المدينة الغربية
بعد هجوم الطائرتين العنيف في مانهاتن، والذي دكَّ مركز التجارة العالمية، راج في الصين شريط فيديو تظهر فيه الأجزاء الأشد رعبًا من هذا الهجوم، مقترنةً مع مشاهد من أفلام هوليود الكارثية. وبَدَا الأمر كما لو أنَّ الشيء الفعلي — ناطحتا سحاب مشتعلتان تنهاران على رءوس آلاف البشر — ليس دراماتيكيًّا بما يكفي، ولا يمكن سوى للخيال الجامح أن يلتقط النكهة الحقيقية لمثل هذه الكوارث، التي لا يعرفها معظمنا إلا من خلال الأفلام.
ولقد خلَّف الدمج بين الواقع والخيال انطباعًا بأنَّ الضحايا ليسوا كائنات بشرية واقعية، بل ممثلون. وكان حياء شبكات التلفزة قد أبقى معظم هؤلاء بعيدًا عن الأنظار؛ إذْ رفضت هذه الشبكات إظهار الألم والمعاناة في لقطة مقربة. وخلال ثوانٍ على الأقل، كان الوهم والخيال هما الانطباع الذي ارتسم لدى كثير من البشر حين فتحوا أجهزة التليفزيون لديهم. ولقد مثَّل الزعم بأنَّ هذا الحدث بعيد عن الواقع سبيلًا ملائمًا لنأي المرء بنفسه عن الرعب. وبالنسبة لعدد هائل من البشر، ليس في الصين وحدها، كان للفكرة التي مفادها أنَّ هذا الحدث هو ضَرْب من الفيلم السينمائي، وأنَّه حدثٌ خيالي محض، وعملٌ مسرحي، أن تهوِّن الشعور بما هو أكثر شؤمًا. أمَّا بالنسبة لبعض البشر، ليس في الصين وحدها، فقد خلَّف تدمير البرجين، رمزَي القوة والثروة الأمريكيتين، رمزَي السيطرة الإمبراطورية، العالَمية، الرأسمالية، رمزَي مدينة نيويورك، بابل المعاصرة، رمزَي كل ما هو أمريكي مما يكرهه البشر ويتوقون إليه في آنٍ معًا، خلَّف تدمير ذلك كلِّه، في أقل من ساعتين، شعورًا بالرضا العميق.
وبهذا المعنى المحدَّد، فإنَّ مَحْق البُرجَين التوءمَين ومَن كان بداخلهما قد حقَّق نجاحًا باهرًا؛ فذلك كان جزءًا من حرب أسامة بن لادن على الغرب، ماديًّا وميتافيزيقيًّا على السواء، كان هجومًا واقعيًّا ورمزيًّا في آنٍ معًا، على نيويورك، على أمريكا، على فكرة أمريكا، وعلى الغرب الذي تُمثِّله. كان فصلًا مدروسًا من فصول القتل الجماعي يُؤدَّى في أسطورة قديمة، أسطورة عن خراب المدينة الآثِمة. ومثل هذا التطهير كان الأشد حضورًا في أذهان المهاجمين كما توضِّح وصيَّةُ واحدٍ من قادتهم، هو الشاب المصري محمد عطا. فقد عبَّر في وصيَّته هذه عن رعب من النساء والجنس، فمن يغسل جثمانه ينبغي أن يضع قفازات لئلَّا تُمَسَّ أعضاؤه، ولا يريد أن تحضر حبلى أو شخص جُنُب توديعه، فذلك غير مُستحَب عنده.
غير أنَّ مستهلكي الأشرطة الصينية لم يكونوا — كما يمكن للمرء أن يخمِّن — قرويين فقراء يكنُّون الكراهية للأمريكيين، أو حتى لمدلِّسي المدن، بل شبان في شانغهاي، وبكين، وسواها من المدن الكبرى التي ارتفعت ناطحات سحابها ذلك الارتفاع الشاهق الذي ينافس تلك التي في نيويورك، فالغرب بوجه عام، وأمريكا على وجه الخصوص، يُثيران الحسد والاستياء بين أولئك الذين يستهلكون صورهما وسلعهما أكثر مما يُثيرانه بين الذين لا يكاد يمكنهم أن يتخيَّلوا ما هو الغرب عليه. وأولئك الذين دكُّوا البرجين هم شبَّان متعلِّمون أمضَوْا قسطًا وافرًا من حياتهم في الغرب، يتدرَّبون على مهمتهم. ومحمد عطا كان يحمل شهادة جامعية في العمارة من القاهرة قبل أن يقدِّم أطروحةً حول الحداثة والتراث في تخطيط المدن لجامعةٍ تقنية في هامبورغ. وبن لادن نفسه كان ذات مرة مهندسًا مدنيًّا. وكان البرجان التوءمان يمثِّلان، من بين ما يمثِّلانه، ضربًا من الاعتداد التقني بالنفس لدى المهندسين المحدثين. ومع ذلك، فإنَّ مَن خطَّط لتدميرهما كان واحدًا من هؤلاء.
