الفصل السادس

الفن الجميل

كثرة الأنصاب والتماثيل في المعابد والبِيَع ليست بالمقياس الصحيح لنصيب الفنون الجميلة من الدين الذي يدان به في المعبد أو البيعة؛ لأن المعابد الوثنية كانت تتسع للأنصاب والتماثيل، وليست بالنموذج الصالح للأديان في الهداية إلى معاني الجمال والحض على الفنون الجميلة، وهي في جملتها لا تخلو من العبادات البشعة، والشعائر القبيحة، والعقائد التي لا تجتمع والجمال في شعور واحد.

إنما يقاس نصيب الفن الجميل من الدين بنظرة الدين إلى الحياة؛ فلا يقال عن دين إنه يحيي الفنون الجميلة أو يتقبل إحياءها إذا كانت له نظرة زرية إلى الحياة، وكان ينظر إليها كأنها وصمة زرية، وإلى الجسد ومتاعه كأنه رجس مرذول، وانحراف بالإنسان عن عالم الروح والكمال.

ولا يقال عن دين إنه يزدري الفن الجميل إذا كان الجمال من مطالبه، وكانت نعمة الحياة مقبولة في شرعة المتدين به؛ بل واجبة عليه.

والإسلام بين الأديان قد انفرد بقبول نعمة الحياة وتزكيتها، والحض عليها، وحسبانها من نعمة الله التي يحرم على المسلم رفضها، ويؤمر بشكرها، وغيره من الأديان بين اثنتين: فإما السكوت عن التحريم والإيجاب معًا، أو التصريح القاطع بالتحريم والتأثيم.

أما الإسلام فإنه يحل الزينة، ويزجر من يحرمها، ويصف الله بالجمال، ويحسب الجمال من آيات قدرته وسوابغ نعمته على عباده.

ففي خلق الأرض زينة، وفي خلق السماء زينة.

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الكهف: ٧]. وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [سورة الحجر: ١٦]. أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا [سورة ق: ٦].

ومن خلائق الله جمال يطلبه الإنسان كما يطلب البأس والمنفعة. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [سورة النحل: ٦].

وكل من حرم هذه الزينة على الناس فهو آثم لا يقضي في تحريمه بأمر الدين … قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [سورة الأعراف: ٣٢].

والزينة والعبادة تتفقان ولا تفترقان؛ بل تجب الزينة في محراب العبادة كأنها قربان إلى الله حيث لا قربان في الإسلام. يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف: ٣١].

والسنة النبوية فيما روي عنه عليه السلام وفيما أثر عن حياته مرددة كلها لمعاني الآيات القرآنية في تزكية النعمة، وإباحة الزينة، والنهي عن تحريم الأخذ بنصيب من الحياة الدنيا، والتعبد لله بتعظيم محاسن خلقه، ومحبة آيات الجمال في أرضه وسمائه.

قال عليه السلام: «إنَّ الله جميل يحب الجمال.»

وقال فيما ورد من تفسير قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [سورة فاطر: ١].

إنه هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن.

وقال: من له شعر فليكرمه.

وقال: إنَّ الله يحب كل جيد الريح كل جيد الثياب.

وأخبره بعض أصحابه أنه يقوم الليل ويصوم النهار فقال له: «لا تفعل؛ صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقًّا …»

وقد تواترت أمثال هذه الأحاديث في الأثر، واختلفت فيها الروايات، ولكنها لم تختلف قط في معناها ومؤداها؛ لأن حياة النبي الكريم كلها مصداق للإيمان بحق الجسد مع حق الروح.

والدين الذي ينظر إلى الحياة والجمال هذه النظرة القويمة السوية لا يسوغ لأحد أن يظن به تحريمًا لشيء من الفن الجميل، أو نهيًا عن شيء يُجمِّل الحياة، ويَحسُن وقعًا في الأبصار والأسماع. وإنما سبقت الظنة إلى هذا الخطأ لتشديد الإسلام في منع عبادة الأوثان، ومنع ما يصنع لعبادتها من التماثيل والأنصاب، ولم ترد في الكتاب كلمة تنهي عن عمل من أعمال الفن الجميل، ولم يثبت عن النبي — عليه السلام — قول قاطع في تحريم صنعة غير ما يصنع للعبادة الوثنية، أو ما تخشى منه النكسة إليها في نفوس أتباعها ومن يفتنون بجهالتها …

روى الأزرقي في أخبار مكة: «أنَّ النبي — عليه السلام — لما دخل الكعبة بعد فتح مكة قال لشيبة بن عثمان: يا شيبة … امحِ كل صورة فيه إلا ما تحت يدي … قال: فرفع يده عن عيسى بن مريم وأمه».

