها رحمة ربها.

وقبل وفاتهِ جمع حولهُ أولادهُ الخمسة وهم أنسيلم وسلمون وناثان وشارل وجامس، فباركهم وأوصاهم أن يتمسكوا بدينهم وشريعتهم ويعيشوا بالوفاق والاتحاد والمحبة الأخوية ولا يعملوا عملًا بغير أن يتشاوروا فيهِ كلهم، وقد تبع أولادهُ نصيحتهُ فكانوا لا يبرمون أمرًا عظيمًا ما لم يجتمعوا ويتشاوروا ويقلبوا الأمر ظهرًا لبطن، وهذا سرُّ نجاحهم، وقد اتفقوا وتشاركوا في تأسيس بيوتات مالية في أعظم مدن أوروبا واستلم كل واحدٍ منهم إدارة بيتٍ منها، فبقي أنسيلم أكبرهم في فرانكفورت، وذهب سلمون إلى فينا، وناثان إلى إنكلترا، وشارل إلى نابل، وجامس إلى باريس، فأدار كلٌّ منهم القسم الذي خصَّ بهِ واعتمد على إخوتهِ في الأشغال العمومية الكبيرة؛ لتكون مشتركة بينهم وصار كلٌّ منهم بمقام الخمسة؛ لأن كل واحد كان يعلم إخوتهُ بما يقف عليهِ من الأخبار ويعينهُ ويستعين بهِ في الأعمال، وبذلك أثبتوا المثل القائل الاتحاد قوة، وقد خدمتهم حوادث سنة ١٨١٣ و١٨١٤، ومنها اتسعت ثروتهم وزاد نفوذهم، وكانوا يرضون بالربح القليل ويعاملون الجميع بالصدق والاستقامة، وامتدت أعمالهم حتى غمرت جميع ممالك أوروبا، وعمت التجارة والصناعة والزراعة وصار بيت روتشلد إخوان محور المشروعات الكبيرة وعليهِ مدار الأعمال المالية.

وقد شرف إمبراطور النمسا عائلة روتشلد ومنح أفرادها وسلالتهم لقب بارون، وعينهم قناصل ووكلاءَ لدولتهِ في المدن التي كانوا يسكنونها، وأشاع بعضهم أن إخوان روتشلد عازمون على إعادة بناءِ هيكل سليمان على نفقتهم.

هذا وشهرة بيت روتشلد غنيةٌ عن البيان لا تحتاج إلى برهان، ولهم مآثر كثيرة شملت أبناءَ أمتهم والبلدان التي استوطنوها، ولنسائهم الأيادي البيضاءِ في المدارس والمستشفيات العديدة وعمل المبرات، وسيبقى اسم هذا البيت عظيمًا ما دامت الحضارة ناشرةً لواءَها على العالم.

البارون أنسيلم مايردي روتشلد

هو أكبر أولاد ماير روتشلد، وُلد في فرانكفورت سنة ١٧٧٣ وتولى إدارة المحل فيها بعد وفاة أبيهِ، وعين رئيسًا لبيوت روتشلد إخوان فبذل جهدهُ في نجاحها وتقدمها وإحرازها ثقة المتعاملين معها، وقد انتخب سنة ١٨١٣ لرئاسة غرفة التجارة البروسية، وعين سنة ١٨٢٠ قنصلًا لبفاريا، وتوفي سنة ١٨٥٥ ولم يترك أولادًا، فخلفهُ في إدارة المحل أولاد أختهِ كارل وولهلم كارل، وُلد الأول في ٥ أغسطس سنة ١٨٢٠، وتوفي سنة ١٨٨٦ في ١٦ أغسطس، وعُيِّن عضوًا في غرفة الأمراء في بروسيا وتزوج لويزا ابنة البارون ناثان مؤسس محل لوندرا، وقد خلف ست بنات: أديل وأما ولويزا تريز وآن لويز وكليمنتين وبرتا برنيس دي وجرام.