وعلى أية حال، فقد تخطَّت ردَّة الفعل على المصيبة الأمريكية في كثير من الأماكن شعور الشماتة إزاء البلاء الذي أحاقَ بقوة عظمى، وغاشمة في بعض الأحيان، ومضى أعمق من مجرَّد عدم الرضا عن السياسة الخارجية الأمريكية. فقد تردَّدت أصداء مشاعر كراهية وقلق أكثر قِدَمًا، مشاعر تكرَّرت بأشكال مختلفة على مرِّ التاريخ. فما من مرَّة أشاد فيها البشر مدنًا عظيمة، إلا وراودتهم خشية الانتقام والقصاص، ينزله بهم الرب، أو كينغ كونغ أو غودزيلا، أو البرابرة المتربِّصون عند بوَّابات المدينة. ومنذ العصور القديمة، عاش البشر في رعبٍ من أن ينزل بهم العقاب على وقاحة تحديهم للآلهة، بسرقة النار، أو اكتساب مزيدٍ من المعرفة، أو خلق مزيدٍ من الثروة، أو بناء أبراج تبلغ عنان السماء. فالمشكلة ليست مع المدينة بحدِّ ذاتها، بل مع مدنٍ مُستسلِمة للتجارة والملذَّات بدلًا من العبادة. وفي حالة أسامة بن لادن ومحمد عطا تخثر هذا الدافع الديني حتى تحوَّل إلى جنون خطير.
والخوف من العقاب على تحدِّي قدرة الله، وعلى الاعتداد الذي ينطوي عليه التفكير بأننا نستطيع أن ننجز الأمر وحدنا، هو خوف مشترك بين جميع الأديان. وقصة بابل وبرجها الشاهق هي واحدة من أقدم القصص التي عرفها الإنسان. فبعد الطوفان العظيم، شاد نمرود مدينة بابل. وفي رواية أخرى للمؤرِّخ ديودور الصقلي أنَّ الملكة المقتدرة سمير أميس هي التي شادتها. وأنها قُرِنَت لاحقًا بعبادة الربَّة الأم. ولعل الحرية الجنسية النسبية التي تمتَّعت بها نساء بابل هي التي دفعت اليهود والمسيحيين الأتقياء لأن يصفوا مدينتهن بأنها «أم الزواني ونجاسات الأرض» (رؤيا يوحنا اللاهوتي، ١٧: ٥). فأهل بابل، شأنهم شأن مواطني فلورنسة في القرن الرابع عشر، أو نيويورك في القرن العشرين، حرصوا أشد الحرص على السمعة الدنيوية. وقالوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأنفسنا مدينةً وبرجًا رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسمًا» (تكوين، ١١: ٤).
ولعلَّ برج بابل كان نوعًا من الزقورة أو البرج الهرمي، عمارة بدرج دائري يتبع إشارات الفلك. فالبابليون كانوا منجِّمين ثاقبين. وكان التنجيم سبيلهم لاستكشاف أعمال الطبيعة، واكتساب المعرفة. وقر قرار الرب على معاقبة هؤلاء الكفرة المتشامخين. قال الرب: «هو ذا شعبٌ واحدٌ ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما يَنوُون أن يعملوه» (تكوين، ١١: ٦). وعندها أنفذ الرب قصاصه: وغدت اللغة الواحدة لغات كثيرة، وتبعثر الشعب في أرجاء الأرض، وتمَّ التخلِّي عن البرج.
ويُنْظَر إلى الخلوِّ من الروح على أنَّه عاقبة لاعتداد المتروبول بنفسه. ولقد أقلق المتدينين منذ القدم تبديد ما هو روحي سعيًا وراء الثروة. وقصيدة وليم بليك العظيمة لبناء أورشليم في أرض إنجلترا الخضراء واللطيفة، والتي كتبها في أوائل العقد الأول من القرن التاسع عشر، لم تكُن هجومًا فجًّا على الصناعة (الطواحين الشيطانية المعتمة)، بل صرخة من أجل الحرية الروحية، التي لا تقيِّدها الشئون الدنيوية. وبليك، إذا ما حكمنا من خلال قصيدته، لم يكُن يكره المدن بحدِّ ذاتها؛ لكن من المؤكَّد أن مدينته المثالية لم تكُن سوقًا عملاقة، حيث يتنافس البشر على الذهب والشهرة.
