الفصل السادس

الوجودية في القرن الحادي والعشرين

البقاء منفتحين على مغامرات التجربة.

موريس ميرلوبونتي

على الرغم من أن «الوجودية» تظل مصطلحًا كثير الذكر، وعلى الرغم من أن سارتر يعد — على الأرجح — أشهر فلاسفة القرن العشرين، فغالبًا ما يسمع المرء الادعاء بأن هذه الحركة قد اندثرت، وأن موجتين متعاقبتين من الفكر الفرنسي قد حلتا محلها؛ هما البنيوية في ستينيات القرن العشرين، وما بعد البنيوية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وبعدها تبددت قوتها مع موت أبرز رموزها الفلسفية. باعتراف الجميع — باعتبارها ظاهرة انتشرت في الثقافة الغربية الشعبية — بلغت الوجودية أوجها في السنوات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرةً. كان هذا عصر الرقص الوحشي، وموسيقى الجاز في نوادي ليفت بانك المغشية بالدخان، ومسرح العبث، والحرية بكل ما تحمله الكلمة من معنًى؛ أو حسب التعبير الفرنسي، كانت الوجودية ثمرة التحرير. كان من الصعب الحفاظ على قوة هذه اللحظة، ومع هذا بقيت روحها في أعماق المجتمع الغربي؛ فتجلت في عدة حركات انشقاقية في العقود اللاحقة، وربما كانت سببًا في اندلاع أحداث مايو ١٩٦٨.

رفع الجرافيتي المرسوم على الجدران الباريسية خلال ثورة الطلاب عام ١٩٦٨ شعار «كل القوة للخيال»، وهو ما يجسد التلقائية، والأمل اليوتوبي، وربما العبث المطلق الذي يتسم به هذا الانقلاب الطلابي، والذي كان يوصف أحيانًا بأنه ثورة «سارترية». لخص هذا التعليق الفكرة الوجودية القائلة إننا ما دمنا نوجد في الموقف فإننا مخلوقات تعتنق الممكن، فيما سماه سارتر بالتسامي، أو المستقبل إذا تحدثنا من الناحية الزمنية. لقد ذكرت أنه في منظور سارتر يدل «التسامي» بصفة أساسية على نشاط وعينا التخيلي الذي عن طريقه نتجاوز ما نعرفه بالفعل إلى ما يمكن أو يحتمل معرفته. لم يرَ أحد قط الحصان وحيد القرن، لكن لدينا صورًا لما يمكن أن يراه المرء إذا كان هذا المخلوق موجودًا في العالم الواقعي. وحسبما كتب سارتر في دراسته عن الروائي والمسرحي جين جينيت: «يمكِّن نفس القصور الإنسان من تكوين صور ويمنعه من اختلاق كائن.» يعتمد الوعي باعتباره غيابًا أو قصورًا في الوجود (فيما يسميه «العدم» في كتابه «الوجود والعدم») على الوجود، مثلما تعتمد صورتنا عن الحصان وحيد القرن على ما عرفناه عن الخيول والقرون وما شابه ذلك مما لا يستطيع الوعي أن يختلقه، لكنه حر في تشكيله حسبما يريد. خيالنا الإبداعي هو تعبير عن هذه الحرية التي تميزنا كبشر.

لكن الوعي السارتري يتصف بالالتزام؛ فهو ليس مجرد خيال حر. وعندما تتحول الحرية التي يسعى إليها إلى شيء ملموس، يصبح الالتزام سياسيًّا أكثر فأكثر، مثلما هي الحال مع الجانب «الخيالي» الذي يعبِّر عنه. ويشكِّل تصوره «لمدينة الغايات»، حيث جميع العلاقات متساوية (أي عند مستوًى واحد) وغير موضوعية، نموذجًا يوجِّه تفاعلاتنا الاجتماعية. إن العلاقة بين الفنان والجمهور التي يصفها سارتر بأنها قائمة على الانجذاب تجاه الموهبة حيث يتفاعل الأفراد وهم يحترم بعضهم حرية بعض؛ تمثل الآن نموذج التفاعل الاجتماعي الصادق بصفة عامة. ليس معنى هذا أن سارتر يميل إلى الفلسفة الجمالية (إحلال الجميل محل الأخلاقي، والفن محل الفضيلة)، بل هو — في حقيقة الأمر — يكتب عن الحب الصادق والصداقة بلغة مشابهة لتلك التي استخدمها في كتابه «مذكرة في فلسفة الأخلاق» الذي نُشر بعد وفاته، وهي رؤية مربكة للوجوديين الذين يلتقون في عطلة نهاية الأسبوع والمعتادين على تحليل الحب (غير الصادق) الذي صُوِّرَ من الناحية السادية/الماسوشية في كتاب «الوجود والعدم».

ربما إذن كانت للوجودية — كظاهرة ثقافية — أيام مجد. ومع هذا، فحتى من منطلق ثقافي، تركت الوجودية آثارها في الثقافات الفرعية المتنوعة التي تلتها، وفي صياغة مصطلحات القلق وخداع الذات والالتزام والصدق، وما شابهها من مصطلحات ما زالت تتداخل مع أحاديثنا؛ إلا أنها في هذا الصدد يمكن اعتبارها مرحلة.

لكن كحركة فلسفية، في حدود ما كانت عليه، لعبت الوجودية بصورها المتنوعة دورًا رئيسيًّا في الفلسفة الأوروبية على مدار أكثر من ٥٠ عامًا، وقد اندمجت الآن مع الحوار الفلسفي المستمر وتعبِّر فيه عن الهموم الأخلاقية الدائمة للوضع الإنساني. بعبارة أخرى: ما زالت تدافع عن الحرية الفردية والمسئولية والصدق، في خضم صور متنوعة من الجبرية والانصياع وخداع الذات واليوتوبيا التكنولوجية، وما شابهها من مصطلحات شديدة الانتشار في عصرنا. وهي عادةً ما تفعل ذلك بأسلوب خيالي يوظف الفن والعِبرة ليقدِّم بشكل ملموس مبادئ تجريدية كانت ستخاطر في ظل ظروف أخرى بأن تكون أمورًا أكاديمية في غير محلها أو يكون الإعجاب بها من بعيد باعتبارها أمورًا فكرية تثير الفضول. هذا هو نوع الفلسفة الملموسة الذي دفع سارتر إلى أن «يشحب من فرط الانفعال» — بحسب وصف دي بوفوار — عندما طرح عليهما صديقهما السابق ريموند آرون (١٩٠٥–١٩٨٣) احتمالية إعطاء وصف فينومينولوجي لكأس الكوكتيل أمامهما في مقهى باريسي في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين.

بالأمثلة، دعوني أناقش أربعة جوانب في الجدل الفلسفي الدائر حاليًّا، عبر عدة موضوعات مرشحة محتملة، قدم فيها الوجوديون بالفعل أو أوشكوا على تقديم إسهامات مهمة. على الرغم من أن إشارتي للموضوعات التالية ليست إلا على سبيل المثال ونادرًا ما يكون شرحها كاملًا، فإنها تدل على العلاقة المستمرة بين المؤلفين المذكورين في هذا الكتاب وبين معاصرينا الذين يسعون إلى توجيه حياتهم بأسلوب إنساني. فما قد يُطلق عليه «المنهج» الوجودي يقدم الفلسفة كأسلوب حياة وليس كلعبة منزلية وحسب. فيما يلي سنرى كيف تشجِّع الوجودية على العودة إلى التجربة من «التحول اللغوي» للفلسفة الأنجلوأمريكية دون إسقاط الجوانب الإيجابية للمصطلح الثاني من الاعتبار، والدفاع عن الفعل الإنساني ضد سيطرة التحليلات البنيوية المجردة، وفي نفس الوقت احترام دور الهياكل البنيوية في علاقاتنا الاجتماعية، والاستفاضة في ثراء التفسير باعتباره أساسيًّا للوجود الإنساني بقدر ما هو مكمل للتفسيرات العشوائية في العلوم والحياة العادية، وكفلسفة للمسئولية التي تتوافق مع تجربتنا الأخلاقية الملموسة.

