الفصل الرابع

الصدق

يبدو اختيار الصدق قرارًا «أخلاقيًّا».

جان بول سارتر

في نظر الوجوديين، تحمل الاعتبارات الأخلاقية أهمية كبرى. من المحتمل أن سارتر كان يصف نفسه، عندما كتب عن ألبير كامو عند موته، بأنه يمثل ميراث هذه السلسلة الطويلة من الأخلاقيين الذين تشكِّل أعمالهم ما يمكن أن يعد أكثر الأعمال أصالة في الأدب الفرنسي. من وجهة نظر سارتر، أعاد المذهب الإنساني المتعنت الذي وضعه كامو التأكيد على وجود الحقيقة الأخلاقية في مواجهة النفعيين الانتهازيين و«الواقعيين» اللاأخلاقيين في عصره.

سواء كنا ننظر إلى كيركجارد أو نيتشه، هايدجر أو ياسبرز، سارتر أو دي بوفوار، مارسيل أو كامو، فكلٌّ بطريقته الخاصة كان مهتمًّا ﺑ «الحقيقة الأخلاقية»؛ حقيقة أننا مغمورون بالتزامات وقيم ليست هي النتيجة المنطقية لأي سلسلة من الحقائق الموضوعية عن العالم. إذا أعدنا صياغة كلمات الفيلسوف ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦)، فإنه لا توجد حقائق يمكن أن تبرر التزامًا دون وجود التزام آخر يُقدَّم مسبقًا ولو ضمنيًّا على الأقل خلال هذه العملية. على سبيل المثال: لو كانت نتيجتك هي أنه يجب ألا يقدم أحدهم على القتل، فلا بد أن يكون أحد أسبابك على الأقل لهذا التحريم هو الزعم بأن القتل ينتمي إلى مجموعة الأفعال التي يجب عدم ممارستها. قد يفكر المرء أن القتل تعدٍّ ظالم مع سبق الإصرار والترصد على حياة إنسان، وأنه يجب ألا يمارِس المرء الأفعال الظالمة. حتى لو طالت قائمة الأسباب المُقدَّمة، فأحد الأسباب الواردة بها هو أمر أو تحريم يؤدي إلى تحويل القائمة الوصفية إلى إلزام. وكما تقضي الحجة البالية فإنه: لا يمكن أن يستمد «واجب» القيمة الأخلاقية أو الالتزام من «واقع» التوصيف الفعلي بمجرد الربط بين أفعال لا أخلاقية. بخصوص سؤال نيتشه «لماذا أكون أخلاقيًّا؟» الذي يمكن أن تطرحه أيضًا شخصية محب الجمال التي رسمها كيركجارد، لا يستطيع المرء أن يقدم إجابة لا أخلاقية مثل: «سيسعدك هذا»؛ إذ ستحوِّل هذه الإجابة الفضيلة إلى أداة في يد شيء آخر، وهي السعادة في هذه الحالة، في حين أن التحلي بالأخلاق — حسبما يُزعم — هو غاية في حد ذاته. إن «البطل التراجيدي» لكيركجارد، فليكن مثلًا القنصل الروماني بروتس، ربما لم يكن سعيدًا لحكمه على ابنه المذنب بالموت. يسمى هذا غالبًا «استقلالية» العالم الأخلاقي، وهو جزء من الميراث الكانطي الذي يتشارك فيه الوجوديون؛ كلٌّ بأسلوبه الخاص طبعًا.

في حالة سارتر، من الواضح أن المغزى الأخلاقي للقصة هو أن هناك دائمًا مغزًى أخلاقيًّا للقصة. تذكر أنه اعترف ذات مرة أن مهمته تتمثل في خلق ضمير مذنِب للطبقة البرجوازية. ليس الأمر أن سارتر كان واعظًا مؤنِّبًا، بل على العكس، كان يصر على أنْ يقر كلٌّ منا بما يفعله في حياته الآن. ومثل شخصية ربان السفينة لدى كيركجارد، الذي تردد في الالتفاف بالسفينة في حين أن السفينة تواصل في نفس الوقت الإبحار في اتجاهها الحالي، فنحن أيضًا نواجه تحديَ تحمُّل أن السفينة تواصل في نفس الوقت الإبحار في اتجاهها الحالي، فنحن أيضًا نواجه تحديَ تحمل مسئولية اختياراتنا المحددة لذاتها؛ فنتملكها وبالتالي نصبح أنفسَنا عن طريق الإقرار بما نحن عليه بالفعل. هذه إحدى وصفات نيتشه كي «تكون ما أنت عليه»؛ إنها مسألة أن نعيش حقيقة أنفسنا، ووضعنا كبشر. أما الشخص غير الصادق، فهو في رأي سارتر، يعيش أكذوبة.

وما حقيقة وضعنا هذه، وكيف نعيشها؟ على الرغم من أنه من الواضح أن الأمر ينطوي على مقوم واقعي — كما سنرى — فإن الحقيقة التي يعيشها الشخص الصادق هي في الأساس أسلوب حياة؛ أي طريقة وجود. في هذا الشأن، فإنها تشبه حقيقة كيركجارد الذاتية، الحقيقة باعتبارها تخصيصًا، باعتبارها «صنيعة يده»، حيث يكون التركيز على كيف بدلًا من ماذا. لكن على عكس الحقيقة الذاتية المرتبطة بالشك الموضوعي، يقوم الصدق السارتري على حقيقة واقعية عن الوضع الإنساني، على الرغم من أن هذا يستلزم أن يتحمل المرء مسئولية الطريقة التي ينوي أن يعيش بها مواقف الغموض في مستقبله.