وبعد قرن واحد، كتب ت. س. إليوت شعرًا جميلًا يرثي فيه ضياع بصمة الرب عن المتروبول الحديث. وهذه الأبيات من «أناشيد الجوقات في مسرحيته «الصخرة» – ١٩٣٤م»:
ونقرأ أيضًا:
والسؤال هو: متى اقترنت فكرة المدينة بوصفها رمزًا شريرًا للجشع، والكفر، والكوسموبوليتية منخلعة الجذور ذلك الاقتران الكامل بالغرب؟ متى غدا المتروبول الغربي البؤرة الرئيسة للمقت الاستغرابي؟ ففي النهاية، ليست المدينة الضخمة، التي تشتمل على أعراق كثيرة، بالظاهرة الأوروبية أو الأمريكية الحصرية. والمسلمون لم يكونوا تقليديًّا ممَّن يكرهون المدن الكبيرة. وعلى العكس، فقد دعم الإسلام الباكر التمدين كسبيلٍ للخلاص من الجهالة البدوية. وعلى مدى قرون كانت بغداد والقسطنطينية مركزين للتجارة، والعلم، واللذة. وفي الشرق الأقصى، كانت ثروة بكين ووفرتها قد أذهلت رحَّالة من البندقية في القرن الثالث عشر. وبالمقارنة مع ضروب الرقي في الصين، فإن أمستردام في القرن السابع عشر، على الرغم من كلِّ ثروتها، لم تكُن تملك من الإغراء ما يزيد على ما تملكه بلدة في الأقاليم. وحتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت إيدو، العاصمة اليابانية، أكبر وأشد كثافة سكانية من أي مدينة أوروبية، بما في ذلك لندن.
ومن ثَمَّ، فإنَّ الفكرة الحديثة عن بابل هي فكرة تضرب بجذورها المكينة في الغرب، ذلك أنَّ المستغربين الأوائل كانوا أوروبيِّين. وقد كتب ريتشارد فاغنر ذات مرة عن إقامة بطله الألماني تانهاوزر المؤقتة وسط الإغراءات الخطيرة في فينسبرغ: «أوافق فريدريش ديكمان على أنَّ فينسبرغ تقوم مقام «باريس، وأوروبا، والغرب»: ذلك العالم العابث، التجاري، والفاسد الذي تقدَّمت فيه «الحرية وكذلك الاغتراب» أكثر من تقدُّمهما في بلدنا «ألمانيا القروية بتخلفها المريح».»
تعكس عواطف فاغنر تجاه باريس ما يزيد على الاشمئزاز من العبث الفرنسي. ويمكن للبشر أن يكرهوا المدن لأسباب لا حصر لها. لكنَّ تحامل المستغربين في عدائهم للمدن يمضي إلى أبعد من ذلك. فهم يرون إلى المدينة الكبيرة على أنها ليست إنسانية، وعلى أنها حديقة حيواناتٍ منحرفةٍ وفاسدة، تتأكَّلها الشهوات. وساكن المدينة، من هذا المنظور، هو شخصٌ أضاع روحه بالمعنى الحرفي.
وعصر الإمبراطورية، بتحفيزٍ من اندفاعة مشروع علمي وصناعي وتجاري استثنائية، هو الذي حوَّل أوروبا إلى ذلك المركز المتروبولي الذي يتحكَّم بالمحيط الذي اختزل إليه قَدْرًا كبيرًا من بقية العالم. وعداء فاغنر لفرنسا — وتصوُّره عن ألمانيا كمحيط ريفي — هما إرثٌ ناجم عن سيطرة نابليون، لكن الإمبراطوريات التي بلغت ذروة قوتها في النصف الأخير من القرن التاسع عشر كانت إمبراطوريات تجارية، يدفعها السعي وراء الثروة أكثر مما تدفعها الرغبة في الغزو العسكري أو نشر كلمة الرب. وكانت لندن أعظم متروبول بين جميع المتروبولات، والعاصمة الإمبراطورية التجارية لعالم القرن التاسع عشر. وكانت مانشستر المدينة الصناعية الأعظم، وعاصمة الطواحين الصناعية المعتمة. وكانت باريس تنافس لندن كمركز متروبولي، ولطالما حاولت برلين يائسة أن تلحق بهما. وهذه المدن جميعًا كانت تثير الخوف فضلًا عن الحسد وباتت تمثِّل، شأن نيويورك بعد قرنين، شيئًا كريهًا على نحوٍ خاص في أعين أولئك الذين كانوا يسعون إلى اجتثاث ما في الحضارة المدينية من ضروب النجاسة ويحلمون بالطهارة الروحية أو العرقية.