(١) التجربة واللغة

غالبًا ما نُظر إلى «التحول اللغوي» في الفلسفة الأنجلوأمريكية بعيدًا عن التجربة والأفكار وأنظمة الفكر، ونحو تحليل المفاهيم واللغة العادية، باعتباره النقلة التي فصلت الفلاسفة المعروفين ﺑ «التحليليين» عن نظرائهم «الأوروبيين». في واقع الأمر، اتخذت الفلسفة الوجودية تحولها اللغوي الخاص، متأثرة من الجانب الفرنسي بكتابات عالِم اللغويات السويسري فرديناند دي سوسور (١٨٥٧–١٩١٣) التي نُشرت بعد وفاته، أكثر من تأثرها بكتابات برتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠) أو لودفيج فيتجينشتاين (١٨٨٩–١٩٥١). أما من الجانب الألماني، فقد كانت هذه النقلة نحو اللغة أكثر وضوحًا.

فلننظر بعين الاعتبار — مثلًا — إلى الكتابات اللاحقة لهايدجر؛ فمع أنه لا يؤمن بعلم اللغة السوسوري، فقد تحدث عن اللغة باعتبارها بيت الكينونة؛ وبناءً على ذلك وظف المجادلات المتعلقة ﺑ «فقه اللغة» لفك شفرة استخداماتنا العادية والكشف عن الكينونة المتخفية فيها. كان هذا ما يفعله حتى في كتاباته «الوجودية» الأولى. تأمل تحليله لكلمة «الوجود» التي أرجعها إلى أصولها اللاتينية المكونة من شقين، وهما «البروز» و«خارجًا»، بمعنى أننا يمكننا تفسير «الوجود» على أنه «البروز خارجًا» من بين الزحام، من الحياة اليومية العادية، حتى من أنفسنا (حسب تفسير سارتر). تذكر ادعاء سارتر بأننا «نتجاوز» أنفسنا، في إشارة منه إلى وعينا الذي يتجاوز دائمًا الحاضر والواقعي إلى المستقبل والممكن. لقد رأينا أننا حين ننظر إلى الوجود من منطلق زمني، فإنه يدل على المستقبل باعتباره لم يحدث بعد وباعتباره ممكنًا. في هذا التحليل، يلفت المصطلح انتباهنا إلى الأفق الزمني الذي يمكن في إطاره الآن فهم الكينونة السرمدية على نحو تقليدي. بدت بعض «التحليلات اللغوية» التي قام بها هايدجر للتعبيرات اليونانية الكلاسيكية متكلفة غالبًا، ولم تتوافق مع التفسيرات الشائعة لفقهاء اللغة الكلاسيكيين، لكنها كانت منطقية في سياق محاولته استعادة الوعي الأصلي بالكينونة الذي — حسب فرضيته — تغافل المنهج الميتافيزيقي الغربي عنه وتجاهله. الهدف من ذكر هذا المنهج هو التأكيد على أن هايدجر نسب أهمية إلى اللغة فاقت أهمية فلاسفة اللغة في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. ومع هذا فإنه لم يقصد أن يخلط بين البيت وسكانه مهما بدت وثاقة الصلة بينهم. ربما تكون اللغة هي بيت الكينونة وربما نكون حراسها، لكننا لسنا أسرى لها.

كان هذا هو الوضع أيضًا في حالة ميرلوبونتي، خصوصًا في مقاربته الفينومينولوجية الأولى للغة؛ فهو يرى اللغة كتعبير وكصورة من صور الإيماءات الأخرى، وهو ينسب إلى أجسادنا قصدية كان هوسرل قد خصصها للوعي. يتعقد مفهوم التجربة ليضم رؤى وجودنا الجسدي. وهو يصر على أن اللغة هي في حد ذاتها نوع من الوجود. لكن مع اكتشافه لعلم اللغة البنيوي الذي وضعه فرديناند دي سوسور في أواخر أربعينيات القرن العشرين، تغيَّر فهمه للغة.

قبل دراسة هذا التغيير، دعونا نتوقف لنتأمل في عجالة طبيعة الفهم البنيوي للغة ولماذا يبدو مناقضًا كثيرًا للمنهج الوجودي. مثار المناقشة هو دور الفرد الحر المسئول، وهما السمتان المميزتان للفكر الوجودي. فباختصار، تعطيه البنيوية أهمية محدودة، أو لا تعطيه أهمية على الإطلاق. وكما يوحي الاسم، تُعنى «البنيوية» اللغوية بدراسة الصورة أو الهيكل البنائي وليس محتوى اللغة. ومثل فني الأشعة السينية الواقف أمام جسم ما، يسعى البنيوي إلى الكشف عن التنظيم التحتي للغة بدلًا من استعمالها الملموس «من لحم ودم». فهو يعتبر اللغة ترتيبًا منظومًا للإشارات التي تتيح التواصل وتقيده في نفس الوقت، تمامًا مثلما يسهِّل الهيكل العظمي حركتنا ويقيدها في نفس الوقت. لكن على عكس الهيكل العظمي في الأشعة السينية، تعمل الإشارات اللغوية بأسلوب «مختلف»، أي إن «معناها» يعتمد على اختلافها عن الإشارات الأخرى في نفس النظام أو اللغة. من منظور واقعي، لا يتعلم المرء كلمة، وإنما لغة. ودون الإشارة الضمنية إلى لغة طبيعية مثل الإنجليزية أو السواحلية، «فالكلمة» ليست حتى كلمة، بل مجرد صوت.

في نظر البنيويين، لا «تسمي» الإشارات اللغوية الأشياء كما يتوهم الناس عادةً أن اللغة تفعل ذلك، لكنها على الأحرى تفرِّق بين أعضاء مجموعة من الإشارات. المحصلة هي أن المعنى — في نظر البنيوي — هو شأن لغوي محض وليس علاقة بين اللغة والعالَم، كما يعتقد الفينومينولوجيون أو عموم الناس. وهذا يمكِّن المرء من التركيز على الهياكل البنيوية ورموز التواصل تركيزًا علميًّا بدلًا من الغرق وسط الالتباسات اليومية لأفعال التحدث الفردية الواعية. لكن هذا الدافع نحو التجريدي والعلمي يتجاهل الفرد الوجودي الذي يعطي المعنى. في حقيقة الأمر، يُسقط البنيويون من اعتبارهم دور الوعي الذي يشكِّل جوهر الفلسفة الوجودية والمنهج الفينومينولوجي.

