الفصل العاشر

التصوف

قبل تمييز الخاصة التي انفرد بها التصوف الإسلامي نسأل عن الخاصة المميزة للتصوف عامة؛ ما هي؟

فالتصوف في أمم الغرب المسيحية يشتق من الخفاء أو السر، ويطلقون عليه اسم «مستسزم» Mysticism، أي «السرية» أو المعاني الخفية، فخاصته المميزة له عندهم هي البحث في البواطن، والتعمق في الأسرار المغيبة وراء الظواهر.

واسم التصوف العربي مختلف في اشتقاقه وسبب إطلاقه، فالقول الشائع أنه مأخوذ من الصوف، وأنَّ المتصوف هو الذي يتخشن؛ يتزيَّا بزي النساك المتعبدين، وخاصته المميزة له على هذا المعنى أنه زهد وتقشف وابتعاد عن الترف والمتعة.

ويقول بعضهم: إنَّ الصوفي منسوب إلى صوفة، كما جاء في أساس البلاغة للزمخشري وغيره: «وكان آل صوفة يجيزون الحاج من عرفات، أي يفيضون بهم، ويقال لهم: آل صوفنا وآل صفوان، وكانوا يخدمون الكعبة ويتنسكون، ولعل الصوفية نسبوا إليهم تشبيهًا بهم في النسك والتعبد.» ومما رواه ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: «إنما سمي الغوث بن مرصوفة؛ لأنه ما كان يعيش لأمه ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له صوفة ولولده من بعده.»

وإذا صح هذا التخريج فالصوفي اسم منقول على سبيل التشبيه لا يدل على الخاصة المميزة للصوفية بعد الإسلام إلا من قبيل المماثلة في الخدمة الدينية العامة.

وآخرون من المحدثين يرجحون أنَّ الكلمة مستعارة من اليونانية بمعنى الحكمة الإلهية، وهي مركبة في تلك اللغة من كلمتين؛ هما: «ثيو» أي الإله، و«سوفي» أي الحكمة. ومعنى التصوف إذن مقابل لمعنى الحكمة العقلية، وهي الفلسفة؛ لأن الصوفي يطلب الحكمة من طريق الدين، وربما كانت المقاربة في اللفظ أقوى سند يعتمد عليه القائلون إلى استعارته من اللغة اليونانية.

ويرجح الكثيرون أنَّ التصوف منسوب إلى أهل الصفة الذين كانوا على عهد الرسول، ويحب الصوفيون أنفسهم أن يشتقوا الكلمة من الصفاء، كما جاء في كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف: «إنما سُمِّيت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها، ونقاء آثارها، وقال بشر بن الحارث: الصوفي من صفا قلبه لله.» ونظم أبو الفتح البستي هذا المعنى شعرًا فقال:

ولست أنحل هذا الاسم غير فتى
صافى فصوفي حتى سمي الصوفي

والذين آثروا هذا التخريج لكلمة الصوفية لا يقصدون تحقيق التاريخ ولا اللغة، ولكنهم يستخدمون الجناس لاستخراج المعنى البعيد من اللفظ القريب كعادة الصوفية في تحميل الكلمات ما يريدونه من الإشارات، فهو من ثم أقرب الأسماء إلى اختيارهم وإيثارهم، ولعله أدلها على الخاصة المميزة لهم بين الخواص المتعددة التي عسى أن تصدق عليهم.

فالتعمق في طلب الأسرار صفة مشتركة بين الصوفية وفلاسفة التفكير الذين يغوصون على الحقائق البعيدة، وعلماء النفس الذين ينقبون عن ودائع الوعي الباطن، وغرائب السريرة الإنسانية.

ولبس الصوف إن دل على التخشن والزهد في الدنيا لم يكن خاصة مميزة للصوفية؛ لأن أناسًا من أقطاب الصوفية أخذوا نصيبهم من الدنيا وافيًا، وفهموا أنَّ الزاهد من لا تملكه الدنيا وإن ملكها، أو كما قال مسروق: «الزاهد من لا يملكه مع الله سبب.» ولا ضير عليه أن يملك الأسباب.

والاشتغال بالحكمة الدينية عمل يعمله حكماء الصوفية، وهم طائفة من أهل التصوف مع طوائفهم الكثيرة التي تسلك مسلكهم، ولا تحسب من حكمائهم؛ بل ربما وجد من علمائهم من يكتب في المعاملات، وقد ذكرهم الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي فقال في كتاب «التعرُّف» بعد تسمية بعضهم: «هؤلاء هم الأعلام المذكورون المشهورون المشهود لهم بالفضل، الذين جمعوا علوم المواريث إلى علوم الاكتساب. سمعوا الحديث، وجمعوا الفقه والكلام واللغة وعلم القرآن، تشهد بذلك كتبهم ومصنفاتهم، ولم نذكر المتأخرين وأهل العصر وإن لم يكونوا بدون من ذكرنا علمًا؛ لأن الشهود يغني عن الخبر عنهم.»

فالصوفية قد يخلعون الصوف، وقد يعيشون بين الناس ولا ينقطعون للخدمة الدينية، وقد يكتبون في الحكمة الإلهية، أو يكتبون في المعاملات والمكاسب، أو لا يشتغلون بالكتابة، ولكنهم إذا غربت عنهم صفة واحدة — هي صفاء القلب لله — لم يحسبوا من الصوفية، ولم يسلكوا أنفسهم في عداد أهل التصوف بسمة أخرى من سماتهم المشهورة.

إنَّ المزية الصوفية الخاصة هي مزية الإيمان بالله على الحب لا على الطمع في الثواب، أو على الخوف من الحساب والعقاب، ومثلهم في ذلك مثل الفرد المثالي في بيئته الاجتماعية؛ فإن الناس عامة يقنعون بواجبهم الاجتماعي الذي لا يجاوز الحذر من مخالفة القانون، والأمل في خيرات المجتمع، ولكن الفرد المثالي يخدم البيئة الاجتماعية بباعث من الغيرة التي لا تنظر إلى الجزاء؛ بل تعمل وتثابر على عملها مع سوء الجزاء، أو مع اليقين من العقاب.