فالمال، كما رآه فولتير، يذهب بجميع الفروق في العقيدة أو العرق. وفي السوق، يكون البشر مقيدين إلى قواعد مشتركة، وعقود وقوانين، لم تُوحِ بها آلهة الأسلاف، بل خطَّها البشر لكي تحمي أملاكهم وتحدُّ من فرص الاحتيال عليهم. والمحتد لا يعني الشيء الكثير في السوق. وقواعد الثقة القديمة، التي لعلَّها لا تزال تعمل عملها في العلاقات القبليَّة أو بين الجماعات القروية، لم يعُد من الممكن التعويل عليها. ولأنَّ القوانين التي تحكم التجارة باتت قوانين علمانية، فإنَّ فولتير، كونه عقلانيًّا بارزًا، يحبِّذ على نحوٍ واضح مثل هذه الترتيبات، التي يمكن أن تبدو للعقل الديني أو الإقطاعي باردة، وآلية، بل وغير إنسانية. غير أنَّ إعجاب فولتير بالإنجليز مضى إلى أبعد من ذلك. فقد اعتقد أنَّه «كما أغنت التجارة المواطنين في إنجلترا، كذلك أسهمت في حريتهم، وهذه الحرية بدورها وسَّعت تجارتهم، ومن هنا نشأت عَظَمَة الدولة. فالتجارة زادت القوة البحرية بدرجات غير محسوسة، الأمر الذي أعطى الإنجليز تفوُّقهم البحري …»
وفي وصف فولتير الذي ينمُّ على الإعجاب، تبدو التجارة الإنجليزية مرتبطةً، إذَن، بكلٍّ من الحرية والإمبريالية. وهذه رابطة لا تزال حيَّة إلى حدٍّ بعيد في الاستغراب، مع أنَّ العدو لم يعُد إنجلترا وحدها، بل أنجلو أمريكا، أو أمريكا، أو الغرب، أو الصهيونية-الصليبية، بحسب التعبير المحبَّب لدى أسامة بن لادن.
غير أنَّ هذا قد يكون مفيدًا أيضًا. ذلك أنَّ الحشود تفسح مجالًا لغرابة الأطوار الفردية. حيث يمكنك أن تختبئ في حشد. ولا مبالاته تَدَعُك حرًّا. وفي كلِّ بلد صناعي، بما في ذلك إنجلترا القرن التاسع عشر، تندفع النساء ويندفع القرويون إلى المدن، بغية إيجاد عمل، والحصول على المال، والحرية. وما ينتظرهم في الغالب هو الآفة الصناعية، والعصابة الإجرامية، والمبغى. وبالطبع، فإنَّ ذلك لم يَحُل قطُّ بين البشر وبين القدوم إلى المدينة. لكنهم ما إنْ يخلِّفوا الحياة الفردية وراءهم، حتى تضيع في العادة إلى الأبد يقينيات تلك الحياة القديمة، والعلاقات القبلية الوثيقة، والخضوع للتقاليد الإقطاعية والدينية، وهذا ما يمكن أن يؤدِّي إلى ضروب من السخط العنيف.
وحكاية الغريب المتوحِّد، الذي تتجاهله المدينة الكبيرة ويُساء إليه فيها، هي حكاية شائعة في كل مكان. وهي غالبًا ما تُحكَى في حكايات هوليود الكئيبة؛ حيث تكون المدينة الكبيرة نيويورك، أو شيكاغو أو ل. أ. كما أنَّها غدت إحدى الصيغ المكرورة في الأفلام الهندية، والتايلندية، واليابانية في خمسينيات القرن العشرين. وكثير من هذه الأفلام هي أفلام عصابات، حيث نجد شابًّا يغادر قريته، مدفوعًا بالجوع أو بالطموح، ورأسه ممتلئ بقصص الثراء الواسع والنساء الهيِّنات. وما يجده بدلًا من ذلك هو الحشود اللامبالية، والمحتالين والنصَّابين الذين يسلبونه مدَّخراته الزهيدة. وفي النهاية يفقد كرامته، حين يتعلَّم كيف يغدو لصًّا هو أيضًا. وفي بعض الأحيان ينضمُّ إلى عصابة إجرامية، حيث يعيد أداء بعض سننه القروية التقليدية بطرائق معكوسة، وفي أحيان أخرى يحاول أن يبقى وحيدًا. لكنَّه عادة ما يخسر في النهاية، فيستغلُّه زعيم عصابة أو شخص ما آخَر ظنَّ أنه يمكن أن يثق به. والذروة انفجارٌ للعنف، حين يعمد الغريب الذي طالت معاناته، مثل شمشون بين الفلسطينيين، إلى هدِّ أعمدة المدينة في فعلِ انتقامٍ كارثي أخير.
والسمة المشتركة بين الأشرار الطالحين، الباردين، الماكرين، الأغنياء في هذه الحكايات الأخلاقية لا تقتصر على فسقهم، أو طمعهم، أو خداعهم، بل تتعدَّى ذلك إلى طرائقهم الغربية اللافتة. ففي أفلام العصابات الأوروبية، يرتدي الأشرار كما يرتدي الأمريكيون ويتصرَّفون مثلهم، وفي الأفلام غير الغربية، يسلكون مثل البيض المحتالين. فرجال العصابات الأشرار في أفلام خمسينيات القرن العشرين اليابانية يستخدمون المسدسات، ويشربون الويسكي، ويرتدون البزَّات، في حين أنَّ الأبطال الذين يرتدون الكيمونو لا يقاتلون إلا بسيوف الساموراي التقليدية. وأفلام العصابات النمطية، في معظم البلدان، معادية للعالم الحديث. وكذلك بالطبع هو حال أفلام الويسترن الأمريكية النمطية حيث يكون الأشرار محتالين مدينيين من «الشرق البعيد»، يأتون لبناء مدن في السهول الغربية، مرتبطة بالسكك الحديدية الجديدة. ومكان علاقات الثقة القديمة بين القرويين الشرفاء تحل عقود مراوغة صاغها رجال يرتدون البزَّات. إنها لقصة كونية، قصة الصدام بين القديم والجديد، بين الثقافة الأصليَّة الأصيلة والخداع والمكر المتروبوليين، بين الريف والمدينة.
