… وسقط آخر العمالقة!

خبر صغير تناقلته وكالات الأنباء مساء ٢٤ / ٩ / ١٩٧٤م هو أن جلالة الحسن الثاني ملِك المغرب قد أنعم على الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري بفيلَّا خاصة في طنجة، وفتح له حسابًا في أي بنك يختاره بما قيمته مائة دينار يوميًّا.

كل ما استطاع أعداء جواهري أن يقولوه هو أن المكافأة الملكية التي تلت «وسام الكفاية الفكرية» — وقد ناله الشاعر منذ شهور قليلة — أكبر من حجم القصيدة التي كتبها في مائة بيت مديحًا لمآثِر الملِك المغربي … ذلك أن البيت الواحد منها لا يساوي دينارًا كل أربع وعشرين ساعة! وأقصى ما استطاع أعداء الجواهري أن يفعلوه هو أنهم عادوا بذاكرتهم أو ذاكرة آبائهم إلى الوراء ليعلِّقوا بأن الرجل بدأ حياته شاعرًا للبلاط وأنهاها شاعرًا للبلاط، وما بين البداية والنهاية مدح جميع الحكام بغير استثناء، فما الجديد، وأين المفاجأة؟!

ولكن أعداء الجواهري ليسوا هم «كل» جمهور الشاعر الكبير، ولا هم «التاريخ». إن الشعور العميق بالأسف والحزن، هو الشعور الأقوى والأغلب عند الذين كانوا يطمحون لشاعرهم في السراء والضراء نهاية مغايرة. فرغم الانعطافات المأساوية في حياة الجواهري وشعره كافة، وقفَ الرجل في لحظات مصيرية حاسمة إلى جانب الشعب والثورة. كذلك كانت أهمية الجواهري إنه بمفرده ظلَّ الاستثناء الشعري الوحيد الذي يجمع بين الكلاسيكية ونبض العصر والأمة. من هنا ينبغي أن يكون شعورنا بالأسف، لا بالتشفي، والحزن لا الشماتة … فالجواهري، بعد أن يذهب الشخص، يبقى الشعر، جزءًا لا ينفصل عن تراثنا بكل سلبياته قبل إيجابياته؛ أي إن عاره سيلحق بنا في خاتمة المطاف لأنه منا، ومجده أيضًا لنا.

ولكن «العبرة» أيضًا وأيضًا تظلُّ قائمة، لا تلغيها أية مشاعر أو عواطف وانفعالات. وقد أتاحت لي سلسلة من المصادفات أن أستخلص هذه العبرة في حياة الجواهري ومأساته، منذ كنت في أبريل (نيسان) ١٩٦٩م في بغداد عضوًا بالوفد المصري لمؤتمر الأدباء العرب … وكان الجواهري قادمًا من براغ لأول مرة بعد غيبة سنوات طويلة، وعلى إثر برقية من وزير الداخلية العراقي يطلب فيها «أن يعود شاعر العرب الكبير إلى وطنه لأنه بحاجة إليه!» وفي العراق — أقول، لا بغداد وحدها — شاهدتُ بعيني محبة الجماهير لشاعرهم الغائب. ولمستُ الموقف الحقيقي للسلطة عن قرب، وأشهد بكل أمانة الضمير والإحساس بالمسئولية، إن الحكم العراقي الراهن أعطى الجواهري ما لم يُعطِه أيُّ نظام عربي آخَر لشاعر أو أديب في حياته. وهو عطاء ظلَّ الجواهري يترنَّم به كالمجنون وهو يسرد عليَّ تفاصيله حين التقيتُ به بعد أشهر قلائل في ديسمبر (كانون الأول) ١٩٦٩م، بالتحديد في براغ. هذا على الرغم من أن الحكم العراقي كان يعرف الجواهري جيدًا، يعرف أن رصيده وحده هو الذي يشفع له وليس مستقبله، يعرف أيضًا أنه لن يطيق «استقرارًا» من أي نوع كان. رغم ذلك أعطاه أسباب الاستقرار المادي والمعنوي كافة. وبعد أيام قليلة من انتهاء المؤتمر الذي ألقى فيه الجواهري قصيدة دون المتوسط، سافر الرجل إلى براغ. قال إنه مضطر للذهاب لتصفية «متعلقاته» هناك.

وقد وفَّر لي صديقي المناضل مهدي الحافظ السكرتير العام لاتحاد الطلبة العالَمي آنذاك عدة جلسات مع الجواهري، سجلتها فيما بعد بكتابي «مذكرات ثقافة تحتضر». وفهمت من الشاعر أنه على الرغم من أزمة الإسكان الحادة في براغ، فإن الحكومة التشيكية قد وهبته تقريبًا منزلًا جميلًا. وهو الآن بالغ الحرج، لأن الدوائر المختصة قد علمت بأن ظروفه مع بغداد قد اختلفت وأنه مدعو للعودة إلى وطنه، ومن ثَم عليه أن يسلِّم المنزل. سألت الجواهري بدهشة وبراءة حقيقية: لقد عدت فعلًا للوطن، وقد جئت لتصفي بقايا وجودك هنا، فما حاجتك إلى المنزل؟ أجابني بدهشة مماثلة ولكن دون براءة: المنزل؟ وبراغ؟ والراتب؟ والأولاد؟ لن أترك تشيكوسلوفاكيا بأية حال!