وهذه الرواية يقابلها أنَّ النبي — عليه السلام — لم يدخل الكعبة إلا بعد أن أزيلت منها الصور القائمة فيها، أو المنقوشة عليها؛ فإن حقت الرواية وصح أنه — عليه السلام — قد ترك بعض الصور، وأمر بإزالة بعضها، فليس في ذلك تحريم للصور على إطلاقها، وإن حقت الرواية الأخرى وكانت الصور قد أزيلت من الكعبة بأمره — عليه السلام — قبل دخوله إليها، فما فعله صلوات الله عليه، فهو الحكمة التي تفضي بها ضرورة الحيطة في أوائل كل دعوة تخشى فيها النكسة إلى ما سلفها من دعوات محظورة. وما من دعوة في عصرنا هذا تستغني عن مثل هذه الحيطة الواجبة فيما تحذره من نكسات العهود الغابرة.

على أنَّ الخلاف في صور الكعبة ينقطع بما لا شك فيه من آيات القرآن، وذلك فيما ورد من بيان نعمة الله على سليمان — عليه السلام — ولا إنكار عليه؛ بل هو موجب للشكر من القوم جميعًا كما جاء في هذه الآيات: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سورة سبأ: ١٣].

والقاعدة العامة في الإسلام أنه لا تحريم حيث لا ضرر ولا خشية من الضرر. فأما مع المنفعة المحققة فلا تحريم، ولا جواز للتحريم؛ لأنه فوات للمصلحة، ونهي عن المباح.

وممن تناول البحث في موضوع التصوير من المحدثين صاحب مجلة «الهداية»، الأستاذ عبد العزيز جاويش؛ حيث يقول: «إنه ليس المراد تعميم التحريم في كل زمان أو كل أمة؛ فإنه لا معنى لذلك الحجر متى أمن جانب العبادة والتعظيم اللذين اختص الله بهما. وكيف يحرم التصوير مطلقًا مع أنه قد يكون سببًا في حفظ حقوق شرعية، كما هو الشأن في صور الغرقى والأموات المجهولين التي تعرضها الحكومة على الملأ حتى يعرفهم ذووهم، فتقوم هناك أحكام المواريث، وأحكام الزوجية، وحلول الديون المعجلة ونحو ذلك.

وقد يكون التصوير سببًا في تحذير الأمة من اللصوص المحتالين، والنصابين المستترين عن أعين الحكومة، فتنشر صورهم للملأ حتى يقتفوا أثرهم، ويرشدوا الحكومة إلى معاهدهم. ومن الصور ما تعرف به أسرار حكم الله تعالى في خليقته، كما في صور الحيوانات وأجزائها التي تحتويها كتب التاريخ الطبيعي والتشريح.

كما أنه من ضروب التصوير ما يساعد على علاج المرضى بعلل باطنة، أو المصابين ببنادق الرصاص ونحوها؛ كالتصوير بأشعة رنتجن الشهيرة. ومن القواعد الأصولية الشرعية أنَّ للوسائل أحكام الغايات والمقاصد؛ فإذا كانت الصور تتوقف عليها بعض أحكام شرعية، أو معالجات طبية، أو كشف مسائل علمية كان اتخاذها ولا شك من المرغوب فيه شرعًا، وإن كانت لمجرد الزينة واللهو المباح كان اتخاذها مباحًا. فأما إذا كانت تتخذ للتعظيم والعبادة والتبرك ونحو ذلك؛ فهي حرام قطعًا، مُعذَّب صانُعها ومُعذَّب مُتَّخذها …»

ولا نعلم أحدًا من المسلمين خاصتهم وعامتهم يزوي وجهه أمام تحفة من تحف الفن حيث تؤمن النكسة إلى العبادات الوثنية، وقد كان الشيخ محمد عبده — الإمام المصلح المجتهد — يزور معاهد الفن، ويكتب عنها، ويستحسن حفظ آثارها النادرة، وتحفها النفيسة؛ لأنها من قبيل حفظ العلم، وتصوير خفايا النفس الإنسانية.

