الفصل الرابع

الفلسفة

فلسفة التاريخ، وفلسفة اللغة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة الرياضة وغيرها من أنواع الفلسفة مصطلحات حديثة يراد بها البحث في النظريات والأفكار التي تقوم عليها تلك العلوم، أو البحث في النظريات والأفكار التي تفسر تلك العلوم، وتبين وجهتها وغايتها، ويراد بهذه الفلسفات — إجمالًا — أنها دراسات فكرية فرضية غير الدراسات التي تقررت بالوقائع والتجارب المحسوسة من قبيل علوم الطبيعة وما جرى مجراها …

إلا أنَّ الفلسفة التي نعنيها هنا أعم من هذه الفلسفات جميعًا؛ لأنها قد تشملها من وجهة النظر في الأصول، وتجاوزها إلى البحث فيما وراء الحقائق المحسوسة، مما يسمى أحيانًا بالبحث فيما وراء الطبيعة، أو البحث في كنه الوجود كله على التعميم …

ويلاحظ في التاريخ المتواتر أنَّ هذه الفلسفة العامة — فلسفة ما وراء الطبيعة — شاعت في بعض الأمم القديمة، وقل شيوعها في أمم أخرى …

ويلاحظ كذلك أنَّ بلاد الدول الكبار لم تكن بيئات صالحة لنشأة هذه الفلسفة ونبوغ فلاسفتها، وأنَّ الأمر لا يرجع إلى اختلاف درجات الحضارة؛ بل إلى أسباب غير هذا السبب، كما يؤخذ من تواريخ الحضارات الأولى …

فالهند ومصر وبلاد ما بين النهرين وبلاد الدولة الرومانية كانت على درجة عالية من الحضارة، وعلى حظ وافر من العلوم والصناعات، ولكنها لم تتسع لشيوع الفلسفة، كما اتسعت لها بلاد اليونان في عصر من عصورها قبيل ميلاد المسيح، وهي مع ذلك لم تبلغ من الحضارة والعلم والصناعة مبلغ البلاد التي قامت فيها الدول الكبرى، وقل فيها شيوع الفلسفة ونبوغ الفلاسفة …

والباحثون الأوروبيون يحبون أن يعللوا ذلك بعلة ترضيهم، وتدل عندهم على امتياز السلالات الأوروبية بين جميع السلالات البشرية …

يقولون: إنَّ طلب المعرفة لمحض المعرفة مزية من مزايا العقل الأوروبي دون غيره بين عقول الأمم من سائر الأجناس، وإنَّ الأمم من غير الأجناس الأوروبية تطلب العلم لمنفعة، وتهتم بالمعرفة لما تستفيده منها في معاشها، ولا تهتم بها لأنها مطبوعة على التفكير وطلب الحقيقة لذاتها …

ودلائل العصبية العنصرية هنا ظاهرة تكفي لإخراج هذه العلة من عداد العلل العلمية الخالصة لوجه البحث والمعرفة. وقد حدث للأمم الأوروبية أنها حجرت على الفلسفة حين عرضت لها ظروف اجتماعية أو سياسية كالظروف التي سبقتها في الدول الشرقية …

فالسبب العنصري هنا قاصر عن تفسير العلة في اختلاف إقبال الأمم على الفلسفة، وإنما ترجع تلك العلة إلى أسباب واحدة بين الشرق والغرب، وبين الماضي والحاضر كلما تشابهت الظروف على تباعد الأزمنة والجهات …

والغالب أنَّ الدول الكبيرة، وهي الدول التي تقوم عادة على الأنهار الكبيرة، تستقر فيها سلطة دينية متوارثة كالسلطة السياسية، وأنَّ هذه السلطة الدينية تستأثر بمباحث العقيدة ومباحث ما وراء الطبيعة، ولا تسمح لأحد بأن يزاحمها في المعارف التي تتعلق بالأرباب وأسرار الخلق وأصول الحياة، أو أصول الوجود كله على التعميم.

وقد وُجِدت هذه السلطة الدينية القوية في أوروبا بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر للميلاد، فامتنع ظهور الفلسفة فيها، وساء حظ الفلاسفة بين علمائها ومحتكري العلم من أحبارها وكُهَّانها.