غالبًا ما جرت المطابقة، في أوروبا، بين أفراس البحر المتروبولية التي ابتلعت كامل سكَّان الريف إلى أشداقها المتلألئة وبين اليهود وسواهم من الباحثين عن المال. ومرَّة أخرى، يجد إليوت أبرع العبارات ليعبِّر بها عن هذا التحامل.
ولقد أخذ المفكِّرون النازيون هذه الثيمات ذاتها، بالطبع، وقرنوا اليهود الطُّفَيليين بنيويورك، ولندن، وباريس، وكذلك ببرلين.
فقبل عام ١٩٣٣م، كانت مدينة برلين رمزًا لكلِّ ما هو شنيع، ليس بالنسبة للنازيين وحسب، بل أيضًا لعدد كبير من دعاة المحلية الرومانتيكيين الألمان. وفي تسعينيَّات القرن التاسع عشر، عبَّرت تشكيلة واسعة من عشَّاق الطبيعة، والمتحمسين للفولكلور، وأنصار التعرِّي، والمدافعين عن وطن جرماني أشد نقاءً وعضوية، في شعاراتها التي راجت تلك الأيام، عن رغبةٍ في «الفرار من برلين»، و«الهرب من قرميد برلين»، بمصانعها، وأحيائها الفقيرة، ونواديها الليلية، ويسارييها، ويهودها، وغربائها الآخرين. فالعاصمة البروسية العظيمة كانت تُرى على أنها نسخة هجينة ومُصطنَعة من المدن الفرنسية والإنجليزية والنمساوية والأمريكية. وكانت حداثتها تُرَى على أنَّها «ليست ألمانية».
أمَّا خارج أوروبا، فالغرب أو الأَمْرَكة هما اللذان أُنحي عليهما باللائمة بسبب الوضع المتروبولي والطمأنينة الريفية المتلاشية، ذلك أنَّ الأَمْرَكة وبعض التنويعات المحلية على يهود المدينة الكبيرة، مثل الصينيين في جنوب شرق أسيا أو التجار الهنود في أفريقيا، الذين اعتُقِد أنهم يتآمرون، مع النخب المحلية «المتغربنة» المشتراة بالمال، لتسميم الجماعات الروحية أو العرقية الأصلية وتقويضها. غير أنَّ أفكار الأمركة أو «الانسمام الغربي»، كما يقول إسلاموي إيراني، كانت متأثِّرة بضروب من التحامل غربية المنشأ.
وحين شجب المثقفون اليابانيون الأَمْرَكة في مؤتمر كيوتو عام ١٩٤٢م، لم يذهب تفكيرهم إلى الحداثة في أمريكا أو أوروبا بقَدْر ما ذهب إلى نمط مدنهم الكبيرة هم أنفسهم، مثل طوكيو وأوساكا: الأفلام الهوليودية، المقاهي، قاعات الرقص، المجلات الهجائية الساخرة، الإذاعات، الصحف، نجوم السينما، التنانير القصيرة، والسيارات. فقد كرهوا هذه الحضارة المتروبولية الحديثة لأنهم اعتبروها ضحلة، مادية، عادية، بلا جذور، وغير يابانية؛ أي بخلاف ذلك النوع من الثقافة الروحية العميقة التي رغبوا في دعمها وتأييدها. وفي هذا، لم يكُن هؤلاء المثقفون اليابانيون يختلفون بشيء عن كثير من المثقفين الأوروبيين في ثلاثينيات القرن العشرين، على الرغم من أنَّ فكرتهم عن الثقافة الروحية قد تكون مختلفةً في الشكل. ومثل كثير من المثقفين العرب، الذين استلهموا مباشرةً مُثُلًا ألمانية جامعة، فقد تأثَّر اليابانيون تأثُّرًا عميقًا بالقوميين الألمان في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، وراحوا يطبقون آراءهم المعادية للغرب، والمعادية للمدينة، على اليابان.
وهنا أيضًا كان ثمة شيء من النسيان، إذْ إنَّ المدن اليابانية كانت مراكز تجارية قبل أن يقوم هارولد لويد وديانا دربن بإطلاق هذه الأنماط بزمن طويل. وما من أدلة مقنعة على أنَّ عالم مسارح الكابوكي، أو حفلات التسلية الموسمية، أو الأسواق، أو بيوت الدعارة في إيدو القديمة كانت أكثر روحانيةً من أحياء الملذات في طوكيو الثلاثينيات من القرن العشرين. بيد أنَّ أولئك المثقفين كانوا يشمئزُّون من الأَمْرَكة لأسباب شخصية أيضًا. فكانوا يعلمون أنَّ مكانة الفلاسفة ورجال الأدب في مجتمع مُتَأَمْرِك، تحكمه الثقافة التجارية، هي مكانة هامشية في أفضل الأحوال. والاستغراب، بعيدًا عن كونه عقيدةً جامدةً تجد حظوة لدى الفلاحين المُذَلَّين والمُهَانين، غالبًا ما يعكس مخاوف المثقفين المدينيين وتحاملاتهم، أولئك المثقفين الذين يشعرون أنهم منخلعون في عالم التجارة الكبيرة.
