تمهيد

شاع ارتباط الوجودية بالمقاهي الباريسية في ليفت بانك و«عائلة» الفيلسوفَين: جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، التي اجتمعت هناك في الأعوام التي أعقبت مباشرة تحرير باريس في نهاية الحرب العالمية الثانية. يتصور المرء مفكرين غير تقليديين وطليعيين، لا تفارقهم السجائر، يستمعون إلى موسيقى الجاز وهم يناقشون في حرارة تبعات حريتهم السياسية والفنية المكتسبة حديثًا. يسودهم مزاج الحماس والإبداع وتحليل الذات القلِق، والحرية … دائمًا الحرية.

على الرغم من أن هذا يعكس الصورة التي تُروِّج لها وسائل الإعلام اليوم ويجسد — بلا شك — روح العصر، فإنه يخفي الدلالة الفلسفية للفكر الوجودي، مصورًا إياه كظاهرة ثقافية مرتبطة بفترة تاريخية معينة. ربما يكون هذا هو الثمن الذي يدفعه أسلوب فكري يميل إلى النظر إلى الفلسفة نظرة مادية بدلًا من نظرة مجردة وخالدة. كانت رغبة الوجوديين في الارتباط بالعصر سببًا في التزامهم الاجتماعي والسياسي، لكنها ربطتهم أيضًا بمشكلات زمانهم، ودعت الأجيال اللاحقة إلى النظر إليهم كظاهرة عفى عليها الزمن.

هذا سوء تفسير للفكر الوجودي آمل أن أصححه في هذا الكتاب القصير. لو كانت الوجودية تحمل آثار ظهورها بعد الحرب، فإنها على الأقل — من حيث كونها أسلوبًا للتفلسف والتعامل مع الموضوعات المهمة في حياة الناس — قديمة قِدم الفلسفة نفسها، وهي معاصرة شأن الحالة الإنسانية التي تعكف على دراستها. ولكي أضمن منذ البداية عدم إغفال هذه النقطة، سأبدأ الفصل الأول بمناقشة علم الفلسفة، لا كمذهب أو نظام فكري وإنما كأسلوب حياة. وقد استوحيت عنوان الفصل الأول من دراسة الباحث الكلاسيكي بيير هادو عن عودة المذهب الرواقي كمثال يوضح كيف تستطيع الفلسفة «القديمة» أن تجعل لحياة الناس معنًى حتى في أيامنا المعاصرة. ومع أن هادو يفضل فلسفة الإغريق والرومان، فإنه يجد اهتمامًا مشابهًا في كتابات سورين كيركجارد وفريدريك نيتشه، المعروفَين ﺑ «رائدي» الحركة الوجودية في القرن التاسع عشر، ولدى خلفائهما في القرن العشرين.

من المعروف عمومًا أن الوجودية فلسفة تدور حول الفرد بكيانه المادي الملموس. وهذه نقطة قوتها ونقطة ضعفها في الآن ذاته. ففي عصر وسائل الإعلام الجماهيرية والدمار الشامل، يُحسَب للوجودية دفاعها عن القيمة الأصيلة لمن يسميه مناصرها الرئيسي سارتر «الفرد الطبيعي الحر»، أي الفرد الفاعل المكون من لحم ودم. ونظرًا إلى الانجذاب الذي يكاد لا يقاوم نحو الانصياع للعادات في مجتمعنا الحديث، فإن ما سنسميه «فردية وجودية» يعد إنجازًا، لكن ليس دائمًا. فنحن نولد مخلوقات بيولوجية، لكننا يجب أن نصبح أفرادًا وجوديين عن طريق تحمل مسئولية أفعالنا. هذا تطبيق لنصيحة نيتشه بأن «تتصرف على طبيعتك التي جُبلت عليها». لا يعترف كثير من الناس بهذه المسئولية وإنما يتهربون من فرديتهم الوجودية إلى أمان الزحام المفتقر إلى الهوية. وكدرس عملي للتحول إلى الفردية، سأتناول في الفصل الثاني ما يسميه كيركجارد «دوائر» الوجود أو «خطوات على طريق الحياة»، وسأختم ببعض الملاحظات حول كيف كان نيتشه سينظر إلى مشروع التحول إلى الفردية الوجودية هذا.

