النزعات المختلفة في فهم البلاغة

يقرِّر العالِم نظريته ويبرهن على رأيه، ولا يكاد ينتهي من تقريره البرهان حتى تخرج الحقيقة من نفسه إلى نفوس سامعيه، وتظهر آراؤه لدى تلاميذه جلية واضحة، وتنتقل من تلاميذه إلى غيرهم، وتدخل في مائة نفس، وتملأ ألف رأس، كما خرجت من نفس قائلها، وكما قررها الأستاذ الأول، لا تؤثر فيها نفس أخرى، ولا تغيرها آثار الناس. فالقضية القائلة: «إن مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين.» والقضية القائلة: «إن الاحتكاك يولِّد حرارة.» لا تزال هي هي في كل رأس وعند أي إنسان.

أما في البلاغات وفي أنواع الفنون فالأمر غير ذلك؛ لأن أثر الكاتب لا بد أن يكون ظاهرًا فيها ظهورًا تامًّا؛ فهو الذي يميزها من سواها ومن الأذواق الأخرى، وهو الذي يُكسِبها رونقًا وجمالًا، أو يجعلها ثقيلة على النفس. ولكن ذوق الكاتب أو الشاعر لا يتفق مع كل نفس، ولا يُفْهَمُ بطريقة واحدة؛ لاختلاف الأذواق في طرق الإدراك، التي يُرجَع إليها في الحكم على الفنون وفي تذوق الجمال؛ ولذلك يختلف الناس في تقدير وقبول البيت والقصيدة من الشعر. كذلك الحال في الموسيقى والتصوير: تكون هذه الصورة جميلة مقبولة لدى إنسان، وغير مقبولة عند آخر، ونجد فلانًا الموسيقار الشهير له طائفة تحبه، وترغب في سماع صناعته؛ لأن نغماته شجية، وهؤلاء يميلون للحزن والابتئاس، على حين أننا نجد آخرين لا يرغبون في هذا النوع الذي لا يحمل على السرور. غير أن هذه الفروق في الأذواق تقل في جماعة تَرَبَّوْا على طريقة واحدة، وعاشوا في بيئة واحدة، وفي زمان واحد. ولكن متى كان للعواطف أثر في إدراك الجمال والحكم عليه؛ كان للخلاف مجال واسع في تقويمها، هذا الاختلاف في الفهم والإدراك هو الذي يُحيِي ويُمِيت المذاهبَ والأفكارَ المختلفة في كل زمان؛ ومن هنا تنشأ الحركة الفكرية واختلاف المذاهب والأطوار، وتتولَّد المذاهب الكتابية أو مذاهب البلاغة؛ لأن أثر الأفكار وأثر حركة العقول يظهر دائمًا في بلاغات الأمم الحية؛ إذ البلاغات ليست إلَّا صورة من حركات الأفكار، كما حصل في القرن الثامن عشر في فرنسا، حيث انتشرت الفلسفة، وانحطَّ الخيال وسقطت منزلة الشعر، وفي القرن التاسع عشر، حيث ابتدأتِ البلاغة بالمذهب الوجداني، ثم بمذهب الطبعيين، ثم بمذهب الحقائق، وكما حصل في بلاغة العرب أن انحطت منزلة الشعر عند ظهور الإسلام — على رأي بعض الأدباء — أي قلَّ احترامُ المسلمين للشعر في ذلك الوقت لاشتغالهم بالدين ونشر دعوته.١
ولمَّا أسَّس بنو أمية دولتهم انتشرت أنواع الهجاء في الشعر، وشجَّع الخلفاء الشعراء على مدحهم وذم أعدائهم، بما كانوا يُفيضون عليهم من العطايا والأموال الكثيرة، وظهرت كل أنواع الشعر، وانتشر الغزل وظهر من كبار رجاله جميلٌ وكُثَيِّر وابن أبي ربيعة وغيرهم، وأخذ يظهر المُجون، وبينما كان هؤلاء وغيرهم ممن أتى بعدهم زمن العباسيين يفهمون البلاغة نوعًا من جمال القول، وضربًا من تسلية النفس، وشيئًا من المجون والخلاعة، وأحيانًا آلة للدفاع عن النفس والأهل، ووسيلة من وسائل الكسب، جاء علماء اللغة والأدب كالأصمعي وأبي عبيدة وغيرهم، فلم يحفِلوا بالمُحدَثين ولا بأشعارهم؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى الشعر نظرة أخرى غير نظرة أصحاب الفنون، وكادوا يقصرونه على استنباط الأدلة اللغوية، وجعلوه وسيلة لتفسير الآيات الكريمة والأحاديث النبوية، وغَمَطوا من حق الصنعة، ووضعوا من قدْر المُحدَثين، لا لشيء سوى أنهم مُحدَثون.٢