البارون سلمون دي روتشلد

هو ثاني أولاد ماير روتشلد، وُلد في فرانكفورت سنة ١٧٧٤، ١٨٥٥، وهو الذي أسس محل روتشلد إخوان في فينا، وشارك أخاهُ أنسيلم في الأعمال المالية الكبيرة في ألمانيا، واشتهر بالجود والإحسان والتبرعات الخيرية، ولما كبر ابنهُ أنسيلم سلم إدارة المحل إليهِ وذهب إلى باريس واشتغل مع أخيهِ جامس في إدارة المحل هناك، وكان أنسيلم من أمهر أهل زمانهِ في الأعمال المالية، وقد عُيِّن عضوًا في مجلس نواب النمسا، وتوفي سنة ١٨٧٤ تاركًا ثلاثة أولاد: ناثانيل وفردينان وألبير، وهذا الأخير خلف أباهُ في إدارة محل فينا.

البارون ناثان دي روتشلد

هو ثالث أولاد ماير روتشلد، وُلد في فرانكفورت في ١٦ سبتمبر سنة ١٧٧٧، وتوفي فيها في ١٨ يوليو سنة ١٨٣٦، وهو الذي اختار بلاد الإنكليز مركزًا لأعمالهِ، وكان قبل مجيئهِ إليها يشتغل في فرانكفورت ويبتاع المنسوجات من تاجر كبير هناك، وكان هذا التاجر يظهر الأنفة والكبرياءَ ويمنن الذين يشترون منهُ، ولكن ناثان كان أبيَّ النفس فلم يعترف لهُ بجميل فاغتاظ منهُ التاجر ومنع عنهُ البضائع، فأخذ ناثان من أبيهِ عشرين ألف جنيه، وذهب إلى مانشستر فأسس فيها محلًّا سنة ١٧٩٨، ولم يمضِ زمنٌ قليل حتى راجت تجارتهُ وربح كثيرًا، ولما اتسعت دائرة أعمالهِ نقل محلهُ إلى لندن سنة ١٨١٣، وأقام فيها وكان داهيةً يتاجر ويضارب ويحتكر ويرابي وخدمهُ السعد؛ لأنهُ اشتغل في زمن الحروب وهو زمن الربح للماليين، وقد رأى بعين بصيرتهِ الوقادة أن إنكلترا لا بدَّ وأن تتغلب على نابوليون وتقهرهُ فترتفع الأوراق المالية بعد هبوط قيمتها فأخذ يشتري منها كل ما تصل إليهِ يدهُ، وكان يربي الحمام الزاجل ويستعين بهِ على نقل الأخبار فعجز الماليون عن مناظرتهِ.

وروى بعضهم أنهُ لما حدثت واقعة واترلو الشهيرة بين نابوليون وولنتون مضى ناثان إلى ساحة القتال، وأقام على رابية ينظر إلى الجنود المتحاربة إلى أن تأكد أن الإنكليز انتصروا على نابوليون فقفل راجعًا في الحال إلى لندن، وابتاع أوراق الحكومة بثمنٍ بخس قبل أن انتشر خبر النصر وارتفع ثمنها، وهذه الرواية مطعونٌ فيها، إذ يقال: إن ناثان لم يذهب إلى موضع القتال، بل إن شخصًا اسمهُ فولر جاءَهُ بخبر النصر قبل أن يعلم بهِ أحد.

وهنا ابتدأت ثروة ناثان الحقيقية وربح أرباحًا كثيرة، وذاع صيتهُ وعلا مقامهُ وصار صاحب الكلمة النافذة في الأسواق المالية والتجارية ومسلف الحكومة الإنكليزية وغيرها من الحكومات الأوروبية.