وحدث قبل ميلاد السيد المسيح أنَّ عبادة الإمبراطور تقررت في الدولة الرومانية، وأنَّ الدولة عرفت سلطان الكهانة بين شعوبها؛ فامتنع فيها ظهور الفلسفة ونبوغ الفلاسفة، ولم يكن محصولها منها بأوفر من محصول الفلسفة في دول الحضارات الشرقية، وقامت الدولة الرومانية ثم سقطت وهي عالة على بقايا الفلسفة اليونانية، تأخذ منها ما يحسب من فلسفة السلوك والأخلاق، وتحجم عما عداها من أبواب الفلسفة المعنية بما وراء الطبيعة وما تخوض فيه من المشكلات والأسرار …

وقد فسر الإسلام هذا الفارق بين الأمم في عنايتها العامة بالفلسفة على طريقته العملية حين قامت فيه الدولة بغير كهانة، فكانت دولة الإسلام أرحب الدول صدرًا، وأسمحها فكرًا مع الفلسفة على عمومها، والفلسفة اليونانية في جملتها؛ بل كانت الأمة الإسلامية أرحب صدرًا، وأسمح فكرًا مع الفلسفة اليونانية من بلاد العالم اليوناني الذي نشأت فيه، كما يؤخذ من مصائر الفلاسفة بين أبناء العالم اليوناني ومصائر الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين في بلاد الإسلام.

كان «ثالوث» الفلسفة الأكبر يتجمع من سقراط، وأفلاطون تلميذ سقراط، وأرسطو تلميذ أفلاطون، وكان أشهر الفلاسفة بعد هذين فيثاغوراس إمام الحكمة الصوفية، وزينون إمام الفلسفة الرواقية. وكل من هؤلاء الحكماء — المعبرين عن حكمة عصورهم — قد أصيب في زمنه بمصاب لا يدل على قرار أمين …

فسقراط قُضي عليه بالموت، وأفلاطون بيع في سوق العبيد، وأرسطو نجا بنفسه من أثينا خوفًا من عاقبة سقراط، بعد أن رماه كاهن من كهانها بالإلحاد، وقيل: إنه ألقى بنفسه في البحر، وزعم بعض مؤرخيه أنه لم يبخع نفسه فرارًا من الاضطهاد؛ بل غمًّا من تفسير علة المد والجزر في البحر الذي ألقى بنفسه فيه.

أما فيثاغوراس فقد مات قتيلًا بجانب مزرعة فول، وبخع زينون نفسه لأن الآلهة أمرته بذلك، كما قال لبعض تلاميذه، ولا تعلم على التحقيق علاقة مصيره هذا ولا مصير فيثاغوراس بالدعوة الفلسفية، ولكنه — على أي وجه من الوجوه — مصير لا يدل كما أسلفنا على قرار أمين.

ونقارن بين هذه الأحوال التي عرضت لأكبر فلاسفة اليونان وبين أحوال الفلاسفة من المسلمين من المشتغلين بالفلسفة اليونانية، وهي أجنبية في البلاد الإسلامية، فلا نرى أحدًا أصيب بمثل هذا المصاب من جراء الفلسفة أو الأفكار الفلسفية، ومن أصيب منهم يومًا بمكروه، فإنما كان مصابه من كيد السياسة، ولم يكن من حرج بالفلسفة أو حجر على الأفكار …

فأشهر الفلاسفة المسلمين في المشرق ابن سينا، المُلقَّب بالشيخ الرئيس، دخل السجن؛ لأنه كان عند أمير همدان فبرم بالمقام عنده، وأراد أن يلحق بأمير أصفهان علاء الدولة ابن كاكويه، فسجنه أمير همدان ليبقيه إلى جواره، ولم يسجنه عقوبة له على رأي من آرائه.

وابن رشد أشهر الفلاسفة المسلمين في المغرب أصابته النكبة؛ لأنه لقَّب الخليفة المنصور في بعض كتبه بلقب ملك البربر، وكان يصادق أخاه «أبا يحيى» ويرفع الكلفة بينه وبين الخليفة فيناديه «يا أخي» وهو في مجلسه الخاص بين وزرائه وكبرائه.

