الفصل الثاني

التحول إلى الفردية

لا يوجد كائنان، ولا موقفان، متكافئان تمامًا أحدهما مع الآخر.
الوعي بهذه الحقيقة يعني التعرض لأزمة من نوع ما.
جابرييل مارسيل

عُرفت الوجودية باعتبارها فلسفة «فردية». وسوف نُقَيِّم وجهة النظر هذه عندما نستعرض بُعدها الاجتماعي في الفصل الخامس. لكن من البداية يجب أن نلاحظ أنه، في نظر الوجودي، كونك فردًا في مجتمعنا الضخم هو إنجاز وليس نقطة انطلاق. مرة أخرى، سيتعامل كل وجودي مع هذا الموضوع بأسلوبه الخاص، إلا أن فكرتهم الأساسية هي أن اتجاه المجتمع الحديث يبعدنا عن الفردية ويأخذنا نحو الامتثال المجتمعي. في هذا الشأن، يشير كيركجارد إلى «الدهماء»، في حين يتحدث نيتشه بلهجة أكثر انتقادًا عن «القطيع»، وهايدجر عن «الفرد»، وسارتر عن «الذات». في كل حالة، تكون الإشارة إلى التفكير، والفعل، واللبس، والتكلم، وغير هذا مما يفعلونه «هم». في القصة القصيرة التي كتبها ليو تولستوي بعنوان «موت إيڤان إيليتش»، غالبًا ما يشير المتحدث — وهو شخص ممتثل للأعراف المجتمعية ووصولي — إلى اتباع سلوك «لائق»، حتى إلى درجة استخدام العبارات الفرنسية التي تفضلها الطبقات الاجتماعية الأرقى التي يطمح إلى الانضمام إليها. بهذا المعنى، فإن التحول إلى الفردية هو مهمة يمكن تنفيذها ومواصلتها لكنها ربما لا تكتمل على نحو دائم أبدًا. فكما أشرنا في الفصل السابق، تتطلب الطبيعة الزمنية للحالة الإنسانية أن يكون وجود الفرد دائمًا ديناميكيًّا وقيد التشكيل، وألا يكون أبدًا ساكنًا وتامًّا. وبحسب الظروف، قد ينطوي الأمر أيضًا على مخاطرة كبيرة.

تحدث نيتشه بفصاحة عن الوحدة التي يشعر بها الفرد الذي يرتقي فوق القطيع. وكما هي حال الوجوديين غالبًا، كانت حياته الخاصة برهانًا مأساويًّا على الثمن الذي يُدفع دائمًا مقابل هذا الخروج عن الامتثال المجتمعي، وذلك خلال سعيه — وفق أسلوب سقراط — إلى تحقيق التناغم بين حياته وتعاليمه. لسنوات جاب نيتشه أوروبا دون أن يمكث في مكان واحد أكثر من بضعة أشهر، فنزل في غرف مؤجرة أو كضيف لدى أحدهم، وكان يعاني صداعًا نصفيًّا حادًّا وآلامًا في المعدة، ومضطرًّا في أغلب الأوقات إلى دفع ثمن نشر أعماله التي لم تصل أبدًا إلى جمهور عريض خلال سنوات حياته. لقد شبَّه نفسه بإسبينوزا، فيلسوف القرن السابع عشر الهولندي المنحدر من أصول يهودية الذي نبذه الكنيس اليهودي بسبب آرائه غير التقليدية. وهو يقول في إحدى مقولاته المأثورة: «يقول أرسطو إن المرء لكي يعيش وحده يجب أن يكون وحشًا أو إلهًا، متجاهلًا الحالة الثالثة: يجب أن يكون المرء كليهما؛ أي فيلسوفًا.» يصر نيتشه على أن الفيلسوف يجب أن يتصرف ضد أفكار عصره المُتلَقاة، فيقول:

اليوم … عندما يُكرَّم حيوان القطيع … فإن مفهوم «العظمة» يستلزم أن يكون نبيلًا، وراغبًا في أن يصبح على طبيعته، وقادرًا على أن يكون مختلفًا، واقفًا وحده ومضطرًّا إلى أن يعيش مستقلًّا، ولسوف يخون الفيلسوف أحد مثله العليا عندما يفترض أن «الأعظم هو مَن يستطيع أن يكون الأشد وحدة، والأكثر اختباءً، وانحرافًا، الكائن البشري غير خاضع لمعايير الخير والشر».

بهذه المعايير، كان سورين كيركجارد صورة مصغرة من نيتشه، مع أن الثاني بدا أن له مجرد معرفة عابرة بعمله. كتب كيركجارد مقالات ونشرات يهاجم فيها القوى الثلاث الأوسع تأثيرًا للامتثال المجتمعي في كوبنهاجن عصره؛ ألا وهي الصحف العامة، والكنيسة الرسمية، والفلسفة السائدة، وهي فلسفة جي دابليو إف هيجل (١٧٧٠–١٨٣١)، وفي كلٍّ منها كان يتحدث باسم الفرد. كانت الصحف العامة، في رأيه، تفكر بالنيابة عن الناس، والكنيسة تؤمن بالنيابة عن الناس، والفلسفة الهيجلية تختار بالنيابة عن الناس، بمعنى أنها «توسطت» بين ما كان سيصبح قرارات فردية وحولته إلى وجهة نظر عليا وشاملة في عملية تسمى «الجدلية». بعبارة أخرى: حوَّلت الفلسفة الهيجلية تحديَ «إما/أو» إلى عملية «كلٌّ من/و» مريحة. ومع أن هذه الآراء السلبية اتُّخذت بحجة التحول إلى الفردية، فقد عزلت كيركجارد عن مجتمعه وتسببت في ردود فعل عنيفة من جانب المؤسسة الدينية. في واقع الأمر، رُوي أنه كان يفضِّل أن يكون النقش المكتوب على شاهد قبره هذه العبارة البسيطة: «هذا فرد منعزل». أضف إلى هذا حادثة فسخ خطبته الشهيرة والقاسية فيما يبدو مع ريجين أولسن؛ لأنه ظاهريًّا لم يرغب في أن يثقل كاهلها بندائه الداخلي الفردي، علاوة على حياته المتبتلة اللاحقة، فصار لدينا المفكر المنعزل الذي يمجده نيتشه بوصفه الفيلسوف الحقيقي. وبطريقة ما — كما سنرى بعد قليل — كان فارس الإيمان المثالي في نظر كيركجارد أيضًا «لا يُقيَّم بمعايير الخير والشر»، وإن لم يكن بنفس دقة استخدام نيتشه لهذا التعبير الشهير.

