الفصل الثالث عشر

مع أبي خلدون

حَول الدَّم السَّامي والدَّم الآري١

حاول الأستاذ أبو خلدون أن ينقض رأينا الذي ذهبنا إليه في تحليل شخصية بشار بن برد، ذلك الرأي الذي أيدَنا فيه كثير من الأدباء في مصر وفي غير مصر من المشتغلين بحركة الآداب. وفي ظني أن هذا الرأي سوف يكون له شأن بعد أن تكتمل في عقليتنا كفاءة القياس التاريخي.

على أني أعتقد أن هذه النظرية لا يمكن رفضها برمتها، كما يصح أن تكون صحيحة في جملتها، فهي لا تزال في طور التكون والتمحيص. وإنا نشكر لمجلة التربية والتعليم عنايتها بمثل هذه البحوث.

غير أني على الرغم من كل ما أتيت به من بحث وأسانيد، لا أزال أعتقد أن بين الدم الآري والدم السامي فارقًا بعيدًا وصدعًا متنائيًا، يحملنا على أن نفرق بين المنتوجات العقلية التي ينتجها جذعان مختلفان تمام الاختلاف من جذوع الشجرة البشرية. وقبل أن نمضي في إثبات رأينا هذا نظهر للقارئ شيئًا من الخطأ الذي وقع فيه الكاتب ليعرف مقدار وقوفه على حقيقة الموضوع.

قال في صحيفة ٣٧٤ ما يلي:

هذا، ويجب أن لا يغرب عن بالنا أن تاريخ آداب الأمم الأوروبية لا يخلو من ذكر أدباء وشعراء عظام منحدرين من أنسال أجنبية عن الأمة التي نشئوا بين ظهرانيها، مع ذلك لا يقدم مفكرو تلك الأمم على إرجاع مزاياهم إلى نوع الدم الذي يجري في عروقهم. بل كثيرًا ما نراهم بالعكس يعتبرون بعض هؤلاء الشعراء من أكمل الممثلين لآداب القوم وأحسن المعبرين عن ميول الأمة، بالرغم من انحدارهم من سلالات أجنبية.

ثم قال:

وذلك لأن التدقيقات النفسية والاجتماعية أظهرت بصورة واضحة أن عقلية الإنسان ونفسيته من محصولات حياته الاجتماعية لا من موروثات دمه المادية.

ولا جرم أن هذه هي النتيجة التي أراد أن يخلص بها السيد أبو خلدون من بحثه الطويل، وهي نتيجة تؤيد رأينا بما لا يترك للريب مجالًا؛ لأن عقلية الإنسان ونفسيته إذا كانتا من محصولات حياته الاجتماعية، وذلك لا ريب فيه، فإن حياته الاجتماعية من منتوجات دمه. كذلك لا نستطيع أن نقول بأن الحالة الاجتماعية تنصب على الفرد فتجعله ما هو، بل إن الفرد على الضد من ذلك ينشأ في ظل الحياة الاجتماعية المصورة بادئ ذي بدء بغرائز الجماعة التي هو تابع لها. إذن فيكون الإنسان ابن دمه لا ابن الصدف كما يريد أن يقول ناقدنا.

ومن أغرب ما ذهب إليه في هامش أثبته في ذيل مقاله، وهو يدل على أنه لم يستطع أن يفرق بين الجذعين السامي والآري، وأراد به أن يؤيد نظريته الأولى، قوله:

إن ساميشو من أشهر رجال الأدب الألماني كان فرنسيًّا، في حين أن جورج ساند الشهيرة في الآداب الإفرنسية كانت من عائلة ساكسونية، وإن إميل زولا الذي يعتبر من أكبر الروائيين في فرنسا ولد من أب إيطالي، في حين أن بوكاجيو المشهور بقصصه الإيطالية ولد من أم فرنسية، وأن بول دوقوق الذي يعتبر من أحسن الممثلين للظرف الفرنسي كان هولاندي الأصل، وأن لرمونتوف المشهور بين أدباء روسيا ينحدر من أصل اسكتلاندي، كما أن بوشكين الشهير يتصل بنسل بويري، وأن كابالرو المشهورة في الأدب الإسباني ولدت من أب ألماني، وفوسكولو المشهور في إيطالية ولد من أم إغريقية. أما ألكسندر دوماس الشهير فيحمل في عروقه دمًا زنجيًّا.

ولسنا نعرف ماذا يقصد بهذا، فإن كل من ذكرهم يعودون في أصلهم إلى جذع واحد: هو الجذع الآري. فكل أمم أوروبا تعود إلى أصل آري، فإذا نبغ إيطالي في الفرنسوية أو إنجليزي في الألمانية أو فكر على أسلوب خاص بأمة من الأمم الأوروبية، فليس ذلك بغريب. وما هو بمؤيد ما يذهب إليه، بل يؤيد ما نذهب إليه؛ لأن الجميع يرجعون في أصلهم إلى الجذع الآري.

ولو فرض أن مصريًّا نبغ في الأدب الإنجليزي أو إنجليزيًّا نبغ في الأدب العربي، فهل هذا دليل على أن المصري أصبح إنجليزيًّا بالدم، وأن الإنجليزي قد أصبح عربيًّا بالأرومة؟ كلا، فإن هذا القول إذا قيل كان أبعد ما يكون عن محجة الصواب.

