الفصل الخامس

البيئة واللغة

الأصلُ في هذا الكتاب مقالٌ نشره الأُستاذ أحمد أمين في مجلة «الثقافة»، أشار فيه إلى أن الكلمات تتغير معانيها بتغير الزمن والبيئة، وجاء فيه:

إن اللغة تؤدي معانيها في دقة وإحكام في مواد العلوم كالرياضة والطبيعة والكيمياء، ومصطلحاتها مضبوطة قَلَّ أن يعتريها غموض، أو إبهام. وقريب من ذلك التاريخ، فاللغة قادرةٌ على أداء معانيه وحمل رسالته أداءً حسنًا، وإن لم تبلغ في ذلك مبلغَ العلم، فإذا نحن جاوزْنا ذلك إلى الفلسفة، والأدب؛ رأينا اللغة مسكينة عاجزة عن أداء المعاني في وضوح وضبط.

وإحكام حتى المصطلحات من الصعب تعريفها وضبطها، فما أصعب أن تعرف «الوجود» و«الحقيقة» و«ما وراء الطبيعة» وما إلى ذلك، وما أصعب ما تعرف «الشعر» و«الأدب» و«الخيال» ونحوها، وكذلك في فروع الفلسفة والأدب، فمِن الصعب تعريف «الجمال والجميل» و«الفضيلة والرذيلة» و«الزمان والمكان» و«العدل والحرية». ومن العسير تعريف «القصة والرواية والمثل» وما أكثر ما يقع الناس في الجدل والحجاج؛ لأن كلًّا يتكلم، وفي ذهنه معنًى للشيء غير ما عند الآخر، ولو اتفقوا على التحديد؛ لاتفقوا على النتائج.

ولا أنسى حادثةً رُويت لي، وهو أنه من زمانٍ أرادت حكومة العراق التعاقد مع الحكومة المصرية بالمراسلة والخطابات فكان الاتفاق مستحيلًا؛ لأن كلتا الحكومتين كان لها معنًى خاص في مصطلحاتها لا تفهمه الأُخرى، ولم يتم الاتفاق حتى تمت المشافَهة، والاتفاق على معاني المصطلحات، وسمعت محاضرة لفاضل عراقي في التربية، فثار جدلٌ حول الموضوع تبين أن سببه الاختلاف في المصطلحات؛ فهم يطلقون اسم «المدارس الداخلية» على غير ما نطلق، ويسمون «الفصل» ما نسميه نحن بالسنة، ويسمون «التوقيعات» ما نسميه نحن بالترقيات، ويسمون «مدارس الحضانة» ما نسميه نحن برياض الأطفال، وهكذا.

من أسباب وقوع الناس في الخطأ اللغوي: عدم دقتهم في الاستنتاج، فهناك عقولٌ تستنتج من الجملة أكثر مما يلزم، وهناك عقول تستنتج منها أقل مما يلزم. وكلاهما خطأٌ إذا قلت: «إن الغول مرعب»، فاستنتجت منه أني أقول: «إن الغول موجود.» فقد أخطأت، واستنتجت أكثر مما يلزم؛ لأن الخيال قد يرعب، والوهم قد يرعب، ولو لم يكن الشيء موجودًا، وإذا حدثتك عن فرسٍ بأنه أشهبُ فاستنتجت أني أقول إنه موجود كان استنتاجك صحيحًا.

ومن الناس من لا يفرق بين القضيتين وليس الأمر مقصورًا على الجمل، بل دلالة الألفاظ على المعاني تختلف جد الاختلاف بين الأشخاص بحسب مدنيتهم وثقافتهم وعقليتهم، فإذا قلت: «كرسي» لم يكن معناه عند الفلاح القروي كمعناه عند المدني المتحضر، وكذلك الشأن في كلمات «بيت» و«دولاب» و«سرير»، وإذا قلت: «علم الحساب» فمفهومُها عند الصانع المتعلم تعلمًا بسيطًا ليس كالمعنى الذي يفهمه العالم بالرياضيات، وهكذا.