(١) نظرية المراحل لكيركجارد

يظهر أكثر التحليلات شمولًا لمشروع التحول إلى الفردية في عملين، هما: «إما/أو» و«خطوات على طريق الحياة» لكيركجارد، وكلاهما مثال لأسلوبه في التواصل غير المباشر. يحكي كلاهما قصة — أكثر من قصة في الواقع — تحت أسماء مستعارة لتمكيننا من رؤية واختبار الأخلاق الفردية الواردة بهذه القصص في حياتنا. تقدِّم حججهما القصصية مجتمعةً وصفًا دقيقًا إلى حدٍّ ما لدوائر الوجود الثلاث التي شكَّلها كيركجارد ليتعقب عملية التحول إلى الفردية. ومع أنه سيكون علينا أن نعدِّل ونفصل هذه العملية عند وضعها، فإن الدوائر أو المراحل ثلاث (جمالية وأخلاقية ودينية). لكل مرحلة نموذجها الخاص بما يناسب القصة الأخلاقية: دون جوان، ضمن آخرين، في الدائرة الجمالية، وسقراط، أيضًا ضمن آخرين، في الدائرة الأخلاقية، وإبراهيم في الدائرة الدينية. تمثل هذه الشخصيات قوة عاطفية ملموسة «للحجة» لدى تكشُّفها. ومثل المحاضِر في المعرض الفني، يظل كيركجارد يشير إلى النموذج ليمكِّننا من أن نرى كيف يدعم هذا النموذج السمة محل النقاش؛ لذا دعونا نَسِرْ على هذا الدرب ونقابل شخصياته الأدبية والتاريخية ونحن نتلمس طريقنا نحو الفردية. ومثلما يتوقع المرء من تحليل وجودي، ستكشف كل مرحلة أو دائرة عن علاقتها بالوقتية، التي تميزها عن الدوائر الأخرى. ومرة أخرى، الوقت هو جوهر كل شيء.

ربما أفضل طريقة للبدء هي البدء من النهاية، عندما تلخص إحدى الشخصيات — شخصية «الأخ تاسيتيرنوس» — في خطاب موجه إلى قراء «خطوات على طريق الحياة» المراحل أو الدوائر كالآتي:

هناك ثلاث دوائر وجودية: الجمالية والأخلاقية والدينية … الدائرة الأخلاقية هي مجرد دائرة انتقالية؛ ولهذا فأسمى تعبير لها هو التوبة كفعل سلبي. الدائرة الجمالية هي دائرة الفورية، والدائرة الأخلاقية هي دائرة الحاجة (وهذه الحاجة لامتناهية للغاية حتى إن الفرد دائمًا ما يكون مفلسًا)، والدائرة الدينية هي دائرة الإشباع، لكن انتبه من فضلك، فليس المقصود بالإشباع أن يملأ المرء صندوق صدقات أو أن يملأ حقيبة بالذهب؛ لأن التوبة خلقت بالتحديد فضاءً لا حدود له؛ وبالتالي خلقت تناقضًا دينيًّا؛ أن تكون وسط ماء يبلغ ارتفاعه ٧٠ ألف قامة وتظل سعيدًا في نفس الوقت.

يقلل تحليل الأخ تاسيتيرنوس — الذي من الواضح أنه كُتب من وجهة نظر «دينية» — من شأن استقرار ودوام الدائرة الأخلاقية، كما لو أن أوجه قصورها — التي سنشهدها عما قليل — تجعلها غير ملائمة عند التعامل مع أكثر مشكلات الحياة إلحاحًا، على سبيل المثال: الأمر الشائن المتمثل في وقوع الأمور السيئة لأناس طيبين. من منظور معاكس، سيعلن سارتر، كما سيعرض كامو في روايته «الطاعون»، أن «الشر لا يمكن الخلاص منه». هذه — على الأقل — هي وجهة نظر الوجودي الملحد. على أي حال، من الواضح أن ما سوف تسمَّى لاحقًا ﺑ «الوجودية» تتعامل مع أفراد محددين في مواقف متأزمة ملموسة؛ لهذا دعونا نتناول هذه المراحل عن كثب.
fig4
شكل ٢-١: سورين كيركجارد، في الحادية والأربعين من عمره، قبل وفاته بعام واحد.1

سورين كيركجارد (١٨١٣–١٨٥٥)

وُلد في كوبنهاجن وعاش بها طوال حياته، وقد عُرف بأبي الوجودية الإلحادية. درس اللاهوت والفلسفة الهيجلية في الجامعة المحلية، ودخل في مجادلات حادة مع الكنيسة الرسمية، والصحف العامة، وأنصار الفلسفة الهيجلية؛ ربما لأنه اعتبر رسالته الخاصة مهمة مؤلمة وفردية. فسخ خطبته مع ريجين أولسين — ابنة عائلة محلية بارزة — وبقي عزَبًا بقية حياته. نشر الكثير من الأعمال الفلسفية واللاهوتية، العديد منها بأسماء مستعارة، وهي تتميز بمنطقها الحصيف وأفكارها النفسية الثاقبة.

(١-١) المرحلة الجمالية

هذه هي دائرة الحاضر «الفوري» من المنظور الزمني. وقد لوحظ أن نطاق الاختلافات التي تتصف بها قد يمتد من المادية البسيطة إلى أعلى درجات التطهير الفكري. يركز الشخص الذي يعيش هذه المرحلة — والمرء يستطيع أن يعيشها طيلة حياته — على الحاضر ويظل غير مبالٍ بالتوبة من الماضي أو بالالتزام تجاه المستقبل إلا على نحو حذر يهدف إلى تجميل الحاضر، كما سنرى بعد قليل في حالة يوهان فاتن النساء. لقد أُعجِب كيركجارد بأوبرا «دون جيوفاني» التي تروي قصة زير النساء غير التائب «دون جوان»، الذي لحن موتزارت قصته كغاوٍ لا يمل من ملاحقة النساء في أحد أفضل العروض الأوبرالية على الإطلاق. الدون، الذي يأخذه كيركجارد نموذجًا رئيسيًّا للدائرة الجمالية، يعيش فقط من أجل الإشباع الجسدي في اللحظة الحالية. ويتكرر حضوره في الأوصاف الواردة في كلٍّ من «خطوات على طريق الحياة» و«إما/أو».