ويحتاج المؤرخ في كل مصادره فكرية أو دينية — كما قلنا في تاريخ الفيلسوف١ — إلى البحث عن سببين؛ أحدهما معلن، والآخر مضمر؛ فقليلًا ما كان السبب الظاهر هو سبب النكبة الصحيح، وكثيرًا ما كان للنكبة غير سببها الظاهر سبب آخر يدور على بواعث شخصية أو سياسية تهم ذوي السلطان. ويسري هذا على الشعراء كما يسري على الفلاسفة، ويسري على الجماعات كما يسري على الآحاد.

ولقد نكب بشار ولم ينكب مطيع بن إياس وكلاهما كان يتزندق، ويهرف في أمور الزندقة بما لا يعرف، ولكن بشارًا هجا الخليفة، ومطيعًا لم يقترف هذه الحماقة؛ فنجا مطيع وهلك بشار، ولم يكن ابن رشد أول شارح لكتب الأقدمين؛ فقد سبقه ابن باجة إلى شرح بعضها وإن لم يتوسع في هذا العمل مثل توسعه، ولكن ابن باجة كان يحسن مصاحبة السلطان، وابن رشد لم يكن يحسن هذه الصناعة، فنكب ابن رشد ولم ينكب ابن باجة، ولم يغنِ عن الفيلسوف المنكوب أنه شرح الكتب، كما تقدم، بأمر من أبي الخليفة.

واشتغل بالفلسفة اليونانية غير ابن سينا وابن رشد أعلام من هذه الطبقة من طراز الكندي والفارابي والرازي، كما اشتغل بها أناس دون هذه الطبقة في الشهرة والمكانة، فلم يصب أحدهم بسوء من جراء تفكيره، ولم يصدهم أحد عن البحث والكتابة إلا أن تستدرجهم حبالة من حبائل السياسة، فينالهم منها ما ينال سائر ضحاياها، ولو لم يكن أسهم في مذاهب الفلسفة أو الدين …

•••

وربما كمنت السياسة وراء دعوات المتفلسفين كما كانت وراء المصادرة من جانب الدولة وحكامها؛ لأن الزندقة التي كانت تتستر بستار الفلسفة إنما كانت في ناحية من نواحيها ثورة مجوسية ترمي إلى هدم الدولة الإسلامية من أساسها، وإقامة الدولة الفارسية في مكانها.

وتنسب الزندقة في أرجح الأقوال إلى كلمة «زندا» التي كانت تطلق على شرح كتاب «زردشت» وتعليقات الديانة المجوسية، وربما عمد الخلفاء إلى أناس من العلويين فاتهموهم بالزندقة، على خلاف المعقول أو المنتظر من أسرة تقيم حقوقها في الخلافة على وراثة النبي — عليه السلام — والمحافظة على رسالته الدينية، ولكن الشبهة كانت تلحق بهم من الاشتراك في مقاومة الدولة ولو على غير تفاهم بين الفريقين. وكان أعوان الدولة يحشرونهم جميعًا في زمرة واحدة لتشويه الحركة العلوية بإلقاء الشبهة عليها من الوجهة الدينية.

أما فيما عدا السياسة وشبهاتها ومكائدها، فلم يصادر أحد من المشتغلين بالفلسفة لأنه يتفلسف، أو يخوض في بحث من البحوث الفكرية على تشعُّبها، وما لم يكن هذا المتفلسف عدوًّا مجاهرًا بمحاربة الدين والدولة ونشر الفتنة، فلا جناح عليه ولا قدرة لخليفة أو أمير على مصادرته باسم الإسلام.

ويصدق هذا من باب أولى على الفلسفة الإسلامية كما يصدق على الفلسفة الأجنبية، فلم تنقطع بحوث المعتزلة وعلماء الكلام لغير علة من علل السياسة لا تلبث أن تزول بزوال المعتلين بها.

وقد طرق المعتزلة وعلماء الكلام كل باب مغلق من أبواب الأسرار الدينية التي حجرت عليها الكهانات القوية في الديانات الأولى؛ فنظروا في العقيدة الإلهية، وفي أصول الخلق والوجود، وأحكام النبوءات، وعددوا الأقوال والآراء في كل بابٍ من هذه الأبواب على أوسع مدى، وأصرح بيان، ووسِعهم الإسلامُ جميعًا وإن ضاق بفريق منهم في بعض الأحيان.