وكذلك الصلة بين الصوفي وربه إنما هي صلة قائمة على المحبة لا على مجرد الطاعة لأوامره، والخوف من نواهيه؛ فإن المحب يعطي من عنده فوق ما يؤمر به، ولا ينتظر الطلب ليستجيب إليه، وكلهم يقول مع رابعة العدوية: «اللهم إن كنت تعلم أنني أعبدك طمعًا في جنتك؛ فاحرمني نعيم جنتك، وإن كنت تعلم أنني أعبدك رهبة من نارك؛ فعذبني بنارك.»

وكل من نظم منهم شعرًا عبر بكلمة الحب عن هذه الصلة الإلهية، كما قال ابن عربي:

أدين بدين الحب أنَّى توجَّهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

أو كما قال ذو النون:

وأقضي وما ماتت إليك صبابتي
ولا قضيت من صدق حبك أوطاري

أو كما قال اليافعي:

فلو شاهدت ذاك الجمال عيوننا
سكرنا وغبنا عن جميع العوالم
وملنا نشاوى من شراب محبة
وباح بمكنون الهوى كل كاتم

وهذا «السكر» هو الذي يسمونه بخمر المحبة التي خلقت قبل أن يخلق الكرم كما قال عمر بن الفارض:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا
ونور ولا نار وروح ولا جسم

ويرون أنَّ المحبة لا توليهم حق الجزاء؛ لأنهم لا يلهمون المحبة إلا بنعمة من الله وفضل منه يستوجب المزيد من المحبة، وفي ذلك تقول رابعة العدوية:

أحبك حبين: حبَّ الهوى
وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشُغلي بذكرك عمَّن سِواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
وما الحمد في ذا وفي ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

ولسنا نعرف لغة وسعت من شعر الحب الإلهي ما وسعته اللغة العربية كثرة وتعددًا في الأساليب، فإذا أضيفت إليها لغات الأمم الإسلامية؛ كالفارسية والتركية والأردية ولغات أهل الملايا، رجح ديوان هذا الشعر على المنظوم منه في جميع لغات العالم بلا استثناء الأناشيد الدينية التي ترتل في المعابد.

وقد اشتهرت الهند قديمًا بكثرة قصائدها وأناشيدها، ولكنها لم تستغن بعد دخول الإسلام إليها عن توفير ذخيرتها من تلك القصائد والأناشيد بترجمة الشعر الإسلامي واقتباسه في دعواتها وصلواتها، فترجم تاجور قصائد أستاذه «أكبر»، وترجم السردار جو كندراسنج Singh دعوات الأنصاري عبد الله إلى اللغة الإنجليزية.

وقال المهاتما غاندي في مقدمة الترجمة: «إنَّ المترجم جدير بالتهنئة؛ لأنه يسر لنا أن نقرأ أقوال الصوفي عبد الله الأنصاري باللغة الإنجليزية. ولقد أعطى الإسلام العالم نخبة من الصوفيين لا يقلون عند الهنديين والمسيحيين، وإنه ليحسن في هذا الوقت الذي يعرض لنا الجحود في صورة الدين أن نُذكِّر أنفسنا بخير ما أخرجته العقول المتدينة بجميع الأديان، وخير ما قالته، وألا نظل كتلك الضفدعة التي تظن في بئرها أنَّ الكون كله ينتهي عند جدرانها. فلا يخطرن لنا أنَّ ديانتنا وحدها هي التي تحتوي الحقيقة كلها، وأنَّ ما عداها زيف وباطل …»

وينبغي أن يكون شيوع التصوف بهذه الكثرة في بلاد الإسلام، فلا يستغرب ذلك كما يستغرب في البلاد التي تدين بأديان تتوسط فيها الكهانة ومراسم المعابد بين المرء ومعبوده؛ لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يسمح باستقلال الصلة بين المخلوق والخالق، ويستطيع العابد فيه أن يتوجه إلى الله بضميره فردًا بغير وساطة من سادن، ولا شعائر في محراب.

ومتى تفتح للمسلم طريق الاتصال بالله على شريعة الحب واستقلال الضمير، فليس في دينه ما يحجبه عن طلب الحكمة الإلهية من هذا الطريق، ولا من التعمق في استطلاع الحقائق وكشف الأسرار في الكون، وفيما بين سماء الله وأرضه من العجائب والخفايا، كما تعلَّم من آيات كتابه، ومن وصايا نبيه، ومن فريضة التفكير على التعميم.

وينبغي لسبب آخر أن يكون الصوفية من المسلمين بهذه الكثرة في بلاد الإسلام كافة؛ لأن الإسلام يرفض الرهبانية والانقطاع عن الدنيا، فلا ملاذ فيه للفرد إذا نبا به مجتمعه، وأنكر على قومه ما يخالف طريقته في العقيدة إلا أن يلجأ إلى ضميره، ويتخذ لنفسه مذهبه الذي يحاسب عليه نفسه، ولا يحاسب عليه سواه بين يدي الله.

فإذا فرقنا بين الصوفية والانقطاع عن الدنيا، فالديانات الأخرى قد أخرجت من الرهبان والنساك المنقطعين أكثر ممن أخرجهم الإسلام بغير مراء، إلا أنَّ الأمر يختلف عند الكلام عن الصوفية الإسلامية؛ فإن عدد الصوفيين ذوي الآراء والأقوال بين المسلمين أكثر من أمثالهم في جميع الديانات الأخرى، وإذا جمعت أقوال المتصوفة في الإسلام ملأت الأسفار الكبار، وطرقت كل باب من أبواب الحكمة الإلهية عرفه المتدينون.

ويتَّسع التصوف الإسلامي بأنواعه كما يتَّسع بعدد المتصوفين، فإن الصوفية — كما هو واضح — أنواع ومذاهب، وكل نوع من أنواعها، وكل مذهب من مذاهبها قد كان له أئمة وأشياع بين الأمم الإسلامية. وتلك مسألة مفهومة بالبداهة؛ فقد دان بالإسلام أناس من الهنود والفرس والطورانيين والحاميين، كما دان به العرب وإخوانهم من الساميين، ولكل أمة مزاجها، ولكل مزاج أثره في الوجهة الصوفية؛ فلا عجب أن يتسع الإسلام لكل نوع من أنواع الحكمة الصوفية عرفه المتدينون.