ولنرجع بعد ذلك إلى الاستشهاد بمكس موللر الذي أخطأ الكاتب في الاستشهاد به، وننقل عنه ما يدل على اعتقاده بأن اللغات الآرية والسامية تختلف من حيث الأصل. ولا جرم أن هذا يدل على اختلاف الجذعين اللذين نشأت عنهما هذه اللغات. قال في كتابه «محاضرات في تاريخ علم اللغة» الجزء الأول: ص٣٥ (الطبعة الثامنة):

إذا أنعمنا النظر في اللغات التي يتكلم بها في جهات العالم المختلفة وكافة اللهجات المتفرعة عنها، لاحظنا التغييرات التي طرأت على كل من هذه الألسن خلال الدهور، كيف تحولت اللغة اللاتينية إلى الإيطالية والإسبانية والبرتغالية ولغة بروفنسال والفرنسية والولاخية والرومانس (لهجة من الرومانية)، وكيف أن اللاتينية بعد ذلك هي واليونانية والكلتية واللغات التيوتونية والسلافية يضاف إليها كذلك لهجات الهند وفارس القديمة؛ كل هذه تشير إلى لغة أصلية — أم هذه اللغات جميعًا — أم الفصيلة اللغوية الآرية، وكيف أن العبرية والعربية والسريانية ولهجات صغرى مختلفة ما هي إلا مظاهر مختلفة وأوجه متعددة لأصل واحد ونوع واحد، وهي اللغة الأصلية للجنس السامي إلخ.

وجاء في كتاب الأستاذ جسبرس، أحدث المؤلفات في هذا الموضوع المعنون «اللغة: طبيعتها وانتشارها وأصلها» (طبع سنة ١٩٢٢)، بعد أن تكلم المؤلف عن أبحاث بوب وجريم «أن الأول بعد محاولات عديدة في تقسيم فصائل اللغات فضل الاسم الشامل «الأندو أوروبي»، وقد انتشر هذا الاصطلاح في فرنسا وإنجلترا وبلاد الإسكندناف أكثر منه في ألمانيا. وعقبه في هذه الأبحاث همبولد الذي اصطلح على لفظ «أندو جرماني»، وقد انتشر استعماله في ألمانيا. ثم استعمل لفظ أندو كلتك (هكذا يقول جسبرس)، بيد أن كل هذه المدلولات المركبة سقيمة وملتوية وتفتقر إلى القصد والسداد ولا تصيب الغرض تمامًا. ويظهر لي أنه أجدى وأنفع أن نستعمل اللفظ المختصر المفيد «اللغات الآرية»، ولفظ الآرية أقدم الألفاظ التي كان يعبر بها عن أي فرع من فروع هذه الفصيلة اللغوية في الهند وفارس.»

وجاء في نفس الكتاب ص٧٤:

يشير شكسبير إلى تشككه في احتمال إتقان أي إنسان لغة أخرى لدرجة الكمال، ولا يسلم بذلك إلا في حالة استبدال أي إنسان لغته الأصلية بلغة أخرى في مستهل شبابه، ولكن بذلك يصبح مخلوقًا يختلف عما كان عليه، فعقله وأعضاء الكلام عنده تنمو في اتجاه آخر. ولو قيل لنا إن زيدًا من الناس يتكلم ويكتب بالإنجليزية والألمانية والفرنسية على حد إتقان واحد، فهذا مما يشك فيه شايشر بادئ ذي بدء. وبعد ذلك إذا سلم بكون هذا الفرد ألمانيًّا وإنجليزيًّا وفرنسيًّا مجتمعين في شخص واحد، فهو يذكرنا بأن هذه اللغات الثلاثة تمت إلى فصيلة واحدة، ويمكننا أن نقول بأنها أنواع مختلفة للغة واحدة. بيد أنه ينكر على أي إنسان احتمال إتقانه للألمانية والصينية في آن واحد، أو العربية ولغة الهوتنتون؛ إذ إن «هذه اللغات متغايرة تمامًا في دخيلة معدتها.»

قال الأستاذ أبو خلدون:

وقد عبر ماكس موللر المشتهر بتدقيقاته اللسانية الواسعة، عن حكم العلم في هذه المسألة بتمثيل حاسم وجذاب؛ حيث قال: «إن العالم الأثنولوجي الذي يبحث في علم آري ودم آري وعيون آرية وشعر آري، يرتكب هرطقة لا تقل سخافتها عن سخافة العالم اللغوي الذي يجرأ على البحث عن قاموس مستطيل الرأس أو نحو قصير الرأس.»

وهذا القول، على صحته، لا يؤيد الأستاذ فيما ذهب إليه: ذلك لأنك لا تستطيع أن تفرق بين الدم الآري والدم السامي تحت الميكروسكوب مثلًا، ولا يمكنك أن تعرف ما هو الفرق بين العيون والشعر الآري وغيره. وإن كان العلماء قد بدءوا يفرقون بين الشعر في السلالات المختلفة، ولكن هذا لا يمنع مطلقًا أن نقول أن هنالك مدنية غربية نشأت من أمم أصلها من جذع آري ومدنية شرقية نشأت من أمم أصلها من جذع سامي، والفروق بين المدنيتين واضحة.

والمحصل أن الجذع الذي يفوز بتصوير أديان التوحيد لا يمكن أن يتفق والجذع الذي يصور كل أديان التكثير والتثليث في العالم من حيث الدم والوراثة، فإن الدين اليهودي في قالبه المسيحي دين توحيد، ولم يكد يستقر في أوروبا حتى ثُلِّث، وفي ذلك دليل واضح على نزعة الدم.

على أن الاستشهاد بقاموس «مستطيل الرأس» ونحو «قصير الرأس»، لاستشهادٌ يدل على أن هنالك سلالات تختلف بالوراثة فيها هذه الصفات، وعلى أن إنكار الوراثة بالدم إنكار لكل ما تقوم عليه مباحث الوراثة الحديثة في العلم النشوئي، ولا نذهب لأكثر من هذا ففيه الكفاية.

١  عن مجلة التربية والتعليم، بغداد، بإمضاء أبو خلدون. الجزء السادس سنة ثانية ص٣٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