ولم أسجِّل ذلك في حديثي المنشور معه.

وبعد أقل من عامَين بقليل …

وبعد منتصف إحدى ليالي سبتمبر (أيلول) ١٩٧١م كان التليفون في منزلي يدق دقًّا متواصلًا … غالبت النوم ورفعت السماعة، وإذا بالطرف الآخَر على الخط صوت الجواهري! سألته: هل تتكلم من براغ؟ أجابني: كلا! أنا هنا في القاهرة، وصلت توًّا من المطار، تجدني في فندق النيل. هنَّأتُه بسلامة الوصول وأنا أكاد لا أعي شيئًا ممَّا قال ولم أفهم لماذا جاء ولا كيف، وقلت له إن الوقت متأخر وإنني سأمرُّ عليه في الصباح الباكر قبل ذهابي إلى عملي في «الأهرام». ولكني فوجئت بصوته يعلو ونبرته تنفعل وهو يصر على نزولي فورًا.

بدأت أصحو وأنا أفكِّر. ما الحكاية؟ الجواهري في القاهرة؟ لقد دعاه لطفي الخولي منذ عامين باسم «الطليعة»، وكان اسمه مدرجًا في القوائم الممنوعة من دخول مصر، ولكن الوساطة أفادت ووجهت إليه الدعوة رسميًّا. تذكرت أنني سألته في براغ، لماذا لم يلبِّ دعوة «الأهرام» و«الطليعة» فأجابني بما لم يخطر على بالي حينذاك مطلقًا: ولماذا لا يدعوني يوسف السباعي؟ لطفي والجماعة إخوان. لكن السباعي هو المسئول عن الثقافة. أريد دعوة رسمية لا دعوة أخرى! أريد لمصر أن تدعوني بعد أن حُرمتُ منها عشرين عامًا، لا مجلة «الطليعة»!

ولم أنقل هذا الكلام يومها إلى لطفي الخولي. وعبثًا حاولت إقناعه أن جمعية الأدباء التي يرأسها يوسف السباعي ليست أكثر رسمية من «الأهرام». وإن «الطليعة» تمثِّل مصر أكثر مما تمثلها جمعية الأدباء. وأن يوسف السباعي عنوان كبير للرجعية الأدبية وهو شاعر ثوري. وأن عليه ألا يتصور الأدباء في جمعية الأدباء إذا كان يريد أن يقابلهم، فهم في كل مكان إلا في جمعية الأدباء. وأن وأن … إلى أن بُح صوتي وتلاشت قواي على الحوار، فقد رأيتُه مصمِّمًا على تلقِّي دعوة رسمية من «الحكومة» وبالذات من يوسف السباعي!

تذكرت ذلك كله وأنا في طريقي إلى فندق النيل القريب نوعًا من منزلي والساعة تشير إلى الثانية صباحًا. وفي غمرة اللقاء الحار نسيت كل شيء وعانقته بمحبة حقيقية واصطحبته إلى شوارع القاهرة ومقاهيها وأحيائها الشعبية، خصوصًا حي الحسين ومقهى الفيشاوي. قابلنا ليلتها أمل دنقل وبعض الأدباء الشباب الذين التفُّوا من حوله في مودة صادقة. كانت أشعاره ضد الطغاة منقوشة في القلوب وفوق جدران الزنازين بالسجون والمعتقلات المصرية. وحين عُدت أول عام ١٩٧٠م من أوروبا إلى القاهرة سألني الدكتور إسماعيل صبري عبد الله رئيس التحرير بدار المعارف وقتها ما إذا كان من الممكن الاتفاق مع الجواهري على نشر أعماله الكاملة.

قلت له لست أدري، فقد صدرت لهذه الأعمال طبعات مختلفة، منها طبعتان حديثتان في بيروت، ولا أعرف نصيبهما من الكمال. ولكن أحد الناشرين يتهم الشاعر بأنه باعَ نفس «الأعمال الكاملة» لناشر آخَر في الوقت ذاته. وكان الجواهري في طريقه إلى ناشر ثالث اكتشف اللعبة في الوقت المناسب. على أية حال وصلت الطبعتان أسواق القاهرة وبِيعتا كلتاهما. وكان الشباب أكثر من غيرهم إقبالًا على شعره، رغم انتمائه الفني إلى عصور مضت. كانت حركة الطلاب والمثقفين عمومًا منذ عام ١٩٦٨م قد بعثت الشعر «الثوري» إلى ساحة الوجود النضالي الفاعل، وحين رأى الأدباء الجدد الشاعر العجوز بينهم بلحمه ودمه، فرحوا به وأحاطوه بكل رعاية وحب. حتى عندما سكر القصَّاص يحيى الطاهر عبد الله في «الأتيليه» نادى الكتَّاب والفنانين وداعب الجواهري مداعبة خشِنة، سرعان ما اعتذر، وعاد الجو إلى الهدوء.