القصة الأولى في كتاب «خطوات على طريق الحياة» هي قصة اجتماع «جمالي» عادي بعنوان «النبيذ مصل الحقيقة»، وهي تمثل كلمة السر في الحدث. القصة محاكاة ساخرة لمأدبة أفلاطون الشهيرة عن الحب «المائدة». في كلا العملين ينصب تركيز حاضري المأدبة السكارى على الشرب والخطب تمجيدًا في الحب. لكن إن كانت حفلة أفلاطون تركز أخيرًا على مشاعر «الحب» الدائم والصادق التي تنتاب المرء بالتضاد مع الانجذاب العابر للجمال الحسي، فإن «النبيذ مصل الحقيقة» هي احتفال بالجمال الحسي في لحظاته العابرة. في حقيقة الأمر، فورية وآنية الحدث مفهومة من خلال تقديم الدعوات في الدقيقة الأخيرة واستعداد طاقم العمل لتفكيك مكان الاجتماع فور انتهائه. وكما يعلق أحد المشاركين: «لكي يكون الشيء جميلًا، لا بد أن يكون فوريًّا؛ لأن «الفورية» هي الأروع من بين جميع الصفات …» تذكر تحليل سارتر للشخص الذي «يقفز من أجل السعادة» حرفيًّا في محاولته العبثية لتكثيف تجربة مبهجة في لحظة واحدة.

المثير للدهشة أن المعربدين يدخلون قاعة المأدبة على ألحان أوبرا موتزارت، وتدور حواراتهم المتنوعة حول الحب الشهواني أو العلاقات المبتذلة بين الرجال والنساء. يقدم الحوار الختامي إحدى شخصيات كيركجارد — يوهان فاتن النساء — التي قدمها في عمل سابق، وهو «إما/أو». وبما أنه يجسد الحياة في الدائرة الجمالية، دعونا نستعرض هذا النطاق بالتفصيل بالرجوع إلى مقدمته في ذلك العمل السابق.

«مذكرات فاتن نساء» هي إحدى أروع قصص كيركجارد عن الحياة في الدائرة الأولى، وتحكي عن مكائد «يوهان فاتن النساء»، الذي تعد خططه محاكاة ساخرة للتطور الخليع لدون جوان. في حقيقة الأمر، استُخدمت سطور من الأوبرا كقصيدة قصيرة ساخرة في بداية القصة. ينجذب يوهان إلى شابة تبلغ ستة عشر عامًا، اسمها كورديليا؛ حيث يلاحظها في الشارع برفقة خالتها التي تعتبر أيضًا راعيتها، ثم يصادف بعد ذلك رجلًا شابًّا من الواضح أنه مسحور بنفس الفتاة، ويشرع في مصادقته بحجة مساعدته في التودد إليها. وبعد أن يتمكن من دخول بيت الفتاة بصفته صديق الرجل الشاب، يشرع يوهان في الفوز باستحسان الخالة حتى وهو يفتن الفتاة العذراء. وسرعان ما يُنبَذ الرجل الشاب من صحبة يوهان لاعتباره عائقًا أكثر منه ميزة. تُروى قصة إغواء الشابة كورديليا وهجرها لاحقًا في سلسلة من الخطابات المتبادلة بينهما. يبدو يوهان غير مبالٍ بالألم الذي يسببه، عاقدًا العزم بشدة على الحصول على «اللذة المطلقة»، التي يحتال بعدها على كورديليا ليقنعها بأن تفسخ خطبتهما فتتحمل هي مسئولية الانفصال. يعلق يوهان: «يكمن شقاء الخطبة دائمًا في جانبها الأخلاقي. والأخلاقي ممل في الفلسفة مثلما هو كذلك في الحياة … سأعمل ما بوسعي بالتأكيد كي تفسخ هي الخطبة.» لا شك أن يوهان أقل عفوية من الدون، إلا أن هدفه واحد: الاستمتاع اللحظي الذي يعقبه هجر دون ندم. يجسد يوهان الغموض الثري لمصطلح «الجمالي» ولهذه الدائرة الوجودية عندما يجادل قائلًا: «إضفاء طابع شعري على الذات للتأثير على فتاة شابة هو فن، أما إضفاء طابع شعري على الذات للهروب منها فهو تحفة فنية.» إن محب الجمال هو شاعر من نوع ما.

(١-٢) المرحلة الأخلاقية

يدرك كيركجارد أن يوهان ليس فاسقًا، وإنما يفشل ببساطة في ممارسة اللعبة الأخلاقية من الأساس؛ فقواعد الصواب والخطأ لا تنطبق على دائرة وجوده. فكل اعتبار لديه يستهدف الحاضر، حتى لو كان هذا «الحاضر» يكمن في المستقبل، كما في تقديرات فاتن النساء بخصوص كورديليا. لا مجال هنا للتوبة من الماضي أو التعهد تجاه المستقبل، وهما السمتان المميزتان للدائرة الأخلاقية. يغيب مفهوم الوجودي عن «الالتزام» عن هذا الحديث. فالتوبة، والتعهد، والالتزام هي صفات أخلاقية يظهر دورها بعد تجربة «الانتقال» أو «التحوُّل» التي تعتبر تدريبًا على الاختيار الحر؛ وبالتالي على الفعل الفردي. وفي خطوة سوف نستفيض فيها بعد قليل، فإن هذا «الانتقال» ليس التطور الطبيعي — ناهيك عن كونه الضروري — للمرحلة السابقة كما توحي القراءة الهيجلية للموقف. يبدو أن كيركجارد يؤمن بأن معظم الناس يعيشون طيلة حياتهم في الدائرة الجمالية. على أي حال، فإنه يرى أن محب الجمال غير قادر على الاختيار الذي يمكنه من أن يصبح فردًا. مثلما يحذر القاضي ويليام — شخصية أخرى من شخصيات كيركجارد — محب الجمال الشاب الذي يصر — في «إما/أو» — على أن الحياة حفلة تنكرية:

ألا تعلم أن الليل عندما ينتصف يخلع الجميع أقنعتهم؟ … لقد رأيت رجالًا في الحياة الواقعية لطالما خدعوا الآخرين، حتى إن طبيعتهم الحقيقية في النهاية لا تستطيع أن تكشف نفسها … أو هل يمكنك أن تفكر في أي شيء أكثر ترويعًا من أن تصبح طبيعتك متعددة، أنك قد تصبح حقًّا أكثر من واحد، تصبح — مثل أولئك الممسوسين التعساء — حشدًا فتفقد بذلك أعمق وأقدس شيء على الإطلاق في الإنسان، ألا وهو القوة الموحدة للشخصية؟ … قد يكون [مثل هذا الشخص] منغمسًا بشكل غير مفهوم في علاقات الحياة التي تتجاوز نفسه بكثير، حتى إنه يكاد لا يستطيع أن يكشف عن نفسه. لكن من لا يستطيع أن يكشف عن نفسه لا يستطيع أن يحب، ومن لا يستطيع أن يحب فهو أتعس إنسان على الإطلاق.