تحت تأثير علم اللغة البنيوي، يغيِّر ميرلوبونتي فهمه السابق القائم على الوعي للغة باعتبارها تعبيرًا لتصبح منهجًا أكثر شكلية واختلافًا يستخدمه البنيويون. فاللغة — حسبما يرى الآن — «هي نظام الاختلافات الذي يفهم الفرد من خلاله علاقته بالعالم». بعبارة أخرى: لم تعد تعبيرًا عن المعاني المفهومة بالفطرة عن طريق الاختزال الاستحضاري، كما يؤكد هوسرل. بل هي بالأحرى ظاهرة لغوية محضة، مبنية على الاختلاف النسبي في الإشارات بعضها بين بعض في نظام أو «لغة» ما.

لكن يبقى ميرلوبونتي ملتزمًا كما ينبغي بالقيم الوجودية المتمثلة في حرية ومسئولية الفرد ليقاوم الاستسلام الكامل للادعاء البنيوي بأن اللغة «تَتَحَدَّثُنا» وليس العكس. ما يحفظ هذه القيم وسط القوى البنيوية هو تمييزه بين كون المرء «مجبرًا» بسبب العوامل الاجتماعية الاقتصادية (وهو ما ينكره)، وكونه «محفَّزًا» بنفس العوامل (وهو ما لديه استعداد لقبوله). مقصده مشابه لمقصد من يُعرفون ﺑ «مُنظِّرو الفعل» في الفلسفة الأنجلوأمريكية الذين يفرِّقون السلوك، الناجم عن سبب وليس حرًّا، عن الفعل الذي يُبرَّر بأسباب ويكون الحديث فيه عن الحرية والمسئولية لائقًا. مثل سارتر، نجد ميرلوبونتي حساسًا للغاية تجاه البعد التاريخي الاجتماعي للمعاني الذي نفسر به حياتنا ونوجهها، في حين يميل المنهج البنيوي إلى إهمال الجانبين الوجودي والتاريخي لمصلحة الهياكل البنيوية غير التاريخية. وهو يطلق على هذه السمة اسم «تاريخية المعرفة». سيوافق سارتر لاحقًا على أننا يجب أن نتعلم تركيب وتصنيف الظواهر بصورة أقل تزمتًا. وميرلوبونتي يفسر بالفعل «المعاني» الفينومينولوجية في سياق تاريخي. إن لم يكن هذا الرأي استسلامًا للنسبية التي تحاشاها هوسرل، فإنه يوحي بميل معين نحو البراجماتية والجانب التاريخي اللذين يحافظان على تفاعل الهيكل البنيوي والممارسة، واللغة والكلام، في ظل توتر إبداعي.

ما يغذي هذا التوتر هو ما يسميه ميرلوبونتي ﺑ «الأعراف»:

ما نفهمه من مفهوم الأعراف هو تلك الأحداث التي تمنح التجربة أبعادًا ثابتة في علاقتها بسلسلة كاملة من التجارب الأخرى التي تكتسب معنًى أو تبني سلسلة مفهومة أو تاريخًا، أو مجدَّدًا تلك الأحداث التي ترسِّب في داخلي معنًى، ليس فقط كأمور باقية ورواسب، لكن كدعوة إلى تكملة لاحقة؛ ضرورة المستقبل.

بعبارة أخرى: الأعراف هي مجموعة من الأحداث التي «تبني» تجربتي، لكن تعدلها تجربتي بدورها وتعيد صياغتها. فالأعراف كهياكل بنيوية — بدلًا من أن تكون مجموعة منغلقة من جميع التركيبات الممكنة كتلك التي يجدها ميرلوبونتي في «لغة» سوسور، أو هياكل النسب في أنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس — هي قوائم من «الاحتمالات المعقدة والمتنوعة والمقيَّدة دائمًا بالظروف المحيطة»؛ وبالتالي فهي منفتحة على «مغامرات التجربة». هذا تعديل وجودي ومساهمة للاعتبارات البنيوية.

باعترافه الشخصي، لم يصغ سارتر فلسفة للغة، لكنه أصر على أن عناصرها منتشرة في جميع أعماله. كانت اللغة — في نظره — ظاهرة تعبيرية تتجاوز الكلمات إلى الرموز والإيماءات غير اللفظية. ومثل ميرلوبونتي، يرى سارتر أن مشكلة اللغة مطابقة تمامًا لمشكلة الأجسام؛ فأنا لا أستطيع أن أسمع نفسي أتكلم ولا أن أرى نفسي أبتسم.

من منظور أنطولوجي، تنتمي اللغة إلى تصنيف «الوجود من أجل الآخرين» في كتابه «الوجود والعدم» وإلى نطاق «الجامد العملي» في كتابه «نقد المنطق الجدلي». لكن في كلتا الحالتين، يفسر سارتر الانتقال من اللغة بصفة عامة إلى اللغات الطبيعية كالفرنسية والألمانية ثم إلى اللهجات المحلية واللغة العامية، وانتهاءً بفعل التحدث الفردي باعتباره انتقالًا من المجرد إلى الملموس أكثر فأكثر. سيصبح فعل التحدث الذي يقوم به الفرد الكائن أكثر ظاهرة لغوية ملموسة. واللغة، في هذا السياق، هي تقنية أساسية لتخصيص العالم وليست وسيلة لتشكيله، مثلما يصر ما بعد البنيويين. يبين هذا قول سارتر بأن «الحرية هي الأساس الممكن الوحيد لقوانين اللغة»، وهو ادعاء ينكره البنيويون إنكارًا قاطعًا. بعبارة أخرى: تمتد حريتنا ومسئوليتنا إلى اختيارنا للكلمات؛ وبالتالي إلى نظام اللغة نفسه (على سبيل المثال: صفتا العنصري والمتحيز لجنسه) الذي نسانده بهذه الاختيارات. هذا فهم وجودي نمطي للغة في مراعاتها للدلالة الأخلاقية الضمنية التي تتسم بها أفعالنا التعبيرية والتواصلية الملموسة. ومع هذا فهو يقيِّد — بشكل ملحوظ — قدرة اللغة على تشكيل المعنى إلى جانب ادعاءات ما سُمي ﺑ «المثالية اللغوية»؛ أي إنكار وجود واقع خارجي ومستقل عن اللغة التي من المفترض أن يعتمد عليها استخدامنا للكلمات.

لكن هذه العلاقة المجردة الملموسة أُرِّخت في كتاب سارتر «نقد المنطق الجدلي» (١٩٥٨). الآن حل «التطبيق العملي» (النشاط الإنساني في سياقه الاجتماعي التاريخي) محل الوجود من أجل الوجود أو الوعي، وتولى «الجامد العملي» (التطبيقات العملية السابقة المترسبة التي تقيِّد وتسهِّل في نفس الوقت التطبيقات العملية الحالية بنفس الأسلوب الذي تقيِّد به اللغة أفعال التحدث وتسهِّلها في نفس الوقت) وظيفتَي الوجود في حد ذاته أو اللاوعي في كتاب «الوجود والعدم». على عكس الوجود في حد ذاته، فالجامد العملي هو مصدر الغائية المضادة، أو العواقب غير المقصودة لقراراتنا العملية. فمثلًا: يمكن أن تؤدي ممارسة إزالة الغابات بغية زيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة إلى تأثير مضاد عن طريق تسببها في فيضانات. يستشهد سارتر بهذا باعتباره دورًا للجامد «العملي»؛ أي، كمثال لتطبيقاتنا العملية السابقة التي تعود لتنتقص من قيمة مشروعاتنا الحالية. مثل السابق، فالعلاقة بين اللغة وأفعال التحدث الخاصة تجريدية أكثر منها ملموسة. لكن الإمكانيات الموضوعية والغائيات المضادة في اللغة التي تقوم بدور الجامد العملي تطوِّر — بشكل ملحوظ — التضاد الغامض إلى حدٍّ ما بين التجريدي والملموس في موقف سارتر السابق. ثمة ثقل كبير منسوب الآن إلى قوة اللغة من حيث إنها تمارس ما سماه الماركسي البنيوي لوي ألتوسر نوعًا من «السببية البنيوية» على أفعال التحدث التي نقوم بها. من خلال مفهومه عن الجامد العملي، يعترف سارتر في الواقع بصحة علم اللغة السوسوري كما فسره ميرلوبونتي، وفي نفس الوقت يواصل إصراره على الأولوية الوجودية لتطبيقات الفرد العملية في فهمه للظواهر اللغوية.