فالصوفية من حيث الموضوع نوعان عظيمان: نوع العقل والمعرفة، ونوع القلب والرياضة، والصوفية من حيث موقعها من الدنيا كذلك نوعان: نوع يتخطاها وينبذها، ونوع يمشي فيها ويصل منها إلى الله، ويتأدى من الخلق إلى الخالق جل وعلا. وكل هذه المذاهب عُرف في الإسلام على أوفاه.

فمن الصوفية العقليين طلاب المعرفة من يحسب في عداد الفلاسفة الأفذاذ، ولا نعرف في عقول الفلاسفة عقلًا يفوق عقل الغزالي في قوة التفكير، ولا نعرف موضوعًا من موضوعات الحكمة الإلهية لم يلتفت إليه محيي الدين بن عربي، وقد قيل: إنَّ ذا النون المصري كان في طبقة جابر بن حيان في علوم الكيمياء، وإنه كان من الباحثين في طلاسم الآثار الفرعونية.

وهؤلاء الصوفيون العقليون يذهبون بالعقل إلى غاية حدوده، ولا يتهيبون الشكوك والاعتراضات، بل يقولون بلسان الغزالي: إنَّ الشك أول مراتب اليقين، ولكنهم متى بلغوا بالعقل غايته ملَكتهم نشوة الوجدان، فأسلموا أمرهم كله إلى الإيمان. وليس اشتغالهم بالعقل مانعًا لهم أن يشتغلوا بالرياضة النفسية، وإنما يشتهرون بأفكارهم؛ لأنها الصلة بينهم وبين تلاميذهم ومريديهم وقرائهم، وتغلب شهرتهم بالفكر على شهرتهم بالرياضة.

أما الصوفيون القلبيون فهم يلتمسون المعرفة المباشرة برياضة النفس على قمع الشهوات، وعندهم أنَّ شهوات الإنسان هي الحائل بينه وبين النور؛ فإذا ملك زمامها وأفلت من قيودها تكشف له النور، ووصل إلى مرتبة العارفين، وأغناه صفاء النفس عن دراسة الدارسين، وبحوث الباحثين.

والصوفية من حيث علاقتها بالدنيا نوعان كما تقدم: نوع يرفضها؛ لأنها وهم وغشاوة مزيفة كالطلاء الذي يوضع على المعدن الخسيس ليخيل إلى الأنظار أنه معدن نفيس، ونوع آخر يخوض غمار الدنيا ليبتليها، ويمتحن نفسه بتجاربها وغواياتها، وعنده أنها جميلة لأنها مِن خلق الله، وكل ما يخلقه الله جميل.

وهذا النوع من الصوفية أقرب أنواعها إلى الإسلام، وليس على المسلم حرج أن يرى للدنيا ظاهرًا خداعًا، وباطنًا صادقًا أجمل من ظاهرها؛ فإن قصة الخضر مع موسى — عليهما السلام — تدور كلها على التفرقة بين الظواهر والبواطن في الأحكام والنيات.

إلا أنَّ الصوفي المسلم يقاوم مطامع الدنيا لأنها تحجبه عن حقائقها العليا. ويضربون المثل لذلك بالغزال الظمآن في الصحراء؛ فلا حرج عليه أن يطلب الري من الماء، ولكنه إذا غفل عن نفسه لم يسلم من خداع السراب، فانقاد إلى الهلاك؛ فإذا أصابه الظمأ فليَعلم موارد الماء، وليكن على حذر من موارد السراب، وليفرق كما يقولون بين سراب لا شراب فيه، وبين شراب لا سراب حوله. وتلك هي الرياضة التي تستفاد من قمع الشهوات.

وكثيرًا ما يبحث الأوروبيون في التصوف ويقصدون به الكلام على أشخاص المتصوفين الذين ظهروا في البلاد الإسلامية، وقليلًا ما يبحثون في هذا التصوف ويقصدون به مذاهب التصوف التي يسمح بها الإسلام.

فالدين الإسلامي قد انتشر في أقطار شاسعة كانت فيها من قبله عبادات وثنية وغير وثنية، وقد تسرب بعضها إلى أبناء تلك الأقطار، واختلط بعضها بالعقائد الإسلامية من طريق الوراثة والاستمرار، ولم يسلم التصوف من تلك الأخلاط، فاقترن في أقوال أناس من المنتسبين إلى الإسلام بما يجوز وما لا يجوز.

وعلى الجملة يمكن أن يقال: إنَّ الإسلام ينكر من تلك المذاهب مذهبين منتشرين في الصوفية على عمومها؛ ينكر مذهب الحلول، كما ينكر المذهب القائل بوحدة الوجود، فلا يقر الإسلام مذهبًا يقول بحلول الله في جسد إنسان، ولا يقر مذهب القائلين بفناء الذات الإنسانية في الذات الإلهية، وإذا تحدث المتصوف المسلم عن الفناء فسَّره بفناء الشهوات، أو فناء الأنانية وحلول محبة الله محلها من القلوب والأرواح.

ولا يقر الإسلام مذهبًا يقول بوحدة الوجود، أو يقول بأن الله هو مجموعة هذه الموجودات، وأنَّ الكون كله بسمائه وأرضه ومخلوقاته العلوية والسفلية هو الله. وإذا أجاز المتصوف المسلم معنًى من معاني الوحدة الوجودية، فهي عنده وحدة الفضائل الإلهية ووحدة التوحيد.

وقد يوفق المسلم الصوفي بين الظاهر والباطن فيقول: إنَّ الشريعة من غير الحقيقة رياء وكذب، وإنَّ الحقيقة من غير الشريعة إباحة وفسوق، وقد يوفق بين الأمور الدنيوية والأمور الأخروية بمذهب جميل معتدل بين الطرفين، فليس الزاهد من لا يملك شيئًا؛ بل الزاهد عنده من لا يملكه شيء، فهو مالك للدنيا غير مملوك لها بحال.

وظل المتصوفة والمنتسبون إلى الطرق الصوفية من المتأخرين يبرءون من القول بالحلول، ووحدة الوجود، وإسقاط التكليف، ويعتزلون من يقول بها على وجوهها المنقولة من الديانات الوثنية. ولوحظ ذلك في القانون الذي استشير فيه شيوخهم، وصدر في الديار المصرية بلائحة الطرق الصوفية (سنة ١٣٢٠ هجرية/١٩٠٣ ميلادية)، وتقرر المادة الثانية من بابه الخامس: «إنَّ كل من يقول بالحلول أو الاتحاد أو سقوط التكليف يطرد من الطرق الصوفية كافة.»