ومما كتبه في ذلك فصل من فصول الرحلات بتوقيعه في تلك الرحلات، نشرته مجلة «المنار» عن دور الصور والآثار في جزيرة صقلية، يقول فيه:

ولهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق، ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى؛ كالصقليين مثلًا، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك غريب، حتى إنَّ القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلًا ربما تساوي مائتين من الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهم هو التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن من أفضل ما ترك المتقدم للمتأخر.

وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة، وكان القوم عليه أشد حرصًا. هل تدري لماذا؟ … إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر، وضبطه في دواوينه، والمبالغة في تحريره، خصوصًا شعر الجاهلية وما عُني الأوائل — رحمهم الله — بجمعه وترتيبه؛ أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى.

إنَّ هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، ويصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى والطمأنينة والتسليم.

فهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا، ويصورونه مثلًا في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعًا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما مختلفان حقيقة.

ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع، ومتى يكون الجزع، وما الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك. فأما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت، فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك إذا نزعت نفسك إلى تحقيق الاستعارة المصرحة في قولك: رأيت أسدًا؛ تريد رجلًا شجاعًا، فانظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الكبير تجد الأسد رجلًا أو الرجل أسدًا.

فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها. إن كنت فهمت من هذا شيئًا فذلك بغيتي، وأما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا، وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المفلقين يوضح لك ما غمض عليك إذا كان ذلك من ذرعه …

ثم يستطرد الأستاذ الإمام إلى الحكم الشرعي في هذه الصور والتماثيل، فيقول:

ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية، أو أوضاعهم الجسمانية؟ هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: إنَّ الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان.

فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالًا إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث: «إنَّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إنَّ الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين؛ الأول: اللهو، والثاني: التبرك بمثال مَن ترسم صورته من الصالحين.

والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمُصوَّر في الحالين شاغل عن الله، أو مُمثل للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان، وقصدت الفائدة؛ كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صُنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أنَّ الفائدة في نفس المصاحف موضع النزاع، وأما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر.

على أنَّ شبهة العبادة الوثنية تزول عند النظر إلى فن السماع — أو فن الغناء والموسيقى — لأنه من الفنون التي لا غبار عليها، ولا تحريم لشيء منها إلا ما كان ممتزجًا بالخلاعة، أو مثيرًا للشهوات؛ فالتحريم هنا لا يخص الفن الجميل، بل يعم الخلاعة والشهوة وكل ما يمتزج بالمحظورات على اختلافها. وقد يحرم اللباس الخليع أو الحديث الخليع فلا يقال: إنَّ هذا التحريم يمنع الكساء، أو يمنع الكلام، ولكنه يمنع ما هو ممنوع، ويبيح ما عداه.

والمسلمون مأمورون بترتيل القرآن لا يرون في قداسته ما ينهاهم أن يقرءوه ويسمعوه مرتلًا في المساجد والمحاريب؛ بل يرون في ذلك معوانًا على بلاغ أثره، وطمأنينة الإصغاء إليه. وأحرى أن يكون ذلك الشأن ما يطرق الأسماع منغومًا من سائر الكلام.

ولو كان في الغناء ما يكره أو يعاب؛ لكان أولى الناس أن يمنعه رجل كعمر بن الخطاب في صرامته وشدته على نفسه وعلى غيره في رعاية أحكام دينه، ولكنه رضي الله عنه كان يبيح الغناء ويدعو إليه، ومن أخباره في ذلك ما رواه نائل مولى عثمان بن عفان قال: «خرجت مع مولاي عثمان بن عفان في سفرة سافرناها مع عمر في حج أو عمرة، وكان عمر وعثمان وابن عمر أيضًا، وكنت وابن عباس وابن الزبير في شبان معنا، ومعنا رباح النهري فقلنا له ذات ليلة:١ احْدُ لنا، قال: مع عمر؟! قلنا: احْدُ؛ فإن نهاك فانتهِ.٢ فحدا، حتى إذا كان السحر قال له عمر: كف؛ فإن هذه ساعة ذِكْر.