يتمثل الهدف من هذه الدراسة المختصرة للمقاربات الوجودية للغة في الإشارة إلى الدرجة التي تصبح بها التجربة المعاشة — وليست اللغة — هي أساس المناقشات. اللغة مهمة، لكن فقط من حيث تعبيرها أو صياغتها للتجربة في علاقة متبادلة وإن كانت غالبًا متوترة.

نادرًا ما يمثل التهديد بالاحتجاز فيما سماه فريدريك جيمسون «سجن اللغة» مشكلة في نظر الوجوديين، بقدر ما كان كذلك في نظر العديد من المثاليين اللغويين في كلٍّ من القارة الأوروبية والعالم الناطق بالإنجليزية. بفضل نظرية القصدية لهوسرل، كان الوعي دائمًا «في العالم» بالفعل. وحتى عندما اتسعت دائرة اهتمام الوجوديين من الوعي إلى التجربة المعاشة، فإن تجربة اللغة ولغة التجربة — بدلًا من اللغة في حد ذاتها — هما أكثر ما أثار اهتمامهم. ومع أن تناول كتابات ميرلوبونتي الأولي للغة كان ذرائعيًّا على الأرجح، حسبما يتمثل في تمييز سارتر الخاطئ في كتاب «ما الأدب؟» بين الشعر والنثر من حيث قدرتهما الخاصة على الالتزام، فقد كان يتجاوز بالفعل هذه النظرة المبالغ في بساطتها إلى حدٍّ ما وصولًا إلى مفهوم للغة أكثر بنيوية وقت موته. سيطوِّر سارتر أيضًا فرضيته الأولى ليكيِّف الجانب اللغوي وغيره من الهياكل البنيوية تحت مفهوم الجامد العملي في كتابه «نقد المنطق الجدلي».

(٢) البنيوية وما بعد البنيوية

ذكرت أن «الحركة» الوجودية قد انطمست بمدرستين فكريتين متعاقبتين؛ هما البنيوية وما بعد البنيوية على التوالي، ووجودهما لم يزل ملموسًا حتى يومنا هذا. وسواء اتفق أعضاء المدرسة الفكرية البنيوية البارزون على هذا التحديد أم لا، فقد كان أبرز هؤلاء الأعضاء هم: عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس، والمُنظِّر الماركسي لوي ألتوسر، والمحلل النفسي جاك لاكان، والناقد الأدبي والسيميولوجي رولان بارت، وطبعًا عالم اللغويات البنيوي فرديناند دي سوسور الذي وضعت أعماله في علم اللغة الأساس النظري للحركة كما رأينا في الجزء السابق. مرة أخرى، كما يوحي الاسم، فالبنيوية هي مقاربة أفلاطونية إلى حدٍّ ما للظواهر الاجتماعية تبحث عن الهياكل الموضوعية والضرورية التي توجه وتقيِّد بشكل واعٍ عملياتنا وممارساتنا الفكرية. من هذا المنطلق، تعتبر عمليات التفكير التي يقوم بها «البدائيون» منطقية كتلك التي يقوم بها الأفراد العصريون. يفرِّق هذا المنهج بين الاعتبارات غير الزمنية للممارسة الحضارية، مثل قواعد تشكيل اللغة أو قوانين النسب لقبيلة ما، وبين جانبيه التطويري أو التاريخي، مثل الأسلوب الملموس الذي تُطبَّق به هذه القواعد عمليًّا. يوجه البنيويون مزيدًا من الاهتمام إلى البعد غير الزمني في هذه الظواهر خلال بحثهم عن قواعد عامة تُكسِب دراساتهم الخاصة وضعًا علميًّا عامًّا. وهكذا يمكن توضيح علاقات النسب داخل مجتمع «بدائي» — مثلًا — بأنها تتبع «منطقًا» غير واعٍ للعلاقات الثنائية (الدمج والإقصاء) التي تحدد مقدمًا مَن مسموح له بالزواج ممن، ومَن ممنوع عنه عمل ذلك. في معظم الأنظمة القانونية الغربية — على سبيل المثال — ممنوع زواج الأقارب من درجة العمومة الأولى أو أقرب. لكن في المجتمعات الموصوفة بأنها «بدائية»، كما يبين ليفي شتراوس، يتبع هذا النظام للزيجات المحرمة والمباحة قواعد أكثر تعقيدًا من مجرد منع زواج الأقارب. بشكل نظري، يمكن رسم هذه الأنماط أو الهياكل البنيوية حسب «رموز» معينة يفكها الباحث البنيوي. وبأسلوب مماثل، يمكن ملاحظة منطق غير واعٍ مشابه يُطبق في الأعمال الأدبية (بارت)، وفي اشتراكية ماركس العلمية (ألتوسر)، وفي إعلان لاكان الشهير بأن اللاوعي «مبني مثل اللغة»، وهي صياغة انجذب إليها سارتر برغم أنه ظل معترضًا على مفهوم اللاوعي.
fig15
شكل ٦-١: البنيويون البارزون يستخدمون التفكير «البدائي».1

هنا أيضًا، ما يجعل البنيوي مضادًّا للمقاربة الوجودية لهذه الموضوعات هو الدور الموضوعي الحتمي الذي يُخَصَّص لهذه الهياكل الاجتماعية؛ أي الادعاء بأنها موضوعية وعلمية. يمثل هذا بداية ما يُعرف ﺑ «لامركزية الذات» التي ستصبح الموضوع الأبرز لفكر ما بعد البنيوية. لكن ما وضع هذا المنهج في تضاد مع الفينومينولوجيا الوجودية وكان سببًا في كثير من الكتابات؛ هو «معاداته للفلسفة الإنسانية» بشكل صريح. حسبما خمن ميشيل فوكو في نهاية رائعته «البنيوية» ذائعة الصيت «نظام الأشياء»، فإن نجاح البنيوية في ستينيات القرن العشرين يوحي بأن حدثًا معرفيًّا قد يقع في المستقبل القريب من شأنه أن يغير البناء الجوهري لما نسميه حاليًّا «المعرفة» بسرعة مباغتة تشبه سرعة التغيير الذي — حسبما يرى — أوجد وضعنا العصري المتمركز حول الإنسان والصانع للمعنى من الأساس. لو وقع حدث متطرف كهذا — حسب ظنه — «يستطيع المرء أن يراهن بالتأكيد بأن الإنسان سيُمحى كما الوجه المرسوم على رمال شاطئ البحر»؛ لأن هذه الهياكل ليست أكثر من نتاج لوسيلة فردية مقارنةً بصور أو أفكار أفلاطون العامة. بدلًا من ذلك، فالأفراد هم حاملو هذه الهياكل مثلما هم حاملو القواعد النحوية للغة التي يتحدثونها، وليسوا مبتكريها. لقد اختُزل الفرد المسئول الذي ركز عليه الوجودي إلى «عنصر نائب» في الهياكل الموضوعية التي يجهلها عادةً.