لم أكُن قد سألت الجواهري عن سبب حضوره المفاجئ حين سمعته يروي للشباب ليلة وصوله برفقتي أنه جاء ليشترك في المهرجان الأول لرثاء جمال عبد الناصر بعد مرور عام من رحيله، بدعوة رسمية من يوسف السباعي وجمعية الأدباء! لم يشعر الرجل طبعًا بوقع كلماته على آذان الشباب، وإنما كان يشعر فحسب بوقع حضوره بينهم. ولأن هذا الحضور كان باعثًا لسرورهم فقد اكتفى بذلك. كانت جمعية الأدباء قررت الاشتراك في الذكرى الأولى للرئيس الراحل بعَقْد أمسية في القاعة الكبرى للاتحاد الاشتراكي تُحييها مجموعة من الشعراء العرب يتقدَّمهم صالح جودت.

وهنا يجب أن أتوقَّف قليلًا … فقد تضافرت مجموعة من الظروف التي أدَّت في النهاية إلى وصول الجواهري مطار القاهرة. كان سفير مصر في براغ مجدي حسنين يحب الشاعر ويرغب في إزالة الجفوة غير المبرَّرة بينه وبين مصر. وهي جفوة افتعلتها أجهزة الأمن المصرية عام ١٩٥٩م حين وقع الخلاف بين الحكم في العراق والحكم المصري ووضعت أسماء الكثيرين من المناضلين العرب في قوائم الممنوعين. وكان من بينهم اسم الجواهري. ولكن مجدي حسنين كان يرغب وقد تغيَّرَت ظروف عديدة في أن يقوم الشاعر العراقي بزيارة مصر. وأبلغَ هذه الرغبة إلى يوسف السباعي الذي نام طويلًا، رغم كثرة المناسبات، واستيقظ فجأة ذات يوم. كان «اليوم» مشحونًا بالعلاقات المتوترة بين القاهرة وبغداد. وكان «اليوم» ذكرى عبد الناصر الذي مُنع الجواهري في عهده من زيارة مصر! هكذا أقبلت المناسبة وكأنها من «القدر» فقام السباعي على الفور بتلبية رغبة السفير المصري في تشيكوسلوفاكيا وكان على وشك مغادرتها، ودعا شاعر «العراق» الكبير للاشتراك بإحدى قصائده، وهمس لي الجواهري بحذر شديد كأنما يُبيح لي وحدي بسر خطير: هل تعرف مَن الذي منعني في السابق من دخول القاهرة؟ ولم ينتظر بل أجاب على الفور: إنه علي صبري!

وضحكتُ في داخلي بمرارة، فقد باح لي بهذا «السر» بعد أيام مليئة لحد التخمة بالأحداث من حضوره. لم ينتبه الجواهري إلى أن أحدًا — ولو هلفوتًا — لم يستقبله في المطار. ولم ينتبه مرة أخرى إلى أن «الأحد» الذي جاءه في التاسعة صباحًا موفدًا من يوسف السباعي ضابط سابق يُدعى عصام الحيني! كانت الخامسة والنصف صباحًا حين عدتُ إلى منزلي وكانت الثامنة والنصف حين عدت إليه. وابتهج عصام الحيني عندما رآني كأني خلَّصتُه من ورطة، معتذرًا عن يوسف بك لمشغولياته العديدة ولأن الطائرة تخلَّفَت عن موعدها، ومُلمحًا إلى أن «غالي بك فيه البركة … مش كده يا فندم؟»

وذهلت! لم أفهم شيئًا ولم أدرِ بماذا أجيب. ولأن الشعراء عمومًا نرجسيون وفي مقدمتهم الجواهري، فقد وجدتني أخدش أوهامه وأنا أوجِّه الحديث إلى الضابط السابق اللاحق بمعية يوسف السباعي، قائلًا: لقد استقبل هيكل سارتر عام ١٩٦٧م على سلم الطائرة، وضاقت قاعة الشرف بالمثقفين الذين جاءوا لاستقباله. وكانت «الطليعة» هي التي دعت جارودي ومكسيم رودنسون فكانت زيارتهما موضع الحفاوة الشاملة والترحيب العملي الكامل. فهل تقلُّ جمعية الأدباء أهمية عن إحدى المجلات؟ كان كلامي في الحقيقة موجَّهًا إلى الجواهري. ولكني استأنفت الحديث مع الحيني: «إنني مُفاجَأ بزيارة الجواهري ولو أنكم قلتم لي ولغيري لاستقبلناه بأكثر مما استقبلنا المفكرين الفرنسيين: وعلى أية حال فأنا أرافقه كصديق، فليست لي أية صفة رسمية.» واكتفى الضابط المدني الأنيق بابتسامة جامدة، وهو يعلِّق في برود مثير «البَرَكة فيك يا فندم». ثم استأذن معتذرًا بموعد عمله مشيرًا إلى أن دار الأدباء قريبة من الفندق واعدًا بأنه سيحضر في المساء.

وعلى الفور أخذتُ الجواهري من يده إلى «الأهرام».