أما الشيء الآخَر الذي خشي منه المثقفون المدينيون في الثقافة المتروبولية «التي لا جذور لها» وفي الاستهلاك الجماهيري فكان مساهمة الجماهير في السياسة. فالصحف والإذاعات تتيح للجميع نفاذًا إلى المعلومات التي كانت تقتصر على النخب. وهذا ما مثَّل خطورة، إذْ كان يُنْظَر إلى الجماهير على أنها غير مسئولة، وغير مثقفة، تسوقها الانفعالات والأهواء الجمعيَّة. أما أفلام هوليود، كما حذَّر الناقد السينمائي في مؤتمر كيوتو، فتعزز الفردانية والديمقراطية، ومجتمعًا متعدد الأعراق. والمتروبول التجاري يعني تحطيم الثقافات الموحَّدة، التي تضرب بجذورها في الدم والتراب، لِتُصاغ حضارة مدينية من تنوُّع كوسموبوليتي.
وحين وصل سيد قطب، وهو واحد من أشدِّ المفكِّرين الإسلامويين أثرًا ونفوذًا في القرن الماضي، إلى نيويورك قادمًا من بلده مصر عام ١٩٤٨م، شعر أنه بائس في تلك المدينة، التي بدت له مثل ورشة ضخمة، ضاجَّة وصاخبة. حتى الحَمام بدا تعيسًا في تلك الفوضى المدينية. وتاق لأنْ يسمع حديثًا لا يدور حول المال، أو نجوم السينما، أو موديلات السيارات. وتكشف رسائل قطب إلى الوطن أنَّ ما أكربه على نحو خاص كان جو الإغراء، تلك الشهوانية الصادمة في الحياة اليومية، وسلوك النساء الأمريكيات البعيد عن الاحتشام. كما استوقفه رقص كنسي في غريلي، في كولورادو، التي يصعب اعتبارها مكانًا متروبوليًّا، واعتبر ذلك الرقص مفرطًا في فسقه. وقطب من المدافعين عن جماعةٍ إسلامية نقية، وعلى النقيض من هذا المثل الأعلى كان يرى إلى مادية الغرب الوثنية الفارغة، في نوعٍ من المعركة التي سنعود إليها لاحقًا. ولم تعمل الحياة في أمريكا إلا على ترسيخ ما لديه من التحامل. غير أنَّ مثله الأعلى عن الجماعة الروحية، شأنه شأن جميع أحلام النقاء، لم يكُن سوى وهم، وهم اشتمل على بذور العنف والدمار.
•••
ليست التجارة اختراعًا غربيًّا بالطبع، لكن الرأسمالية الحديثة اختراع غربي. والتجارة كنظام كوني — انطلق من مدن الغرب الكبيرة، واكتسح الإمبراطوريات القديمة والجديدة، مدَّعيًا صياغة حضارة عالمية — تظهر لأولئك الذين نصَّبوا أنفسهم حرَّاسًا للتراث، والثقافة، والعقيدة على أنَّها مؤامرة ترمي إلى تدمير ما هو روحي، وأصيل، وعميق. وهي مؤامرة يمكن أن يُطلَق عليها اسم إمبريالية روما، أو الرأسمالية الأنجلوأمريكية، أو الأمركة، أو الصهيونية-الصليبية، أو الإمبريالية الأمريكية، أو الغرب وحسب. وهي ليست مؤامرة بالطبع، لكن التوترات بين المحلي والكوني هي توترات واقعية وفعلية بما يكفي. فلا شك أن التجارة، في شكلها الرأسمالي العالمي الحديث، تُغيِّر الطريقة التي يتبعها البشر في ترتيب شئونهم السياسية والاجتماعية، على الرغم من أنَّ النتائج لا تكون مباشرة كما يعتقد أنصارها أو خصومها على حدٍّ سواء.
وغالبًا ما أمكن التبديل بين اليهود وأمريكا وفرنسا وبريطانيا، بوصفهم موضوعات للكراهية، ذلك أنَّ ألمانيا النازية، شأنها شأن الإسلامويين المعاصرين، كانت تخوض حربًا معهم جميعًا. وكان في ألمانيا، تلك «الأمة الواقعة في الوسط»، أولئك الذين شعروا أنهم محاطون بالأعداء، فالبلاشفة إلى الشرق والديمقراطيات «المتهوِّدة» في أوروبا وأمريكا إلى الغرب. أما جمهورية فيمار فقد نظر إليها أعداؤها على أنها «قوة معادية في خدمة الغرب». وقبل أن تحمل ألمانيا على قطعان ستالين الآسيوية، كانت قد شنَّت الحرب على الغرب. وكان هذا الهجوم على الدول الديمقراطية الليبرالية، التي نظر إليها على أنها مصطنعة، وعقلانية، وهجينة عرقيًّا، ومادية، ومتخمة باليهود الجشعين، مثالًا واضحًا من أمثلة الاستغراب القاتل في قلب القارة الأوروبية.