يؤدي هذا بالطبع إلى مشكلة شائكة عن معنى الوسيلة والمسئولية في عالم بنيوي. كيف يمكن تحميل المرء مسئولية التكيف الاجتماعي ذاته الذي حوَّل المرء إلى هذا النوع من الأشخاص؟ يلاحظ المرء هنا المشكلة المتكررة المتعلقة بالتوفيق بين الحرية الفردية والعلم الاجتماعي. بحسب ما تحتم العلل والقوانين العلمية، ما من مساحة للحرية بالمعنى الوجودي. لكن ادعى البنيويون أنهم يسيرون على طريق هذه المقاربة «العلمية» للظواهر الاجتماعية التي صيغت بناءً على«منطق» اللغة نفسه، ما لم تكن جزءًا منه.

لاحظنا كيف كان ميرلوبونتي يقوم بعملية التوفيق بين القيم الوجودية عن الحرية والمسئولية، وبين المناهج العلمية لعلم اللغة البنيوي، وربما بين العديد من التطبيقات البنيوية لهذا المنهج الذي يسميه الفرنسيون العلوم الإنسانية. أصر سارتر، في مقال «البحث عن منهج»، الذي كان بمنزلة مقدمة لكتابه «نقد المنطق الجدلي»، على أن مهمة الوجودية تتمثل في «استعادة الإنسان داخل الماركسية». ما كان يقصده هو الخلاص من «الاقتصاد» الماركسي (الجبرية الاقتصادية) الذي يتبناه مستغلو الحزب، لكن سيكون لنقده صلة وثيقة بماركسية ألتوسر البنيوية الأكثر تعقيدًا وأتباعه الذين سيحظون بالشهرة في منتصف ستينيات القرن العشرين. في «نقد المنطق الجدلي» — كما ذكرنا للتو — يحتفظ سارتر بمساحة أنطولوجية للهيكل البنيوي والدراسات البنيوية في نطاق «الجامد العملي» والتفكير التحليلي الذي يدعمه. مرة أخرى، يمكن رصد «العلل البنيوية» لألتوسر في نطاق الجامد العملي، مثلما هو الأمر مع شجرة النسب لليفي شتراوس. هذا دور رئيسي لمفهوم الجامد العملي الذي يجري تجاهله غالبًا. لكن كما قلنا سابقًا، فباعتباره الجامد «العملي»، يحمي المفهوم حرية ومسئولية الفرد حتى في علاقتهما بأكثر الهياكل الاجتماعية موضوعية و«حتمية». على سبيل المثال: يثير سارتر مسألة كيف تعمل هياكل النسب هذه لليفي شتراوس في وقت يتراجع فيه عدد السكان بسبب حرب أو كارثة طبيعية. ما يشير إليه هو أنها لا تفعل ذلك، وأننا لا نخدم هذه الهياكل، بل هي التي تخدمنا. يحفظ تفسير ميرلوبونتي للهياكل البنيوية — باعتبارها «احتمالات» وليست «حتميات» — الحرية الوجودية أيضًا. ومرة أخرى، يقول شعار الفلسفة الإنسانية: «تستطيع دائمًا أن تصنع شيئًا مما وجدت نفسك عليه.»

اتسمت الحركة التي عُرفت بعد ذلك ﺑ «ما بعد البنيوية» في الفلسفة أو «ما بعد الحداثة» في الأدب والفن والمعمار بما يسميه جان فرانسوا ليوتار (الذي في نظره تتداخل هذه التصنيفات) «انشطار المعنى». فمثلما يطلق الانشطار النووي (أو الانقسام أو الانفلاق) قدرًا هائلًا من الطاقة، فإن انقسام الوحدات المعيارية للجنس الأدبي والقصصي، للنوع والأسلوب، للعلاقة الطبيعية والنظام الهرمي، وفوق كل شيء، للمادة والذات، أنتج تعدديات وتناثرات. بالمثل، فإن التضادات الثنائية البنيوية التي كشفت «منطق» العلاقات الاجتماعية والثقافية انقسمت بسبب ما بعد البنيويين من أمثال فوكو إلى تعددية عقلانيات. وعلى الرغم من عودة كيركجارد ونيتشه إلى مركزهما السابق باعتبارهما مفكرَين مناهضَين للحداثة بسبب مفاهيمهما المتعددة عن الحقيقة وتأكيد كلٍّ منهما على حدة على قوة الإرادة وإرادة القوة، يُنظر إلى الوجودية السارترية على أنها حداثية بشكل لا يمكن الفكاك منه بسبب اعتمادها الظاهري على «الكوجيتو» الديكارتي كنقطة بداية للتفكير الفلسفي. يمكن اعتبار فوكو ممثلًا لحركة ما بعد البنيوية عندما يعلق قائلًا بأسلوب شديد الرفض: ««نقد المنطق الجدلي» هو محاولة مهيبة ومحزنة لرجل ينتمي إلى القرن التاسع عشر أن يفكر بأسلوب القرن العشرين. بهذا المعنى، فسارتر هو آخر هيجلي، بل يمكن أن أقول آخر ماركسي.» وبعبارة أخرى: حسب رأي فوكو، لا تملك الوجودية السارترية شيئًا تقوله للعقل المعاصر.

على الرغم من الاحتداد الطائش الذي اتسم به نقد فوكو، فمن المستحيل حصر سارتر حتى في القرن الذي يرمز إليه بلا شك، وذلك لسببين على الأقل؛ فالذات السارترية — كما أشرت — ليست ذاتًا بل وجودًا للذات. لقد رأينا أنها بالتحديد «غير» متطابقة مع الذات؛ وهو ما يستدعي حوارًا مثمرًا مع مؤلفي ما بعد الحداثة و/أو ما بعد البنيوية من أمثال بارت وفوكو الذين يتحدثون عن «موت» المؤلف و«خسوف» الذات. مع أن هناك ازدواجية أساسية تتخلل فكر سارتر، فإنها ليست الازدواجية المرفوضة عمومًا للعقل والجسد، للتفكير والمواد الممتدة وفقًا لديكارت، لكنها ازدواجية التلقائية والجمود؛ هي ازدواجية وظيفية وليست جوهرية تتوافق مع فكر ما بعد البنيوية.