لم يكُن لطفي الخولي قد وصل مكتبه، فقمت بتعريفه إلى جميع الزملاء في «الطليعة». لم يكُن بالطبع يحتاج إلى تعريف. ولكنهم حين رأوا الجواهري بينهم شخصيًّا أحاطوه بكل خلجات أعصابهم ومشاعرهم الفياضة بالحب. وتلفتت للطفي ولويس عوض. وحضر الناقد الكبير في البداية فرحَّب بالشاعر الكبير ترحيبًا حارًّا قائلًا له: أنت آخِر العمالقة. والتقطَ أحمد بهجت هذا التعبير فكتب مقالًا في «الأهرام» هو خلاصة حديث مع الشاعر. وأقبل معين بسيسو، ومحمود درويش، ويوسف إدريس على التوالي، فأخذوا يترنمون بشعره القديم وذكرياتهم الشخصية مع هذا الشعر.

وكان لطفي الخولي في مكتبه منذ ساعة بانتظارنا ونحن لا ندري فذهبنا إليه. وبعد الأحضان والقبلات، قال له لطفي: لن أعاتبك على عدم تلبيتك لدعوة «الطليعة»، ولكن بعد انتهاء دعوة جمعية الأدباء فإننا نستبقيك أيامًا أخرى باسم «الطليعة». ووافق الجواهري شاكرًا. وطلب مني لطفي أن أكون في تصرُّف شاعرنا فعلَّق الرجل: إنه ابني.

وشرعت الأقلام الوطنية والتقدمية ترحِّب بمَقدَمه وتعرِّف به أوسع الجماهير التي حُرمت كلماته النارية زمنًا طويلًا، وتطلب إليه اللقاء معها ومع الناس التي تحبه. ولكن مساء ذلك اليوم نفسه شهد نَقْلة جديدة في السيناريو … فقد وصل عصام الحيني إلى الفندق في المساء، وراح يتكلم عن ضرورة انتقال الشاعر الكبير إلى «شبرد» إذا لم يكُن مرتاحًا لهلتون. ثم اصطحبنا إلى جمعية الأدباء. وكان بالانتظار يوسف السباعي وصالح جودت وإبراهيم الورداني وبقية الحاشية. بادره صالح جودت «أهلًا أستاذنا» وأخذه الورداني بالحضن، أما يوسف السباعي فكان دمثًا وناعمًا ومبتسمًا في هدوء كعادته. وبدأت الدردشة — من جانب صالح جودت — بالهجوم على الشعر الحر، فأيده الجواهري مستثنيًا عبد الرحمن الشرقاوي — وكان موجودًا — والسياب وصلاح عبد الصبور والفيتوري. وأحسست من مناخ «المجاملة» أن وجودي سوف يسبِّب الحرج، فاستأذنت معتذرًا بارتباط سابق.

لم تمضِ ساعتان أو ثلاث حين اتصل بي الجواهري تليفونيًّا، من جمعية الأدباء، يطلب مني أن ألحق به؛ لأنه لا يعرف الطريق إلى الفندق. وقام صالح جودت يودِّعه قائلًا: «أنت في بيتك يا أبو فرات». ولم أتصوَّر لحظة واحدة أن هذه الجملة نهاية حديث وبداية حدث، وليست لها علاقة بالوداع التقليدي أو الترحيب المصري المعتاد … حتى قال لي الجواهري في الطريق القصير جدًّا من الجمعية إلى الفندق: اسمع، أنا هنا لست عدوًّا لأحد! لم أفهم. شرحَ: على «الإخوان» أن يفهموا أنني هنا ضيف فقط، أو قُل إنني في بلدي … وقبل أن أسأله عمَّن يقصد بالإخوان استطرد: وعلى أية حال فأنا لست شيوعيًّا ولم أكُن في يوم من الأيام. الإخوان بيحبوني، على عيني ورأسي. والجماعة كمان بيحبوني. وقبل أن أسأله عمَّن يقصد بالجماعة أضاف: صالح جودت وجماعته طلبوا مني شعر لمجلة الهلال. وبيحبوني صحيح.

لم يترك لي أن أعلِّق …

ولم تترك لي كلماته أن أنام … ظللتُ ساهرًا أحدِّق في الفراغ وأفكر، ماذا يمكن أن يكون قد حدث بالضبط؟ وأكلني الندم على أنني تركته هاتين الساعتين. ولكني ما إن استيقظت في الصباح حتى دعاني تليفونه إلى طعام الإفطار. وقبل أن أقول له «صباح الخير» التفت إليَّ بعينَين زائغتَين وهو قادم من آخِر القاعة كمَن قرَّر أمرًا خطيرًا، وقال: اسمع. سوف أبقى هنا في مصر، لا شهرًا ولا شهرَين، وإنما إلى الأبد. إنها حبي الأول والأخير. أبلِغ الإخوان — لطفي أقصد — بهذا القرار حتى يتصرفوا.

وبُهتُّ! أُصبت بالخرس تمامًا. وحين بدَت بادرة حركة على شفتي ولم تفته «الصاعقة» التي ألمَّت بي، قال: طبعًا، هذا سر، سر خطير أقوله لك أنت وحدك، أنت موضع ثقتي، فلربما لا تكون الظروف عندكم مهيَّأة لبقائي، فإني أرحل دون أن يعرف أحد شيئًا.

ولم أُجِب. ذهبتُ فورًا إلى لطفي الخولي.