وهذا الفارق الفاصل بين الصوفية الإسلامية والصوفية الدخيلة هو الذي أوهم فريقًا من المستشرقين أنَّ التصوف كله مستعار من الهند وفارس، أو من الأفلاطونية الحديثة، وهو قول يصدق على مذهب الحلول ومذهب وحدة الوجود، ولكنه لا يصدق على مذاهب الصوفية التي تقوم على الحب الإلهي، والكشف عن الحقائق من وراء الظواهر؛ فهذه الصوفية أصيلة في الإسلام، يتعلمها المسلم من كتابه، ويصل إليها ولو لم يتصل قط بفلسفة البراهمة أو فلسفة أفلوطين؛ لأن أشواق الروح الإنسانية قسط مشترك بين بني آدم لا تنفرد به أمة من الأمم، ولم تستوعبها عقيدة واحدة كل الاستيعاب دون سائر العقائد الدينية.

والصوفية العربية مازجت صوفية الهند القديمة وصوفية الأفلوطينيين بالإسكندرية، ولكنها أضافت إليها كما أخذت منها، ولا حاجة بنا إلى تعقب التواريخ والأسانيد لتقرير هذه الحقيقة البينة، فإن عناصر الصوفية الإسلامية مبثوثة في آيات القرآن الكريم، محيطة بالأصول التي تفرعت عليها صوفية البوذية والأفلوطينية.

والمسلم يقرأ في كتابه أن: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فيقرأ خلاصة العلم الذي يعلمه دارس اللاهوت في كتب القديس توما حيث يقول: إنَّ الله مباين للحوادث، وإنه يعلم بالتنزيه والإبعاد عن مشابهتها، أو يُعلم بما ليس هو، ولا يعلم بما هو عليه في ذاته أو صفاته، أيًّا كان المصدر الأول الذي استقى منه القديس توما أصول هذه العقيدة.

ويقرأ المسلم في كتابه: فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [سورة الذاريات: ٥٠].

فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون أنَّ ملابسة العالم تكدر سعادة الروح، وأنَّ الفرار منه أو الفرار إلى الله هو باب النجاة.

ويقرأ المسلم في كتابه: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة النور: ٣٥].

وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [سورة البقرة: ١١٥]. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [سورة ق: ١٦].

فلا يزيد المتصوفة إلا التفسير حين يقولون: إنَّ الوجود الحقيقي هو وجود الله، وإنه أقرب إلى الإنسان من نفسه؛ لأنه قائم في كل مكان يصل له كل كائن: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء: ٤٤].

والله يخلق ويأمر، فهو فعال مريد، وليست إرادته مانعة من الخلق، كما يرى الفلاسفة؛ إذ يقولون: إنَّ الإرادة القديمة لا ينشأ منها اختيار حديث، أو مخلوق حادث: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف: ٥٤].

ومما يعلمه المسلم من كتابه أنَّ عقل الإنسان لا يدرك من الله إلا ما يلهمه إياه؛ لأنه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [سورة البقرة: ٢٥٥].

ومنه يعلم الخلاف ما بين عالم الظاهر وعالم الباطن، أو عالم الحقيقة وعالم الشريعة؛ لأنه يقرأ مثلًا واضحًا لهذا الخلاف فيما كان من الخضر وموسى — عليهما السلام — من خلاف: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف: ٦٥–٨٢].

وهذه آيات بينات يقرؤها جميع المسلمين في كتابهم الذي لا يختص به فريق منهم دون فريق، وبينهم — ولا شك — أناس مطبوعون على التصوف، واستخراج الأسرار الخفية والمعاني الروحانية من طوايا الكلمات، فإذا عمد هؤلاء إلى تفسير تلك الآيات وما في معانيها، فليس أيسر عليهم من الوصول إلى لباب التصوف الذي شغلت به خواطر الحكماء في جميع الأحوال.١

وإذا آمن الصوفي المسلم بالكشف عن الحقائق من وراء الظواهر، فهو لا ينتهي من التفرقة بينهما إلى إسقاط الشريعة، أو إسقاط ما تأمره به من التكليف، أو إباحة ما تحظره من المحرمات؛ لأن الحقيقة عنده لا تنقض الشريعة؛ بل تتممها وتكشف ما استتر من حكمتها، وتظهر ما خفي من أسباب ظواهرها كما فعل الخضر في كل قضية خفيت على صاحبه، فكشف له من حقيقتها عن حكم الشريعة فيها.

وقد كان أقطاب الصوفية يقيمون الفرائض ويصلون ويصومون، ويحجون إلى البيت، ويعطون الصدقات، وتحدث رجل أمام أبي القاسم الجنيد بحديث المعرفة فقال: إنَّ أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقوى إلى الله، فقال الجنيد: إنَّ هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالًا ممن يقول هذا. وإنَّ العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإليه رجعوا فيها. ولو بقيتُ ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرةً إلا أن يحال بي دونها، وإنه لأوكد في معرفتي، وأقوى في حالي.٢

قال صاحب كتاب «التعرف لمذهب أهل التصوف»: «وأجمعوا على تعجيل الصلوات، وهو الأفضل عندهم مع التيقن بالوقت، ويرون تعجيل أداء جميع المفترضات عند وجوبها، لا يرون التقصير والتأخير والتفريط فيها إلا لعذر، ويرون تقصير الصلاة في السفر، ومن أدمن السفر منهم ولم يكن له مقر أتم الصلاة، ورأوا الفطر في السفر جائزًا ويصومون، واستطاعة الحج عندهم الإمكان من أي وجه كان، ولا يشترطون الزاد والراحلة فقط، قال ابن عطاء: الاستطاعة اثنان: حال ومال؛ فمن لم يكن له حال يُقلُّه فمالٌ يبلغه. وأجمعوا على إباحة المكاسب من الحرف والتجارات والحرث وغير ذلك مما أباحته الشريعة.»