يوضح القاضي الفكرة الوجودية العامة بأن الاختيار مكوِّن للذات ومحرر لها. تذكر أنه على الرغم من أن الفلسفة الهيجلية، من وجهة نظر كيركجارد، تشدد على «التوسط» بين البدائل، الذي ترقيه إلى مرحلة أو وجهة نظر أسمى وأشمل، فإن الفكر الوجودي يشدد على الاختيار؛ على «إما/أو» التي تنطوي على المخاطرة والالتزام والفردية. يقترح القاضي تشبيهًا ملائمًا:

فكِّر في القبطان على متن سفينته في اللحظة التي يجب فيها تغيير اتجاهها. قد يقول: «أستطيع أن أفعل إما هذا أو ذاك»، لكن في حالة ما لم يكن ملاحًا متمكنًا، فسيكون واعيًا في الوقت نفسه بأن السفينة تبحر في مسارها المعتاد، ولهذا فالسفينة لا تأبه للحظة واحدة بما إن كان سيفعل هذا أو ذاك. الاختيار إذن في يد إنسان. إذا نسي أن يضع تحركها إلى الأمام في الاعتبار، فستأتي في نهاية المطاف لحظة لن يكون فيها بعد ذلك أي مجال لإما/أو، ليس لأنه قد اختار، لكن لأنه أهمل الاختيار، وهو مرادف لقولنا: إن آخرين اختاروا بالنيابة عنه، أو إنه خسر نفسه.

يعلمنا هذا الدرس الوجودي القائل: إن حياتنا كلها عملية اختيار متواصل، وإن الفشل في الاختيار هو في حد ذاته اختيار نحن مسئولون عنه بالقدر نفسه. يصوغ سارتر هذا بوضوح حين يجزم بأنه في نظر الواقع البشري [الكائن البشري]، الوجود يعني الاختيار، وعدم الاختيار يعني عدم الوجود. كما يردد سارتر ما قاله كيركجارد عن علاقة الاختيار بتكوين الذات عندما يضيف أنه — في نظر الواقع البشري — كي توجد لا بد أن تختار نفسك.

«الاختيار» الأساسي الذي يطرحه القاضي أمام محب الجمال الشاب هو ما سميناه بالاختيار المؤسِّس للمعايير. كما يفسر قائلًا: «لا يشير استخدامي لإما/أو في الحالة الأولى إلى الاختيار بين الخير والشر، لكنه يشير إلى الاختيار الذي وفقًا له يختار الإنسان الخير «و» الشر/أو يستثنيهما.» بعبارة أخرى: إنه يمثل قرارًا ﺑ «ممارسة اللعبة» التي تُطبق فيها تصنيفات الخير والشر الأخلاقية. في حالة كيركجارد، فإن السمة المميزة للأخلاق هي الطبيعة العامة وغير الاستثنائية لقواعدها. يجعل الخُلُق الذي يطرحه كيركجارد — والمستوحى من كتابات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر — جوهر الفسوق في جعل المرء نفسه استثناءً لقاعدة يريد الجميع أن يلاحظه. ويشير كانط أيضًا إلى أن السبب الوحيد الذي يجعلنا نكذب أو نخون أو نسرق هو أن الآخرين لا يفعلون ذلك. ليس هدفه ببساطة هو أن العواقب الاجتماعية لهذا الاختيار ستكون وخيمة، مثلما يجادل النفعيون (الذين يؤمنون بأن الأفعال تكون صوابًا لو كانت مفيدة للأغلبية)، وإنما هدفه هو أن تعميم الممارسة — أي ترغيب الجميع بأن يفعل المثل — أمر مستحيل من الناحية العملية؛ لأنه لو كذب الجميع، فلن يُصدَّق أحد؛ وبالتالي سيصبح الكذب مستحيلًا. يدل هذا أيضًا على أن هذا السلوك سيحوِّل الآخرين الذين يطيعون القواعد الأخلاقية إلى مجرد أدوات تخدم غايات من لا يطيع القواعد، وفي هذا انتهاك صريح للقيمة الجوهرية لكل فرد، وهو ادعاء وجودي تقليدي. إننا نتعامل مع مجموعة من القواعد مثل الوصايا العشر أو القاعدة الذهبية، لكنها مُصاغة بلغة غير دينية. يمكن أن يكون الشخص عادلًا أو مستقيمًا، مثلما كان سقراط والقنصل الروماني بروتس (الذي لم يستثنِ ابنه من عقوبة الإعدام بتهمة الخيانة العظمى، مع أنه كان بوسعه ذلك)، دون أن يكون مطلعًا على التوجيهات الإنجيلية. في واقع الأمر، يعتبر سقراط — بسبب إطاعته لقوانين أثينا حتى عندما أدانته ظلمًا — نموذجًا معبرًا عن الدائرة الأخلاقية؛ فهو لم يضع نفسه فوق القاعدة العامة، مع أن ما فعله سبَّب له ضررًا واضحًا. يسمي كيركجارد هؤلاء الأفراد ﺑ «الأبطال التراجيديين» لكنه يضيف أنه — على عكس إبراهيم — «يبقى البطل التراجيدي داخل نطاق الدائرة الأخلاقية».