ثانيًا: على الرغم من أن سارتر لا يؤيد تعددية العقلانيات، فقد ميَّز بوضوح بين اثنتين منها في «نقد المنطق الجدلي»، وهما المنطق الجدلي والتحليلي. الأول ديناميكي وتاريخي، والثاني ليس أيًّا منهما. يطرح هذا احتمالية وجود أنواع أخرى من التفكير إلى جانب هذين النوعين. علاوة على هذا، فقد ربط بين كليهما بطبقة سياسية واجتماعية، هما البروليتارية والبرجوازية على التوالي، في ميل منه نحو الوحدة الفوكولية (والنيتشية) للمعرفة والقوة؛ هذه فرضية تنتمي لما بعد الحداثة. في واقع الأمر، لا يعكس ادعاء سارتر بأن «كل المعرفة ملتزمة» مفهومه عن الاختيار الموجه للحياة فقط، لكنه يطرح أيضًا مسألة القوة–المعرفة من منظور نيتشي إلى حدٍّ ما من قبل أن يجعل فوكو هذه العلاقة مميزة مرة أخرى. ولو كان سارتر يشكك في اللاوعي الفرويدي لخطره على الحرية الفردية، فإنه ينتقد بالتساوي الرؤية المنظورية المثيرة للشك وتعددية العقلانيات التي يرى أنها تحبط التغيير الاجتماعي الجذري؛ وبالتالي تميل إلى إبقاء الوضع الاقتصادي الاجتماعي على ما هو عليه. كان هذا بالفعل نقده لمقاربة صديقه السابق ريموند آرون للفهم التاريخي في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين.

عندما يضيف المرء وجود دي بوفوار المستمر — والمثير للجدل أحيانًا — في الحركة النسائية الحالية، فسيخلص إلى أنها هي وسارتر — دون كونهما منتميَين إلى ما بعد الحداثة «قبل ظهورها» — يستطيعان الانضمام إلى الوجوديَّين الأوَّلَين — كيركجارد ونيتشه — في تعزيز هذا الجانب من الحوار الفلسفي في القرن الحادي والعشرين.

(٣) علم التأويل (الهيرمينوطيقا)

كانت أيضًا الأهمية المتزايدة للهيرمينوطيقا الفلسفية في القرن العشرين قوة دافعة حملت الفكر الوجودي إلى القرن الحادي والعشرين. فباعتبارها أسلوبًا لتفسير نصٍّ ما — في البداية كان نصًّا مقدسًا، ثم بعد ذلك أصبح قانونيًّا، وأخيرًا أي نص أدبي أو فني — لعبت الهيرمينوطيقا دورًا مهمًّا في الفكر الأوروبي. وبتوسع فكرة «النص» لتشمل تجسد أي فعل متعمد بدايةً من إنشاء مؤسسة إلى لكمات وهجمات ملاكم، توسع نطاق التفسير الهيرمينوطيقي بناءً عليها. مع فيلهيلم ديلثي (١٨٣٣–١٩١١) وماكس ويبر (١٨٦٤–١٩٢٠)، أصبح استخدام «الفهم» منهجًا مميزًا للعلوم الإنسانية، خصوصًا التاريخ وعلم الاجتماع الإنساني مقارنةً بالعلوم الطبيعية. أما على يد هايدجر، وبصفة خاصة تلميذه هانز جورج جادامر (١٩٠٠–٢٠٠٢)، فقد أصبح «الفهم» والتأويل أسلوبنا المميز للوجود في العالم.

مثل الفينومينولوجيا، تعتبر الهيرمينوطيقا بصفة أساسية منهجًا وليست نظرية أنطولوجية أو ميتافيزيقية؛ فهي تفترض أن كل المعرفة سياقية (أو «موضعية»، حسبما يصفها سارتر) وأن العارف يواجه المشكلة «بتحيز» أو بفهم مسبق للموضوع محل المناقشة. هذه مشكلة قديمة قِدم الجدل السفسطائي القائل إن التعلم مستحيل؛ لأنك إما تعرفه بالفعل وبالتالي لا يمكنك أن تتعلمه، أو أنه غريب عنك حتى إنك لن تعرفه لو صادفته. تصر الهيرمينوطيقا على أن التعلم ممكن بالفعل؛ لأننا نعلم ولا نعلم في نفس الوقت ما نتعلمه. تكمن المشكلة في شرح السياق الذي يثبت صحة هذا الادعاء المتناقض. يُسمى هذا عادةً ﺑ «الدائرة الهيرمينوطيقية». ويعرِّف جادامر — أشهر ممارس للهيرمينوطيقا في عصرنا — المصطلح بأنه «[ترك] ما هو غريب من حيث الكلمة المكتوبة، أو ما هو غريب بفعل البحث الثقافي أو التاريخي يتحدث مجددًا». بعبارة أخرى: هو منهج لفهم معنى نص غير مألوف، سواء كانت غرابته تاريخية؛ مثل النقوش القديمة، أو كان مجرد غريب علينا؛ مثل حديث شخص من ثقافة مختلفة أو حتى من مهنة مختلفة أو تخصص أكاديمي مختلف. وقد دخل إلى الفلسفة الحديثة على يد فريدريك شلايرماخر (١٧٦٨–١٨٣٤) وامتد إلى العلوم الإنسانية على يد ديلثي وويبر. بالنظر إليه في إطار المعنى الواسع «لاستيعاب» تصرف شخص آخر مقارنة ﺑ «تفسيره» بأسلوب تعليلي (الأمر الذي قد يهدد حرية المرء)، فقد وظفه الوجوديون على نحو مكثف، كلٌّ بطريقته الخاصة. وسيكشف عرض مختصر لآراء خمسة من فلاسفتنا كيفية استخدامهم له بالإضافة إلى كيف تحمل الهيرمينوطيقا «الوجودية» صلة مستمرة بالمناقشات الحالية للموضوع.

الفيلسوف الأول هو نيتشه، الذي لم يحب شلايرماخر، والذي أصر على أن جميع المعارف قابلة للتأويل، وأنكر وجود أي «نص» أساسي لا يستطيع المرء تجاوزه في محاولة لاستيعابه نهائيًّا. لا يمكن أن تكون المعرفة مطلقة أو يقينية أبدًا؛ فهي تأويل التأويل إلى ما لا نهاية. ويبدو أن هذا يؤدي إلى نوع من المقاربة البراجماتية للحقيقة والمعرفة التي يفضلها كلٌّ من نيتشه وما بعد الحداثيين. في هذا الشأن، تشبه المعرفة المشي فوق الماء، والحقيقة هي وسيلتنا لعمل ذلك. هذا بعيد عن فينومينولوجيا هوسرل التي كانت تهدف إلى مقاومة هذه «النسبية» إلى جانب «النزعة الاختيارية» (التركيز على الإرادة أكثر من الذكاء عند الاحتكاك بالعالم) التي آمن أنها تدعمها.

في حالة مارتن هايدجر، نجد أن الطبيعة المخالفة للفكر الديكارتي التي يتسم بها المنهج الهيرمينوطيقي تتصدر المقدمة. نحن الآن في وسط الدائرة الهيرمينوطيقية المذكورة آنفًا. يرى هايدجر أن المرء يملك بالفعل معرفة محدودة (أو ما يسميه «فهمًا مسبقًا») بالموضوع الذي يدرسه قبل السعي إليه فعليًّا، وإلا فلن يهتم المرء به على الإطلاق. كان هايدجر هو من اعتبر الفينومينولوجيا هيرمينوطيقية. في واقع الأمر، عكَس عمله المميز «الكينونة والزمن» مجهودًا طويلًا للتعبير عن فهمنا المسبق للكينونة التي تجعل وجودنا معضلًا لنا. هذا أيضًا سبب آخر وراء رفض معلمه — هوسرل — الاعتراف بفينومينولوجيا هايدجر باعتبارها فينومينولوجيا صادقة.