ومع دهائهِ هذا غلبهُ رجلٌ آخر في الدهاءِ — ونذكرهُ هنا على سبيل الفكاهة — فقد رآهُ هذا الرجل ذاهبًا في المساءِ إلى مكتبهِ مع اثنين آخرين فتبعهم ودخل وراءَهم ووقع على الأرض مغشيًّا عليهِ فحاولوا إيقاظهُ مرارًا وهو لا يتحرك من مكانهِ، ولما أعيتهم الحيل تركوهُ، وجعلوا يتذاكرون في أمر مهم، وبعد أن اتفقوا عليهِ وخرجوا أوصوا الخادم أن يعتني بالرجل، فعند خروجهم أسرع إلى المدينة واشترى جميع الأسهم والأوراق التي اعتمد روتشلد على ابتياعها مع ذَينك الرجلين.

وفي سنة ١٨٢٢ منحهُ إمبراطور النمسا لقب بارون وعينهُ قنصلًا ووكيلًا لدولتهِ في لندن، وكان ناثان صبورًا لا يكل من العمل ويلاحظ أشغالهُ بنفسهِ ويسعى دائمًا في توسيعها وإنجاحها، قال لهُ بعضهم لما شاخ: «عسى أن لا يشب أولادك محبين للمال مثلك، ولا أظن أنك تود ذلك.» فأجابهُ: «بل أنا أودهُ وأود أن لا يكون لهم همٌّ غير توسيع أعمالهم وتثمير مالهم ولا لذة للمرءِ بغير التعب، وجمع المال الكثير يقتضي كثيرًا من الجهد والحذر، ولكن حفظهُ بعد جمعهِ يقتضي عشرة أضعاف ما اقتضاهُ جمعهُ من المهارة.»

وترك ناثان ثلاثة أبناءٍ أكبرهم ليونل، وُلد ليونل في ٢٢ نوفمبر سنة ١٨٠٨، وتوفي في ٣ يونيو سنة ١٨٧٩، وقد تعلَّم في مدرسة كوتنجن الجامعة بجرمانيا، وخلف أباهُ في إدارة بيت روتشلد في لندن، واشتهر أكثر منهُ وفاقهُ في الأعمال المالية العظيمة وإصدار القروض، فصار الماليون يشتركون حالًا في كل قرضٍ يتولى إصدارهُ، فإذا طلبت الحكومة مليون جنيه قرضًا وكفل روتشلد بإصدار سنداتهِ أقبل الماليون على ابتياعها ودفع ثمنها.

وانتخب ليونيل عضوًا في مجلس البرلمنت الإنكليزي سنة ١٨٤٧ وطُلب منهُ أن يتلو القسم الذي يتلوهُ كل عضو فأبى أن يقول العبارة الأخيرة منهُ وهي «بذمتي المسيحية» فرُفض، ثم انتخب سنة ١٨٤٩ و١٨٥٢ و١٨٥٧، وكان يرفض دائمًا أن يتلو العبارة الأخيرة، وأخيرًا أقر المجلس أن الإسرائيليين غير ملزمين بتلاوتها، وأجلسوهُ في البرلمنت.

وزادت شهرة ليونيل وعلا صيتهُ؛ لأنهُ حفظ السلم في أوروبا وساعد بنك إنكلترا وهو على وشك الإفلاس، وكان أكبر سند وعضد للحكومة الإنكليزية، وهو الذي أقرضها المال اللازم لشراءِ أسهم ترعة السويس من الحكومة المصرية، وأقرض الخديوي إسماعيل باشا الأموال التي بذَّرها.

وبعد وفاة ليونيل خلفهُ ابنهُ لورد روتشلد وأُعطي لقب اللوردية سنة ١٨٨٥.

ولليونيل أخان: أنتوني وقد وُلد سنة ١٨١٠، وماير وقد وُلد سنة ١٨١٨ وتوفي سنة ١٨٧٤، وعُيِّن عضوًا في مجلس النواب سنة ١٨٥٩، وكان دائمًا مع حزب الأحرار.