لكن الإشارة إلى الأساس الواقعي للصدق تعيدنا إلى السؤال الجوهري الذي تطرحه الفلسفة الإنسانية: ماذا يكون الإنسان؟ ماذا يميزنا — بأي درجة — عن بقية كائنات الطبيعة؟ لقد لاحظنا أن هايدجر ينأى بنفسه عن الإجابات التقليدية عن هذا السؤال الذي رأى أنه ينتقص من قيمتنا. ومع هذا فهو من قدَّم لنا استخدامًا خاصًّا لمصطلح «الصدق» الذي سرعان ما أصبح الفضيلة الوجودية الرئيسية. لقد اعترف سارتر باقتباسه المصطلح من هايدجر. لكن على الرغم من أن هايدجر أصر على أن الكلمة وعكسها — عدم الصدق — لا تحملان أي دلالة أخلاقية، فإن سارتر لم يؤمن بهذا. على الجانب الآخر، ابتدع سارتر مصطلحَين ذَوَيْ صلة، هما: «الصدق مع الذات»، وعكسه «خداع الذات»، منكرًا أنهما يحملان دلالة أخلاقية، مع أن هايدجر أكد أنهما يحملانها بوضوح. في واقع الأمر، لقد أخطأ كلا المؤلفَين، أو الأصح لم يكن كلٌّ منهما على استعداد للاعتراف بالصبغة الأخلاقية التي اصطبغت بها هذه المصطلحات، بصرف النظر عن نوايا مبتكريهما الخاصة.

(١) الوجود في الموقف

لكي نستعرض الحقيقة الوجودية لوضعنا ودلالتها الأخلاقية، دعونا نبدأ بالنظرة الوجودية التي تفيد بأن البشر يوجدون في الموقف. لا يعني هذا فقط أننا لسنا أرواحًا حرة تهيم فوق الكون المادي كالطيور التي ترفرف فوق صفحة الماء، بل إن الوجود في الموقف يشدد على أننا جزء لا يتجزأ من هذا الكون والعالم الحضاري الذي يغلفه. نحن أقل درجة من الملائكة، لكننا أعلى درجة من الآلات. الموقف هو مزيج غامض مما يسميه سارتر «واقعيتنا» و«تسامينا». تشير «الواقعية» إلى معطيات موقفنا مثل: العِرق والبلد اللذَين ننتمي إليهما، ومواطن قوتنا ونقاط ضعفنا، والآخرين الذين نتعامل معهم، بالإضافة إلى خياراتنا السابقة. أما «التسامي»، أو المدى الذي يتجاوز به وعيُنا هذه المعطيات، فيشير إلى مخرجات موقفنا، بمعنى: كيفية مواجهتنا هذه الواقعية. يشبه التسامي إلى حدٍّ ما «قصدية» الوعي، إذا فهمنا هذا المصطلح بمعنًى ديناميكي. فقد يواجه بعضٌ ممن وُلدوا بإعاقة جسدية هذا التحديَ مواجهة إيجابية وبَناءة، في حين قد يسمح آخرون لأنفسهم بالاستسلام لهذه الإعاقة. يعترف سارتر بأن مصطلح «الموقف» غامض من حيث إن المرء لا يستطيع أن يقيس المساهمة الدقيقة لما هو مُعطًى وما هو مُخرَج في كل موقف. على سبيل المثال: إلى أي مدًى يُنسَب فشلي في أن أكون جراحًا إلى ضعف ذكائي ومهاراتي الجسدية أو وضعي الاجتماعي الاقتصادي المُعدم (الواقعية) وإلى أي مدًى يُنسَب إلى تكاسلي العقلي وعدم انضباطي (التسامي)؟ لكن، مثلما تشير سيمون دي بوفوار، قدمت الوجودية نفسها منذ البداية باعتبارها فلسفة الغموض. لا يمكن وزن هذه العوامل الذاتية والموضوعية أو قياسها بدقة. في حقيقة الأمر، يتخلل غموض المعطيات والمخرجات حياتَينا الاجتماعية والشخصية. وكما حذرنا أرسطو، فمن الخطأ السعي إلى درجة من الوضوح أعلى مما تتيح المادة؛ فأنت لا تبحث عن الدقة الرياضية في الأمور الأخلاقية، والوجودي يطبق هذا على الحياة نفسها؛ فإذا أردنا فحصها بهدف التخلص من كل الغموض لصار ذلك أشبه برسم لوحة انطباعية بأسلوب رسام الصور الظلية. لم يشدد أحد على هذا الغموض الجوهري في الموقف الإنساني أفضل من ميرلوبونتي، الذي كان فيلسوف الغموض «بلا منازع».

ما يصفه هايدجر على أنه «انغماسنا» في عالم الحياة اليومية ينطوي بالضرورة على هاتين السمتين. إذا استرجعنا البُعد الزمني الذي يميز الوجود الإنساني بشكل أساسي، يمكننا أن نصف ثنائية الواقعية والتسامي هذه باعتبارها ماضيَنا ومستقبلَنا الوجداني، على التوالي. هايدجر هو مصدر هذا التفسير الثلاثي لوقتيتنا الوجدانية، بمعنى: (١) الماضي باعتباره حقيقة أو «عملية إلقاء» (فنحن لا نحضر إلى المشهد بصفحة بيضاء لكن بماضٍ فعلي). (٢) المستقبل باعتباره «وجودًا وجدانيًّا» أو «بروزًا» (فنحن نعيش في زمن «لم يأتِ بعدُ»، زمن «الممكن»). (٣) الحاضر باعتباره انغماسًا في فيض همومنا اليومية.

من بين هذه الأبعاد الوجدانية، يعد بُعد المستقبل — باعتباره الممكن — هو الأهم. فنحن مخلوقات تسعى إلى «الممكن». حتى مدمن الكحول المتعافي الذي يحاول أن يعيش الحياة «يومًا بيوم»، لا يستطيع تجنب شبح المستقبل. وكما يعلق سارتر، يجب أن يجدد المقامر التائب وعده لنفسه كلما اقترب من غرفة المقامرة. القلق الوجودي هو تجربتنا للممكن باعتباره مكمن حريتنا. تصف نكتة قديمة رجلًا يسقط من قمة مبنًى شاهقٍ، وهو يمر سريعًا بالطابق الثلاثين يصرخ أحدهم قائلًا: «كيف حالك؟» فتكون إجابته المتفائلة: «بخير حال، حتى الآن!» المثير للضحك بشكل مأساوي هو استخفاف هذا الشخص ببُعد الممكن الذي يعد ضروريًّا في موقفه. وهذه الإمكانية تتضاءل بسرعة الجاذبية.

