الفصل الثالث عشر

اللغة القديمة واللغة العصرية

كل من يعرف اللغة الإنجليزية؛ يدركُ الفرقَ العظيم بين اللغة التي كان يستعملُها «شكسبير» حوالي سنة ١٦٠٠، وبين اللغة الإنجليزية الآن، وهذا الفرقُ هو فرقُ النموِّ والتطور، فإن اللغة الإنجليزية لم تجمد وتتحجر، ولم يلتمس الكُتَّاب «جملًا مختارة» من «شكسبير» كي يزخرفوا بها إنشاءهم بل أخذت اللغة تتميز بالتنفية والتنقية حتى اختلفت اختلافًا كبيرًا عن لغة شكسبير، مع أن المدة بينهما لا تزيد على ٣٤٠ سنة.

ومما يذكر في تطور اللغة الإنجليزية أن الملك «جيمس» حين زار كنيسة «سان» بول الكاتدرائية عقب انتهاء المهندس من بنائها؛ عبر عن إعجابه بهذه الكلمات Amusing, Awful, Artificial فسُرَّ المهندس غاية السرور. ولكن هذه الكلمات قد انتقلت في عصرنا من معنى الاستحسان إلى معنى الاستقباح والاستهجان، والاستهزاء.

وهذا هو التطوُّر وهذا هو الرقي؛ فإن اللغة الحية التي يستخدمها مجتمع حي يجب أن تتطور، ومحاولة تجميد اللغة والتزام عباراتها القديمة وكراهة إيجاد الكلمات الجديدة؛ إنما تعني: تجميد الأذهان وعرقلتها في التفكير الناجع.

حين كنت أُحرر في إحدى الجرائد كان بها شيخ مصحح يشرف على اللغة ويمنع تسرب الأخطاء، وكان رجلًا طيب القلب جامد الذهن، فكان يعارض في كلمة «ماهية» الموظف ويضرب عليها، ويضع بدلًا منها «مرتبًا»، أو «أجرًا» فكان المخبر الذي كتب الخبر يرى عقب طبع الجريدة أن وكيل الوزارة أو رئيس القلم قد زيد «أجرُهُ» فيهرول إلى الشيخ ويصرخ ويهيج، ولكن الشيخ يصر على أن كلمة «ماهية» لم ترد قط في المعاجم بمعنى «أجر» ولا عبرة باصطلاح الحكومة على المعنى الجديد لها.

وهذا هو النظر الجامد للغة ولو أن كتاب العرب القدماء كانوا قد التزموا هذا الجمود لقصرت اللغة في التعبير، ولكن في اللغة العربية أكثر من ثلاثة آلاف كلمة رومانية وإغريقية، وفارسية وهذا زيادة على المعاني الجديدة التي ألحقت بالكلمات القديمة؛ فتخصصت الكلمة لمعنى معين بعد أن كانت عامة، وهذا هو ما نفعل نحن الآن فقد خصصنا:
  • الدستور للنظام الأساسي للدولة.

  • والصحيفة للجريدة، أو المجلة.

  • والغارة لهجوم الطائرات.

  • والعلم للمعارف التي يمكن امتحانها بالتجربة أو ما يساويها في التحقيق.

  • والإذاعة لما يصدر عن المحطات الإشعاعية.

  • والجامعة لمجموعة كليات مستقلة في ثقافتنا إلى حد ما … إلخ.

وبهذا التخصص وبإيجاد كلمات جديدة مرنت لغتنا بعض المرونة، وخدمت مجتمعنا، ولكن مشكلاتنا اللغوية لا تزال كثيرة، وما زلنا نلتزم عبارات مقتبسةً يعافها الذهن الذكي، ومرجع هذه العبارات تلك البلاغة العاطفية الانفعالية التي تعلمناها وغرست في أنفسنا قيمة مزيفة للاستعارة والمجاز، فما زالت صحفنا مثلًا تقول:
  • عرض على بساط البحث بدلًا من عرض للبحث.

  • وخاض غمار القتال بدلًا من «قاتل».

  • حمي وطيس القتال بدلًا من «حمي القتل».

  • دارت رحى المعركة بدلًا من «دارت المعركة».

  • وضعت الحرب أوزارها بدلًا من «انتهت المعركة».

  • لتعزيز أواصر الثقة بدلًا من «لتعزيز الثقة».

  • صب جام الغضب بدلًا من «غضبه».

  • أطلق سراحه بدلًا من «أطلقه».

  • نتجاذب أطراف الحديث بدلًا من «نتحدث».

وقل منا من يقول: الحرب الضروس أو الموت الزؤام، ولكن العبارات السابقة التي ذكرت لا تزال تُرى كل يوم في جرائدنا على الرغم مما فيها من استعارات ومجازات يمكن أن نستغني عنها بل على الرغم من أنها كلمات تحتاج إلى مجهود كبير لتفسيرها لصبياننا مثل: وطيس، أوزار، أواصر، جام، رحى.

وفي استغنائنا عن هذه العبارات اقتصاد ذهني ومادي، ويجب ألا يفهم القارئ أننا نعارض الاستعارة كائنة ما كانت، ولكنا نعارضها حين يمكن الاستغناء عنها فيكون الاقتصاد الذهني والمادي كما يتضح من الأمثلة التي ذكرنا، إذ ألغيناها جميعًا ولم ينقص المعنى، وأيضًا حين تعكس لنا مجتمعنا؛ فإن كلمات الوطيس والجام والرحى لا تتصل بمجتمعنا العصري كما كانت تتصل بمجتمع العباسيين. وأولى من هذه الكلمات كلماتنا العصرية مثل: قطار، أو موطر، أو تليفون الخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