وليس من الإنصاف أن تُحمل على التصوف أوزار الأدعياء واللصقاء الذين يندسون في صفوفه نفاقًا واحتيالًا، أو جهلًا وفضولًا؛ فإنه ما من نحلة في القديم والحديث سلمت من أوزار اللصقاء الذين ينتمون إليها من غير أهلها، ولكن التصوف على حقيقته الكاملة هو حرية الضمير في الإيمان بالله على الحب والمعرفة، وبلوغ هذه المرتبة هو فضيلة الإسلام الذي أطلق ضمير الفرد من عقال السيطرة الروحية، ويسر له أن يلوذ بسريرته هذا الملاذ الأمين الذي لا يداخله فيه حسيب أو رقيب غير حسيبه ورقيبه بين يدي الله.

ولا غني عن مثل هذا الملاذ في زمن من الأزمنة، ولا في جماعة من الجماعات، ولا سيما الأزمنة التي تبتلى فيها الضمائر الصوفية بالقلق بين الجماعات المضللة عن سوائها، جهلًا بحقيقة الدين، أو جمودًا على المألوف من بقايا الأقدمين؛ ففي مثل هذه الأزمنة لا يستغني ضمير الإنسان عن ملاذ يعتصم به، ويأوى إليه بين جماعته، وهو عامل فيها، حريص على هدايتها، غير معتزل لشئونها.

ولا حاجة بالمسلم في أمثال هذه الأحوال إلى ابتداع شيء في أصول دينه، فإن أصول دينه الأولى قائمة على حرية الضمير تنهاه أن يستسلم لما يأباه رغبة، أو رهبة، أو مجاراة لعرف الأكثرين، إذا كان الأكثرون لا يعلمون.

وإنَّ أناسًا من أبناء العصر الحاضر يحسبون أنَّ الصوفية بقضها وقضيضها تراث قديم مهجور، ولكنهم يعلمون كل يوم — وسيعلمون غدًا — أنَّ الإنسان لن يستغني في حياته يومًا واحدًا عن الصوفية في ناحية من نواحيها؛ لأن رياضة النفس ضرورة لازمة كرياضة الجسد، وأكبر ما يلقاه الناس في العصر الحاضر فإنما هو إفلات زمام الإنسان العصري من يديه، ولا غنى له يومًا عن ذلك الزمام، ولا غنى له في سياسة جسده عن بعض الحرمان باختياره، وعن بعض الشدة برضاه. وأحرى أن يكون ذلك شأنه في سياسة النفوس.

والمجتمع الإسلامي أحق المجتمعات بالتصوف، وأولاه بحرية الضمير التي يسمو إليها الإنسان كلما آثر لنفسه الإيمان بالله على الحب والمعرفة، ولم يقنع بحظ الثواب والعقاب؛ لأن الإسلام يأبى له الرهبانية التي اعتصم بها أناس في العصر القديم، ولا يرضى له بعض المذاهب «الوجودية» في عصر الحاضر.

وقديمًا كان صاحب الضمير اليقظان يتبرم بمجتمعه فيهجره إلى صومعة الدين، وحديثًا تبرم بعض الناس في المغرب بمجتمعاتهم، فاعتصموا بها بمذاهب الوجودية التي يلجأ إليها الفرد كلما اشتد عليه طغيان العرف الاجتماعي، منطلقًا من قيوده تارة إلى الإباحة، وتارة إلى عزلة الوجدان، ولكن الإسلام يفتح لضمير الفرد مسلكًا واسعًا غير الرهبانية وغير الوجودية بما فيها من خير وشر، ويقيم له صومعته في أعماق نفسه ولا حدود لها غير حدود الكون بما وسع من سماوات وأرضين …

لا جرم وسعت سماحة الإسلام عقائد المتصوفة وهم في رحابه الفسيحة لا يفارقونها، ولا يعتزلون دنياهم حيثما أتوا إليها، ونشأ في عصور الإسلام جمهرة من أقطاب الصوفية المتفكرين والمتريضين لا تضارعها جمهرة من أبناء النحل العالمية في وفرة عددها، ولا في ذخائر حكمتها …

وعلى كثرة الضحايا من المتصوفة في العالم العربي، لم يذهب أحد منهم ضحية لمذهبه قط بغير استثناء القضيتين المشهورتين اللتين قُضي فيهما بالموت على الحلاج والسهروردي، ولم يكن لهما ثالث في مئات السنين منذ نشأ التصوف في الإسلام إلى هذه الأيام. ولعل هاتين القضيتين ما كانتا لتشتهرا هذه الشهرة لولا الغرابة والندرة فيما هو من قبيلهما، ولو صح أنَّ الحلاج والسهروردي من ضحايا الصوفية، وهما في الواقع ضحية الفتنة وضحية السياسة، وعليهما إصر كبير فيما جناه كل منهما على نفسه، بعد اليأس من توبته، واللجاجة في دعواه …

وعلى الباحث عن العلة الصحيحة في مصير الرجلين أن يذكر أنَّ إحدى القضيتين حدثت في إبان فتنة القرامطة، وأنَّ الأخرى حدثت في إبان الحروب الصليبية، وأنَّ الحلاج والسهروردي قد اختلطا بمعارك السياسة من قريب، واتخذا فيها الأحزاب والأعداء، واقتحما مواقع الشبهة ومواضع الريبة غير متحرجين ولا متراجعين بعد طول الإغضاء عنهما، وتمهيد معاذير التوبة لهما. ولم يُتَّهم أحد بمثل ما اتُّهما به ولقي من قومه مثل هذه المداراة، ومثل هذا السماح …

ولا نزيد في قضية الحلاج على رواية أخباره فيما يمس قضيته، ورواية كلامه كما جاء في كتبه وقصائده …

قال الحافظ أبو بكر أحمد علي الخطيب في تاريخ بغداد: «كان جده مجوسيًّا اسمه محمى من أهل بيضاء فارس. نشأ الحسين بواسط، وقيل بتستر، وقدم بغداد فخالط الصوفية وصحب من مشيختهم الجنيد بن محمد، وأبا الحسين النوري، وعمرًا المكي. والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى الحلاج أن يكون منهم، وأبى أن يُعدَّ فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصححوا له حاله، ودونوا له كلامه، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني. ومن نفاه عن الصوفية نسبه إلى الشعبذة في فعله، وإلى الزندقة في عقله. وله إلى الآن أصحاب يُنسبون إليه، ويَغلون فيه. وكان للحلاج حسن عبارة، وحلاوة منطق، وشعر على طريقة التصوف …»

ثم روى الخطيب بعض ما اشتهر عنه من أخبار السحر، ومنها أنه يخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب: «قل هو الله أحد»، ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه، وما صنعوا في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم.