كما قلت في البداية، يشخصن الوجودي البعد الزمني إلى جانب البعد المكاني. فالزمان والمكان حسب القواعد العلمية، مثل مفهوم أرسطو للزمن باعتباره مقياسًا للحركة أو مفهوم أينشتاين لمتصل الزمكان، هما فكرتان تجريديتان مستخلصتان من التجربة المعاشة للزمن والمكان الوجوديين. إذا لم يكن لدينا هذه التجربة الأصلية قبل القياسية المتعلقة باندفاع الزمان وتمدد المكان، فلن يكون لدينا شيء نستخلص منه هذه المفاهيم العلمية، ولن يكون لهذه الأفكار أي تأثير على حياتنا. لكن على الرغم من أن هايدجر يستخدم هذه التجارب ليكشف الأفق الزمني الذي تقع فيه الكينونة (الكينونة، لهايدجر، ليست خالدة)، يصر سارتر دون تردد على التشديد على مسئوليتنا عن الموقف الغامض بالضرورة الذي نعيشه. فأيًّا كان موقفنا، فسينطوي دومًا على إمكانية تجاوزه. وكما قلنا، فإن شعار الفلسفة الإنسانية لدى سارتر هو أنك تستطيع دائمًا أن تصنع شيئًا مما وجدت نفسك عليه؛ لأنك تتسامى دائمًا فوق واقعيتك.

(٢) الوعي المزدوج

من الأمور المحورية بشأن فكرة سارتر عن الموقف وخداع الذات الناتج عنه هو فهم سارتر للوعي باعتبار أنه يتكون من شقين: قبل التأملي والتأملي. بصورة أساسية، يتسم الوعي بأنه موجه نحو موضوع (متعمد) واضح، فهو لا يحوي بقعًا عمياء؛ فأنت تقرأ هذه السطور وأنت تعي معناها في إطار المناقشة التي تتبعها، أي إنك واعٍ بالمناقشة بشكل قبل تأملي. لكن إذا قاطعك أحد بالسؤال «ماذا تفعل؟» تستطيع أن تجيب، حاليًّا بشكل تأملي: «أنا (كنت) أقرأ». على الرغم من أن وعيك كان موجهًا في الأصل إلى المناقشة التي كنت تتبعها، فإن وعيك التأملي صار موجهًا الآن إلى فاعل «أنا» وحادثة موضوعية «كنت أقرأ». يقصد سارتر أن الوعي الأول قبل التأملي كان وعيًا مضمرًا بالذات (أي، غير موضعي)، لكنه كان وعيًا ظاهرًا (موضعيًّا) بالمناقشة في الصفحة. ومع هذا كان الفاعل موجودًا، وإن كان «في الكواليس»، مثلما كان في الوعي الظاهر بالموضوع، وإلا لما استطاع المرء أن يجيب (بشكل تأملي) ««أنا» كنت أقرأ».

يتعرض المرضى للتخدير الكلي قبل الجراحة لحجب وعيهم قبل التأملي تحديدًا، وهو ما يترك الوعي التأملي خاويًا. بعبارة أخرى: من المفترض أن تكون الإجابة عن السؤال «بمَ شعرت خلال الجراحة؟» هي «لا شيء»؛ إذ لا توجد «تجربة» واعية قبل تأملية مر بها المريض كي يسترجعها بعد ذلك. يعلق سارتر قائلًا: «كل وعي موضعي بالموضوع هو في نفس الوقت وعي غير موضعي بالذات.» بالنظر إلى العلاقة المباشرة وغير الإدراكية للذات بنفسها (وعي غير موضعي بالذات)، يستطيع سارتر أن يؤكد أننا دائمًا وبشكل مضمر واعون ﺑ «ذاتنا» في كل عمل واعٍ، وأن هذا الوعي بالذات يصبح ظاهرًا أحيانًا بالتفكير اللاحق. هذا هو الفرق بين إجابتَينا عن السؤالين السابقين: كنت واعيًا وعيًا مضمرًا بذاتي عندما كنت أقرأ الكتاب واعيًا، لكني لم أكن واعيًا وعيًا مضمرًا بذاتي عندما كنت غير واعٍ على فراش العمليات.

لهذا الزعم دلالة أخلاقية وإدراكية؛ أولًا: لا ضرورة لوجود اللاوعي الفرويدي ليخفي أفعالنا الواعية أو يسترها، بحيث يهدد مسئوليتنا عنها. وثانيًا: يمكننا أن نتجنب التفكير العبثي في عملية التفكير بلا نهاية بهدف إدراك الوعي بالذات. إن «كل» فعل واعٍ هو في طبيعته وعي بالذات، وإن كان مضمرًا (أي: غير موضعي). بشكلٍ ما، يشدد هذا أيضًا على مسئوليتنا. وكما يقول سارتر مؤكدًا: «لا عذر لنا.»

إذا اعتبرنا أن «المعرفة» تدل على الوعي التأملي، فيمكن القول إننا واعون بأكثر مما نعرف. مثل متبع الحمية الغذائية ضعيف الإرادة، نحن واعون بشكل قبل تأملي بنيتنا في أن نأخذ قطعة ثانية حتى ونحن نعارض أنفسنا (بشكل تأملي) قائلين: «لن أفعل هذا.» سيطلق سارتر لاحقًا على هذا الوعي قبل التأملي اسم «الاستيعاب»، مشددًا على أننا نستوعب أكثر مما نعرف. وهذا بدوره يمكِّنه من إضافة عدد من مصطلحات التحليل النفسي إلى تفسيره للوضع الإنساني دون الاستعانة باللاوعي الذي يعتقد أنه يحرمنا من حريتنا الوجودية، كما ذكرنا من قبل. هذه الطبيعة المزدوجة للوعي هي التي تجعل خداع الذات ممكنًا دون مساعدة اللاوعي.