ولمَّا انصرف المسلمون انصرافًا تامًّا إلى الاشتغال بتفسير القرآن الكريم، واهتم العلماء والأدباء منهم بجمع الأشعار واللغة. قالوا: إن علوم الأدب جمعاء وسيلة لفهم كتاب الله — تعالى — وقالوا: إن حكم البلاغة وحكم معرفة العلوم الأدبية الوجوب الكِفَائي، وشرفُها بشرف ما يتوصل إليه، فهي كلها علوم آليَّة (كما قال ابن خلدون في مقدمته)، كذلك كان فهم المسلمين للأدب والبلاغة، حتى لقد ترفَّع كثير منهم عن قول الشعر وذمَّه ذمًّا؛ لأن السواد الأعظم من الشعراء جعله وسيلة للسؤال، على ما كان له من الرفعة في المنزلة والروعة في المدح والذم، وكان الأمراء والخلفاء يَمْلَقون الشعراء ويخافونهم. فلم يكن الشعر والبلاغة صورة من الاجتماع العام أو الخاص، أو شيئًا جدِّيًّا في المجتمع، بل كان شِبْه ألعوبة للأهواء والأغراض وتسلية للنفوس، ولم يكن لشاعر أن يقصد إلى تربية النفوس وتهذيب الأخلاق، أو إظهار صورة عامة من صور الحياة، إلا ما جاء عفْوًا عند بعض الشعراء الزهاد والحكماء مثل: أبي العتاهية، والمتنبئ، وأبي العلاء. فكانت روح البلاغة أو الروح الأدبية كأنها في حالة اختناق؛ لأنها انحصرت في طائفتين، وكلتا الطائفتين لم تعمل على رقيها كما كان ينبغي: فطائفة العلماء والمشتغلين بالدين والعلوم العربية اهتموا بالبلاغة من أجل ذلك فقط، فكان همهم الجمع والدرس، لا لشرح هذه البلاغة من حيث إنها بلاغة، أو من حيث إنها أثر أدبي، أو من حيث إنها نتيجة جهد العقول والقرائح، بل لأنها وسيلة من وسائل حفظ اللغة وفهم مفرداتها.

وعلى ذلك انتشر هذا المذهب وبُنِي النقد الأدبي، بل لم يفهم الأديبُ أو اللغويُّ أو العالِمُ الأدبَ إلا من هذه الوجهة؛ ومن هنا قالوا: الغرض من الأدب التوصل إلى فهم كتاب الله تعالى. روى الجاحظ عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أنه قال: «كفاك من علم الدين أن تعلم ما لا يسع جهلُه، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل.»٣
وقيل لعمرو بن عُبَيْد: ما البلاغة؟ قال: ما بلغ بك الجنة، وعَدَل بك عن النار، وما بصَّرك مواقع رشدك وعواقب غيك.٤
هكذا فهم طائفة العلماء الأدب والبلاغة، وفسروهما على حسب فهمهم، ولم يكن هناك غيرهم من النقاد والعلماء، الذين يمكنهم أن يؤثِّروا في الحركة الفكرية بغير ذلك، ولا مَن كان لآرائهم ما لهؤلاء من القوة والسلطان على الأدب والأدباء، فزجُّوا بالأدب والبلاغة في هذا السبيل، وأصبح الشعر شيئًا «ثانويًّا» كما يقولون؛ لأن همَّ العلماء والنقاد لم يكن متجهًا لفهم البلاغة فهمًا حقيقيًّا. سأل سائل أحد هؤلاء العلماء عن حَدِّ البلاغة فأجابه: «إنك إذا أردتَ تقرير حُجَّة الله — تعالى — في عقول المتكلمين، وتخفيف المئونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند أهل الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة، كنتَ أُوتِيتَ فصل الخطاب، واستوجبتَ من الله جزيل الثواب.»٥