وروى في أخبار متكررة من قبيلها، أنه بعث رجلًا من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب إلى بلد من البلاد بالجبل، وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد، فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمي، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسَّح، فإذا سعوا في مداواته قال لهم: يا جماعة الخير، إنه لا ينفعني شيء مما تفعلون، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله في المنام وهو يقول له: إنَّ شفاءك لا يكون إلا على يد القطب. وأقبل الحلاج حتى دخل البلد، فأظهر الرجل شفاءه على يديه، وخرج منه الحلاج ووراءه أبناء البلد من الكبراء والعامة يتوسلون إليه أن يقيم بينهم وله منهم ما يشاء …

ونقل المؤرخون له، ومنهم الخطيب وابن الأثير وابن كثير، أنَّ الوزير حامدًا رأى كتابًا يسقط فيه الحج، ويبدل بمناسكه مناسك من عنده تتخذ في البيوت، وسأله القاضي أبو عمر: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري. وكان القاضي قد قرأ الكتاب وليس فيه شيء مما قال.

ونُسب إليه، وتناقله المؤرخون، أنه كان يسمع القرآن ويقول: يمكنني أن أؤلف مثل هذا. وشوهد وهو يخط في صفحات بين يديه سورًا يعارض بها القرآن.

ولحقت به شبهات في مسلكه مع أهل بيته، حدثت عنها امرأة ابنه سليمان فقالت: كنت ليلة نائمة في السطح وابنة الحلاج معي في دار السلطان وهو معنا، فلما كان في الليل وقد غشيني، فانتبهت مذعورة مُنكرة لما كان منه، فقال: إنما جئتك لأوقظك للصلاة. ولما أصبحنا نزلت إلى الدار ومعي بنته، ونزل هو، فلما صار على الدرجة بحيث يرانا ونراه قالت بنته: اسجدي له! فقلت لها: أوَيَسجدُ أحدٌ لغير الله؟ وسمع كلامي لها فقال: نعم، إله في السماء وإله في الأرض، قالت: ودعاني إليه، وأدخل يده في كمه وأخرجها مملوءة مسكًا، فدفعه إليَّ، وفعل هذا مرات، ثم قال: اجعلي هذا في طيبك …

وسبب القبض عليه أنَّ الوزير حامد بن العباس انتهى إليه أنَّ الحلاج قدموه على جماعة من الحشم والحجاب في دار السلطان، وعلى غلمان نصر القشوري الحاجب، وانتشر أصحابه وتفرقوا في النواحي، وعرضت علة للمقتدر بالله في جوفه وقف الحاجب نصر على خبرها، فوصف له الحلاج، واستأذنه في إدخاله إليه، فأذن له، ووضع يده على الموضع الذي كانت العلة فيه وقرأ عليه، فاتفق أن زالت العلة، ولحق والدة المقتدر بالله مثل تلك العلة فشفاها، وشاع عنه أنه أحيا ببغاء لولي العهد بعد موتها، وقام للحلاج بذلك سوق في الدار، وعند والدة المقتدر والخدم والحاشية …

أما ما أخذ عليه من كلامه، فمنه قوله في كتاب طاسين الأزل: إنه هو الحق، وقوله في أبيات:

يا سرَّ سرٍّ يَدقُّ حتى
يخفى على وهم كل حي
وظاهرًا باطنًا تجلى
لكل شيء بكل شي
إنَّ اعتذاري إليك جهل
وعُظمُ شكٍّ وفرطُ عَي
يا جملة الكل لست غيري
فما اعتذاري إذن إلي

وقوله:

سبحان من أظهرنا ناسوته
سر سنى لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرًا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب

وكانت حركة الحلاج بين أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة، وهي فترة وافقت أيام فتنة القرامطة وثورة الزنج وشغب الحنابلة، وله بينهم أشياع وأتباع متفرقون في الأمصار، فاتجهت إليه التُّهم مرة بعد مرة، وتحرج القضاة والفقهاء من إدانته حتى تقوم الحجة القاطعة عليه، وحوكم بعد سنوات من الإغضاء والمطاولة، فشهد عليه القضاة بما يستوجب عقاب المفسدين في الأرض، وكان منهم نحو ثمانين في ساحة القصاص، فسئلوا مرة أخرى قبل إجراء القصاص عليه، فأعادوا شهادتهم بصوت جهير على مسمع من الناس …

ونحن في هذا الكتاب لا ندرس قضية الحلاج، ولا نمحص ما قاله ولا ما قيل عنه، فيجوز أنه مشعوذ طامع في الملك توسل بالاستهواء إلى جمع الجموع، وتأليب الأنصار، ثم نشرهم في أطراف البلاد، وعند مقامات التدبير والتصريف؛ كقصر الخلافة، ودواوين الوزارة، توطئة للوثبة عند سنوح فرصتها …

ويجوز أنه من زمرة «الملامتية» الذين يتعرضون للشبهات، ويستدعونها عمدًا وقصدًا؛ للتكفير عن خطاياهم، وإبراء أنفسهم من مظنة النسك؛ طلبًا لثناء الناس عليهم …

ويجوز أنه رجل مفترى عليه لعلة خفية أزعجت ولاة الأمر، فأثبتوا عليه بالتلفيق والإكراه جريمة لم يقترفها …

فكل وجه من هذه الوجوه ينفي عن الإسلام دعوى المدعين أنه يضيق صدرًا بالفكر الصوفي والمعاني الروحية، فإذا عنَّ لأمير أو وزير من ولاة الأمر أن ينكب إنسانًا من خصومه لاختلاف في الرأي والطريقة، لم يكن له مناص من اتهامه بالتهمة التي تستحق العقاب في كل شريعة دينية أو دنيوية، وأكبرها تهمة الفتنة والإفساد في الأرض، أو الإخلال بالسلم والخروج على دستور الجماعة …

وقضية شهاب الدين السهروردي نسخة موجزة من قضية حسين بن منصور الحلاج، سواء فيما وقع منه فعلًا، وفيما كان مظنونًا أن يقع منه، أو مظنونًا أن يقع من أمثاله في نزعاته وأحواله …

•••

عاش السهروردي في عصر الحروب الصليبية، وفي أخطر ميادينها، وهو مدينة حلب عاصمة الملك الظاهر بن الملك صلاح الدين. واشتهر السهروردي كما اشتهر الحلاج بأعمال الخوارق والأعاجيب التي يحسبها بعضهم من السحر، ويحسبها الآخرون من الكرامات …

جاء في النجوم الزاهرة أنه «كان يعاني علوم الأوائل والمنطق والسيمياء وأبواب النيرنجيات …»

وجاء في طبقات الأطباء أنه كان مفرط الذكاء، فصيح العبارة، وكان علمه أكثر من عقله، ثم جاء فيه: «يقال: إنه يعرف علم السيمياء.»