نظرًا إلى أننا نوجد بصورة أساسية داخل موقف، ولأن هذا الموقف متدفق وغامض مثل الزمن والوعي نفسيهما، لا يعتبر البشر هويات سرمدية وثابتة. أيًّا كانت الهوية التي نتمتع بها فإنها إما مفروضة علينا من الخارج (وهو ما يجعل صورة من صور سوء النية ممكنة، كما سنرى بعد قليل) أو يُعَزِّزها مشروعنا الوجودي المستمر والمميز للذات؛ ألا وهو مشروع «اختيارنا» الجوهري. هذا الفشل في التطابق مع أنفسنا هو أساس كلٍّ من حريتنا وقدرتنا على خداع أنفسنا. نحن بالأساس عمل قيد التنفيذ، قصة لم تزل تُكتب بعد. وإنكار هذا الوضع يعني أننا نخدع ذواتنا.

(٣) سوء النية

أكثر التصنيفات الوجودية شهرةً في مذهب سارتر الوجودي هو «سوء النية». وهو بلا شك مستخدم على نطاق أوسع في اللغة الدارجة أكثر من «حسن النية». ربما لأنه — كنوع من خداع الذات — أكثر انتشارًا بسبب وثاقة صلته بالناس. يرى هايدجر أننا غالبًا ما نكون منغمسين في الحياة اليومية التقليدية وننزع إلى تجاهل انفتاحنا على الكينونة، وهكذا «نستسلم للتيار» ببساطة، أي إننا نعيش بلا صدق كما يعيشون «هم». وفي إشارة واضحة لمفهوم «الخطيئة الأولى» الإنجيلي، يشير هايدجر إلى هذا الانغماس باعتباره سقوطًا. ويبدو أن سارتر يوافق على أننا ننزع في العادة إلى إنكار مسئوليتنا عن موقفنا، أي بسوء نية. ينطبق هذا تمامًا على المجتمعات التي يتفشى فيها الاستغلال والقمع، كما سيقرُّ لاحقًا. في واقع الأمر، يدعي سارتر أن كتاب «الوجود والعدم» كان دراسة فينومينولوجية للأفراد داخل مجتمع متسم بالجفاء. تعزز مثل هذه المجتمعات خداع الذات حيال الظلم الهيكلي الذي تحمله ممارساتنا. في هذه الحالات، حتى ادعاؤنا لحسن النية هو ادعاء أساسه سوء النية؛ لأنه يفترض أننا نستطيع أن نتحلى بحسن النية مثلما تكون الصخرة مجرد صخرة؛ أي أن نتوافق تمامًا مع أنفسنا ونتحرر من المسئولية، في حين أننا دائمًا ما نتجاوز أنفسنا؛ وبالتالي فنحن بلا عذر. بعبارة أخرى: دائمًا ما يكون وعينا الزمني سابقًا على ما نحن عليه، إلى حد أن سارتر يدعي أنه بصرف النظر عما قد نكون عليه، فنحن «لا نمارسه». هذه الفجوة التي يقدمها الوعي الزمني إلى حياتنا هي التي تفسر حريتنا وتمثل أساسًا لمسئوليتنا. وهي منبع هذا القلق (الجزع) الوجودي المعروف الذي يشير إلى وعينا المضمر بحريتنا باعتباره إمكانية الإمكانية.

على نهج كيركجارد، يفرق الوجودي بين القلق والخوف؛ فللخوف هدف محدد، كأن يخاف المرء السقوط من شفا جرف ضيق، أما القلق فهو الوعي بأن المرء يمكن أن يسقط من فوق الحافة. إنه الوعي بأن أي اختيار يقع في نطاق قدرتنا على اتخاذه، حتى لو استعصى علينا نجاحه. لكن على الرغم من لغة الوجودية التجريدية غالبًا، فإنها — كما رأينا — تهدف إلى أن تكون فلسفة ملموسة. إن الإمكانيات التي تشير إليها، حتى الإمكانية دون وجود هدف محدد — أي مجرد الوعي بالحرية — تدل على الوعي ﺑ «حريتي» الموضعية وإمكانيتي. وكما يصوغها سارتر: «المجند الذي يتطوع في بداية الحرب للقتال من الممكن في بعض الحالات أن يخاف من الموت، لكن الأغلب أنه «يخاف من أن يخاف»، أي إنه مملوء بقلق يفوق قدرته.»

(٤) «يقين» سوء النية

قبل الانتقال إلى النوعين الأساسيين من سوء النية، دعونا ننتبه إلى ما سماه سارتر «اليقين» بسوء نية؛ لأنه يكشف معياره المرتفع بإفراط حول ما يشكِّل «دليلًا» ويفسر سوء النية باعتباره اختيارًا يمكن الاقتناع به بِناءً على دليل «غير مقنع». باختصار: يتبنى سارتر نظرة شبه فينومينولوجية، مبنية على الأدلة، عن المعرفة باعتبارها الحضور الفوري للوعي بالموضوع نفسه. كما رأينا في الفصل الأول، تضعنا الطبيعة القصدية للوعي فورًا في العالم دون الحاجة إلى أفكار في العقل نفترض أنها تشبه ما يوجد في العالم «الخارجي». وهو يفرِّق بين «اليقيني» و«المحتمل» بناءً على ما إن كان هذا الموضوع قد جرى استيعابه بشكل تأملي وبحدْس فوري بديهي، مثلما يفهم المرء مسألة رياضية أو يضبط شريك حياته «يرتكب إثمًا»، أو العكس: ما إن كان الموضوع المتابَع أشار إليه شيء آخر يمثِّل دليلًا على وجوده أو ضد وجوده، مثلما يحاول المرء إثبات فرضية علمية أو عند ملاحظة أحمر الشفاه على ياقة القميص. في الحالة الأولى يرى المرء الموضوع موجودًا كما ينبغي، وفي الحالة الثانية يمتلك المرء تلميحًا أو دليلًا على الموضوع الذي لم يتضح بذاته بعد، أي لم يتأكد بعد. يفترض سارتر أن الاعتقاد بشكل عام هو التوجه الذي يعتمد على أدلة من النوع الثاني، في حين تتطلب المعرفة الاستيعاب الفوري للموضوع ذاته، وهذا في الواقع معيار مرتفع لما يُعتبر معرفةً. مثل هذا الاعتقاد يكون «حسن النية» بالمعنى المعرفي لو قيد نفسه بدليل مقنع، ويكون «سيئ النية» لو رضي سلفًا بدليل غير مقنع. وهو يرى أن سوء النية يعني الاستعداد التلقائي من جانب المرء للقبول بأدلة غير مقنعة. فما إن «يقع المرء في حب» شخص معين — مثلًا — فقد يبحث عن دليل يدعم «قراره» ويهمل عن قصد — وإن كان بشكل قبل تأملي — أي دليل مناقض، حتى وإن شكك أصدقاؤه فيما يعتبره المرء جذابًا في هذا الشخص. وصف سارتر هذا بقوله: «وضْع المرء نفسه في موقف سوء النية يشبه ذهابه إلى النوم، ووقوعه في إساءة النية يشبه معايشته للأحلام.» لكن بسبب العين اليقظة للوعي قبل التأملي، يكون المرء واعيًا برضاه عن هذا الدليل غير المقنع، ويظل مسئولًا عن استمراره في سوء النية.

