مذهب التدرج والانتقال في أنواع البلاغة

فرديناند برونتيير هو صاحب هذا المذهب،١ ويجدر بنا أن نجمل آراءه ومذهبه فيما يأتي:
تربَّى برونتيير تربية علمية، وسارت أفكاره وآراؤه في طريق علمي حتى في مذهبه الأدبي وفي طريقته في النقد؛ ولذلك لم يكن يميل إلا إلى الوضوح والصراحة، ولا يعجب إلا بالآراء السليمة الصحيحة، وعمل على إصلاح كثير من الأفكار السقيمة التي كانت منتشرة في الآداب، وكان يقول: «إن الأفكار قوة ذات أثر، وإن البلاغات شيء آخر غير نوع من التسلية واللهو.» وكان يرى أن البلاغة «الشخصية»، أي الكتابات التي منشؤها ميول الكُتَّاب وأهواؤهم بدون نظر إلى المجتمع ولا إلى النفوس العامة، ليست إلا ضربًا من الأهواء والشهوات النفسية، فإنها خطر على الأخلاق وعلى البلاغة نفسها، ولأنها لا تمثِّل شيئًا من الحياة الاجتماعية العامة، التي هي حياة الآداب والبلاغات؛ ولذلك كان ضد مذهب الوجدانيات Romantisme، ولهذا أيضًا أحب ألَّا يكون مذهبه في النقد مذهبًا شخصيًّا؛ كي لا يحكم على الكتابات بذوقه الخاص، أو بما يحدِثه في نفسه أثر القراءة، بل أراد أن يضع مذهبًا عامًّا للنقد، مبنيًّا على أساس علمي وعلى الموازنة بالكتابات الشهيرة، لا لأنها نموذج ونظام فريد، بل لأنها أمثلة تدل على طرق الإتقان في الفكر والصناعة. وكان لا يهمه من القراءة أن يعجبه ما يقرأ، بل صحة ما فيها من الأفكار والآراء والافتنان والصناعة، لكبار الكُتَّاب، ثم يتساءل بعد ذلك: «هل للكاتب غرض يرمي إليه؟ وهل من غرضه أن يهدي القراء إلى فضيلة من الفضائل؟» لأنه لا يرى غرضًا جديرًا بالكتابة، ذا قيمة حقيقية لأي نوع من أنواع البلاغة، إلا إذا كان يؤدي إلى نوع من أنواع التهذيب، أو يرشد إلى فكرة نافعة في الاجتماع؛ لذلك كان يحارب مذهب القائلين: إنه يلزم النظر إلى الفنون من حيث إنها فنون L’Art pour L’Art لأنه كان يرى أن الكتابة الأدبية يجب أن تترك في نفس القارئ أثرًا نافعًا، وأن الحذَّاق وأصحاب الفنون لا يستحقون هذه الألقاب إلا إذا استعملوا الفنون وسيلة تساعد على نمو «الإنسانية» في الإنسان.
وقسم الفنون إلى فنون عظيمة وفنون حقيرة، فإن من الفنون ما ليس إلا ضربًا من اللهو واللعب والتسلية، وهي مع ذلك تأخذ بالألباب وتسحر العقول بجمالها وبلاغتها، ومنها ما هو جدي متين ممتع.٢

أما طريقته في النقد، فكان يرى أنه يجب الاهتمام بإظهار عيوب الكتَّاب أو الشعراء قبل الاهتمام بإظهار محاسنهم؛ لأن العيوب هي ضرب من المحاسن في نظر الكاتب أخطأ في فهمها، فمن المفيد في النقد تمييزها من المحاسن الحقيقية؛ فالذي يتعمد إظهار عيوب الكُتَّاب هو في الحقيقة يعمل على إظهار محاسن الكتابة، كما أنه يعمل على تجنب العيوب بإظهارها وشرح الوسائل والأسباب التي دعت إليها؛ وعلى ذلك فالنقد الذي من غرضه البحث عن عيوب الكاتب يقصد إلى إظهار قواعد البلاغة الصحيحة ومحاسن الكتَّاب التي يجب اتباعها، هذا هو أصل طريقته في النقد، وكان يعمل على تأييد فكرته ومذهبه بعزم صادق وحجة قوية وصراحة نادرة، فقد كان من أكبر الرجال الذين خُصوا بقوة الجدل وحب المخاصمة والمناقشة؛ ولذلك كثر أعداؤه، ولم يكن له من الأصدقاء إلا تلاميذه وقليل من إخوانه.