بعد انتهاء الحرب بقليل، ألقى سارتر محاضرة عامة بعنوان «هل الوجودية فلسفة إنسانية؟» هزت الحياة الثقافية في باريس وكانت بمنزلة بيان رسمي بإطلاق الحركة الوجودية. منذ ذلك الحين، ارتبطت الوجودية بنوع معين من الفلسفة الإنسانية التي تولي الإنسان والقيم الإنسانية مكانة مرموقة، وارتبطت بانتقاد صور بديلة من الفلسفة الإنسانية المقبولة وقتذاك. في الفصل الثالث أناقش آثار هذه المحاضرة المعقدة، وهي الوحيدة التي ندم سارتر على نشرها، علاوة على «رد» معاصره مارتن هايدجر في مقاله الشهير «رسالة في النزعة الإنسانية».

ومع أنه قد شاع أن القيمة الأسمى للفكر الوجودي هي الحرية، فإن فضيلته التي تحتل الصدارة هي الصدق. يُخصص الفصل الرابع للحديث عن هذا الموضوع بالإضافة إلى طبيعة وصور خداع الذات، التي تمثل نقيضًا له. وقد ربطتُ بين الصدق والفردية الوجودية، وفكرت في احتمالية وجود خُلُق صدق قائم على المسئولية الوجودية.

ولكي أواجه النقد، الذي انتشر عقب الحرب مباشرة، بأن الوجودية ليست إلا صورة أخرى من الفردية البرجوازية المُجرَّدة من الوعي الجمعي وغير المبالية بالحاجة إلى تناول المشكلات الأخلاقية للعصر، خصصت الفصل الخامس للحديث عن مشكلة «الفردية المكبوتة»، حسبما يحاول الوجوديون تصور التضامن الاجتماعي بأسلوب سيعزز حرية ومسئولية الفرد بدلًا من أن يهددهما، وهو ما يبقى أمرًا غير قابل للتفاوض.

أما في الفصل الأخير، فإنني أتناول الجوانب السابقة وغيرها التي يتسم بها الفكر الوجودي للتدبر في ارتباط الفلسفة الوجودية المستمر بعصرنا. من الضروري أن نفصل بين الدلالة الفلسفية للحركة ورؤاها القوية واهتمامها بالملموس، وبين الزخارف الجذابة والبالية في الوقت نفسه التي اتسمت بها في سنوات مراهقتها في ليفت بانك. ومن بين عدة موضوعات مرشحة محتملة اخترت أربعة موضوعات مهمة في عصرنا كان للوجوديين فيها إضافة فلسفية.

ثمة سمتان لهذا الكتاب المختصر قد يعتبرهما القارئ من أوجه القصور، حتى في مقدمة قصيرة، وهما: غياب عدد كبير من «الوجوديين» المعروفين، وعلى النقيض من ذلك، الحضور — المفرط أحيانًا — لجان بول سارتر على مدار صفحات الكتاب. فيما يتعلق بالسمة الأولى، فعلى الرغم من أنه كان بمقدوري أن أذكر — على سبيل المثال — ديستويفسكي أو كافكا، أو جياكوميتي أو بيكاسو، أو يونسكو أو بيكيت، وكلهم نماذج قوية للموضوعات الوجودية في الفن، فقد انصب اهتمامي على التعامل مع الوجودية كحركة فلسفية ذات آثار فنية بدلًا من اعتبارها (مجرد) حركة أدبية ذات ادعاءات فلسفية، وهو المفهوم الشائع مع خطئه. السبب وراء عدم مناقشتي بوبير أو بيرديف، أو أورتيجا إي جاسيت أو أونامونو، وغيرهم الكثير من الفلاسفة الذين يستحقون الذكر هنا، هو أن هذا الكتاب ما هو سوى مقدمة قصيرة «جدًّا». وسيجد المهتمون بقراءة المزيد عن الموضوعات التي نوقشت هنا اقتراحات بمصادر مفيدة في نهاية الكتاب.

أما فيما يخص الإكثار من ذكر سارتر، فهو وسيمون دي بوفوار الفيلسوفان الوحيدان في هذه المجموعة اللذان اعترفا بأنهما وجوديان. ونظرًا لأن الوجودية حركة منتمية إلى القرن العشرين، فقد تركَّزت هذه الحركة بالتأكيد على أعماله. ولا يوجد من يمثل الاتحاد والتوتر بين الفلسفة والأدب، التصوري والخيالي، النقدي والملتزم، الفلسفة باعتبارها تأملًا والفلسفة باعتبارها أسلوبًا للحياة، وهي السمات المحددة للحالة الوجودية للتفلسف؛ أفضل من جان بول سارتر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