وهذا ما يجعل الناس، إذا اختلفت مدنياتهم وعقلياتهم وثقافتهم؛ لا يتفاهمون تفاهُمًا صحيحًا، ومن أسباب ذلك عدم دلالةِ الألفاظ على معانٍ واحدة في الرموز المختلفة، ولا تصدق أن معاجم اللغة تستطيع أن تشرح دلالةَ الألفاظ شرحًا تامًّا صحيحًا، فكل كلمة هالة غير معناها الأصلي يعجز المعجم عن شرحها، فدنيا الأطفال التي تعين على شرح الألفاظ، غير دنيا الرجال، ودنيا الفلاح غير دنيا المتمدن، ودنيا الجاهل غير دنيا العالم، وكلٌّ يفسر الألفاظ حسب دنياه.

يتصل بهذا أَنَّ كُلَّ لفظ من ألفاظ اللغة يوحِي بأشياءَ تختلف باختلاف الأشخاص حسب بيئتهم وتجاربهم في الحياة وغير ذلك، فكلمة أبيض توحي إلى الفلاح باللبن وقد توحي إلى الطفل بالسكر، وقد توحي إلى سُكَّان البلاد الباردة بالثلج، وكلمة «وزير» توحِي إلى الشرقيين بمعانٍ غير ما توحي به عند الغربيين. وكلمة «العيد» توحي إلى الأطفال بمعنى الثياب الجديدة والأراجيح، وعند أطفال آخرين بالهدايا تهدَى إليهم، وعند الرجال بالزيارات، والتهنئات إلخ.

وكلمة «البرلمان» و«نظام الحكم» توحي بمعانٍ مختلفة في الأفراد المختلفة والأُمم المختلفة، وهذا سببٌ آخرُ من أسباب الاختلاف بين الناس في الأفهام والفهم، فوحي الألفاظ عن الناس يختلف اختلافًا كبيرًا.

بل قد يكون اللفظ يوحي بمعنًى عند الناس في عصر لارتباطه بحادثة أو نادرة؛ فإذا نُسيت الحادث انقطع وحي اللفظ فمنذ سنين كانت كلمة «تعديل الأساس» و«ردم البرك» و«الحكم الصالح» تستثير منا الضحك؛ لإيحائها بمعانٍ خاصة؛ فلما زال الإيحاء زال التأثير.

ولذلك أعتقد أنا فقدنا كثيرًا من كتب الجاحظ وقطع الأدب الاجتماعي؛ لأن بعض ألفاظها وجملها كانت توحِي بمعانٍ معروفة، فلما تقادم الزمن جهلت، فبطل سحرها، وإن شئت فاقرأْ رسالة «التربيع والتدوير» للجاحظ، وهي تدورُ حول السخرية من «أحمدَ بن عبد الوهاب» وتُشعر بغموضٍ في بعض الجُمَل والإشارات، وسبب غموضها أنها كانت إشارات إلى أشياء مفهومة في زمنها، ثم انقطع وحيها فغمُض معناها.

ما وظيفة اللغة؟ يخطئُ مَن يظن أن اللغة تؤدي غرضًا واحدًا وهو: نقل المعنى من ذهن إلى ذهن، فلها أغراضٌ أُخرى كثيرةٌ قد يصعب حصرها، وقد يبعد إدراكُها، فمن أعجب أغراضها أحيانًا أنها تُستعمل لتخدير الأعصاب كتمرينات السحرة مثل ألفاظ «شمهورش» و«جلجوت» ونحو ذلك، فهي لا تؤدي معنًى ولكن تخدر الأعصاب بغرابتها وتأليف حُرُوفها؛ ولذلك لا يصح أن نُحاول فهم سجع الكهان فهمًا تامًّا، فهي لم يقصد منها الإفهام التام بقدر ما قصد منها التخدير والمعاني المحلولة، وأحيانًا يقصد بالألفاظ مجرد ما توحيه من نغمات موسيقية لها أثرُها النفسيُّ كأثر الموسيقى؛ ولذلك لم تكن تخلو الأدعيةُ الدينية إذا تُليت في المعابد بلغة أجنبية من أثرٍ قد يكون بالغًا؛ لأن الألفاظ توحي بمعانٍ سحرية موسيقية وإن لم تفهم معانيها الأصلية، وهذه لغة الإنسان الأول كانت صيحات متشابهة اللفظ، ولكنها أحيانًا تدل على الخوف، وأحيانًا على طلب النجدة، وأحيانًا على التحذير من خطر، وإنما تختلف دلالتها باختلاف موسيقاها. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