(١-٣) المرحلة الدينية

في رأي كيركجارد، تشكِّل «القفزة» الإيمانية مدخلًا إلى الدائرة الدينية وأعلى صورة من صور التفردية. هنا، ليست التصنيفات المؤثرة هي اللذة والألم — كما في الدائرة الجمالية — ولا الخير والشر — كما في الدائرة الأخلاقية — بل الخطيئة والنعمة الإلهية. نموذجنا هنا هو إبراهيم، الذي كان في القصة الواردة في سفر التكوين مستعدًّا للتضحية بابنه الوحيد طاعةً لأمر الله، على الرغم من الوعد الإلهي بأن الرجل العجوز سيكون أبًا «للعديد من الأمم». يتمثل البُعد المؤقت لهذا الحدث الاستثنائي في «اللحظة» التي تتم فيها هذه النقلة «اللانهائية». تتوقف التصنيفات الأخلاقية استجابة لأمر إلهي موجه إلى إبراهيم وحده وباسمه. في هذا السياق، لا يمكن تعميم دوافع الأفعال في المرحلة الدينية مثلما تتطلب المرحلة الأخلاقية. بعبارة أخرى: الفرد المتدين «لا يخضع لمعايير الخير والشر»، بحسب نيتشه؛ وبالتالي يمكن اعتبار تصرفاته فاسدة. من الناحية الأخلاقية، لا يملك إبراهيم كلمات يبرر بها تصرفه الغريب لزوجته. وهو لا يستطيع الاعتماد على يقين المبادئ العامة ولا على دعم المنطق العام. إنه وحده بين يدي الله؛ الواحد الكامل. يخرج إبراهيم من هذا الملجأ المجهول (الذي «يوجد» فيه) بأكثر الصور تطرفًا. وهو يقوم بهذه النقلة متجاوزًا الدائرة الأخلاقية، فإنه يشعر بالقلق الناجم عن حريته، حتى مع إدراكه لمجازفة أن هذا الأمر، المناقض للمبادئ الأخلاقية العامة، قد لا يكون إلهيًّا من الأساس. يرقى الفرد المتدين فوق ما هو عام، ومن وجهة النظر الدينية، فإن «الإغراء» الآن يتمثل في عكس هذه العلاقة، أي جعل الأخلاقي/العام مطلقًا، بمعنى عمل ما هو «أخلاقي» وعدم طاعة الأمر الإلهي. هذه بحق «قفزة» إيمانية.

يُقال إن تفسير كيركجارد لهذه القصة الإنجيلية أدى على نحو عفوي إلى ظهور ما يسمى ﺑ «أخلاقيات الموقف» المرتبطة بوجودية سارتر ونيتشه. إنها مقاربة لفهم عملية اتخاذ القرار الأخلاقية التي تراعي كل حالة أخلاقية باعتبارها حالة فريدة ولا شبيه لها، إلا لو كانت قاعدة عامة لا خلاف عليها. هكذا يتحدث سارتر عن رجل شاب يواجه خيار البقاء في فرنسا التي احتلها النازيون مع أمه التي يُشتبه في تعاون زوجها مع العدو والتي قُتل ابنها البكر في الهجوم الألماني عام ١٩٤٠، أو مغادرة البلاد ليحارب مع القوات الفرنسية الحرة. لو طلب النصح من طرف يميل إلى أحد الخيارَين أو الآخر، لكان بالفعل اتخذ قراره. بدلًا من ذلك، يتحدى سارتر قائلًا: «أنت حر، لهذا اختر؛ ابتكر.» وكما أوضح: «لا توجد قاعدة أخلاقية عامة يمكن أن تريك ما عليك عمله؛ لا توجد إشارات تريك ما عليك عمله في هذا العالم. سيجيب الكاثوليك: «لكن هناك قواعد فعلًا!» حسنًا، مع هذا، فأنا نفسي — في كل حالة — من يجب أن يفسر هذه الإشارات.» تُعد مخاطر وثمار «الإبداع الأخلاقي» فكرة أساسية في الكتابات الوجودية، لا سيما التي يتناولها نيتشه وسارتر ودي بوفوار.

بالتأكيد لم يقترح كيركجارد أن ينبذ المرء الأخلاق. في واقع الأمر، لقد أشار إلى تصرف إبراهيم على أنه «تعطيل غائي للأخلاق»، وليس تخليًا عنها. فالدائرة الأخلاقية توقفت من أجل هدف أو «غاية» أسمى؛ ألا وهي طاعة أمر إلهي. وعندما يهبط إبراهيم من الجبل الذي كان سيشهد التضحية (ثبَّت ملاك يده، في إشارة إلى أن إبراهيم قد اجتاز اختبار الإيمان غير المشروط بالله)، يعود إلى الدائرة الأخلاقية، لكن على نحو مختلف. فهو يعرف الآن أنها قابلة للاستثناءات وأن ملاحظته لمبادئها وقواعدها قائمة على ولاء أسمى. في التحليل الأخير — كما يلخص كيركجارد — يفوق الفرد العالم. لم تعد القواعد الأخلاقية المعيارية مطلقة من حيث مطالبتها الجميع باتباعها دائمًا.

يثير هذا موضوع العلاقة بين هذه الدوائر ووحدة الحياة. فعند حديث القاضي عن «إهدار» الحياة في الدائرة الجمالية — بمعنى تجزئتها وتشتتها — فإنه يحذر محب الجمال الشاب قائلًا: «[في وضعك الحالي] أنت عاجز عن الحب؛ لأن الحب يتطلب التضحية بالذات، وأنت لا تملك ذاتًا لتضحي بها.» وهو يشير إلى تكامل الدوائر الثلاث: «إذا لم تستطِع أن تصل إلى مرحلة رؤية الجمالي والأخلاقي والديني كحلفاء ثلاثة كبار، وإذا لم تعرف كيف تحافظ على وحدة المظاهر المتنوعة التي يتلبسها كل شيء في هذه الدوائر المتنوعة، فالحياة إذن خاوية من المعنى؛ وعلى المرء إذن أن يسلِّم بأنك محق في استمرارك في الاقتناع بنظريتك المفضلة القائلة إن المرء يستطيع أن يقول عن أي شيء، «سواء فعلتها أم لم تفعلها، فستندم في كلتا الحالتين».» يبدو أن البديل لهذا الاستنتاج — في حالة محب الجمال هذا على الأقل — سيكون الشك و/أو العدمية.
fig5
شكل ٢-٢: إبراهيم على وشك التضحية بابنه.2