(٥) نوعان من سوء النية

الهروب من القلق على حريتنا هو الذي يحفز سوء النية، وازدواجية الوضع الإنساني الممثَّلة في كلٍّ من الواقعية والتسامي هي التي تجعل سوء النية ممكنًا. إن سوء النية هو محاولة الهرب من ضغط هذه الازدواجية عن طريق إنكار أحد قطبيها. وفقًا لذلك، يتحدث سارتر عن نوعين من سوء النية. يحاول النوع الأكثر شيوعًا إسقاط تسامينا (إمكانيتنا) لمستوى واقعيتنا (وضعنا السابق)؛ نتيجة لذلك، يهرب المرء من المسئولية بادعائه: «هذه هي طبيعتي.» تقدم صور الجبرية المتنوعة — بدءًا من الجبرية الاقتصادية لماركس ووصولًا إلى الجبرية النفسية لفرويد — صورًا نظرية لهذا النوع الأساسي من سوء النية. وهي تريحنا من القلق على حريتنا عن طريق إنكار أننا أحرار بهذا المعنى الوجودي المبتكَر. ينصاع هذا النوع من سوء النية لنمط الحياة المقدَّم سلفًا الذي لا يسيطر عليه الإنسان؛ وبالتالي هو غير مسئول عنه. سيكون هذا عكس «الاختيار» المبتكَر لشخصية سيزيف لكامو، أو نصيحة ديلان توماس لأبيه المحتضَر:
لا تستسلم لهذه الليلة الجميلة.
ثُر، ثُر ضد احتضار النور.

يشدد كلٌّ من الروائي والشاعر على وعي الفاعل ومسئوليته. مرة أخرى، هذه الأمثلة عن الصدق هي صور من تحوُّل نيتشه من «ما كان» إلى «هذا ما أردته». من ناحية أخرى، توحي الصورة الجبرية لخداع الذات باستسلام متبلد لمصير المرء. وحسبما ذكرنا سابقًا، هذا هو أساس إنكار سارتر للَّاوعي الفرويدي. ومع هذا، فقد لاحظنا أنه يستبقي العديد من الآراء «الفرويدية» بالاستعانة باستيعابنا «قبل النظري» لأفعالنا التي تسبق وعيَنا التأملي الظاهر. وفي ظل هذه «الوحدة» التي يتسم بها الوعي المتوتر يحدث خداع الذات؛ لأنه — وبشكل متناقض — لا يستطيع المرء أن «يكذب» على نفسه ما لم يكن منقسمًا بشكل أساسي، ومع هذا لو كان المرء مختلفًا كليةً عن المخدوع، فلن يوجد خداع للذات، لكنها ستكون حالة أطلق عليها سارتر «الكذبة الساخرة». يحمل سوء النية تناقض الوعي نفسه. يقول سارتر: إن سوء النية هو «المعرفة الجاهلة والجهل العارف». وهذا يحدث في إطار وحدة نفس الوعي المضمر بالذات.

تتجسد الصورة الثانية من هذا السقوط للتسامي (الإمكانية) في موقف سوء النية الذي يتيح لفاعل آخر تحديد «الهوية» التي نحاول التوافق معها. تتجذر هذه الصورة في علاقاتنا الشخصية، فيما سماه سارتر ﺑ «الوجود من أجل الآخرين». ومن الأمثلة القوية على هذا مثال سارتر عن النادل المثالي. فحركة النادل سريعة ومحسوبة. هو قلق بعض الشيء حيال طلب العميل. وهو يعود موازنًا صينيته بإهمال لكنه مع هذا يعطي إيحاءً بالسيطرة التامة، وهكذا. يرى سارتر أنه يتظاهر «بكونه» نادلًا في المقهى. لقد صار عبدًا لصورة فرضتها عليه توقعات الآخرين التي نسبها إلى نفسه. يظهر سوء النية عندما يعتبِر الفاعل أن أي سلوك آخر غير متصور. فهو ببساطة «كان» نادلًا بكل كيانه، مثلما أن الصخرة هي مجرد صخرة. لكن وعيه يجعل هذه الهوية الكاملة مستحيلة. بشكل قبل تأملي، هو واعٍ باللعبة، لكنه يركز بشكل تأملي على إنجاز العمل بهذه الطريقة المعينة واختار أن يتجاهل مظهره الذي يقصي أي احتمالات أخرى. من ناحية أخرى، إذا اختار أن يعيش قلق الاستمرار في تجديد هذا المظهر وهو مدرك تمامًا أنه في أي لحظة يمكن للمرء أن ينزع مريلته ويترك مهنته، فسيكون هذا نوعًا من حسن النية والصدق مع الذات. لكن عادةً ما يتجنب هذه الحرية والقلق المصاحب لها.