•••

ومن البديهي أنَّ أشياع الفرق يخطئون في مناقشاتهم، وأنَّ الأمراء يخطئون في سياستهم، وأنَّ الدين يتبعه المخطئ والمصيب، والخادع والناصح، فليس حكم الإسلام في مباحث الفلسفة برأي هذه الفرقة في تلك، ولا هو بحيلة هذا الأمير أو ذاك فيما يقصدان إليه من مآرب السياسة، وإنما حكم الإسلام هو حكم الكتاب والسنة المتفق عليها.

وليس في الكتاب ولا في السنة كلمة واحدة تحجر على التفكير في شأن من شئون الفلسفة، أو مذهب من مذاهبها ما لم تكن في المذهب الفلسفي موبقة غير مأمونة على الشريعة، أو على سلامة الجماعة، فلا جناح على الفيلسوف أن ينظر فيما شاء، وأن يفصح عن وجهة نظره كما شاء …

وإذا بدا لنا أن نلتمس مقياس الحرية الفكرية من الواقع الماثل للعيان، أو من الناحية العملية التي تنكشف لنا في حياتنا اليومية؛ فهنالك إلى جانب الكتاب والسنة دليل على حرية الإسلام يتقرر بحكم التاريخ الواقع، ولا يلجئنا إلى تأويل الآيات والأحاديث. وهذا الواقع يقرر لنا دليله من روح الدين التي يوحي بها إلى جملة أتباعه في جملة عصوره.

فلم يكن من روح الإسلام التي أوحى بها إلى جماعاته أن يثير فيهم البغضاء للفكر والمفكرين، وأن يبيح لهم عقوبتهم بالتعذيب والإحراق والحرمان من حقوق الإنسان، ولم يكن هذا الدليل الواقعي من روح الإسلام مقصورًا على وطن أو سلالة فيقال: إنه مستمد من تراث ذلك الوطن أو تلك السلالة، ولكنه عم بلاد المسلمين جميعًا في عصور كثيرة، فلا يرجع به المؤرخ المنصف إلى وحي غير وحي الكتاب الكريم …

وتتجلى سعة الدين الإسلامي في موقف الفلاسفة منه، كما تتجلى في موقف الدين من الفلاسفة؛ فإن كبار الفلاسفة المسلمين قد خاضوا غمار الأفكار الأجنبية بين يونانية وهندية وفارسية، وعرضوا لكل مشكلة من مشاكل العقل والإيمان، وتكلموا عن وجود الله ووجود العالم ووجود النفس، وخرجوا من سبحاتهم الطويلة في هذه المعالم والمجاهل فلاسفة مسلمين دون أن يعنتوا أذهانهم في التخريج والتأويل …

ومنهم من ترجم أرسطو وأفلاطون إلى الإسلام فكرًا وتقديرًا، فلم يعسر عليه أن يذهب معهما إلى أقصى المدى في رأي العقل دون أن يخرج من حظيرة الدين …

•••

ونحن — فيما نعلم من مذاهب هؤلاء الفلاسفة الكبار — لا نرى فيلسوفًا قال في الخلق والخالق ما ينكره المسلم المؤمن بالله والوحي، أو جنح به التعبير الفلسفي إلى قول يأباه السامع الذي تعود التعبير عن مسائل الدين بلغته العربية، وأسلوبه المتعارف بين جمهرة المتدينين …

وأكبر الفلاسفة المسلمين الذين استوعبوا مسائل الفلسفة فيما وراء الطبيعة هم في الرأي الغالب بين مؤرخي الثقافة الإسلامية: أبو نصر الفارابي، وأبو علي ابن سينا في المشرق، وأبو الوليد بن رشد في المغرب، وكلهم قد اطلع على قسط وافر من فلسفة الحكيمين أفلاطون وأرسطو وطائفة من آراء الحكماء الآخرين، وليس فيهم من ذهب إلى رأي فيما وراء الطبيعة لا يذهب إليه الفيلسوف المسلم إذا تكلم بلغة الفلاسفة …

«والفارابي هو أول الفلاسفة المسلمين الذين تتلمذ لهم ابن سينا نوعًا من التلمذة … فقرأ له وانتفع بما قرأ في فهم مضامين الفلسفة اليونانية، وكان «المعلم الثاني» معلمًا كاملًا له في معضلات الفلسفة الإلهية بجملتها؛ لأنه أضاف مسائل الحكمة الدينية إلى مسائل الحكمة المنطقية، وأدخل مسألة التوفيق بين العقل والوحي في حسابه، وقد كانت من المسائل الحديثة في الإسلام فلم يبل فيها أحد بلاء الفارابي، ولا جاوز أحد فيها مداه الذي انتهى إليه وإن تبعه في هذا المجال كثيرون … ومن توفيقاته أنه سمى العقل الفعال بالروح الأمين، وسمى العقول بالملائكة، وسمى الأفلاك التي فيها العقول بالملأ الأعلى، وقال: إنَّ صفات الله الأزلية هي المثل الأولى …»