سردت عليه ما سمعت. نظر إليَّ مبتسمًا وهو يسألني: هل تعرف الجواهري جيدًا؟ إنه يتخذ هذا القرار اليوم ويتخذ نقيضه غدًا. قُل له أهلًا به في أي وقت وفي كل وقت وليبقَ في مصر ما شاء له البقاء؛ شهرًا شهرين. إنه يحل في قلوبنا قبل بيوتنا. ولكننا لا نتحمل مسئولية قراره الذي تُحدِّثني عنه، لأنه هو نفسه لا يعرف مسئولية الموقف. إنه رجل مزاجي غير مضمون.

وفي المساء توجَّهتُ إلى الجواهري لآخذه إلى قاعة اللجنة المركزية بالمقر الرئيسي للاتحاد الاشتراكي. وكانت المنصة تشهد منظرًا غريبًا: فغالبية الشعراء ممَّن يكرهون جمال عبد الناصر إن لم يكُن بالشفاه فبالقلب، وإن لم يكُن بالشعر فبالنثر، وإن لم يكُن بالعلَن فبالسر. أما الشاعر الذي أحبَّ عبد الناصر دون أجر — أحمد عبد المعطي حجازي — فقد أبعدوه عن الأمسية. لقد حضر، ولكنه لن يتكلم. هكذا كان الجو مشحونًا منذ البداية. وسقط جميع الشعراء، سقطوا في مذبحة الكذب. أحمد رامي وصالح جودت وغيرهما ممَّن قضوا العمر ينتحبون على الماضي الملكي، يمدحون عبد الناصر بلا تحفُّظ، جمعوا تراث أسلافهم كله في مديح الولاة والسلاطين والملوك، وصبُّوه على رأس عبد الناصر. ما عداه. ما عدا «أبو فرات»، فقد فاجأ القاعة بأن الراحل كان «عظيم المجد والأخطاء» وراح يعدِّد نواحي المجد ومكامن الخطأ، كما غازل مصر وشعبها غزلًا شديدًا، بالإضافة إلى براعته التمثيلية في إلقاء الشعر، فاهتزت القاعة مرات عدة اهتزازًا عنيفًا.

كانت ليلة الجواهري بلا منازع، وكادت تمرُّ بسلام، لولا أن أحمد عبد المعطي حجازي كان فارسًا شجاعًا فاستوقف صالح جودت والجموع في طريقها إلى الباب، وقال له كل ما يمكن أن يقال في شاعر الملوك والبغايا أمام الناس جميعًا. وقد يبدو الموقف بأكمله استفتاءً جماهيريًّا ساحقًا نجح فيه الشاعر الممنوع من الكلام وسقط فيه الشاعر الكذاب.

كان من الطبيعي أن نذهب مع حجازي إلى منزله أو إلى أي مكان، وإذا بأبي فرات يغمزني في ذراعي ويتجه بي إلى الخارج ويطلب تاكسيًا، وإلى الفندق. هرب من الانحياز إلى أحد الطرفين علنًا، وأراد أن يسمع مني «الأخبار». كانت بانتظاره رسالة مُغلَقة. كانت تحوي خمسين جنيهًا مصريًّا وكلمة صغيرة من مجلة الهلال بتوقيع صالح جودت، مكافأة له على قصيدتين قديمتين نشرتهما المجلة ترحيبًا بقدومه. وكانت «الأهرام» في اليوم السابق أخذت منه قصيدته الجديدة عن عبد الناصر فسألني كم سيدفعون إذا كانت مجلة صغيرة كالهلال دفعت كل هذا المبلغ على شيء قديم. ولم أُجِب. اكتفيتُ بالقول إن لويس عوض كتب مقدمة رائعة للقصيدة، وأنه لا ينبغي أن يقلق على نفاد نقوده لأن «الأهرام» ستتكفل بمصروفات إقامته. ودلفتُ إلى الموضوع الرئيسي وقلت له: الإخوان يرون أنك في بيتك ولا ضرورة مطلقًا لطلب إقامة دائمة، لأن تفسيرها الوحيد هو «اللجوء السياسي». وأنت أعرف بالجو الراهن بين القاهرة وبغداد.

كان لنا موقفنا المستقل من الصراع المصري العراقي في ذلك الوقت، وقد بدا ساخنًا قبل رحيل عبد الناصر بقليل. كنت مثلًا، أنا وحجازي ورجاء النقاش وصلاح عبد الصبور ولويس عوض أصدقاء للأستاذ أحمد فرج الله مستشار السفارة العراقية في القاهرة. شاب يعشق الفكر والأدب والثقافة، تعرَّفنا عليه حين كانت تصلنا عن طريقه دعوات من وزارة الإعلام لحضور مؤتمر أو مهرجان. وتوطَّدت بيننا وبينه صلة شخصية. وكان حظه مع القاهرة سيئًا، لأنه كان يحبها حبًّا خاصًّا، ولكنه عُيِّن بها في أحرج الأوقات، أي والعاصفة في أوجها وسماء العلاقات بين البلدين ملبَّدة بأكثر الغيوم كثافة. وعندما حوصرت السفارة العراقية ذات يوم أثناء التوتر العنيف بين العاصمتين، كنا نزوره هو وأسرته، وكان يزورنا في بيوتنا. وحين تأهَّب لمغادرة القاهرة كتب عنه لويس عوض في الصفحة الثقافية ﺑ «الأهرام» كلمة مؤثرة.