أما النوع الثاني — والأقل شيوعًا — من سوء النية فيكمن في إسقاط وضعنا السابق من الاعتبار على نحو غير واقعي بالمرة، كما لو أننا مجرد إمكانية محضة دون واقع، نعيش بالكامل في المستقبل، وغير مهمومين بأي ماضٍ. هذا هو سوء النية للحالم كما تجسده شخصية جيمس ثوربر «والتر ميتي». فوالتر شخص حالم عاجز عن التواصل مع العالم الواقعي، وأي موقف قادر على تحفيزه على تخيل البطل الذي يريد أن يكونه في حين أن حياته — في حقيقة الأمر — خاوية من المغامرات وعادية. كذلك الأمر مع الطالبة التي تصر على أنها ستصبح جراحة مخ، لكنها تضغط تلقائيًّا على زر الغفوة في منبهها بدلًا من أن تنهض من فراشها لتحضر فصل الكيمياء، فهي أيضًا تخدع ذاتها. فهي أيضًا — مثل ربان السفينة — اختارت ألا تختار، وهو ما يعني أنها (بشكل قبل تأملي) اختارت ألا تكون جراحة لكن دون الإقرار (بشكل تأملي) بهذه الحقيقة؛ فهي سيئة النية وتخدع نفسها.

يرتبط كلا النوعين من سوء النية بكذبة حول الوضع الإنساني، مع الإصرار على أنه إما تسامٍ أو واقعية في حين أنه — في الحقيقة — كلا الأمرين معًا، لكن في مزيج غامض يعتبره أولئك الذين لا يطيقون العيش في غموض شيئًا مثيرًا للأعصاب. لكن مَن يقبلون تحديَ العيش وفق حقيقة وضعهم هذه هم من يصفهم سارتر بأنهم «صادقون».

(٦) الوجود الصادق

لقد تحدثنا عن المشروع الوجودي المتعلق بالتحول إلى فرد. يُعتبر الصدق سمة من سمات الفرد الوجودي. في الواقع، تبدو الفردية والصدق الوجوديان وكأنهما وجهان لعملة واحدة. ففردية المرء (بالمعنى الوجودي) لا تقل عن صدقه. ولكي تكون صادقًا بحق يجب أن تدرك فرديتك، والعكس صحيح. كلٌّ من «الفردية» و«الصدق» الوجوديَّين كلمة إنجاز. فالشخص الذي يتجنب الاختيار، والذي يصبح وجهًا وسط الزحام أو ترسًا في الماكينة البيروقراطية، قد فشل في أن يكون صادقًا؛ وهكذا نستطيع الآن أن نصف الشخص الذي يعيش حياته وفقًا لأوامر أو توقعات «الآخرين» بأنه غير صادق.

يعيش بطل رواية تولستوي «موت إيڤان إيليتش» معظم حياته غير صادق. وعندما يتقبل أخيرًا موته الوشيك بدلًا من أن يستسلم لحدوثه، يصبح صادقًا. هذا الانتقال من إدراك الموت الذي يختبره «الآخرون» كبشر إلى تقبل الموت الذي يحمل اسمي أنا هو خطوة نحو الصدق. في نظر هايدجر، فإن البعد الزمني للمستقبل باعتباره ممكنًا يغلب بُعد الماضي كواقعية، على الرغم من أن كليهما لا يمكن تجاهله عند تقييم صدق «الكائن هنا». وهو يرى أن وجوده المتجه نحو الموت — أي زمنه الفاني — هو أكثر الإمكانيات ملاءمة له؛ لأن هذه الإمكانية هي التي تمثل نهاية إمكانياته الأخرى، والإمكانية، في نظر هايدجر، هي أهم بُعد بين الأبعاد الثلاثة للوقتية الوجدانية. في هذا الشأن، يكمن عدم الصدق في الهروب من فنائنا عن طريق التخفيف من شأنه ليصبح حادثة تقع لكل الناس. يعترض إيڤان إيليتش قائلًا:

إن القياس المنطقي الذي تعلمه من منطق كيسويتر: «كايوس إنسان، والإنسان فانٍ، لهذا كايوس فانٍ» بدا له دائمًا صحيحًا عند تطبيقه على كايوس، لكن بالتأكيد ليس عند تطبيقه على نفسه. كان كايوس هذا — الإنسان في صورته المجردة — فانيًا، وهذا صواب تمامًا، لكنه لم يكن كايوس، ولم يكن رجلًا مجردًا، بل هو مخلوق منفصل بالكامل عن الآخرين … لقد كان كايوس بالفعل فانيًا، وكان صوابًا من وجهة نظره أن يموت، أما أنا — ڤانيا الصغير، إيڤان إيليتش — بكل أفكاري ومشاعري، فالأمر مختلف بالنسبة لي تمامًا؛ فلا يمكن أن يكون موتي وجوبيًّا. سيكون هذا بشعًا للغاية.

في نظر هايدجر، فإن القبول الحازم لوجودنا المتجه نحو الموت هو الذي يلملم همومنا المبعثرة دونه لإدراك ما يجب أن يكون عليه الموت. هذه طريقة أخرى لتجربة وجودنا المحتمل. فما إن ندرك أننا في مرحلة زمنيةٍ ما لن يكون لنا وجود، حتى نكتشف معنى أن نوجد. وحتى لو آمنا بخلود الذات، فإن حلول تلك «الليلة الجميلة» لا يخلو من المخاطر، مثلما أدرك مارسيل. ومثلما قال موسى هيرتزوج: «هكذا نعلِّم بعضنا بعضًا الميتافيزيقا.»