لم يكن تفسير كيركجارد لهذه المراحل أو الدوائر متسقًا كليةً؛ فمن ناحية، كان يشدد على «إما/أو» التي تنقل المرء من حالة إلى أخرى. من الواضح أن القرار المتفرد يشكِّل أساس كل نقلة. ويبدو أنه لا توجد عودة سهلة إلى الدائرة السابقة بعد أن تحدث القفزة. فبمجرد اختيار ممارسة اللعبة الأخلاقية — كما هي — لا يستطيع المرء إعادة التفكير والعودة إلى الجمالي المحض دون شروط. لقد خسرت براءتك، بالمعنى الحرفي للكلمة، وتستطيع الآن مواصلة سلوكك الساعي وراء اللذة كشخص فاسد فقط. من منطلق مماثل، سيبدو أن الفرد المنعزل الذي قام بالقفزة الإيمانية لا يستطيع الارتداد إلى الجمالي المحض أو حتى إلى الأخلاقي الصِّرف (كما لو أن التجربة لم تقع) دون تحمل عقوبة «الخطيئة»، وهو تصنيف ديني تمامًا، مع أن كيركجارد خلط أحيانًا بينها وبين الرذيلة الأخلاقية. ومع هذا، فكما لاحظنا للتو، يوحي الهدف من رؤية هذه الدوائر باعتبارها «ثلاثة حلفاء كبار» إما بأنها «استنتاج» هيجلي (عودة المكبوت) أو «تداخل» يتناغم مع صورة الدائرة أكثر من تناغمه مع صورة المرحلة. في كلتا الحالتين، تُعتبر الفكرة الموجِّهة «للاختيار» المتفرِّد مهدَّدة تهديدًا جادًّا. ما لا يمكن إنكاره أن إحدى مزايا هذا التواصل غير المباشر، مثل استخدام كيركجارد للأسماء المستعارة (أو استخدام نيتشه للحكايات الرمزية، أو حتى استخدام أفلاطون للحوارات) هي أن المرء ليس مضطرًّا إلى تحقيق الاتساق بين هذه الأصوات. وكما سنرى، يُقدِّر الوجوديون الغموض. لكننا نكرر بأنهم ليسوا غير عقلانيين، وإنما يهدفون بقدر الإمكان إلى فهم العالم الذي تصادف وجودنا فيه.

(٢) الحرية لكن ليس للجميع: نيتشه

الوجودية فلسفة عن الحرية، حتى لو لم يوافق هؤلاء المفكرون على المعنى الدقيق لهذا المصطلح الأساسي. اشتهر نيتشه — مثلًا — بإنكاره لفكرة الإرادة الحرة والاختيار الأخلاقي الذي يستتبعها. وقد حوَّله مشروعه عن إعادة الإنسان إلى الأرض وبعيدًا عن أوهامه حول المتسامي والخالد، نحو البُعد البيولوجي للوجود الإنساني، وغرائزه ودوافعه اللاعقلانية: ما سماه ﺑ «إرادة القوة»، التي على الرغم من اقترانها الشائع بالاختيار والسيطرة، فإنها في الواقع إجابة للسؤال الميتافيزيقي «ما الموجود، في جوهره؟» وهذا على الرغم من كرهه للميتافيزيقا. في سياقها الواسع، فإن إرادة القوة هي القوة التي تحرِّك العالم؛ من الناحية البيولوجية، هي زخم الحياة الذي لا يمكن مقاومته ويحرِّك المحيط الحيوي. ومن الناحية النفسية، هي الدافع للهيمنة والسيطرة. و«أسمى» تعبير لها هو التحكم في النفس الذي تمارسه الأرواح الحرة التي يخصص لها نيتشه فضيلة «أسمى» من الأخلاقيات الدينية للقطيع. وكما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل هار «الطبيعة ككلٍّ هي إرادة القوة»، وهي تعبِّر عن نفسها في كل بُعد وجودي. لهذا السبب صنَّف الفيلسوف بول ريكور نيتشه من بين «زعماء الشك»، إلى جانب ماركس وفرويد؛ حيث يلقي كل مفكر منهم بظلال من الشك على تقديراتنا الظاهرية حول سبب قيامنا بما نقوم به. يكمن السبب الحقيقي لسلوكنا — حسبما يدعون — في شيء آخر. في حالة نيتشه، هذا المصدر المطلق هو إرادة القوة. وكما سيقول فوكو لاحقًا على نسق نيتشه، فإن الجهود السامية للإصلاح العقابي في مطلع القرن التاسع عشر — مثلًا — كانت في أساسها تعبيرًا عن الرغبة في مزيد من السيطرة الفعالة على الآخرين.
fig6
شكل ٢-٣: نظرة نيتشه العميقة.3

أي مكان — إذن — في هذا العالم تُتاح فيه الحرية الإبداعية بالمعنى الوجودي؟ ما أساس المسئولية التي نشعر بها في داخلنا وننسبها إلى الآخرين؟ هذه هي المشكلة السرمدية للحرية في مقابل الجبرية، لكن بعد إضفاء الصبغة الدرامية المتناسبة مع التفسير الوجودي. في عالم لكل حدث فيه سبب وكل سبب مُلزِم (كلا الادعائين مفتوح للتفنيد)، لا يبدو أن هناك مكانًا باقيًا «للبدايات المطلقة» التي ينادي بها الفهم الشائع للحرية الوجودية. فلكل حدث سابقة (سواء طبيعية أو ثقافية حسب نوع الجبرية الذي يقترحه المرء) وكل سبب ملزم. في الحقيقة، تحت هذا التوصيف، لم يكن لأحد أن يتصرف على نحو غير الذي تصرف به.

يصر نيتشه على أن «خطأ» الإرادة الحرة هو الاعتقاد بأن الاختيار — وليس القوى الفسيولوجية والثقافية — هو أساس أحكامنا بالاستحسان أو الرفض الأخلاقي. وهو يعلق، مظهرًا ولعه بالتفسيرات النفسية أكثر من الوجودية، قائلًا: «تقوم الأفعال الشريرة التي نمتعض منها كثيرًا على خطأ الافتراض بأن من يرتكبها في حقنا يمتلك الإرادة الحرة، أي إنه كان بوسعه «اختيار» ألا يسبب لنا الأذى.» لو كان نيتشه محقًّا، فسيستتبع ذلك ألا تكون هناك حدود لتسامحنا؛ لأنك «عندما تفهم كل شيء تسامح على كل شيء»، وذلك على حد قول روائية الحقبة الرومانسية الفرنسية مدام دي ستايل. على الرغم من أن هذه قد تكون حكمة إسبينوزا ونصيره الألماني، فإنها نادرًا ما تكون المنطق السليم للقطيع.