وقد امتاز برونتيير ميزة خاصة بمذهبه الأدبي، وأصبح إمامًا ومخترعًا لمذهب علمي أدبي؛ فقد انتحل من مذهب دارون العلمي مذهب «التدرج والارتقاء» مذهبًا أدبيًّا هو مذهب «التدرج الأدبي»؛ فقد رأى أن الأنواع الأدبية من وجدانيات، واجتماعيات، وشعر، ونثر تمثيلي، تنقسم إلى فصائل كما في علم النبات والحيوان، وأنه يجري عليها قانون التدرج والارتقاء الذي يجري على الأنواع الحية سواء بسواء، ويرى أن لها أطوارًا تتخطاها كأطوار النبات والحيوان، فقال: «إن الأنواع الأدبية ككل شيء حي في هذا الوجود، تُولد لتموت ولتدركها الشيخوخة على حسب ما تلد وتنتج من المؤلفات النافعة الممتعة. ومثل ذلك مثل من ينسخ كتابًا على كتاب آخر، وينسخ من هذا كتابًا ثانيًا، ومن الثاني ثالثًا وهكذا؛ فتكون كل نسخة تابعة لما قبلها مع شيء من التحريف، إلى أن تكون النسخة الأخيرة كأنها غير الأولى، أو كأنما كتبها أحد تلاميذ المؤلف ولم يؤلفها أستاذ حاذق.» قال: «وهكذا تفنى الأنواع الأدبية مهما حاول الكُتَّاب حفظها وبلوغها إلى درجة الإتقان أو ما يقرب منه.» ويقول: «كما أن العقول تتشابه فتتآلف، وتتناكر فتتخالف، كذلك المؤلفات الأدبية التي هي نتاج العقول، تكون أنواعًا قريبة أو بعيدة من بعضها، وإن هذه الأنواع لازمة للمجموعات الأدبية، وإن لها حياة خاصة وصناعة خاصة بكل واحد منها، توجد وتتوالد في الأفكار توالدًا ساذجًا أوليًّا، ثم تتكون ويتم تكونها شيئًا فشيئًا، وتنمو كما ينمو الحيوان والنبات إلى أن تنضج، ثم تقف برهة من الزمن حافظة حياتها إلى أن تدركها الشيخوخة، ثم تتحول إلى نوع آخر فتحيا مرة أخرى وهكذا …»

وعنده أن تاريخ البلاغة عبارة عن تتبع هذه الأنواع في جميع أطوارها وأعمارها، وفي جميع أدوار حياتها وتقلباتها. قال: «وهذا ما يحمل على الظن بأن تاريخ البلاغة يمكن أن يكون علمًا من العلوم. وعلى هذا المذهب يمكن أن نفسر ما يعتري بعض الأنواع الأدبية من الوقوف والانحطاط، وما يدعوها إلى الظهور مرة أخرى» (كما حصل في الشعر الوجداني في فرنسا، فقد مرَّ به نحو قرنين وهو في حالة موت ونزاع، ثم انتشر انتشارًا غريبًا، وحيي حياة أخرى في أوائل القرن التاسع عشر بحال لم تكن له في حياته الأولى، وكاد يكون النوع الوحيد في البلاغة الفرنسية، ومثل ذلك يقال في غيره من الأنواع). ومن الأمثلة على مذهبه: أن القصص الطويلة الموجودة الآن أصلها حكايات قصيرة جاءت من المحادثات، ثم تكوَّنت وكبرت شيئًا فشيئًا إلى أن أصبحت إلى ما هي عليه الآن، وتولدت من ذلك أنواع كثيرة، وكان يتغلب في كل زمن نوع منها على غيره، ثم يظهر منه نوع آخر يمحو النوع الأول.

