خاتمة

كتبنا هذه الفصول عسى أن يكون فيها جواب هادٍ لأناس من الناشئين يتساءلون: هل يتفق الفكر والدين؟ وهل يستطيع الإنسان العصري أن يقيم عقيدته الإسلامية على أساس من التفكير؟

ونرجو أن تكون هذه الفصول تعزيزًا للجواب بكلمة «نعم» على كل من هذين السؤالين، نعم يتفق الفكر والدين، ونعم يدين المفكر بالإسلام وله سند من الفكر، وسند من الإيمان.

ولكننا نكتب هذه الخاتمة ونود أن نضيف بها سؤالًا آخر يتمم هذين السؤالين، نود أن نسأل: هل يؤمن عقل الإنسان بالدين في هذا العصر؟ ويرى فيه دينًا أحق بالإيمان به من الإسلام؟

أما أن يؤمن الإنسان بالدين في أعماق وجدانه بمعرفة الفكر، فذلك بحث طويل لا يستقصى في سطور ولا صفحات، ولكنه — مع خلوص النية — يتضح جليًّا مبينًا من حقيقة واحدة، وهي أنَّ الإنسان جزء من هذا الوجود غير المحدود، لا بد له من صلة عميقة تربطه به أبعد غورًا من هذه الصلات الحسية التي تحصرها العلوم المتغيرة مع العصور والسنين …

فكيف تكون هذه الصلة؟ إنَّ فكر الإنسان محدود ينقطع دون النهاية من هذا الوجود الذي ليست له حدود، فهل تنقطع صلته بالوجود كله عند انقطاع فكره؟ أو يعلم حدود نهايته، ويعلم علمًا يقينًا أنَّ الصلة وراء ذلك لن تكون إلا بالإيمان.

لا بد أن يؤمن؛ لأنه ذهب بالفكر إلى نهايته ولم يبلغ النهاية، ولا بد — بعد طريق الفكر— من طريق يهتدي إليه الفكر، ولكنه لا يستقصيه …

وإذا آمن المفكر بهذا، فأي دين يختاره للجماعة الإنسانية أفضل من دين الإسلام؟

إنَّ الإسلام دين موجود، فالذي يشير على المسلم بدين غيره يريد منه أن يتركه ليَدِينَ بعقيدة أرفع منه في درجات الاعتقاد، وأوفى منه بمطالب الجماعة ومطالب الآحاد، وهذا ما يعتقده المسلم، فما الذي يعتقده خيرًا منه إذا نظر في الإسلام وفي سائر الأديان؟

يعتقد المسلم في الإله أنه رب العالمين، ليس كمثله شيء وهو بكل شيء محيط، لا يحابي ذرية دون ذرية، ولا يختص بالنجاة فريقًا دون فريق، ولا يميز أحدًا على أحد بغير العمل والتقوى …

ويعتقد المسلم في النبي أنه رسول هداية، يعلم ما علَّمه الله، ولا يعلم الغيب إلا بإذن الله، يخاطب العقول ولا يقسرها على التصديق بالخوارق والأعاجيب، ولا يملك لأحد نفعًا ولا ضرًّا إلا ما يكسبه لنفسه من خير، وما يجنيه عليها من خسار …

ويعتقد المسلم في الأنبياء كافة أنهم رسل الله بالهداية، يصدقهم جميعًا حين يصدق برسالة نبيه، ويصلي عليهم جميعًا حين يصلي عليه، يبشرون وينذرون؛ فلا يهلك أحد من خلائق الله بغير نذير، ولا تفوته النجاة لأنه سبق في الزمان أو تأخر فيه بغير حيلة له في السبق أو التأخير …

ويعتقد المسلم في الإنسان أنه مخلوق مسئول عن عمله وعن نيته، إن عمل صالحًا فلنفسه، وإن أساء فعليها، يؤاخذه الله بذنبه، ولا يؤاخذه بذنب لم يقترفه، وينجيه بتوبته، ولا ينجيه بكفارة لم ينهض بثوابها …

ويعتقد المسلم في بني الإنسان عامة أنهم أسرة واحدة من ذكر وأنثى، أكرمهم عند الله أتقاهم، وأتقاهم لله أنفعهم لعباده، يتكاثرون بالأنساب، ويتعارفون بالأعمال والأسباب، فإذا نصبت لهم موازين الحساب فلا أنساب بينهم يومئذ ولا هم يتساءلون.