«والذي اتفق عليه جلة الثقات أنَّ فلسفة الفارابي فلسفة إسلامية لا غبار عليها؛ فلم ير فيها جمهرة المسلمين المعنيين بالبحث الفكري حرجًا ولا موضع ريبة، ولا نخالها تُغضب متدينًا بالإسلام أو بغيره من الأديان …»

فالمعلم الثاني يبرئ المعلم الأول — وهو أرسطو — من إنكار خلق العالم، ويفسر آراءه على وجه يرضاه المؤمنون بالله والنبوات …

«فالله عنده هو «السبب الأول»، والسبب الأول واجب الوجود.»

لأن العقل يستلزم وجوده، ولا يستطيع أن ينفيه بحال؛ فكل شيء له سبب، وكل سبب له سبب متقدم عليه، وهكذا إلى السبب الأول الذي لا يتقدمه سبب من الأسباب، وإلا وقعنا في الدور والتسلسل وهما باطلان …

«وهذا السبب الأول واحد لا يتكرر، بسيط لا يتغير؛ لأنه لو تكرر أو تغير لاختلف ووجب البحث عن سبب لاختلافه، وقد انتهت إليه جميع الأسباب …»

«هذا السبب الأول هو علة وجود كل موجود، ولا يمكن أن يكون العالم هو السبب الأول؛ لأنه متكرر متغير، فلا بد له من سبب متقدم عليه، ومن ثم تنقسم الموجودات إلى قسمين؛ قسم «واجب الوجود» يستلزم العقل وجوده لا محالة، وهذا هو السبب الأول، أو هذا هو الله سبحانه وتعالى، ويوصف بكل صفات الكمال دون أن يقتضي ذلك التعدد؛ لأن نفي النقائص المتعددة لا يقتضي التعدد، بل هو صفة واحدة معناها الكمال …»

«وقسم مفتقر إلى سبب، ووجوده ممكن، ولكنه ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل بسبب واجب، فهو مخلوق على هذا الاعتبار.»

قال الفارابي ينفي الظنة عن أرسطو في إنكار القول بخلق العالم: «ومما دعاهم إلى ذلك الظن أيضًا ما يذكره في كتاب السماء والعالم، أنَّ الكون ليس له بدء زماني، فيظنون عند ذلك أنه يقول بقدم العالم وليس الأمر كذلك؛ إذ قد تقدم فبين في ذلك الكتاب وغيره من الكتب الطبيعية والإلهية أنَّ الزمان إنما هو عدد حركة الفلك، وعنه يحدث، وما يحدث عن الشيء لا يشتمل ذلك الشيء.

ومعنى قوله أنَّ العالم ليس له بدء زماني أنه لم يتكون أولًا فأولًا بأجزائه كما يتكون البيت مثلًا، أو الحيوان الذي يتكون أولًا فأولًا بأجزائه، فإن أجزاءه يتقدم بعضها بعضًا بالزمان، والزمان حادث عن حركة الفلك، فمحال أن يكون لحدوثه بدء زماني، ويصح بذلك أنه إنما يكون عن إبداع الباري جل جلاله إياه دفعة واحدة بلا زمان، وعن حركته حدث الزمان …»

وعلى هذا يكون الخلق في رأي المعلم الثاني هو الإخراج من الإمكان إلى الفعل، ويكون الوجود بالفعل مصاحبًا للزمان. أما الوجود بالقوة فهو في علم الله الذي لا زمان له ولا مكان؛ لأن الله أبديٌّ لا أول له ولا آخر، وإنما يقترن الزمان بالموجودات المتحركات. وهذا ولا ريب اجتهاد من المعلم الثاني في تفسير كلام المعلم الأول، ولكنه استحسن هذا الاجتهاد؛ لأنه قرأ كتاب «الثيولوجية» أو الربوبية كما سمَّاه، وظنَّه من تواليف أرسطو، وهو من آراء أفلوطين وتفسير ملك الصوري وإسكندر الأفروديسي.