يختلف سارتر عن هايدجر من حيث إنه يعتبر «موتي» دخيلًا على تجربتي. صحيح أنني أستطيع أن أرى احتضار أحدهم وأتخيل نفسي في هذا الموقف، لكن الأمر يتوقف عند هذا الحد. فموتي كما يسميه سارتر «غير مُدرَك»؛ لأنه يوجد خارج إطار تجربتي، وهو درس تعلمه بلا شك من أبقراط (٣٤١–٢٧٠ق.م). ومع هذا فهو يربط أيضًا بين الصدق ووحدة الحياة. لكن في حالته فإن المشروع أو «الاختيار» المميز بذاته هو الذي يجعل تعددية همومنا كلًّا واحدًا ويفسح المجال لقبولنا الصادق.

سواء أدركنا الأمر تأمليًّا أم لم ندركه، يؤمن سارتر بأن «الاختيار» الجوهري (الذي سنميزه بعلامتَي التنصيص كي نفرِّقه عن بقية القرارات والاختيارات التي نتخذها في ظل هذا «الاختيار» الموجِّه للحياة) هو المعنى والاتجاه الموحِّدَين في حياتنا. بهذا المعنى الجوهري يكون «الاختيار» قبل تأملي. إنه ما نكونه وليس فقط ما نفعله. نحن نصل إلى الوعي التأملي بعد اتخاذ هذا «الاختيار» بالفعل. وصوره الملموسة هي الخيارات العديدة التي تمثِّل هذا المشروع.

يرى سارتر أن «اختيارنا» الأصلي هو سعينا العبثي إلى التطابق الواعي مع هوياتنا. لقد رأينا أن السعي إلى الهوية يتعارض مع وعينا «بعدم» تطابقنا مع هوياتنا. ومع هذا، يتصرف معظمنا وكأنه يستطيع أن يكون مثل الأشياء في صلابتها وهويتها الثابتة؛ أي إننا نستطيع أن نكون أشياء واعية. وهو يعترض قائلًا: إن هذا هو المَثَل المستحيل للألوهية، وسعينا وراءه يعكس هروبًا غير صادق من القلق على حريتنا. فحريتنا هي حرية «عدم» التطابق مع الهوية. أيًّا ما كنا، سواء كنا نُدُلًا أو جنودًا أو نساءً في موعد غرامي، وهذه ثلاثة من أمثلته، فنحن نتمتع بكل سمة بأسلوب «أخروي»؛ أي بأسلوب الفاعل الواعي. ولو اتصفنا بأيٍّ من هذه السمات في نظرنا أو في نظر الآخرين، فإننا نحافظ عليها عن طريق تجاوزها بقدر ما؛ فنحن مسئولون عن الطريقة التي نحافظ بها على هذه السمات. وحسب عبارة سارتر الدرامية: «نحن محكوم علينا بالحرية.»

لكن بصفة عامة، لو سعى الناس غالبًا إلى أمان التطابق مع أدوارهم في الحياة أو مع ما يتوقعه الآخرون منهم، على الرغم من أن القلق الناجم عن حريتهم المكبوتة لا يمكن إخماده، فإن كل شخص يعبِّر عن «خياره» الوجودي بشكل معين يتطابق مع واقعية موقفه. يؤمن سارتر بأن «الواقع الإنساني» وحدة كاملة، وليس أجزاءً مفككة. مرة أخرى، نحن قصة لم تُكتب بعد، ولسنا مجموعة منفصلة من الأحداث مرصوصة جنبًا إلى جنب وحسب. هذا «الخيار» أو «المشروع» المميز للحياة هو الذي يوحِّد تجاربنا وتعددية خياراتنا القائمة على هذا «الاختيار».

يستتبع هذا أنه من المفترض أن يكون المرء قادرًا على اكتشاف طريقته المميزة للاتفاق مع نفسه عن طريق مراجعة الخيارات الفردية التي تصف حياته حتى هذه المرحلة. يطلق سارتر على تفسير هذه الخيارات التي تكشف «الخيار» الجوهري اسم «التحليل النفسي الوجودي». لا يستعين هذا التحليل النفسي باللاوعي القامع للحرية، لكن سارتر يقر بأن هذا التحليل يحتاج إلى شخص مثل فرويد. وعلى الرغم من أنه يعترف بإمكانية «التحول الجذري»؛ حيث «يختار» المرء أن يعيش وجودًا قلقًا ناجمًا عن حرية صادقة دون السعي إلى التطابق مع الذات، فإن هذه التغيرات الجوهرية في اتجاه الحياة نادرة.

ومع هذا فسواء كان استثنائيًّا أم لا، فإن خُلُق الصدق — مثل ذلك الذي وعد به سارتر في إحدى حواشي كتاب «الوجود والعدم» — أمر ممكن. وأي شخص يسعى إلى تفاصيله، من منظور سارتر، يستطيع قراءة كتابه المنشور بعد وفاته «مذكرة في فلسفة الأخلاق»؛ ففيه سيجد سارتر يعبِّر عن فرضيات، ويشير إلى رؤًى، ويحدد عناصر فلسفة أخلاقية لم يصُغها ككل. وهذا اختلاف شاسع عن صورة الوجودي التقليدي الذي جُسِّدَ في كتاب «الوجود والعدم». أهذه إشارة إلى تحوُّل جذري؟ كلا، ليست كذلك، لكنها تقدم نظرة على الجانب الإيجابي للأخلاقيات الوجودية التي ستنشأ بمجرد تفكيك «المجتمع المتسم بالجفاء» الموصوف وصفًا فينومينولوجيًّا في الكتاب الأول.

يتمثل المنظور الوجودي للإنسان، الذي كثيرًا ما يعبَّر عنه دراميًّا حسب الصورة الخيالية التي يوحي بها الموضوع، في أن الاحتمالية تتخلله؛ احتمالية كتلك التي اختبرها روكوينتين في «الغثيان». ومثل رؤية هايدجر في مواجهة فناء الذات أو رؤية نيتشه عن «الأرواح الحرة» التي ترحب في شجاعة بالتكرار اللانهائي للماضي، فإن الفرد الصادق، في نظر سارتر، هو من يعتنق هذه الاحتمالية ويعيشها بالكامل.