كذلك حدث أن زار مصر الأستاذ شفيق الكمالي — وزير الإعلام وقتئذٍ — وكانت تربطنا به ولا تزال علاقة حميمة. تعلَّم في القاهرة وعاش بين ناسها ودخل سجونها وأحبها كالعاشق من عمق أعماق القلب. ولكنه جاء أيضًا والعلاقات بين مصر والعراق في ذروة الأزمة. قلت للطفي الخولي إن شفيق الكمالي هنا، وهو صديق قبل أن يكون وزيرًا، أو قُل إنه رفيق نضال رغم الوزارة. وأحبُّ أن نحتفل به. واقترح رئيس تحرير «الطليعة» على الفور أن أدعوه إلى «الغداء». وفي الغرفة المخصصة لكبار الزوار بالطابق العلوي من «الأهرام» كان جميع أعضاء أسرة «الطليعة» يرحبون بضيفهم ويناقشونه في السياسة. وظللتُ مع حجازي مرافقين لشفيق الكمالي حتى يوم وداعه للقاهرة، وقد منعنا من مصاحبته إلى المطار «حتى لا نتعرض لأي سوء ولو شبهة المؤاخذة» كما قال.

هكذا كان لدينا موقفنا المستقل من الصراع الدائر بين البلدين. عرضته بأمانة على مسامع الجواهري. ولكنه بعصبية قطع ورقة صغيرة بحجم الكف وكتب عليها عدة أسطر، وطلب مني توصيلها إلى لطفي الخولي وهو يزمجر غاضبًا: قل للإخوان إنني أستغرب ردهم. إنني واثق من أن الرئيس السادات يوافق على بقائي هنا! أريد أن أمضي بقية عمري في بلادكم. سوف أجمع شعري وأكتب مذكراتي.

وقمت برأس مزدحم. شتى الانفعالات ومختلف الأفكار تجمعت فجأة. ورحت في الصباح إلى لطفي وحكيت له كل شيء. قال لي مستغربًا كل هذه الحدة: إذا كان مصمِّمًا، فعليه أن يكتب طلبًا. وقاطعنا تليفون من الجواهري، لم يزِد مضمونه عن كلمات الأمس. التفتَ إليَّ لطفي وسألني عن «الورقة» التي أعطاني إياها أبو فرات. كنت قد نسيتها. ونزل هو إلى مكتب الأستاذ هيكل، ونزلت أنا إلى الدكتور لويس عوض. حكيت له كل شيء فنظر إليَّ متأمِّلًا وهو يقول: حتى إذا أصرَّ الجواهري على البقاء، وأهلًا به فمصر بيته، فليتم ذلك دون ضجيج إعلامي يُسيء إليه. للرجل مكانته وشيخوخته التي يجب احترامها. لا ينبغي بأية حال أن يكون لعبة أجهزة الإعلام ولا أن يكون طُعمًا لشباك الصيد السياسي.

ثم جَرَت الأحداث بسرعة مخيفة. في الخامسة من مساء هذا اليوم طلب مني لطفي الخولي أن أبلغ الجواهري بموعد مهم بعد ساعة في «الأهرام». وفي السادسة تمامًا كنت برفقة أبي فرأت في مكتب الأستاذ هيكل، وكان لطفي بانتظارنا أيضًا. دخل الجواهري حسب الموعد وبقيت خارجًا لبعض الوقت. ثم فاجأتني السكرتيرة بأنني مدعو للدخول. كان هيكل يتذاكر مع الشاعر أبياتًا من إحدى قصائده. وكان يهديه نسخة من المجلد الذي يضم التاريخ المصور لعبد الناصر، وقد أصدرته الأهرام في ذكراه الأولى. ثم التفتَ إليَّ هيكل قائلًا: لو تكرمت تذهب مع شاعرنا الكبير غدًا في تمام الساعة التاسعة إلى القصر الجمهوري في عابدين. بانتظاركما الوزير محمد أحمد.