وروى ابن خلكان في وفيات الأعيان منقولًا عن بعض فقهاء العجم: «إنه كان في صحبته وقد خرجوا من دمشق، قال: فلما وصلنا إلى القابون — القرية التي على باب دمشق في طريق مَن يتوجه إلى حلب — لقينا قطيع غنم مع تركماني، فقلنا للشيخ: يا مولانا، نريد من هذه الغنم رأسًا نأكله، فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنم. وكان هناك تركماني فاشترينا منه رأسًا بها ومشينا قليلًا، فلحقنا رفيق لنا وقال: ردوا هذه الرأس؛ خذوا أصغر منها، فإن هذا ما عرف بيعكم؛ يساوي هذه الرأس أكثر من ذلك. وتقاولنا نحن وإياه، فلما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا وأنا أقف معه وأرضيه. فتقدمنا نحن وبقي الشيخ يتحدث معه ويُطيِّب قلبه، فلما أبعدنا قليلًا تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به وهو لا يلتفت إليه، فلما لم يكلمه لحقه بغيظ وجذب يده اليسرى وقال: أين تروح وتخليني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه وبقيت في يد التركماني ودمها يجري، فبهت التركماني وتحير في أمره، فرمى اليد وخاف، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا، وبقي التركماني راجعًا وهو يلتفت إليه حتى غاب عنه، فلما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديلًا لا غير.»

وكان للسهروردي طموح كطموح الحلاج إلى السيادة والعظمة أفصح عنه لبعض صحبه، ومنهم الشيخ سيف الدين الآمدي الذي قال فيما حدث عنه: «اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض، فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر، فقلت: لعل هذا يكون اشتهارًا للعلم وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل.»

ونسب إليه فيما نسب من التهم التي أُدين بها أنه كان يدَّعي النبوة، ولكنها تهم لم تتحقق أنباؤها؛ لأن الروايات التي وصلت إلينا من سيرته في أواخر أيامه ملتبسة متضاربة، حتى لقد رويت عن موته ثلاث روايات؛ تقول إحداها: إنه مات صبرًا باختياره، وتقول رواية أخرى: إنه مات خنقًا، وتقول غيرها: إنه مات مقتولًا بالسيف بعد صلبه. ولا تتفق الروايات على مشهد قتله، مع ما قيل من التشهير به قبل دفنه …

غير أنَّ القصة المتواترة أنَّ الفقهاء رفعوا أمره إلى صلاح الدين، وأبلغوه خوفهم منه على عقيدة ابنه الملك الظافر، وعلى سياسة ملكه، فانتهى الأمر إلى دعوته للمناظرة بحضرة الملك، فكان مما قاله في تلك المناظرة: إنَّ إرسال نبي بعد محمد — عليه السلام — غير مستحيل …

وإذا تعسر جمع أخبار القصة بما بدا واستتر منها، فليس من العسير أن نعلم ما يجنيه على نفسه شاب كثير الفطنة، قليل الحكمة، ذرب اللسان، مصطنع الشعوذة والاستهواء، ويخيل إليه أنه موعود بملك الدنيا، وأنَّ دعوى النبوة مفتوحة لمن يتهيأ لها بمعرفته وفصاحته وقدرته على الإقناع بالبرهان أو بالكرامة.

•••

وليس مما يخطر على البال ولا مما كتبه المؤرخون أو أشاروا إليه بهذا الصدد: أنَّ الفكرة الصوفية كانت ذريعة من ذرائع المحاكمة والقصاص، وليس من أدب الصوفية أن يتعرض طالب الحقيقة لشبهة من الشبهات بين العامة يتذرع بها من يشاء إلى اتهامه وإثبات التهمة عليه …

والقضيتان — بعدُ — قد اشتهرتا هذه الشهرة بين المعنيين بالإسلاميات؛ لأنهما نادرتان في تواريخ أمم الإسلام، فإن لم تكن هذه الندرة قاطعة بانفرادهما، فهي مثال للحوادث التي ينساق فيها بعض الدعاة إلى مزالق الخطر، ولا شأن فيها لحرية التفكير، ولكنها مآزق السياسة في أوقات الحرج والريبة يرتطم بها من يتصدى لها، ويتورط فيها، وقلما يسلم من بعض وزرها وإن تراءى لقوم أنه ضحية لأوزارها …

•••

إنَّ الإسلام قد وضع التصوف موضعه الذي يصلح به، ويصلح من يريده، فليس هو بواجب، وليس هو بممنوع، ولكنه ملكة نفسية موجودة في بعض الطبائع لازمة لمن وجدت في طبائعهم، وألزم ما تكون لهم حين تفترق مقاييس الأخلاق ومعايير القيم الروحية بينهم وبين مجتمعاتهم، فإن الفرد إذا افترق ما بينه وبين مجتمعه من هذه القيم تجنبه بالرهبانية — ولا رهبانية في الإسلام — أو صاغ فضائله على وفاق ضميره وهو مقيم في مجتمعه لا حسيب عليه بينه وبين ربه. وتلك هي شريعة الإسلام الذي لا سلطان فيه لمخلوق على مخلوق في طاعة الله …