ولهذا استطرد الفارابي بعد الكلام السابق قائلًا: «ومن نظر في أقاويله في الربوبية في الكتاب المعروف بأثولوجية لم يشتبه عليه أمره في إثباته الصانع المبدع لهذا العالم؛ فإن الأمر في تلك الأقاويل أظهر من أن يخفى، وهناك تبين أنَّ الهيولي أبدعها الباري جل ثناؤه لا عن شيء، وأنها تجسمت عن الباري سبحانه ثم ترتبت …»

«وهذا في الحقيقة مستمد من كلام أفلوطين، وتوسع فيه إسكندر الأفروديسي، ثم جاء المعلم الثاني فتوسع في كلام الأفروديسي، وزاد عليه ما يوفق بينه وبين الدين، ولا سيما في مسألة العقول والأفلاك التي هي عند الفارابي من ملائكة الله.

ويؤخذ من شرح الفارابي لبعض كلام زينون الفيلسوف الرواقي، أنه اعتمد عليه أكبر اعتماد في مسألة العقول؛ ولهذا كان مذهب الفارابي جامعًا بين مذهب أرسطو عن الحركة، ومذهب أفلوطين عن الصدور، ومذهب أفلاطون عن المثل الأبدية، ومذهب الرواقيين في النفس العاقلة وانبثاثها في الأجسام … فمنذ الأزل وجدت الأشياء في علم الله، وهذا هو علة وجودها، والله جل وعلا يعقل؛ فالعقل الأول صادر عنه، فائض من وجوده.

وهذا العقل الأول هو الذي يحرك الفلك الأكبر، وتأتي بعده عقول الأفلاك المتوالية إلى العقل العاشر الذي يعقد الصلة بين الموجودات العلوية والموجودات السفلية …»

«فالوجود إذن ثلاث مراتب: أولاها الوجود الإلهي، وثانيتها وجود هذه العقول المتدرجة، وثالثتها وجود العقل الفعال. ومن هنا نفهم كيف تعددت الكثرة عن الواحد الذي لا يتعدد، وكيف جاءت الصلة بين المعاني المجردة والمحسوسات.»٢

«أما ابن سينا فعنده — كما عند أرسطو — أنَّ المادة الأولية والصورة والعدم هي الأصول الثلاثة التي عنها تصدر كل الأجسام الطبيعية، والعالم مخلوق لم يحدث في زمان، يقول ما فحواه: إنَّ هذه الكائنات إما أن تكون ممكنة الوجود جميعًا، وإما أن تكون جميعها واجبة الوجود، ومحال أن تكون ممكنة الوجود جميعًا؛ لأن الممكن يحتاج إلى علة تخرجه من حيز الإمكان إلى حيز الفعل، ومحال أن تكون واجبة الوجود جميعًا؛ لأنها بين متحركة تحتاج إلى محرك، وبين مركبة تحتاج إلى علة لتركيبها، ولا بد أن تسبقها أجزاؤها.

فهي إذن بعض ممكن الوجود، وبعض واجب الوجود، وواجب الوجود هو الذي لا نتصور عدمه؛ لأن عدمه يوقعنا في المحال. ومن المحال أن يكون واجب الوجود مسبوقًا؛ لأن الذي يسبقه يكون إذن أولى بالوجود، ومن المحال أن يكون مركبًا؛ لأن أجزاء المركب تسبقه وتحتاج إلى فاعل للتركيب والإيجاد، فهو أول، وهو جوهر بسيط منزه عن التركيب …»

«ولم يكن ابن سينا مبدعًا في كلامه عن واجب الوجود، أو ممكن الوجود؛ لأن الفارابي قد سبقه إليه، كما سبقه المعتزلة وبعض المتكلمين، ولكن ابن سينا قد أبدع تقسيم الوجود إلى واجب بذاته وممكن بذاته، ولكنه واجب بغيره؛ وبذلك وفق بين القائلين بقدم العالم وخلقه، فإن العالم ممكن بذاته، ولكنه واجب بغيره؛ لأنه كان في علم الله، وما كان في علم الله لا بد أن يكون …»