(٧) أخلاقيات الصدق

غالبًا ما يُنظر إلى الصدق باعتباره أداة أخلاقية لحفظ التوازن تساعد المرء على البقاء في حالة سقوط أخلاقي نيتشوية (نسبة لنيتشه). لو كان الشخص الصادق «مبدعًا» من الناحية الأخلاقية وتجاوز المنارة الأخيرة للأمان الأخلاقي، ولو عطل الفاعل — مثل شخصية إبراهيم لكيركجارد، أو الروح الحرة لنيتشه — القواعد الأخلاقية التقليدية باستعانته بالقواعد العالمية بناءً على القول السائد «ماذا لو فعل الجميع هذا؟» من أجل ما هو فريد وغير مسبوق وموقفي، فلأي معيار إذنْ يحتكم المرء كي يثبت الادعاء بأنه يلعب اللعبة الأخلاقية من الأساس؟ سيبدو أن الإبداع الأخلاقي المزعوم مجرد غطاء للعدمية، أو على الأقل قناع للانتهازية البحتة. ومع هذا فلقد ذكرنا أن الوجوديين يضعون الاعتبارات الأخلاقية في أعلى مرتبة. فأي نوع من الأخلاق تراهم يقترحونه؟

لقد أُشير إلى أن ما يعرضه الوجوديون علينا على المدى البعيد هو «أسلوب» أخلاقي أكثر منه محتوًى أخلاقيًّا. قد ينصحوننا بالكيفية التي نعيش بها، لكنهم — مثلما تصر دي بوفوار — لا يعرضون علينا وصفات أخلاقية. وهذا ليس ادعاءً غير مبرر. لقد شدد نيتشه بالتأكيد على أهمية الأسلوب مقارنة بالجوهر، الذي اعتبره ميتافيزيقا فاسدة، وهو ينصح القادرين على تنفيذ هذه النصيحة بأن يصنعوا من حياتهم تحفة فنية. وشبه سارتر الخيار الأخلاقي بعملية تصميم عمل فني من حيث إن الفن والخيار الأخلاقي لا يخضعان للقواعد الصارمة. لكن على عكس نيتشه ومثل كيركجارد، أضفى سارتر على الأحكام الأخلاقية صبغة «عالمية». تعلق دي بوفوار قائلة: «إن أخلاقيات الغموض ترفض إنكار الأمر البديهي القائل إن الموجودات المنفصلة يمكن أن تكون — في الوقت نفسه — متصلة بعضها ببعض، وإن حرياتها المستقلة يمكن أن تصوغ قوانين تصلح للجميع.» في واقع الأمر، تواصل دي بوفوار تشديدها على «أهمية هذه الغاية المطلقة والعالمية التي تنطوي عليها الحرية نفسها».

تشكِّل الحرية القيمة المطلقة للوجوديين تمامًا مثلما أن الصدق هو فضيلتهم الأساسية. لكن، كما تشير دي بوفوار، ليست هذه حرية فاترة جوفاء (حيث «كل شيء مباح»)، لكنها أيضًا ليست «الحرية» الخاضعة ﻟ «الإنسان الجاد» المقيد بالقوانين الذي يحجب حريته انصياعًا لإملاءات المجتمع. ومثل نيتشه، فهي تجد جذور العدمية مترسخة في فشل روح الجدية هذه. فعندما يرفض الناس التصنيفات الأخلاقية الصارمة التي تتسم بها التقاليد الدينية أو الفلسفية، ينتهي الحال بهم رافضين أي قيم مطلقة من الأساس، وهو موقف يسمى ﺑ «العدمية». لكن على العكس من ذلك، أولئك الذين يشعرون بسعادة الوجود وينعمون بنفحاتها (أي: أولئك الذين يعتنقون احتماليتهم في سعادة)، فإنها تقترح أنهم سيصمدون أمام عاصفة العدمية التي أثارها نيتشه ﺑ «موت الإله». بعبارة أخرى: فإن «محتوى» الخيار الوجودي هو الحرية نفسها التي تتجسد باعتناق احتماليتها المطلقة، أي فقدانها تطابق الذات. مرة أخرى، أيًّا ما كنتُ، فأنا لا أكونه؛ أي إنني لست مقيدًا به وأحاول تجاوزه واعيًا.

لكن ألا ينقلنا هذا — في نهاية المطاف — إلى أسلوب مجرد في الحياة؟ هل يهم ما «يعتنقه» المرء بحرية ما دام يعتنق شيئًا من الأساس؟ إذا كان معنى «الصدق» هو اعتناق المرء لاحتماليته بسعادة، ألا يمكن أن يكون المرء صادقًا في معاداة السامية أو النازية؟ ترى دي بوفوار أن المتطلب الحقيقي لحرية المرء هو ملاحقتها ما يسمى ﺑ «المستقبل المفتوح» عن طريق السعي إلى تجاوز نفسها من خلال حريات الآخرين. بعبارة أخرى: تتعزز حريتي، ولا تُنتقَص، عندما أعمل على بسط حريات الآخرين. هذا هو تفسيرها لزعم سارتر — المذكور في الفصل الثالث — بأن حريتي الملموسة تتطلب أنني، عند الاختيار، يجب أن أختار حريات الآخرين. و«الحرية» بهذا المعنى الملموس تعني السعي إلى «المستقبل المفتوح» للآخرين، أي بلوغ أقصى إمكانياتهم إلى جانب إمكانياتي. بناءً على هذا، لن يكون من «الصدق» ترك الآخرين في عبودية أو في حالة قمع، ناهيك عن استعبادهم بنفسك؛ لأن الحرية — كما تشرح دي بوفوار — تعزز نفسها بصدق فقط حين تكون حركة غير محدودة تعمل من خلال حريات الآخرين.

وهكذا، مع أن للصدق الوجودي «محتوًى» بالفعل؛ ألا وهو تعزيز حرية المرء والآخرين، فلا يزال من الواجب تحليل معنى هذه الحرية. وقد أصبحت هذه مهمة الوجوديين وهم يواجهون مشكلة الحرية الملموسة والأخلاق الاجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