أما قرين هذه الفلسفة الباردة، وتوءمها الخبيث، فكان نظام التجارة الأوروبية متحجِّر القلب، والذي جلب الموت والدمار للثقافات الحارة في ثلاثٍ من القارات. وكان هيردر «مستشرقًا» نمطيًّا، كما يعرِّفه النقَّاد المحدثون المعادون للاستعمار، وذلك من حيث إسقاطه على العالم خارج أوروبا نظرةً ضيِّقةً ثابتةً لا تعرف التغيير. وفضائل «الهجنة» أو «التعددية الثقافية» لا مكان لها عنده؛ فقد نظر إلى معظم أهالي المناطق المدارية على أنهم «أبناء الطبيعة»، الذين لا يزالون ينعمون ببركة الإجلال الطفولي البسيط تجاه الملوك-الآلهة والحكماء المستبدين. غير أنَّ آراء هيردر هذه لم تكن ترمي إلى تعزيز مهمة الرجل الأبيض في تثقيف المحليين الجهلة. فقد كان على العكس، معارضًا عنيفًا للإمبريالية، بل لكل دعاوى الحكمة الكونية. فأبناء الطبيعة، مقارنةً مع أوروبا العقلانية الباردة، هم الأفضل، والأنقى، والأشد أصالة. ومن الخطأ والغطرسة أن نعتقد بضرورة أن يكون البشر جميعًا أحرارًا، ذلك أنَّ حرياتنا المزعومة لم تُفضِ إلا إلى الوحشية والمادية العقيمة.
لكن الحقيقة هي أن الأفكار الأوروبية عن السياسة كانت تنتقل بصورة لا مفرَّ منها إلى الرعايا الاستعماريين، إلى جانب العلم، والدين، والاقتصاد، والأدب. وهذا الانتقال لم يكُن يعمل دومًا على النحو الأمثل. فقد تسلَّلَت إليه تشويهات كثيرة، غير أنَّ الأفكار الأوروبية عن الرأسمالية والديمقراطية غيَّرت الطريقة التي كانت تُدار فيها تلك المجتمعات، من القاهرة إلى طوكيو. وحتى تلك الأمم غير الغربية القليلة التي تفادت الحكم الغربي، مثل اليابان، وإلى حدٍّ ما الصين، كانت مضطرة لأن تستعير الأفكار الأوروبية لكي تصدَّ الغرب. والسؤال هو: أية أفكار أوروبية؟ فغالبًا جدًّا ما نزعت هذه الأفكار لأن تكون تنويعات إما من الكونية الفظَّة أو من مقابلاتها القاتلة، مثل القومية الإثنية والنقاء الديني.
غير أنه لم يكن ثمة أمل في هذا المشروع. فمن غير الممكن أن تفصل نوعًا من المعرفة عن نوع آخَر، أو أن تستورد ما هو نفعي وحسب مستبعدًا في الوقت ذاته ما يقترن به من أفكارٍ قد تكون هدَّامة. لكن مثل هذه المحاولات لا تزال تجري إلى اليوم: حيث تريد الحكومة الصينية أن تحصل على منافع تكنولوجيا المعلومات دون الأفكار التي تجعلها هذه التكنولوجيا متاحةً للجميع. كما عملَ تصنيف المعرفة الغربية كمعرفة عملية محض، سواء كان تصنيفًا خاطئًا أم لا، على تثبيت التصوُّر الذي يرى إلى الغرب على أنه بارد وميكانيكي. أما الشيء الآخر الذي ظلَّ عاملًا ثابتًا في الصين وفي كثير من المجتمعات غير الأوروبية الأخرى، منذ التقائها بالأفكار الأوروبية الحديثة، فهو الانقسام بين المحليين والمتغربنين. حيث يحلم الأولون بالعودة إلى نقاءِ ماضٍ مُتخيَّل: اليابان في ظل الإمبراطور السماوي، الخلافة الإسلامية الموحَّدة، الصين كجماعة من الفلاحين. أما الآخرون فهم من محطِّمي الأصنام، الذين يرون إلى التراث المحلي كعقبة في وجه التحديث الجذري.