وفي الصباح كانت تنتظر الجواهري مفاجأة لم تخطر له — ولي — على بال! حملت «الأهرام» في صدر صفحتها الأولى خبرًا يقول ما معناه إن السيد رئيس الجمهورية وافق على منح الشاعر العراقي الكبير محمد الجواهري حق الإقامة الدائمة في مصر. لم أتناول إفطاري وتوجهتُ فورًا إلى فندق شبرد. كاد الجواهري حين رآني أن يلطم الوجه وهو يصرخ بكلمات مدغومة. فهمت منه أن الأمر كله كان يجب أن يظل سرًّا وبمنأًى عن شبهة اللجوء السياسي. اتصل به مراسل وكالة الأنباء العراقية يستفسر عن جلية الأمر. طلب منه الحضور إلى الفندق ظهرًا. وذهبت معه فورًا إلى موعده في القصر الجمهوري. كان محمد أحمد وزير الدولة لشئون الرئاسة بانتظارنا. تبادلا كلمات المجاملة، ثم التفت الوزير ناحيتي قائلًا: وخلال يومين على الأكثر فسوف ينتقل أستاذنا الجواهري من الفندق. ثم سأله عن الحي الذي يرغب في الإقامة به، فأجاب: جاردن سيتي. كان قد صاحب شابًّا كويتيًّا تعرف عليه في الفندق، يطلب العلم في المعهد العالي التجاري، وكان يسكن في هذا الحي وقد استضافه عدة مرات، فأعجبته السكنى هناك. وعند خروجنا من مكتب الوزير همس محمد أحمد في أذني بأن أتوجه إلى المكتب المجاور لأخذ مظروف مغلق باسم الجواهري وأخبره أن مرتبًا شهريًّا سيصله. واستمهلت أبا فرات لحظة في الممشى وعدت إليه بالمظروف. فتحه أمامي في التاكسي. كان به مائة جنيه. سألني عما سيفعلون. قلت له سيعطونك مرتبًا شهريًّا ويبدو أن هذا المبلغ عاجل للطوارئ. وبدأ الاضطراب يغشى عينيه والتوتر ينساب إلى صوته. سألني كم في العادة يعطون لأمثاله؟ قلت له لا أعرف فهذه هي المرة الأولى في حياتي التي أشهد فيها شيئًا كهذا. سألني عن مرتب عبد الوهاب البياتي. قلت له إن البياتي يستعد للرحيل والعودة إلى بغداد. سألني عما إذا كان سيقابل الرئيس، وبدأت أفقد الصبر وأنفض يدي من المسألة برمتها، فأنا لا أعرف بالفعل شيئًا على الإطلاق. سألني عما إذا كان ممكنًا أن يُقيَّد عضوًا بالمجمع اللغوي أو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. قلت له: أبو فرات، يجب أن تفهم جيدًا أنني لستُ مسئولًا وأن الموضوع بأكمله يسير في مجرًى لا أعلم بدايته ولا نهايته. أنت صديقي، وأرجو أن تعفيني من أي إحساس بالمسئولية عن شيء لم أشارك في صنعه وإنما أتيح لي أن أشهد بالصدفة وحدها مظاهره الخارجية … ولعلك تعلم أن عملي لا يسمح لي للأسف بوقت كافٍ لمصاحبتك رغم سروري لذلك. ولا بد لجمعية الأدباء التي تستضيفك رسميًّا حتى الآن أو رئاسة جمهورية التي ستستضيفك بعد ذلك من أن ترتِّب لك مرافقًا أو غير ذلك من أمور.

تجهم الجواهري في صمت. وكان مراسل وكالة الأنباء العراقية قد أزف موعده فاستأذنت. وفي «لا باس» رأيت الشاعرين عبد الوهاب البياتي، وحميد سعيد فلم أروِ لهما شيئًا مما أعرف، ولكن خبر «الأهرام» كانت صدمته على وجهيهما واضحة. في المساء كنا ثلاثة. أنا والبياتي وحميد سعيد في بهو شبرد مع الجواهري. راح البياتي يشرح له بشجاعة، ولكن في أدب أن هذا القرار يتنافى مع أي منطق، وأن صياغة الخبر تعنى اللجوء السياسي بلا لف أو دوران، وأنه ليست هناك أية مشكلات بينه — أي الجواهري — وبين النظام في بغداد تبرِّر هذا السلوك، بل إن العكس هو الصحيح، فقد قامت السلطة من أجله بما لم تقُم به أية سلطة لأي شاعر، وإنه لا يجوز استخدامه وقودًا في حرب باردة. وكان حميد سعيد صامتًا طول الوقت. ولم يُجب الجواهري إلا بشتائم شخصية للبياتي، وأنه قد أفصح لمندوب الوكالة العراقية بكل شيء. ولم يكُن «كل شيء» هذا إلا أنه مُفاجَأ بخبر «الأهرام» كأي قارئ آخَر، وإن إقامته في مصر محدودة يريد بها أن يلغي اسمه من قوائم الممنوعين نهائيًّا، مع تحياته إلى العراق حكومةً وشعبًا.

… وانتقل الجواهري إلى شقة فاخرة بجاردن سيتي! وأرسل إلى السيدة زوجته في بغداد يشرح لها ضرورة بقائه في القاهرة. وبقيت مهمته أن ينفي أمام زواره فكرة اللجوء، وأنه سيُعيَّن قريبًا في المجلس الأعلى للفنون أو المجمع اللغوي، وأخذ ينتظر مقابلة الرئيس التي لم يعده بها أحد. وانتهى «المولد» في الصحف التي ظلَّت تطارده أسبوعًا كاملًا منذ نهايات سبتمبر (أيلول) إلى بدايات أكتوبر تشرين الأول. صمتت. ولم يعُد يتصل به أحد. التقدميون وجدوه يوثق ارتباطاته بأعدائهم، فابتعدوا متسائلين. الرجعيون كانوا يضحكون في أكمامهم شامتين. حوريات الجنة اللاتي تصورهن في خياله أنهن سيقعن في غرامه، تأخرن في الحضور، ثم تخلفن دون تحديد الأسباب.

وفجأة حضر ابنه الدكتور فلاح — أو نجاح، لست أذكر اسمه تمامًا — من بغداد؛ حيث يعمل طبيبًا. وأشهد أن هذا الشاب الوطني قد وبَّخ والده الشيخ أمامي توبيخًا حادًّا؛ تارة لأن الزوجة والأولاد لا يطيقون بعده، وقد آنَ الأوان ليستريح، وتارة أخرى لأن الناس البسطاء في العراق صُدموا بهذا القرار غير المبرَّر. وأكد له أن السلطة لم ولن تتخذ ضده أي شيء رغم المفاجأة. وعاد فلاح أو نجاح؟ بخُفَّي حُنين!