البارون شارل دي روتشلد

هو رابع أولاد ماير روتشلد وُلد في فرانكفورت سنة ١٧٨٨، وقد خُصَّ بإدارة محل نايل، فقام بأعباءِ أعمالهِ بهمة واجتهاد، وكان حاد النظر قوي العزيمة، وهو الذي ساعد كثيرًا في تحسين مالية مقاطعتي توسكانا والبيمون، وتعهد مع بقية إخوتهِ في لندن وباريس بسلفيات إيطاليا من سنة ١٨٣١ إلى ١٨٥٦، وهي تنيف على ٢٠٠ مليون فرنك، توفي في نايل سنة ١٨٥٥.

البارون جامس دي روتشلد

هو خامس أولاد ماير روتشلد، وُلد في فرانكفورت سنة ١٧٩٢ وأتى باريس سنة ١٨١٢ لإدارة بيت روتشلد هناك، وعين فيها سنة ١٨٢٢ قنصلًا جنرالًا للنمسا، وكان يدير أعمالهُ بفكرٍ ثاقب ونشاط متواصل، فلم يمضِ وقت قصير حتى نجح المحل نجاحًا باهرًا وذاع صيتهُ في كل أنحاءِ فرنسا.

وسنة ١٨٢٣ أبرم قرضًا للحكومة الفرنسوية بمبلغ ٥٠٠ مليون فرنك، وقام مع بقية إخوتهِ بكل «السلفيات» لحكومة البرتغال وبروسيا والنمسا وإيطاليا وبلجيكا، وكان لهُ اليد الأولى في جميع الأعمال المالية مدة حكم لويس فيليب ملك فرنسا، ولهُ العلاقات الكثيرة مع ملوك أوروبا حتى سمي «مسلف الملوك»، ومن جملة أعمالهِ أنهُ أخذ على عهدتهِ بناءَ سكك حديد فرنسا، وقدم لإخوان بارير المال اللازم؛ ليحصلوا على امتياز السكة الحديدية من باريس إلى سنت جرمين، فربح من وراء ذلك ثروة طائلة وكسب أيضًا مبالغ عظيمة من الأشغال التجارية والصناعية التي أسسها أو اشترك فيها، وكان يمتلك قصورًا كثيرة ولهُ في باريس وحدها ٥١ بيتًا، وله أملاك أُخرى في جميع مدن أوروبا الكبيرة، وقد مكث جامس إلى آخر حياتهِ نشيطًا مجتهدًا لا يكل من العمل، وكان متكبرًا جافي الطباع يحب العزلة والانفراد، ولكنهُ كان جوادًا كريمًا يعمل الخيرات الكثيرة، ولهُ مآثر عديدة، فمن ذلك أنهُ أعطى ٥٠٠٠٠ فرنك مساعدةً للجرحى، وأقام المستشفيات الكبيرة وبنى مدارس للإسرائيليين، وكان يرسل المبالغ الباهظة سنويًّا لتوزع على فقراءِ اليهود في بلاد سوريا.

وفي ثورة سنة ١٨٤٨ حُرق قصرهُ، وكاد يترك أرض فرنسا لولا معارضة الحكومة التي كانت تنتفع من أعمالهِ، فقد ألزمتهُ البقاءَ ووضعت لحراستهِ عددًا كبيرًا من الجنود، ومن عادات البارون جامس أنهُ كان لا يحمل معهُ أكثر من ٤٠ أو ٥٠ فرنكًا، وكان يضعها في كيس مقفل، ويعلق مفتاحهُ في سلسلةٍ يربطها في عنقهِ، وقد سئل مرة عن ذلك فأجاب: إنني اقتصدت مبلغ ٣٠٠ أو ٤٠٠ ألف فرنك من هذه العادة فلا أُغيرها أبدًا. وكان مولعًا بفن التصوير والنقش، وكان قصرهُ في فريار معرضًا حاويًا لكثير من الصور الثمينة والنقوشات البديعة.