ولقد فعلت طالبان بكابول ما فعلته بالسرعة ذاتها، وبالقسوة ذاتها. فبعد حرب أهلية قاسية، دُمِّرَت فيها كابول بفعل القصف المتواصل من المرتفعات المحيطة، سيطرت طالبان فجأة على المدينة عشية أحد أيام أيلول في العام ١٩٩٦م. وكان قائدها، المُلَّا محمد عمر، ابن فلاح وبعين واحدة. ومثل أتباعه، بعمائمهم السوداء وشواليخهم، لم يسبق له قط أن كان في كابول. غير أنه تلفَّع بعباءة النبي، بالمعنى الحرفي التام؛ حيث أُخرجت من مزار أفغاني عباءة قيل إنها كانت للنبي محمد وراح المُلَّا عمر يتباهى بها في ظهوراته العلنية النادرة. وتمثَّل أول فعل من أفعال العنف الرمزية — والفعلية المرعبة — بعد سقوط كابول بتعذيب الرئيس اليساري السابق نجيب الله. حيث قطعت طالبان خصيتيه وجرَّت جثته المسحولة وراء سيارة جيب. ثم أطلقت عليه النار ودلَّت جثته من عمود النور في شارع. وكعلامة على فسقه وفساده، ملأت طالبان جيوب الرئيس السابق بالمال، ودسَّت السجائر بين أصابعه المحطمة.
ومثل هذه الحالات من الثورات المتطرفة التي يقوم بها الريفيون على المدينة الحديثة هي، في الواقع، حالات نادرة تمامًا. فمعظم الثورات، سواء كانت دينية أم سياسية أم خليطًا من الاثنتين، تولد في المدن، بوصفها بنات أفكار سكان هذه المدن المُستائين. ولكي نذكر حالةً نمطية واحدةً وحسب، فإنَّ نيكولا كولجيفيتش، كان باحثًا مختصًّا بشكسبير من سيراييفو. وقد أمضى فترة من الزمن في لندن والولايات المتحدة. وكانت إنجليزيته طليقة. فضلًا عن كونه مواطنَ واحدٍ من أشدِّ الأماكن اتصافًا بالكوسموبوليتية في البلقان، مدينة بوسنيانس العلمانية، حيث يقطنها الصرب واليهود والكروات، وتشتهر بمكتباتها وجامعاتها ومقاهيها، مدينة التعلُّم والتجارة. وهناك شهد مدينته، في أواسط تسعينيات القرن العشرين، وهي تُحرَق من المرتفعات المحيطة. ذلك أنَّ الأوامر بقصف سيراييفو، باسم النقاء العرقي و«بعث صربيا» كانت أوامر ممهورة بتوقيع نيكولا كولجيفيتش، الباحث المختص بشكسبير.
•••
ولا شك أنَّ القصف واحد من أشكال التدمير الفجَّة. وهناك طرائق كثيرة لمهاجمة بابل الحديثة على نحوٍ مُهلِك بالمثل. فيمكن أن تتخذ الهجمات، على سبيل المثال، شكل بناء مدن جديدة أكبر وأعظم من المدن القديمة، مدن تحتفي بالقوة بدلًا من الحرية، وبسلطة الطغاة، أو الآلهة. والمدينة التي تتعرض للهجوم ليست، في النهاية، مجرد مجموعة من المباني المدينية، بل فكرة المدينة بوصفها متروبولًا كوسموبوليتيًّا.
ولم يبقَ لجرمانيا سوى قليلٍ من الأثر. فكلُّ ما بقي من خطة هتلر الأساسية العظيمة هو صفٌّ من فوانيس الشوارع وسفارتان، لإيطاليا واليابان. بيد أنَّ الطموح إلى منافسة العواصم الغربية عبر إقامة مُدُن تحت السيطرة على مقاس بابل لم يمُت بموت هتلر. فقد نَبَقَتْ مثل هذه المدن، ليس في أوروبا، بل في كوريا الشمالية، والصين، وجنوب شرق آسيا. وبيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية، هي ما كان يمكن لجرمانيا أن تبدو عليه، نكروبوليس (مدينة موتى) كلاسيكية جديدة بمعابد للسلطة الشمولية من المرمر والغرانيت أكبر مما ينبغي. حيث يقف هناك، كعلامةٍ على الاعتداد الديكتاتوري، برج فندق ريوغيونغ الفارغ، ذلك الأهرام العملاق بطوابقه المائة وخمسة، والذي بقي هيكلًا إسمنتيًّا منذ أن نفد المال واعتُبِرَ المبنى غير آمن إلى درجة تحول دون إتمامه. أما ناطحات السحاب العملاقة في بودونغ، تلك الضاحية الصناعية الجديدة في شانغهاي، فهي تعبيرات من نوع آخر، تعبر عن القوة الاقتصادية الفجة لدولة تسلطية: رأسمالية أوامرية جُرِّدَت من الحرية السياسية. وهنالك خطط لإقامة أعلى مبنى على وجه الأرض في هذا الموقع. وليست الأبراج الزجاجية والفولاذية في سنغافورة وكوالالامبور سوى نسخ ألطف من الشيء ذاته. فهذه المدن جميعًا إنما تتغلب على الغرب، بطرائقها المختلفة، عبر إقامتها نسخًا وحشية من الحضارة التي أَمِلَت أن تبزَّها وتتخطاها.