ومهما تكن للنفس الإنسانية من ملكة خلقية أو روحية، فتلك أمانة لا تفريط فيها، ولا خير في المجتمع الذي يفرط فيها ويسلمها للضياع. وقد يجوز إحياء الملكة الصوفية على ملكات أخرى، كما يجوز التخصص في كل قدرة على غيرها من عوامل القدرة في الطبائع والعقول، ولكنها لازمة التخصص التي لا فكاك منها، فإما التخصص والاحتفاظ، وإما الإهمال والانقطاع …

وليس في التخصص — كما قلنا في كتاب الفلسفة القرآنية — إيجاب شيء واستنكار شيء، وإنما هو سبيل التعميم والاستفادة من كل ملكة في الذهن والذوق والروح. ولا يوجب الإسلام التنسك على جميع المسلمين؛ لأن أناسًا منهم تخصصوا له وفضلوه على مطالب الروح أو مطالب الجسد الأخرى، ولكنه يجيزه بالقدر الذي بيَّناه، وهو القدر الذي لا غنى عنه في تدبير حياة الإنسان …

فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد، ولكنها ينبغي أن تنال، فكيف يمكن أن تنال؟

إنها لا تنال إلا بالتخصص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعًا في التحصيل، وألزمنا كل أحد أن تكون له أقساط منها جميعًا على حد سواء …

ولا نقصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكن نعم به هذه الملكات، ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس …

فهذه الملكات الجسدية — فضلًا عن الملكات العقلية والروحية — قابلة للنمو والمضاعفة إلى الحد الذي لا يخطر لنا على بال ولا نصدقه إلا إذا شهدناه …

وقد رأينا ورأى معنا ألوف من الناس رجلًا أكتع يستخدم أصابع قدمه في أشياء يعجز الكثيرون عن صنعها بأصابع اليدين؛ يكتب بها، ويشعل عيدان الثقاب، ويصنع بها القهوة، ويصبها في الأقداح ويشربها، ويديرها على الحاضرين، ويسلك الخيط في سم الإبرة، ويخيط الثوب الممزق، ويوشك أن يصنع بالقدم كل ما يصنع باليمين أو باليسار …

ورأينا ورأى معنا ألوف من الناس لاعبي البليارد في المسابقات العامة يتسلمون العصا، ثم لا يتركونها إلا بعد مائة وخمسين إصابة أو تزيد — ولعلهم لا يتركونها إلا من تعب، أو مجاملة للاعبين الآخرين — وهم يوجهون بها الأكر٣ إلى حيث يريدون، ويرسلونها بين خطوط مرسومة، لا تدخل الأكر في بعضها، ولا تحسب اللعبة إذا لم تدخل في بعضها الآخر، بحيث لو قال لك قائل: إنَّ هؤلاء اللاعبين يجرون الأكر بسلك خفي؛ لجاز لك أن تصدق ما يقول …

ورأينا من يقذف بالحربة على مسافات فتقع حيث شاء، ورأينا من ينظر في آثار الأقدام فيخرج منها أثرًا واحدًا بين عشرات، ولو تعدد وضعه بين المئات، ورأينا من يرمي بالأنشوطة في الحبل الطويل فيطوق بها عنق الإنسان أو الحيوان على مسافة أمتار …

هذه هي الملكات الجسدية المحدودة، وهذه هي آماد الكمال الذي تبلغ إليه بالتخصص والمرانة والتوزيع، فما القول إذا حكمنا على الناس جميعًا أن يكسبوا أعضاءهم ملكة من هذه الملكات؟ إننا نخطئ بهذا أيَّما خطأ، ونعطلهم به عن العمل المفيد، ولكننا نخطئ كذلك إذا حجرنا على إنسان لأنه أتقن ملكة من هذه الملكات الجسدية، ولو جار في نفسه على ملكات أخرى يتقنها الآخرون …

فإذا كنا قد جاوزنا بالقوى الجسدية حدودها المعهودة بالمرانة والتخصيص، فما الظن بالقوى الروحية أو العقلية وهي لا تتقارب في الناس هذا التقارب، ولا تقف عند هذه الحدود؟!

وإذا كان طالب القوة الروحية يؤثرها على جسده، فلماذا نلومه وننحى٤ عليه، ونحن لا ننحي على اللاعب إذا آثر المهارة في اللعب على المهارة في فنون العقل، أو على الكمال في مطالب الروح؟

إذا لمنا من يجوز على جسده لأنه يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين، فمن واجبنا أن نلوم كل ذي ملكة، وكل ذي فن، وكل ذي رأي من الآراء؛ فما من واحد بين هؤلاء إلا وهو يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين.

ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر عن بعض الحقائق الاجتماعية، فضلًا عن الحقائق الكونية المصفاة، ومما لا جدال فيه أنَّ شواغل العيش وهموم الأسرة عائق عن بعض مطالب الإصلاح في الحياة اليومية، فضلًا عن الحياة الإنسانية الباقية على مر الدهور، ومما لا جدال فيه أنَّ طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية؛ له حق كحق المصارع والملاكم وحامل الأثقال في استكمال ما يشاء من ملكات الإنسان، ولسنا على حق إذا أخذنا عليه أنه جار على جسده أو لذات عيشه؛ لأننا لا نلوم المصارع إذا نقصت فيه ملكة الفن، أو ملكة العلم، أو ملكة الروح. ولو أصبح كل الناس مصارعين لفسد كل الناس، ولكن لا بد من المصارعة مع هذا، ولا بد من المتفرغين لها إذا أردنا البقاء …

ولو أصبح الناس كلهم متصوفين مُعرضين عن شواغل الدنيا لفسدت الدنيا، وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد في الحياة، ولكن لا بد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلا قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح، وفقدنا ثمرة التخصص، أو ثمرة القصد الحيوي الذي ينظم لنا ثروة الروح، وثروة العقول، وثروة الأبدان.

والقصد الحيوي مكفول بشريعة القرآن في كل مطلب من هذه المطالب الروحية، فهي مباحة لمن يطيقها، وهي لا تُفرض على جميع المسلمين، ولا بد من هذه الإباحة، ولا بد من هذا الإعفاء؛ فإنهما يجريان بالقدر الذي يفيد ويمنع الضرر في كلتا الحالتين …

١  من كتاب «أثر العرب في الحضارة الأوروبية» للمؤلف.
٢  طبقات الصوفية للسلمي.
٣  الأكر: جمع كرة.
٤  ننحي — بسكون النون الثانية — أي نوجه اللوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