فريدريك نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠)

وُلد في روكين بألمانيا. كان شديد الذكاء حتى إنه لُقب بأستاذ فقه اللغة في جامعة بازل قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه. بسبب تدهور صحته معظم سنوات حياته، تخلى عن أستاذيته بعد عشر سنوات وقضى العقد التالي متجولًا في أوروبا، يكتب مقالات معروفة بفطنتها اللاذعة وإيمانها بالحياة. يعتبر نيتشه أبا الوجودية «الإلحادية»، وأشهر مقولاته هي «مات الإله»؛ بمعنى أن العلم الحديث جعل الإيمان بإله أمرًا في غير محله. كانت المهمة التي حملها على عاتقه هي هزيمة العدمية التي استتبعها هذا الحدث. وقع فريسة للجنون خلال العقد الأخير من حياته.

إلا أن نيتشه، في حكايته الرمزية عن النبي التقي — زرادشت — يضع احتمال وجود خُلق «أسمى» قائم على حرية/قدرة صياغة القيم. بشكل ما، مع «موت الإله»؛ أي مع استمرار انتهاء فكرة الرب اليهودي المسيحي، تواجه الأرواح الحرة (الأفراد الحقيقيون في نظر نيتشه) تحديَ تحمُّل الامتيازات الإلهية، التي من أهمها صياغة قيم أخلاقية تؤمن بالحياة وقيم جمالية تحسِّن الحياة. يرى نيتشه أن «الإنسان حيوان مُقيِّم»، وقيم النبل الأخلاقية وقيم الحُسن الجمالية تندمج في مشروع تحويل حياة المرء إلى عمل فني. يمكن أن يحمينا هذا الاندماج بين النبيل والحَسَن من أنفسنا كما فعل مع الإغريق القدامى؛ أي يحمينا من اليأس الناجم عن إدراكنا بأن الكون لا يهتم. يحل الفن محل الدين، حسب رأي نيتشه، تمامًا مثلما سيعد لاحقًا بنوع من الخلاص لأنطون روكوينتين — بطل رواية سارتر الفلسفية «الغثيان» — لذا يبدو أن أخلاقيات الحرية متاحة لهذه «الأرواح الحرة» التي تملك آذانًا لتصغي وشجاعةً لتؤيد صحة ما تسمعه. هل كان بإمكان هذه الأرواح الحرة أن تفعل غير ذلك؟ يبدو أن نيتشه يعتبر هذه مشكلة وهمية يثيرها الإيمان الخاطئ بالإرادة الحرة. في واقع الأمر، هم لن يفعلوا «غير ذلك»، لو كانوا حقًّا أرواحًا حرة، بما أن نبل مولدهم وشخصيتهم يحتم عليهم أن يتصرفوا بهذا الأسلوب بالتحديد.

يرى نيتشه أن أخلاقياتنا اليهودية المسيحية الحالية هي نتيجة لممارسة إرادة القوة من جانب «العبيد» الذين عكسوا، أو «أعادوا تشكيل» فضيلة «الأسياد» الأصلية. حسب وصف نيتشه الرائع، أقر الزعماء «الوثنيون» الأصليون بفضيلة معززة للحياة لكلٍّ من النبيل والوضيع. كانت هذه القيم هي النقيض التام للفضيلة اليهودية المسيحية التي نعرفها. يفترض نيتشه أن طبقة العبيد الكهنوتية — مدفوعة بشعور «الامتعاض» ضد ممارسة السادة لإرادة القوة البسيطة والمعززة للحياة — أعادت تشكيل قيم السادة إلى تصنيفاتها الخاصة فيما نسميه اليوم «الخير والشر» الأخلاقيين عن طريق ممارسة خفية لإرادة القوة؛ ومن ثم، فإن الخير والشر لدى السادة (النبيل والوضيع) قُلبا إلى الشر والخير لدى العبيد، على الترتيب. فما اعتبره السادة خيرًا، حكم عليه العبيد بأنه شر، وما ازدروه لوضاعته أصبح «فضائل» في نظر العبيد، كالتواضع والرحمة وما شابههما. ينصح نيتشه «الأرواح الحرة» بفضيلة أسمى تتكون من عكس القيم المقلوبة للعبيد، مثل تحول الأنانية من نقيصة بالنسبة للعبيد إلى فضيلة بالنسبة للسادة، وهكذا؛ وبالتالي فإن هذه الفضيلة الجديدة (أو القديمة) «تتجاوز الخير والشر» حسب الأخلاقيات اليهودية المسيحية، لكنها تؤيد «الخير والشر» حسب فضائل السادة. في الوقت الذي كانت فيه ممارسة السادة لإرادة القوة صريحة وغير مقيَّدة نسبيًّا، اتسمت ممارسة العبيد ﺑ «امتعاض» خفي ومنكِر للحياة. وهذا العكس الذي يعلمه نيتشه للأرواح الحرة سيعزز الحياة مجددًا. لكن ذلك موجه للقلة فقط.

يعرض نيتشه على أولئك القادرين اعتناق مذهب القدرية الذي يعد أكثر تحديًا للروح الوجودية من الجبرية التي تحدثنا عنها للتو. طبقًا لهذه النظرية، فإننا مُقدَّرون لعمل ما نفعله بالضبط. يطلق نيتشه على هذا فرضية «التكرار الأزلي». وهو يرى أن ذلك نابع من حقيقة أن خياراتنا محدودة لكن الزمن غير محدود. وهكذا، كما يفسرها، فأيُّما ما يحدث سيتكرر لعدد لا يُحصى من المرات. لو كانت الجبرية تسترجع الماضي، فالقدرية تستشرف المستقبل؛ فهي تدور حول ما يُسجَّل في كتاب الحياة، الذي لم تقلب صفحاته بعد. بالنظر إلى هذا الموقف، ليست نصيحة نيتشه استسلامًا سلبيًّا، لكنها «حب للقدر» يتسم بإيجابيته، كما كان يعظ الرواقيون القدامى. سوف نعود إلى تناول كامو لهذا المذهب لاحقًا. لكن سواء تقبل المرء هذه النظرية حرفيًّا أو قرأها — وهو الأكثر معقولية — كأمر أخلاقي للتصرف بشجاعة وحذر، أي «التحرر من الماضي بفعل قوي الإرادة»، كما يحث زرادشت، فإنها تثير مجددًا مسألة مدى «حريتنا» في اتباع نصيحة نيتشه أو رفضها. وهذا في حد ذاته مفارقة مناسبة لكيركجارد.