ولكن «الوحدة» راحت تنسج خيوط العنكبوت حول الرجل العجوز، لم يعُد يتصل به أحد، لا يوسف السباعي ولا صالح جودت ولا الآخرون. وإنما بقي اتصاله الوحيد مقطوعًا بمكتب اللاجئين السياسيين في رئاسة الجمهورية. ذلك أنه فوجئ آخِر الشهر بأن أحدًا لم يسأل، وأن عليه أن يدفع ثمن الكهرباء وصاحب المنزل الأرستقراطي يستفسر عمَّن سيدفع الإيجار. ويبدو أن البيروقراطية شاركت في صنع المهزلة، فقد احتاج الأمر لأن يطلب مني الجواهري أن أكلِّم هيكل أو لطفي في الموضوع. كلمت لطفي. وصله «أحدهم» يحمل مظروفًا جديدًا وكلمات اعتذار ووعد بأن المشكلة ستنتهي خلال أيام.

قبل انتهاء الشهر الثاني لم تكُن المشكلة قد انتهت! وأحسَّ الجواهري بالضياع. وبدوري لم أفهم شيئًا، أين بدأ الخيط، وكيف تعقَّد؟ هل بدأ في خلوته مع السباعي وجودت والورداني أم في مكتب هيكل، أم فيهما معًا؟ هل كانت «نزوة» مزاجية طارئة لقيت أذنًا صاغية واستغلالًا سياسيًّا موقوتًا، ثم «احترقت الورقة» فلم تعُد لها قيمة تستحق العناء؟ مَن الذي وعد، ومَن الذي أخلف؟ أم إن القصة بدأت في مكتب السباعي على نحوٍ ما، ثم بدأت من جديد في مكتب هيكل على نحو آخَر، فاختلفت البداية، وكانت النهاية واحدة؟

لا أدري، فإني لم أرَ ولم أسمع ولم أحضر «اللحظات الحاسمة» في الموضوع، وقد دارت في مكتبين مغلقين أحدهما بدار الأدباء والآخَر «الأهرام». كل ما أذريه أن شيئًا حدث يُشبه «الشهوة» في صعودها إلى الذروة وهبوطها إلى السفح، في علاقة الجواهري بالنظام المصري إبَّان شتاء ١٩٧١م. واللافت للنظر أن ما بين تأجج الشهوة من الجانبين وانطفائها المباغت، تم بسرعة مذهلة ولوقت بالِغ القصر.

ثم …

جاءني أبو فرات ذات صباح بقلب كسير يدعو للأسف والحزن، يسألني عن كيفية الحصول على بطاقة سفر إلى براغ. أدهشني أن بطاقة الدعوة كان للذهاب وحده وليست للإياب. اتصلت بيوسف السباعي فأمر عصام الحيني بتدبير التذكرة واستوقفني متسائلًا: لماذا؟ التقط الجواهري سماعة التليفون ليقول: سوف أنهي متعلقاتي في براغ وأعود. ورفع السماعة ثانيةً ليقول العبارة ذاتها لمَن يتصلون به من الرئاسة. ورفعها ثالثة ليردِّدها على مسامع لطفي الخولي.

وحين سألني لطفي في اليوم التالي مبتسمًا: ما الخبر؟ أجبته: صدق تقديرك للرجل. علَّق: وقد يهاجم مصر غدًا في بيروت. هذا هو الجواهري.

•••

نعم، هذا هو الجواهري.

فحين جاءني معين بسيسو منذ قرابة شهرين يحمل لي صورته وهو يتقلد «وسام الكفاية الفكرية» في البلاط المغربي، لم أُفاجَأ لكني حزنت، كما لم أحزن عندما عرفت أن محمود حسن إسماعيل في مؤتمر الأدباء العرب بتونس أنشد قصيدة للرئيس بورقيبة وكانت «مذبحة المثقفين المصريين» لا تزال دامية.

حزنت وكتبت كيف يسمح الزمن للجواهري بأن يأخذ وسامًا، والشاعر المغربي المناضل عبد اللطيف اللعبي في زنزانته محكوم بعشر سنوات.

وحين تلقيتُ نبأ الهدية الملكية المغربية يوم ٢٤ سبتمبر (أيلول) الماضي، كان الحزن نفسه قد تبدَّد … فهذا هو الجواهري إذَن «شخصية لم يكُن الشعر في حياتها أهم الأشياء، كما قد يتصور البعض، ولا كان الشعب، ولا كانت الثورة. وإنما كانت (حياة) الجواهري نفسها وما زالت أغلى الكنوز التي اقتناها و«عاشها» في هذه الدنيا» كما كتبتُ عنه منذ أسابيع.

ولكن، ماذا ينتفع الإنسان حقًّا، لو ربح العالَمَ كله وخسر نفسه؟

تلك هي «العبرة» التي يمكن أن تدلنا عليها مأساة الجواهري، بعد أن يذهب … ويبقى الشعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