هذا المذهب هو القول بأن الأفكار الإنسانية والفنون جميعها مرتبة ترتيبًا طبعيًّا، فصائل فصائل، ومجموعات متحدة الجنس، كفصائل النبات والحيوان، وأن لكل مجموعة قوانين ونظامات وسلسلة حياة خاصة تولد وتعيش وتموت، وأن هذه الأنواع إذا بلغت ذروة مجدها تحولت إلى أنواع أخر، كما يتحول النبات والحيوان، أو وقفت برهة من الزمن ثم عادت إليها حياتها … إذا تم بناء هذا المذهب كان من أعظم مذاهب النقد، التي تساعد على دراسة تاريخ البلاغة، وكشف مخبأ أنواع الكلام، وترتيب وتبويب ضروب الكتابات، وجعلها خاضعة لقوانين عامة كالأنواع الحية والمسائل العلمية؛ وعلى ذلك يصبح النقد الأدبي علمًا من العلوم لا فنًّا من الفنون كما هو الآن. ولكن ذلك لم يتحقق بعدُ، وربما لن يتحقق أبدًا؛ لأن الأدب فن لا علم.

هذا المذهب العلمي البحت يخالفه وينازعه مذهب آخر في النقد، وهو مذهب التأثير والانفعال Impressionisme، الذي من أئمته ودُعاته «جول لمتر»، وهو من كبار الكتاب الحذاق والنقاد الشهيرين، ومذهبه من أشهر المذاهب الأخيرة في النقد؛ لأن الرجل مات سنة ١٩١٤.
١  فرديناند برونتيير Ferdinand Brunetiére هو صاحب مذهب التدرج والانتقال في أنواع البلاغة L’évolution des genres littéraire.
وُلِدَ سنة ١٨٤٩، ومات سنة ١٩٠٧، وهو من أكبر أدباء القرن التاسع عشر، تقلب في مراكز العلم والأدب، وكان من أعضاء المجمع اللغوي الأدبي في فرنسا، وأستاذ الأدب والبلاغة في مدرسة المعلمين العالية، ورئيس تحرير مجلة العالمين الشهيرة.
تقلب في هذه المناصب كلها، ولم يمكنه الحصول على شيء من الشهادات العلمية غير الشهادة الثانوية، وخاب مرات في إجازة امتحان اللسانس، فعكف على القراءة والدرس، وكان يعرف اللغات القديمة والحديثة، فتوصل بفضل ما كان لديه من الجَلَد وحب المطالعة، وفكره الثاقب وذكائه العظيم، وقوة إرادته وثقته بنفسه، إلى أن أصبح من علماء فرنسا وأدبائها وأكبر أئمة الأدب وقادة الأفكار، بل صاحب مذهب الأطوار الأدبية أو «مذهب التدرج والانتقال»، وأثَّر في الحركة الفكرية في فرنسا أثرًا عظيمًا.
وكان من أصحاب العقول النادرة في حب القراءة والميل إلى الاطلاع على كل شيء؛ فقد قرأ قراءة تامة وعرف معرفة تامة كل ما أنتجته عقول جميع الأمم في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، وقرأ الآداب القديمة وآداب القرون الوسطى، وقرأ كل ما ظهر في عصره؛ فكان أكثر الناس شرهًا في الاطلاع.
٢  مثال ذلك: البلاغة الشخصية والبلاغة الاجتماعية؛ إذ البلاغة الشخصية — التي لا يجد فيها القارئ غير شخصية الكاتب — قليلة الفائدة؛ لأن الكاتب لا يهتم فيها إلا بأحواله الخاصة ممَّا لا يفيد كل إنسان ولا يؤثر في كل نفس، وهذه في نظره هي الآداب الحقيرة. أما الآداب العظيمة الاجتماعية، فهي التي تظهر نصيب الكاتب ممَّا اكتسبه من الأفكار الاجتماعية، أو على رأيه هي التي تبيِّن حظه من الإنسانية، الذي يتفق به مع غيره ويتذوقه سواه، وهي الآداب النافعة، وأصحابها يمقتون الشخصيات وأحوال النفوس الخاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