«وليس العالم حادثًا في زمان؛ لأن الزمان وجد مع العالم … تحرك العالم فوجد الزمان مع هذه الحركة، وإنما كان وجوده لأنه وجد في علم الله، فأخرجه الله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، والله قديمٌ بالذات، سرمدٌ لا يحيط به وقت ولا محل. فالعالم — كما كان في إرادة الله — قديم، وكما كان بالحركة مسبوق بذات الله، وهو سبق سرمدي لا يحده الزمان. وهنا يقول ابن سينا بالحركة الأولى كما قال أرسطو بها أو بالعلة الأولى.»٣

وقبل الاستطراد إلى تلخيص مذهب ابن رشد، نُلمُّ بالمسائل التي ثار عليها الخلاف بين الفلاسفة والفقهاء بعد عصر الفارابي وابن سينا، وكان أكثره خلافًا على التعبير دون المعاني الجوهرية، ويدور كله على مسائل أربع؛ هي: قدم العالم، وعلم الله بالجزئيات، وصفات الله، وخلود النفس بعد الموت …

«… وقد كانت لابن رشد آراء في كل مسألة من هذه المسائل ليست مطابقة لما فهمه الأوروبيون في القرون الوسطى، وليست مغايرة لها كل المغايرة، ولكنها آراء كان الفيلسوف حريصًا كل الحرص على أن يلتزم بها حدود دينه، ولا يخرج بها عما يجوز للمسلم أن يعتقده وأن يُعلِّمه للمسلمين. وسنرى مبلغ ما أصابه من التوفيق في هذا التوفيق:

يقول ابن رشد عن قدم العالم في كتابه فصل المقال: وأما مسألة قدمه أو حدوثه؛ فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعًا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء، وذلك أنهم اتفقوا على أنَّ ها هنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين، واختلفوا في الواسطة.

فأما الطرف الواحد فهو موجود، وُجد من شيء غيره وعن شيء؛ أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه … وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك، فهذا الصنف اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة … وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان، وهذا أيضًا اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديمًا، وهذا الموجود يدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى، وهو فاعل الكل وموجده والحافظ له سبحانه وتعالى قدره.

وأما الصنف من الوجود الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، أي عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره، والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم … فإن المتكلمين يسلمون أنَّ الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك؛ إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام …»٤

وأما علم الله بالجزئيات، فابن رشد يقرر فيه أنَّ علم الله يتنزه أن يكون كعلم الإنسان الذي يحدث بعد حدوث المعلوم؛ فإن الله يعلم كل شيء، ولا يتوقف علمه على حدوث جزء بعد جزء من هذه الأشياء …

وأما مسألة الصفات، فلم تكن موضع بحث عند الفلاسفة الإغريق، ولم يكن لها شأن كبير عند فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى، ولكنها أثارت الجدل الطويل بين علماء الكلام والمعتزلة والفلاسفة المسلمين، ومثال الجدل فيها أنَّ بعض الفلاسفة يقولون: إنَّ صفات الله هي غير ذاته، وإنَّ الصفات ليست بزائدة على ذات الله؛ لأن ذاته سبحانه وتعالى كاملة لا تتعدد، وغير هؤلاء الفلاسفة يردون عليهم ليوفقوا بين تعدد الصفات ووحدانية الله …

«ولتمحيص القول بخلود النفس عند ابن رشد ينبغي الرجوع إلى مذهب أرسطو في النفس والعقل؛ لأنه إذا صح ما قيل من أنَّ توما الأكويني نصَّر أرسطو٥ فأصح من ذلك أنَّ ابن رشد حنَّفه؛ أي جعله مسلمًا حنيفًا، واجتهد في تنقيته من كل ما يخالف العقيدة الإسلامية غاية اجتهاده.

وقد أعان ابن رشد على ذلك أنَّ كلمة الروح عندنا تشمل معنى النفس والعقل معًا في معظم معانيها، فالنفس تقرن بالشر والذم في كلامنا، وقلما تقرن الروح بمثل ذلك، فإذا قيل نفس شريرة على العموم، فمن النادر أن يقال ذلك عن الروح وعن الروحاني؛ لأن الروحانيات أشرف وأصفى من ذاك.

