الفصل الحادي والعشرون

مَع السِّير أوليفر لودج

حَول العقل والإيمَان١

السير أوليفر لودج من كبار العلماء الذين اشتغلوا بالرياضيات والطبيعيات، وقد لا نبالغ إذا قلنا بأنه من كبار علماء العصر الحاضر في أنحاء الدنيا كلها. فإن آثاره في العلوم الرياضية وابتكاراته الكثيرة في علم الفيزيقا مما يتوج به البحث العلمي في هذا الزمان. هذا ما توحي إليك به نظرتك في سير لودج إذا اعتبرت جهوده العلمية الصرفة. أما إذا نظرت فيه كفيلسوف نزل إلى الدرك الأسفل من الفلاسفة الذين يعتقدون بكثير من الأساطير التقليدية التي لا يؤيدها العلم ولا يقبلها. وعندي أن أغرب ما يرى في سير لودج نزعته إلى التوفيق بين التقاليد المنقولة وبين مستكشفات العلوم الحديثة، بأسلوب لا تستطيع أن تحكم فيه حكمًا مقطوعًا بصحته أهو أسلوب علمي أم أسلوب نظري أم مزيج من كليهما؟

على أني لا أريد أن أذهب بالقارئ بعيدًا، وأن أغوص معه في تلك الأعماق التي غاص فيها السير لودج، وأتدرج به من مبادئ العصور الأولى إلى الوثنيات إلى الدين النصراني، وأتمشى معه في التوفيق بين مستكشفات العلم الحديث ومبادئ الدين النصراني؛ فإني على الرغم من اعتقادي بأن هذه الأبحاث عقيمة غير مثمرة مقتنع تمام الاقتناع بأنها مفسدة لنظام العقل الإنساني. فإن الخلط بين الذاتيات والموضوعيات خلط في الواقع بين كفايات العقل البشري، ما تنتج إلا نتائج متساوية تهويشًا واختلاطًا.

لهذا أبعد القارئ عن التردي في مثل هذه الحمأة الفكرية وأرجع به إلى نظريتين دافع عنهما سير لودج جهد مستطاعه، وأمعن في شرحهما إمعانًا لا مبرر له في نظرنا إلا عجزه عن إثباتهما بالأسلوب العلمي. الأولى نظرية تناسخ الأرواح، والثانية نظرية الروح وحلولها في الجسم البشري عندما بلغ من التدرج النشوئي مبلغًا ما.

وقبل أن نشرح لك ما يرى سير لودج من رأي تلقاء هاتين المشكلتين الكبيرتين، نمضي في شرح بعض نظرياته التي أراد أن يوفق من طريقها بين العقل وبين الدين. ولا نرى من مثال نضربه لك على المنحى الذي انتحاه هذا العلامة الكبير، إلا بما حاول أن يعلل به نظرية آدم ونظرية الخطيئة. وقال في آدم ص٣٤ ما يلي:

لقد مضى خلال الأدوار النشوئية التي تقلب فيها الإنسان، عهد تحقق فيه أنه أصبح حرًّا في تحديد أفعاله وأعماله. ولما حقق هذا عرف بالضرورة معنى الخير ومعنى الشر، وفرق بينهما واستطاع أن يختار أي الطريقين يتبع، وأدرك بوجدانه وغريزته الفرق بين الخطأ والصواب، ومن ثم أخذ يستخدم القوى التي حَبَتْه بها الطبيعة. ومن طريق هذه القوى أمكنه أن يدرك العظمة كما أمكنه أن يدرك المخاطر التي تترتب على هبة الحرية ووقف لأول مرة على العلاقة التي تربطه بيولوجيًّا بالحيوانات، ونفسيًّا بالآلهة.

وهذه القوة الإدراكية العظيمة التي استطاع الإنسان أن يكون من طريقها حرًّا مختارًا وهي ظاهرة من أخص ظواهر إنسانيته، لا بد من أن تكون قد أشعت أضواؤها القوية في عقل نابغة عبقري من أفراد النوع البشري، وكان شاعرًا أو عرافًا أو كاشفًا للغيب، نفثت فيه الروح الحيوية موحياتها بقوة وصلابة. فهل نستطيع أن نسمي هذا العراف «الرجل الأول» الذي نفخ فيه الروح القدس فأصبح روحًا حية؟ (وهو بالطبيعة لا يعني «بالرجل الأول» سوى آدم).