فلما كانت الليلة الثانية قلنا: يا رباح، انصب لنا نصب العرب، قال: مع عمر؟! فقلنا كما قلنا بالأمس: إن نهاك فانتهِ. فنصب لنا نصب العرب حتى إذا كان السحر قال له عمر ما قاله أمس، فلما كانت الليلة الثالثة قلنا له: يا رباح، غننا غناء القيان، فقال: مع عمر؟! قلنا: إن نهاك فانتهِ. فغنَّى، فوالله ما تركه أن قال له: كف؛ فإن هذا ينفر القلوب.»

وجاءه قوم فقالوا: إنَّ لنا إمامًا يصلي بنا العصر ثم يغني بأبيات، فقام معهم إلى منزله، واستنشده تلك الأبيات، فأنشده الأبيات التالية:

وفؤداي كلما نبهته
عاد في اللذات يبغي تعبي
لا أراه الدهر إلا لاهيًا
في تماديه فقد برح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا؟
فنِي العمر كذا في اللعب
وشباب بان مني ومضى
قبل أن أدرك منه أربي
نفس!٣ لا كنت ولا كان الهوى
اتقي المولى وخافي وارهبي

فجعل عمر يقول: نفس لا كنت ولا كان الهوى، وصار يبكي ثم قال: من كان منكم مُغنِّيًا؛ فليغن هكذا …

وروي عنه أنه خرج للحج ومعه خوات بن جبير، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، فسأل القوم خواتًا أن يغني من شعر ضرار، فقال عمر: دعوا أبا عبد الله؛ فليغن من بنيات فؤاده، قال خوات: فما زلت أُغنِّيهم حتى كان السحر، فقال عمر: ارفع لسانك يا خوات؛ فقد أسحرنا.

ومن قال: إنَّ ابن الخطاب كان أشد الخلفاء صرامة في النهي عن المحظور لم يبالغ في وصفه، ولم يقل عنه ما يأباه أو يأباه له عارفوه ومحبوه، وها هو ذا يستمع إلى الغناء بالشعر فيستمع إلى فنين من أعم الفنون الجميلة بين الناس، ولا ينكر الغناء لذاته، ولا الشعر لذاته، وإنما ينكرهما إذا اشتملا على لهو «ينفر القلوب» كما قال.

ولعل خاطرًا يخطر على البال في أمر الشعر لما ورد عن الشعراء في القرآن الكريم، وأنهم يتبعهم الغاوون، وفي كل واد يهيمون …

ولكن هذه الصفة إنما قيلت في الرد على المشركين الذين كانوا يقولون عن النبي — عليه السلام — تارة أنه ساحر، وتارة أنه شاعر، ففيها بيان للفرق بين النبوة والشعر، وبين الكلام الذي يهدي إلى الرشد، والكلام الذي تتبعه الغواية، والرجوع إلى الآية يدل على الشعراء المقصودين بتلك الصفة، فلا يوصف بها شاعر مؤمن يعمل الصالحات …

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة الشعراء: ٢٢٤–٢٢٧].

وقد حدث عند نزول هذه الآية — كما روى أبو الحسن مولى تميم الداري — أنَّ حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك جاءوا إلى رسول الله وهم يبكون فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنَّا شعراء … فتلا النبي : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

فليس الشعر منهيًّا عنه لأنه شعر، ولا لأنه كلام موزون؛ إذ قد يتفق الوزن لبعض آيات الكتاب، كما جاء في تفسير روح المعاني للسيد محمود الألوسي منسوبًا إلى بعض المتأولين؛ إذ يقول: إنهم تأولوا عليه ما جاء في القرآن مما يكون موزونًا بأدنى تصرف؛ كقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ [سورة الإسراء: ٣٣].

ويكون بهذا الاعتبار شطرًا من الطويل، وكقوله سبحانه: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ [سورة القصص: ٧٦] ويكون من المديد.

وكقوله عز وجل: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [سورة الأحقاف: ٢٥] ويكون من البسيط.

وقوله تبارك وتعالى: أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [سورة هود: ٦٠] ويكون من الوافر، وقوله جل وعلا: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة الأحزاب: ٥٦] ويكون من الكامل.

إلى غير ذلك مما استخرجوه من سائر البحور، وقد استخرجوا منه ما يشبه البيت التام كقوله تعالى: وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [سورة التوبة: ١٤].