وقد تكلم أرسطو عن النفس والعقل في كتاب الأخلاق وفي كتاب النفس، ووضح في كلامه عن العقل أنه ينطبق أيضًا على الروح، كما قال في كتاب الأخلاق عن السعادة العليا للإنسان، وهي سعادة التأمل، ثم قال: مثل هذه الحياة ربما كانت أرفع جدًّا مما يستطيعه الإنسان؛ لأنه لا يحيا هذه الحياة باعتباره إنسانًا؛ بل يحياها بمقدار ما فيه من النفحة الإلهية.

والفرق بين هذه النفحة الإلهية وبين تركيبنا الطبيعي كالفرق بين عمل ذلك الجانب الإلهي وعمل الفضائل الأخرى، وإذا كان العقل إلهيًّا فالحياة على مثاله إلهية بالنسبة إلى المعيشة الإنسانية، وعلينا ألا نتبع أولئك الذين ينصحون لنا ما دمنا بشرًا أن نشتغل بهموم البشر، وما دمنا فانين أن نعمل عمل الفانين؛ بل علينا ما استطعنا أن نعمل عمل الخالدين، وأن نحفز كل عرق من عروقنا حتى نسمو إلى مرتبة أرفع ما فينا — وإن قل وصغر — لأقدر وأكمل من كل شيء عداه …»

«أما النفس عند أرسطو فتكاد أن تكون في أكثر مصطلحاته مرادفة للوظيفة الحيوية؛ ولهذا ينسب إلى النبات نفسًا نامية، وإلى الحيوان نفسًا شهوانية، ويسخر من فيثاغوراس الذي يقول: إنَّ نفس الإنسان قد تنتقل إلى الحيوان، ويرى أنَّ السؤال عن العلاقة بين النفس والجسد كالسؤال عن العلاقة بين الشمعة وصورتها، فلولا صورة الشمعة لكانت شحمًا ودهنًا ولم تكن شمعة، ولولا نفس الإنسان لكان الإنسان لحمًا وعظامًا وعصبًا ولم يكن بالإنسان.»٦
«وابن رشد يؤمن ببقاء الروح الإنساني حيث يبقى عالم الروح كله، فليس هو من الفلاسفة الماديين؛ لأن هؤلاء الفلاسفة الماديين لا يؤمنون بروح للإنسان في هذا العالم، أو في عالم آخر، وليس بين الفلاسفة الإلهيين من ينكر بعث الأجساد إنكارًا منه لقدرة الله على بعثها، ولكنهم يقولون: إنَّ الأرواح المفارقة أشبه بالعالم الأعلى. ومن آمن بالله، وآمن بقدرة الله، وآمن بالبعث والعالم الأعلى فما هو من الملحدين …»٧

هذه العجالة السريعة تلخص موقف الفلاسفة من الإسلام، وموقف الإسلام من الفلاسفة، ويبدو من كلا الموقفين أنَّ العقيدة الإسلامية لم تنقبض عن لقاء الثقافات الأجنبية عند التقائها بها في المفاجأة الأولى. وأحرى بهذه العقيدة الشاملة ألا تضيق بثقافة من الثقافات بعد اتصال الأمم، واستفاضة العلاقة بين معارفها وعقولها؛ فلا يزال موقف الإسلام من حكمة الحكماء في العصور الأخيرة كموقفه منها في صدر الدعوة الإسلامية، وبعد أجيال قليلة من شيوع الدعوة بين مختلف الأقوام والشعوب.

وموقفه اليوم — كموقفه بالأمس — أنه لا يضيق بالفلسفة؛ لأنها تفكير في حقائق الأشياء؛ لأن التفكير في السماوات والأرض من فرائضه المتواترة، ولكن المذاهب الفلسفية قد يظهر فيها ما يضيق بالإسلام، ويخالفه حينًا بعد حين. ولا تثريب على عقيدة تخالفها بعض العقول؛ لأن العقائد لا تطالب بموافقة كل عقل على سواء أو على انحراف، وحَسبُها من سماحة أنها لا تصد عقلًا عن سواه …

١  راجع كتاب العقاد: «ابن رشد».
٢  تراجع رسالة الشيخ الرئيس ابن سينا لمؤلف هذا الكتاب.
٣  تراجع رسالة الشيخ الرئيس ابن سينا للمؤلف.
٤  تراجع رسالة ابن رشد للمؤلف.
٥  أي جعله نصرانيًّا.
٦  تراجع رسالة ابن رشد للمؤلف.
٧  تراجع رسالة ابن رشد للمؤلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