أما الطائفة الثانية، وهي جماعة الشعراء والخُلَعاء، فقد كانت تتَّخِذ البلاغةَ — خصوصًا الشعر — آلةً من آلات اللهو والطرب والاستِجْداء. وحسبنا أن نرجع إلى الشعر والشعراء مدة الأمويين والعباسيين، حتى عند الحكماء منهم مثل أبي الطيب وغيره، وحتى كان فهم النقاد أنفسهم للشعر فهمًا غريبًا؛ لأنا إذا سردنا أقوالهم وآراء الأدباء، رأيناها غير محتوية على النقد «التحليلي» لمعاني الشعر، ومَن يراجع مقدمة ديوان أبي نُوَاس وكلام أبي حاتم يرَ كيف كانت آراء النقاد، وأنها ليست إلا ألفاظًا مرصوصة غامضة المعنى، يقولها كل إنسان، ليس فيها شيء من النقد الصحيح. وأبو حاتم السِّجِسْتاني توفي في أواسط القرن الثالث الهجري؛ أي إبَّان نضوج العلم والأدب عند العرب، فالذنب ليس على الشعراء ولا على الكتَّاب في ذلك؛ لأنهم كتبوا ونظموا كثيرًا وقالوا في كل شيء، وطرقوا كل باب أوحت إليهم به نفوسهم وقرائحهم. ولكنَّ حركة النقد لم تكن لديها القوة التي كانت تمكِّنها من الحكم على الآراء، وقود الحركة الفكرية، ونقل الأدب والبلاغة إلى طريق اجتماعي أفْيَد وأمْتَن وأفْضَل ممَّا سارت فيه، بل ساعدت على وقوف البلاغة من شعر ونثر، فلم تصل البلاغة العربية من التأثير في الاجتماع والتأثر منه إلى ما وصلت إليه بلاغات الأمم الأخرى.

ونعود فنقول: لو وهب الله الأدب العربي من النقاد ما نبَّه العقول إلى فهم البلاغة فهمًا اجتماعيًّا، وبحث فيها مباحث اجتماعية، وبيَّن أنها عامل من عوامل الاجتماع، لكانت في نوعها أحسن بلاغة وأمتعها؛ لِما للغة العربية من الميزة في الغناء وضروب التعبير، وجمال القول، ومتانة الأسلوب، خصوصًا الصناعة اللفظية التي لا توجد في لغة أخرى.

إن كل حركة ظهرت في بلاغات الأمم الأخرى، ونقلتها من حال إلى حال، كان منشؤها آراء النقاد وأفكارهم وإرشاداتهم، كحركة الكتابة التي ظهرت في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر، فقادت الأدباء إلى الطرق المختلفة، وأوجدت الأطوار الأدبية المعروفة.

١  وإن كانت بلاغة الشعر لم تنحطَّ بلِ ارتقت بتأثير بلاغة القرآن، وكل ما حصل هو عدم الاهتمام بالشعر كما كان ذلك قبل الإسلام؛ لأن بلاغة القرآن مَحَت كل بلاغة غيرها.
٢  قال القاضي عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه»: وما أكثر ما نرى ونسمع من حفَّاظ اللغة وجِلَّة الرواة ممن يلهج بعيب المتأخرين، أن أحدهم يُنشَدُ البيتَ فيستحسنه ويستجيده، ويعجب منه ويختاره. فإذا نسب لبعض أهل عصره وشعراء زمانه، كذَّب نفسَه ونقضَ قولَه، ورأى تلك الغضاضة أهون محملًا، وأقلَّ مرزءًا من تسليم فضيلة المُحدَث، والإقرار بالإحسان لمُولَّد. حُكي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: أنشدتُ الأصمعيَّ:
هل إلى نظرة إليك سبيلُ
فيُبَلَّ الصَّدا ويُشفَى الغليلُ
إن ما قَلَّ منك يكثر عندي
وكثيرٌ ممن تحب القليلُ
فقال: والله، هذا الديباج الخسرواني، وإنه … لمَن تنشدني؟ فقلت: إنهما لليلتهما. فقال: لا جرم والله إن أثر التكلُّف فيهما ظاهر (ص٤٧).
بمثل هذا يكون اختلاف الأذواق في فهم البلاغة من نظم ونثر. وفي القرن السابع عشر في فرنسا كان فهم الفرنسيين لبلاغتهم غيرها في القرن الثامن عشر، وغيرها الآن؛ لأن بلاغتهم كانت غريبة عنهم لا تمثل شيئًا من مجتمعاتهم، ولا من «شخصياتهم»، وكانوا يقدسون بلاغة اليونان والرومان، ويقلدونها في كل شيء حتى في الموضوعات، ولم يكونوا أدركوا بعدُ أن البلاغة صورة الاجتماع، بل فهموها صورة لنفوس عامة، لا «لشخصيات» الأمم، وظنوا أنفسهم عاجزين عن الاختراع والابتكار في ضروب القول وأساليب البلاغة، إلى أن انتشر مذهب ديكارت الفيلسوف، وظهر أثره في البلاغة، كما ظهر في الفلسفة وغيرها (راجع في هذا الكتاب الكلام على القدماء والمحدثين في فرنسا).
٣  البيان والتبيين، ج١، ص٤٩.
٤  البيان والتبيين، ج١، صحيفة ٤٣.
٥  البيان والتبيين، ج١، ص٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