ثم قال في ص٣٥ ما يلي:

ولا مشاحة في أن العصر الذي تلى هذا الحادث هو عصر «الخطيئة»؛ لأن الإنسان لا شبهة قد برهن إذ ذاك على أنه غير جدير بقوة الكشف التي أعطي إياها، والتي كانت نتاجًا لرقيه واستعلائه.

ثم قال في ص٣٦:

أما وقد تزود الإنسان بهذه القوة على فعل الشر، فإنه أخذ يستخدمها فأخطأ وهوى. وهنا دخلت الخطيئة في تاريخه، وهي عمل ما تدرك أنه خطأ. أما قبل هذا العهد فإن الإنسان عاش بريئًا نقيًّا كالحيوانات، وفي حالة لا يتحمل فيها مسؤولية ولا يعرف فيها معنى البراءة. وتلك حال كان لا بد من أن يخرج منها الإنسان ليلج عالم المعرفة والأحزان، إذا ما كان من الضروري أن تتطعم الصورة الحيوانية بروح قدسية تنبت فيها.

هذا هو آدم لودج، وهذه هي خطيئة الإنسان في نظره، وهذه أقوال تبعد عن الأساليب العلمية بقدر ما تبعد عن مفهوم آدم والخطيئة كما عرفتها الأديان جميعًا. بل هذا كلام تتبين فيه من أثر الطفرة ما لا يقبله العلم النشوئي الحديث. وعلى هذا تجد أن سير لودج عالم رياضي فيزيقي نشوئي ديني أسطوري في آن معًا.

بعد هذا نشرح لك نظرية سير لودج في تناسخ الأرواح. ولا ريبة مطلقًا في أن معتقده في التناسخ آت من طريق معتقده في الأرواح، وفي مخاطبتها واتصالها بهذا العالم. فهو يعتقد بأن الروح ينتقل من جسم إلى جسم، وأنه يتطهر في سري تناسخاته الكثيرة، ليبلغ في النهاية إلى الدرجة التي يكون عندها قادرًا على الاندماج في الحقيقة الأخيرة. وهذا معتقد قديم عرفه أهل الهند ومصر القديمة واليونان. معتقد لم يقم عليه دليل علمي ولا شبه علمي، بل هي ملابسات عقلية لا دليل عليها ولا برهان يزكيها.

وهنا نسائل سير لودج: كيف تختلف الأمم من حيث الأخلاق وتختص كل أمة بطابع معين لا تشاركها فيه أمة أخرى إذا كانت الأرواح تعود إلى هذا العالم ثانية لتتقمص أبدانًا ليس لها اختيار في تقمصها؟ وهل الجسم يؤثر في الروح بما يحدث أخلاقًا بعينها؟ وإذا صح هذا فكيف يتأثر الخالد بالفاني؟ هذه مشكلات لا نظن أن سير لودج يجد في دفعها من السهولة ما وجد في اختراع فكرة آدم.

ثم نعود إلى النظرية الثانية، فنجد أن سير لودج يسلم بأن الإنسان يمت إلى عالم الحيوان بأدنى آصرة وأقرب نسب … بل يسلم بأن الإنسان حيوان ارتقى فوق أفقه الأصلي بروح حلت فيه عندما بلغ من النشوء مبلغًا خاصًّا. فكأنه يتصور تصورًا أن الإنسان لما بلغ من حسن الترتيب واكتمال النسق مبلغًا خاصًّا سكنته الروح القدسية لترفعه فوق أفق الحيوان. وإني لأعجب كيف أن سير لودج يستطيع التدليل علميًّا على أن الروح سكنت الجسم الحيواني بعد أن بلغ مدرجًا خاصًّا من النشوء؟! بل كيف يستطيع أن يوفق بين الأسلوب العلمي وبين هذه الأقوال الغريبة التي يرسلها إرسالًا في جمل خطابية وأبيات من الشعر فيها من جمال الأسلوب وحسن السبك بقدر ما فيها من البعد عن العلم الذي يمثله سير لودج في ناحية أخرى من نواحي نبوغه المتضارب الصور الكثير الألوان.

١  Reason and Belief: By Sir Oliver Lodge.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