ويعتقد المسلم في الدين أنه عهد بين المرء وخالقه، أينما كان فثم وجه الله، محرابه حيث أقام الصلاة بين الأرض والسماء، وضميره حرم لا يباح إلا بما يشاء.

فإذا آمن المسلم بغير هذه العقيدة فما له من عقيدة خير منها فيما يعتقده إنسان في الله، أو في أنبياء الله، أو في خلق الله، أو في مشيئة الله.

وإذا قيل له: لا تعتقد بالإسلام فقد قيل له: لا تعتقد بشيء ولا تؤمن بإله…

ويحق للمسلم على الحالين أن يعلم أنَّ التفكير يوجب الإسلام، وأنَّ الإسلام يوجب التفكير …

ذلك منحًى من مناحي العقل الواسعة ينحرف عنه ذو العقل الذي انتهى من بحوثه وتقديراته إلى نبذ الأديان، وإنكار المعتقدات، وهي نهاية تُعاب بقسطاس الفكر نفسه؛ لأنها سوء تفكير، ولا ينحصر عيبها في سوء التقدير للضرورات التي استقام عليها بناء الجماعة الإنسانية منذ وجدت في التاريخ وقبل التاريخ …

يعاب على هذا التفكير القاصر أنه انتهى إلى غير شيء … انتهى إلى العدم، وليس ما وراء الفكر عدمًا؛ بل هو وجود مطلق أزلي أبدي محيط بجميع الموجودات، ومنها الفكر والمفكرون، لا يدركه الفكر بداهة، ولكن ليدركه الإيمان، لا ليبقى منقطعًا عن العقل والوجدان والشعور …

وإذا قلنا: إنَّ هذا الفكر القاصر يعاب كذلك لأنه سوء تقدير لضرورات الجماعة الإنسانية، فليس هذا بالعيب الهين عند من يتأمل ويريد أن يتأمل …

إنَّ حاجة النفوس إلى العقيدة في الجماعة الإنسانية برهان وأي برهان …

برهان من الواقع، لكن كبرهان الحنان الأبوي على مصلحة النوع في البقاء؛ أيقدح في حنان الآباء أنهم ينظرون إلى الأبناء بعين النوع كله، ولا ينظرون إليه نظرة الغريب المجرد من هذا الحنان؟

برهان الجماعة حق في العقل، وحق في الواقع، وعلى الإنسان الأمين لعقله ولنوعه أن يفطن لهذا الحق، ويبحث عنه بحث المسئول لا بحث السائل الطارئ على القضية من بعيد …

وعلى الإنسان الأمين لعقله ولنوعه أن يرعى حرمة القداسة في جماعته كما يرعاها في ضميره، فمن سلامة الضمير أن تكون سلامة الجماعة مما يتوخاه، ومما يصونه ويحميه …

وفي العالم اليوم جماعة إنسانية تعد بمئات الملايين …

أربعمائة مليون مسلم يعيشون بعقيدة قويمة، ويعتصمون منها بحصانة قوية …

هذا هو الإسلام١

بنية حية تذود عن عقيدتها فتذود عن كيانها أو تموت …

صانها الإسلام في وجوه أعدائها، فلتصنه في وجوه أعدائه، وأوجب ما يوجب عليها هذه الصيانة أنها تطلق للضمير آفاقه وأعماقه، وتحمي للجماعة ديارها وقرارها، وأنها لُبٌّ ووجدان وتفكير وإيمان، فإن يكن للجماعة الإسلامية دين، ولا بد من دين؛ فلا بديل لها من دين يهديها إلى الفكر، ويهديها الفكرُ إليه …

١  هذا العدد يشير إلى عدد المسلمين في الخمسينيات عند صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