فليس الوزن الذي يتفق أن يكون في الكلام المرسل منهيًّا عنه، وليس الشعر منهيًّا عنه لأنه وزن منظوم، وإنما المنكر في الشعر ما ينكر في كل كلام يجري بالسوء، أو يغرى به ويستدرج النفوس إليه، وما عدا ذلك من الشعر، فقد كان يسمعه النبي — عليه السلام — ويجيز عليه، وكان يحفظه الخلفاء الراشدون وأئمة المسلمين.

وقد نظمت أحكام الفقه الإسلامي في بحور موزونة، كما نظمت متون العلم واللغة في هذه البحور، فلا حرج في هذا الفن الجميل ما لم يكن حرجًا يعرض للفنون وغير الفنون …

ويقاس الحديث من الفنون على الفنون التي أبيحت في صدر الإسلام، فما استحدث من قبيلها بعد ذلك فهو مباح مثلها، وما لم يكن معهودًا يومئذٍ فالمعول فيه على حكم الضرورة والمنفعة، واجتناب الضرر والفتنة، يباح ما تدعو إليه الضرورة ولا ضرر فيه، ويحظر ما يخشى منه الضرر، ولا حاجة إليه، ولا مسوغ لوجوده.

وقد حدث مثلًا في عهد النبي — عليه السلام — أنه شهد زفن الحبشة — أي رقصها القومي — وشهدته معه السيدة عائشة — رضي الله عنها — فما كان من قبيل هذه المناظر العامة فلا جناح عليه …

•••

وموضع المراجعة في فن التمثيل الحديث ما ورد في القرآن الكريم من نهيه المرأة أن تتبرج تبرج الجاهلية، وأن تبدي زينتها للغرباء إلا ما ظهر منها. وقد أسهبت كتب التفسير في بيان المقصود بما ظهر من الزينة، ولخصها الإمام النسفي فقال: «إلا ما ظهر منها، أي ما جرت الجبلة والعادة على ظهوره، وهو الوجه والكفان والقدمان، ففي سترها حرجٌ بَيِّن، فالمرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن …»

وفي تفسير الحافظ ابن كثير حديث مرفوع إلى السيدة عائشة — رضي الله عنها — قالت:

إنَّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: «يا أسماء، إنَّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يعلم أن يرى منها إلا هذا.» وأشار إلى وجهه وكفيه …

والمتفق عليه أنَّ المرأة لا يباح لها أن تبدي زينتها إلا للضرورة مع أمن الضرر والفتنة، فإذا ثبتت ضرورة لظهورها في حالة من الحالات تمتنع فيها الفتنة، ويؤمن فيها الضرر؛ فحكم الشرع في هذه الحالة معلوم لا خلاف عليه.

وليس من الحق أنَّ فن التمثيل يضيق بالمباح المقبول من الشريعة الإسلامية، وأنه لا يحيا ولا يزدهر بغير ترخص فيها وخروج عنها؛ فإن تاريخ التمثيل الحديث يشهد بمخالفة هذا الزعم للحقيقة الواقعة؛ لأن التمثيل قد عاد إلى الحياة ونما وازدهر في القرن السابع عشر، يوم كانت أزياء النساء في أوروبا لا تبدي من المرأة غير الوجه والكفين، وقد تحجب الكفين بالقفاز أو الأكمام الطوال، وكانت ملابس المرأة يومئذ كملابس القرون الوسطى تفيض حول وسطها حتى تستر قوامها، وربما تعذر عندهم في إبان يقظة التمثيل أن تظهر المرأة على المسرح؛ لجهلها بالقراءة وعجزها عن الحفظ والفهم عن الملقن على مقربة منها. وإنَّ لها من مباحات الإسلام رخصة أيسر من هذه الرخصة، ومجالًا أرحب من هذا المجال.

وربما ضاقت بالتمثيل عقيدة تعلم أبناءها نبذ الحياة، والحذر من النظر في حكمة التحريم والتحليل … أما الدين الذين يعلم مَن يدين به أن يحب الحياة، وأن يحتكم إلى فكره؛ فلا خوف منه على هذا الفن أو على سواه من فنون الحياة والجمال.

١  احْدُ: فعل الأمر من الحداء، وهو الغناء للإبل في السفر.
٢  انته: فعل الأمر من انتهى ينتهي.
٣  نفس أي يا نفسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