وترك جامس أربعة بنين وهم: إدمون وجستاف وألفونس وناثانيل، وقد وُلد أكبرهم إدمون في باريس سنة ١٨٢٦، وتجنس بالجنسية الفرنسوية سنة ١٨٤٨، واقترن سنة ١٨٥٦ بابنة البارون ليونيل دي روتشلد، وبعد وفاة أبيهِ سنة ١٨٦٨ استلم أشغال محل باريس وأدارها بكل اجتهاد ونشاط، وكان كريمًا يعمل مبرات كثيرة، فقد وهب ٣٠٠٠٠٠ فرنك للمحتاجين في باريس لما حاصرها الألمان سنة ١٨٧١، وكان أول سند للحكومة الفرنساوية في دفع الغرامة التي افترضتها ألمانيا، فإنهُ اكتتب في الحال هو وبقية أعضاءِ بيت روتشلد بمبلغ ٢٧٥٠٠٠٠٠٠٠ فرنك.

وقد عُين أخوهُ البارون جوستاف خلفًا لأبيهِ جامس قنصلًا ووكيلًا للنمسا في باريس، وعين أخوهُ البارون ألفونس في نوفمبر سنة ١٨٦٨ مديرًا للسكك الحديدية في فرنسا، وعين عضوًا في جمعية الفنون الجميلة سنة ١٨٨٥.

أفراد بيت دي روتشلد

نذكر هنا أسماءَ البعض من أعضاء عائلة دي روتشلد الذين هم في وقتنا الحاضر في بعض أنحاء أوروبا وهم:
  • في لوندرا: اللورد ناثانيل رئيس محل لوندرا وولدهُ الوحيد ليونل ولتر، البارون أَلفرد «غير متزوج»، البارون ليوبلد الذي اقترن بالآنسة ماري بيروجيا من تريستا، والبارونة آنة ابنة البارون أنتوني «غير متزوجة»، ولادي سيمور من فينا تزوج بالمرحومة إيفيلينا ابنة البارون ليونيل، وُلد سنة ١٨٣٩ وأتى إلى إنكلترا حيث تجنس بالجنسية الإنكليزية، وتعين الشريف الأكبر لكونتية بكنجام، وسنة ١٨٨٥ عُين عضوًا في مجلس العموم، وكان من حزب الاتحاديين الأحرار، وأُعيد انتخابهُ أيضًا سنة ١٨٨٦ و١٨٩٢، وليس لهُ أولاد.
  • في فينا: البارون سلمون ألبير «ابن أنسيلم سلمون» الرئيس الحالي لمحل فينا، والبارونة فرانشيتي أختهُ. البارون ناثان أخوهُ «غير متزوج» والبارونة أليس أختهُ «غير متزوجة».
  • في فرانكفورت: البارونة كارل ابنة ناثان «الرئيس السابق لمحل لوندرا» وأرملة البارون كارل رئيس محل نابل.
  • في باريس: البارون إدورد «ابن ألفونس جامس» رئيس محل باريس الحالي، ولهُ أختان: الأولى بتينا التي اقترنت بابن عمها ألبير سلمون رئيس محل فينا ولها خمسة بنين وابنة، والثانية بياتركس اقترنت بموريس أفريسي، البارونة لوسي «ابنة جستاف جامس» اقترنت بالمسيو لمبير مدير محل روتشلد ببروكسل، والبارونة إلين اقترنت بالمسيو ساسون، وهي أخت لويسي، والبارونة جوليت اقترنت بالكونت أمانيل لونينو «وهي أخت الاثنتين المتقدم ذكرهما»، والبارونة ناثانيل «اسمها شارلوت» ابنة جامس دي روتشلد وأرملة ناثانيل بن ناثان مؤسس محل لوندرا، ولها ابنان: أرثير وُلد في باريس في ٢٨ مارس سنة ١٨٥١ وهو من الكُتَّاب المعدودين ألَّف كتبًا كثيرة، وجامس إدورد الذي اقترن بلويز تريز ابنة البارون كارل الرئيس الثاني لمحل نايل، البارونة ماتيلد ولهلم ابنة البارون سلمون، ولها ثلاث بنات: أويلايدي قرينة البارون إدمون، وبتينا، وجيورجينا سارة، البارون أدولف رئيس محل نابل سابقًا الذي ترك نابل وليس لهُ بنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