يواصل سارتر هذا المسار البحثي في كتاب «الوجود والعدم» حيث يستعين ﺑ «استيعابنا قبل الأنطولوجي» لمجموعة متنوعة من الموضوعات المتشابكة، بدايةً من الكينونة واللاكينونة ووصولًا إلى معيار الصدق ومشروع المرء الأساسي. يتمثل دور الوصف الفينومينولوجي في جلب هذا الوعي الضمني إلى الوعي التأملي. يتسم مثل هذا الاستيعاب بالفورية وبُعد النظر، وهو يمثل دليلًا ملموسًا لأبحاثنا اللاحقة التي يتم التوصل إليها بالتأمل والتعبير عنها بالمفاهيم.

تبنَّى كارل ياسبرز المنهج الديلثي والويبري في تطبيق الهيرمينوطيقا على العلوم الإنسانية، لا سيما علم النفس والتاريخ. وقد طرح ريموند آرون في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين مفهوم الاستيعاب الذي صاغه ديلثي ووظفه ويبر بهذا التأثير في فرنسا. في حقيقة الأمر، كان عمل آرون هو الذي أثار اهتمام سارتر بفلسفة التاريخ. وقد آمن ياسبرز والآخرون بالتصور الديلثي لهيرمينوطيقا نصية سوف تمكِّن المرء من «أن يفهم المؤلف أفضل مما يفهم نفسه». باعتبار الهيرمينوطيقا أداة مهمة في علم الأمراض النفسية لياسبرز — مثلما ستكون لاحقًا في التحليل النفسي الوجودي لسارتر — فقد قامت ﺑ «أنسنة» العلوم الإنسانية عن طريق إتاحة «حياتها الداخلية» لنا؛ أي النوايا والغايات التي تدفع الفاعلين إلى التصرف، بخلاف «العلل» الطبيعية التي تفسر سلوكياتهم.

لكن سارتر يقدم استخدامًا وجوديًّا إنسانيًّا خاصًّا للهيرمينوطيقا في نهاية كتاب «الوجود والعدم» عندما يتبناها كمنهج ﻟ «التحليل النفسي الوجودي». هدف هذا المشروع هو استدراج «الخيار» الأساسي أو المشروع المحدِّد للحياة إلى الوعي التأملي للإنسان. كما لاحظنا في الفصل الرابع، فهو يفترض أن الحياة ظاهرة إجمالية مثل المتوالية القصصية التي تعتمد وحدتها على تَبَنٍّ قبل تأملي ومستمر لمجموعة من القيم والمعايير التي تعطي معنًى/اتجاهًا لهذه الحياة. بما أن الوعي القبْلي واضح تمامًا وواعٍ بذاته ضمنيًّا، فإن مهمة المحلِّل الوجودي — الذي يمكن أن يكون هو نفسه الموضوع — هي تحويل هذا الاستيعاب إلى معرفة كاملة. يتحقق هذا بمساعدة الهيرمينوطيقا أو بتأويل الرموز التجريبية «للخيار» الأساسي. ومثل شخص يسير على شاطئ رملي، يستطيع المرء أن «يقرأ» اتجاهه بالنظر إلى آثار أقدامه. يسعى التحليل النفسي الوجودي إلى الكشف، ليس عمن نتظاهر في ظل خداع للذات بأننا نكونه أو نعتقد خطأً بأننا نكونه، لكن عمن تكشف أفعالنا السابقة أننا «اخترنا» أن نكونه. على الرغم من أن سارتر لا يستخدم التعبير الذي صاغه الهيرمينوطيقي جادامر، فيبدو أنه يطلب نوعًا من «اندماج» الآفاق التأويلية بين المحلِّل والمحلَّل للنجاح في هذا. لكنه يتحدث عن «استيعابنا لاستيعاب الآخر» في التجارب الاجتماعية العادية، وكذلك في كتابة سيرة ذاتية وجودية مثل سيرة جوستاف فلوبير. يبدو هذا المقابل العملي لاندماج الآفاق في فعل التأويل الناجح.

علاوةً على ذلك، يفترض المنهج الهيرمينوطيقي أن أي تعبير لغوي أو أي موضوع ثقافي مترسخ في تقليد ما. لكن هذا التقليد يمكن أن يعوق التواصل أو يعززه، حسب المنهج الهيرمينوطيقي المناسب الذي يُستخدم. على الرغم من أن ديلثي دافع عن الهيرمينوطيقا باعتبارها المنهج المناسب للعلوم الإنسانية بالمقارنة بمنهج العلاقات الفعالة والتفسيرات السببية التي توظفها العلوم الطبيعية، يصف هايدجر «الفهم» باعتباره الأسلوب الأساسي للإنسان لكي يوجد في العالم. يستتبع هذا أن أسلوب الفهم ليس ببساطة مكملًا للعلوم الطبيعية، مثلما لمَّح ديلثي ومثلما حث ويبر، لكنه أساس المعرفة الإنسانية بصفة عامة. يبدو سارتر متفقًا مع هايدجر بأن وعينا قبل التأملي في «الوجود والعدم» جرى التوسع فيه ليصبح «استيعابًا» في «نقد المنطق الجدلي»، حيث يوصف ببساطة على أنه وضوح التطبيق العملي بالنسبة إلى نفسه. ستصبح الهيرمينوطيقا عندئذٍ منهجًا عالميًّا يلائم جميع صور الفهم الإنساني. ومع هذا، يتمنى سارتر — الذي يربط بين الهيرمينوطيقا والمنطق الجدلي والتطبيق العملي — الاحتفاظ بمكان للمنطق «التحليلي» كما هو مستخدم في العلوم الطبيعية. وإلى هذه الدرجة يتفق مع ديلثي وويبر. لكنه يكدر هذا الوضوح عندما يقدم فكرة «الأيديولوجية»، أو الوعي الزائف، إلى هذا المزيج. ليس لهذا أهمية هنا إلا أنه يحذرنا من أن العين اليقظة في الوعي السارتري أكثر عرضة للتعقيدات البصرية مما كنا نتصور سابقًا. ومع هذا، فحتى لو قيد هذا نطاق حرية الإنسان ومسئوليته، فإنه نادرًا ما يلغيها.

(٤) أخلاقيات المسئولية

في عالم ما بعد بعد الحداثة، يمثل التفتيت الموروث للمبادئ الموحِّدة والقيم المطلقة تحديًا خاصًّا للنظرية الأخلاقية والممارسة الأخلاقية بأي معنًى يمكن إدراكه لهذين المصطلحين. بدايةً، يبدو أن فكرة الهوية الأخلاقية تفترض ما يسميه ديلثي «ارتباط الحياة». فمنذ العصور القديمة، كان الأخلاقيون يصرون على أن الثبات على المبدأ مقوم أساسي في الحياة الأخلاقية. يستلزم الوجود الصادق بالمعنى الهايدجري التغلب على «تشتت» مجهوداتنا في الانشغال التام والفضول غير المجدي. ويتطلع هو وسارتر إلى مشروع ثابت ومستمر، أو «اختيار» تحقيق هذه الوحدة بدلًا من اللجوء إلى نوع من الهوية الجوهرية. يتصور كل فيلسوف الإنسان فردًا مسئولًا. وبينما كان هايدجر عازفًا عن الخوض في الأخلاقيات لحين تناول المسألة الأنطولوجية عن معنى الكينونة تناولًا كاملًا (وهو ما لم يحدث قط)، كان سارتر متشوقًا إلى «إمداد الطبقة البرجوازية بضمير مذنب» بجذب الانتباه إلى زوايا من خداع الذات (مثل إنكار المسئولية) تختلط بحياتنا اليومية. في نظر سارتر، المسئولية، مثل الحرية، موجودة في كل مكان.