المثير للاستغراب أن شخصية القاضي ويليام التي وضعها كيركجارد تواجه محب الجمال الشاب قليل الحظ بتحدٍّ مماثل شيئًا ما عن طريق الإشارة إلى نوع من التكيف النفسي الاجتماعي:

من وجهة نظري فإن لحظة الاختيار جادة للغاية … بسبب … خطورة أنه في اللحظة التالية قد لا تكون لدي نفس القدرة على الاختيار، وأن شيئًا قد جُرِّبَ لا بد من تجربته مجددًا. التفكير في أنه للحظة يستطيع المرء أن يُبقي شخصيته خاوية، أو بشكل أدق، يستطيع المرء أن ينفصل ويوقف مسار حياته الشخصية، هو وهم. فالشخصية تكون مهتمة فعلًا بالاختيار قبل أن يختار المرء، وعندما يؤجَّل اتخاذ الاختيار تختار الشخصية بصورة لاواعية، أو تقوم قوى غامضة داخلية بالاختيار. وهكذا، عندما يُتخَذ الاختيار أخيرًا، يكتشف المرء (ما لم تكن الشخصية قد تبدلت كليةً، كما أشرت سابقًا) أن شيئًا يجب أن يتكرر، شيئًا يجب أن يُبطَل، وهذا في العادة صعب للغاية.

في حالة كيركجارد، فالاختيار تبادلي مع «الذات» حتى إنه يؤسِّس ويعبِّر. و«الشخصية» هنا تشبه أكثر «غريزة» نيتشه الضمنية التي تحث على اتخاذ القرار وتُعتبَر الوضع التلقائي للإنسان. أو ربما الأفضل القول إنها عادة ناتجة عن تراكم الاختيارات السابقة، وفي هذه الحالة يمكن الحفاظ على استقلالية الخيار الوجودي.

كتب سارتر مقالًا بعنوان «الحرية الديكارتية» طوَّر فيه رؤية نيتشه بأننا — في غياب الإيمان بالله — يجب أن نتحمل مسئولية الحرية المطلقة التي نسبها ديكارت إلى الذات الإلهية. من الناحية الفينومينولوجية، يعني هذا أن كل «العالم» (أفق غاياتنا) هو خلقنا الذي نتحمل عنه كامل المسئولية. ويصر قائلًا: «لا حجة لنا.» مثل نيتشه، ركز سارتر تركيزًا أساسيًّا على خلق القيم الأخلاقية، كما رأينا. لكن على عكس سابقه، ادعى أن هذه القيم كانت نتيجة «اختياراتنا» الإبداعية. أما نيتشه، فعلى العكس بدا مؤمنًا بأن «أولئك الذين يستطيعون أن يسمعوا» — أي الأرواح الحرة — قادرون بالفطرة على التأثر بقوة حججه التي تهدد القطيع أو تستعصي على فهمه. لو كان هذا حقيقيًّا، فإنه يؤيد نوعًا من الجبرية النفسبيولوجية (يجب أن نتبنى ما نرى أنه الحجة الأقوى، والأرواح الحرة فقط هي القادرة على تقدير تلك الدوافع التي تعزز الحياة بشكل لائق). وهذا يفصله عن سارتر ودي بوفوار، لكن ليس عن كيركجارد، كما رأينا للتو.

(٣) «التفلسف في ضوء الاستثناء»

أول من قدَّم فلسفة «الوجودية» كان الطبيب النفسي والفيلسوف الألماني كارل ياسبرز. ومع أنه أفرد العديد من الصفحات لنيتشه وبضع صفحات فقط لكيركجارد، فربما كان الثاني هو أكثر من أثَّر فيه. كان ياسبرز أول مفكر بارز يتحدث عنهما كثنائي. وعلى الرغم من آرائهما المتناقضة حول وجود الله، اعتبر ياسبرز أن كيركجارد ونيتشه هما أهم مفكرَين في القرن التاسع عشر بعد هيجل، والمفكران اللذان مهدت أعمالهما بشكل فعال للفكر الأوروبي في القرن العشرين. عندما بدأ النظام النازي يحكم قبضته على المجتمع الألماني وثقافته في عام ١٩٣٥، تحدث ياسبرز — وهو شخصية شجاعة معادية للنازية — بالآتي في محاضرة عامة: «بخصوص الوضع المتعلق بالتفلسف والحياة الواقعية، يعلق كيركجارد ونيتشه على الكارثة الوشيكة التي لم يدركها أحد في ذلك الوقت (إلا كإحساس داخلي وقتي وسريع النسيان) لكنها كانت واضحة لهما.» هذه الكارثة تمثلت في التقليل من قيمة ما سماه ياسبرز ﺑ «الوجودية» (الطريقة الإنسانية اللائقة للوجود) لمصلحة صورة ساذجة من المعرفة العلمية. دون الانزلاق إلى اللاعقلانية ومع كامل الاحترام لقوى المنطق وقيوده التي تقود حياتنا، انتقد كلٌّ من كيركجارد ونيتشه التفسيرات «المنهجية» مثل تلك التي قدمها هيجل عن وجودنا الغامض والمُحيِّر. لقد تحدث كلاهما إلى الفرد، إلى الذات التي تتمتع بالروح القادرة على فهم ما يقومان بتعليمه وقَبوله. في هذا الشأن اقتبس كيركجارد ما قاله الكاتب الساخر والعالِم الألماني من القرن الثامن عشر جورج كريستوف ليتشنبيرج في إحدى قصائده الساخرة: «هذه الأعمال مثل المرايا؛ لو نظر بها قرد، فلن تنعكس عليها صورة مصلح أخلاقي.»

في رأي ياسبرز، سعى الرجلان إلى قيم الصدق والالتزام و«الحقيقة الأصلية»، متجاوزَين حدود القدرة الجسدية والنفسية على الاحتمال. كانا بالفعل استثناءين، نُعجب بهما لكن لا نقلدهما. بدا بذلك وكأنه يقول: لا أحد مجبور على الشهادة. فمثل سقراط، عاشا وعانيا بسبب صدق تعاليمهما، وكانت حياتهما أشبه بما وصفه ياسبرز ﺑ «حطام سفينة». وعلى هذه الحال، فهما يمثلان إنذارًا ضد الشطط الذي يجب ألا نتبعه، وفي نفس الوقت يمثلان نموذجًا للفضائل التي يجب أن نحاكيها. وهذا يلهم ياسبرز درسًا من حياتهما: «التفلسف في ضوء الاستثناء دون التحول إلى استثناء».

هوامش

(1) © Roger-Viollet/2006 TopFoto.co.uk.
(2) © Photos12.com/ARJ.
(3) © Hulton Archive/Getty Images.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