فتحت شعبية عالِم الأخلاق الفرنسي إيمانويل ليفيناس (١٩٠٥–١٩٩٥) في مجال أخلاقيات ما بعد الحداثة بابًا لعودة المفاهيم والقيم الوجودية إلى الحياة، على الرغم من أنه لم يكن يُنظر إليه عمومًا على أنه وجودي. ما جذب العديد من مفكري ما بعد الحداثة إلى موقف ليفيناس هو رفضه للأساس الميتافيزيقي للأخلاق ولجوؤه إلى خُلُق المسئولية محل أحد المبادئ العالمية أو القيم المجردة. لو لم يكن ليفيناس موجودًا، لأوجده ما بعد الحداثيين.

ومع هذا، فحتى ما بعد الحداثيين يعترفون بالحاجة إلى مبادئ أخلاقية أساسية مثل «العدالة» التي من المعروف أن جاك دريدا ادعى أنها «ربما غير قابلة للتفكيك». وهو يعني بهذا أنها ربما غير خاضعة لمنهج دريدا المعتاد (التفكيكي) لفك وحدة مفهومٍ ما بتحليل «النهايات غير المترابطة» أو «الآثار» التي آواها من افتراض ميتافيزيقي سابق. بعبارة أبسط: ربما كانت العدالة قيمة مطلقة في عالم نسبي.

بالمثل، أعطى ليفيناس العدالة قيمة نسبية معينة. في نظر ليفيناس، العدالة مشتقة من مجيء الطرف الثالث على الرغم من أنها قائمة على المسئولية الأصلية عن المواجهة المباشرة، وهذا هو تصنيفه الأخلاقي الأساسي. بهذا المعنى، تشبه العدالة مفهوم سارتر عن تضاعُف «وجودنا من أجل الآخرين» بظهور طرف ثالث وسطنا. مثل النفعيين من قبلهم، وجد ما بعد الحداثيين مفهوم العدالة نقطة ضعفهم. فيبدو أنه يحمل سمة غير قابلة للتفاوض يجب أن ينصاعوا لها. فلا يوجد قدر من «اللعب» (مثلما اقترح ليوتار باعتبار العدالة لعبة خطيرة بصفة خاصة) أو حيلة مجازية يمكن أن تنجح في الهروب من متطلباتها المتزمتة. ومع هذا، مثلما هو الأمر في حالة البطل التراجيدي لكيركجارد، فالعدالة الموضوعية، غير المبالية «بتخفيف وطأة الظروف»، يمكن أن تسبب أذًى كبيرًا.

عند هذه المرحلة يقدم المفهوم الوجودي المتعلق بالوجود في الموقف المساعدة. مرة أخرى، هي حالة مراعاة للتفكير الملموس. ومرة أخرى، ليست المسألة في طرح أفكار جديدة بقدر ما هي في إعادتنا إلى رؤًى تقليدية حتى لو لم يكن سياقها المفاهيمي كذلك. يستدعي هذا إلى ذاكرتنا حالتين للتفكير «الملموس» لدى أرسطو، وهما تمييزه بين العدالة والإنصاف (المساواة) وبين مفهومه للشخص الحصيف. في الحالة الأولى يمكن للمرء أن يتجنب عدم الإنصاف في تطبيق القانون غير المقترن بالأدلة بالنظر إلى تفاصيل القضية. والتمييز بين نص وروح القانون هو تعبير آخر لنفس هذا الاهتمام بالملموس.

بشكلٍ ما، لا تعد فكرة خُلُق المواقف جديدة، فهي على الأقل بقِدم مفهوم أرسطو عن الشخص الحصيف، وهو مثالنا الثاني. هذا هو الشخص الذي يعرف التصرف المناسب في الوقت المناسب وفي ظل الظروف المناسبة. قد تُفهم الحصافة، مثلما يقول عالِم الأخلاق جوزيف بايبر، على أنها «ضمير الموقف». يوجد تماسك واضح في القرارات «الحصيفة» حسب المنظور الأرسطي؛ فهي ثمرة دائرة معينة غير مفرغة؛ فالشخص الأخلاقي هو شخص يتخذ قرارات أخلاقية، لكن يجب أن يتعلم أن يكون شخصًا أخلاقيًّا عن طريق اتخاذ هذه القرارات. هذا هو واقع الأمر. لا توجد نقطة بداية مطلقة؛ فالمرء دائمًا ما يكون في خضم الأشياء. ونحن نجد أنفسنا في النسخة الأخلاقية من الدائرة الهيرمينوطيقية.

ومثل الشخص الحصيف، يحكم الشخص الوجودي «في الموقف». لكن في حين «يكتشف» الحصيف الفعل الصواب، «يقرر» الوجودي الفعل الصواب. إنه «مبتكر» في حين أن الأرسطي مستقصٍ. يتخذ الفرد «الصادق» قراره في ظل إدراكه الكامل لخطأ حكمه. لكن الشخص الصادق — كما رأينا — سيجعل الاختيار في ضوء أفضل الأدلة المتاحة دون استبداد، وفي ضوء تعزيز الحرية، اختيارًا سليمًا بالمضي فيه وتنفيذه.

في هذا الإطار من السقوط الأخلاقي الحر يلبي الوجودي متطلبات ما بعد الحداثيين نحو الممارسة الأخلاقية دون التزام ميتافيزيقي أو قواعد وقوانين غير قابلة للانتهاك. ومثلما اقترحنا، يمكن أن تبدأ وجهة النظر السارترية عن خُلُق لتخصيص القيم يُعبِّر عن الحرية، ويحافظ عليها على مدار حياة المرء في تلبية هذه المتطلبات ما بعد الحداثية في عالم ما بعد بعد حداثي. لو كانت وجهة النظر الحداثية للأخلاق — مثلما يدعي عالِم الأخلاق زيجمونت بومان — هي الإصرار على أن الصراع بين استقلالية الحيوانات العاقلة وتبعية الإدارة العاقلة (بين الغايات والوسائل) قابل للحل نظريًّا، على الرغم من أنه لم يُحل بعد، في حين يكمن الموقف ما بعد الحداثي في القبول الاختياري بعدم قابليته للحل وتعزيز ما ينتج من تعددية للاختيارات، فإن الموقف الوجودي لما بعد بعد الحداثة يقدم كلًّا من قوة المثل الأخلاقي (على سبيل المثال: الوجود الصادق في مدينة الغايات لسارتر) والرغبة الواضحة في العيش في غموض حتمي، حسبما يقترح ميرلوبونتي ودي بوفوار. لا يختلف هذا عن تحذير أرسطو بعدم السعي إلى دقة أعظم في عالم الأخلاق أكثر مما يتيح الأمر، وبصفة خاصة، عدم البحث عن حلول كمية للمشكلات الأخلاقية. ولو لبى الخيار الوجودي المتطلب ما بعد الحداثي للبقاء بشكل غير ميتافيزيقي؛ وبالتالي غير أرسطي حتمًا في هذا السياق، فإنه يبقى «حداثيًّا» في التزامه بالفلسفة الإنسانية، لكنها فلسفة من تشكيله هو.

هوامش

(1) La Quinzaine Litteraire. © ADAGP, Paris and DACS, London 2006.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