أحمد المجلس البلدي

أنَّى تذهب كنت تجد أحمد العقلة … نجارًا تلقاه، حلاقًا تلقاه، تاجرًا في مخلفات الجيش تلقاه. ثم هو بعد هذا يجيد شغل الآلاتية، وكي الناس للشفاء من الأمراض، وجس البهائم العُشر، والقيام بأعمال الأبونيه وتعهدات فرق المزيكا والرقص، وإصلاح الكلوبات والبوابير في الأفراح، وحتى في «تلتيم الموتى» تلقاه.

ومع هذا كله فقد كان بساق واحدة.

أو على وجه الدقة بساقين؛ ساق خلقها الله، وساق صنعها بنفسه على هيئة عكَّاز عظيم الشأن، تفنن في مسحه وتنعيمه وتزويقه، وحفر الحمام والعصافير والنساء الممسكات بسيوف عليه.

وإذا كانت ساقه التي خلقها الله وسوَّاها تمشي في أمان الله وبصوت غير مسموع، فساقُه التي خلقها هو لها دبيب معروف، وفي أي مكان من البلد يمكن أن تسمعه … على الترعة، وعند المحطة، وفي القهوة، وفوق أسطح البيوت، وأحيانًا في كل الأماكن مجتمعة. ساق يستطيع أن يعدي بها المصارف، ويقفز بها من فوق أكياس القطن، وينزل بها في «الباط» لشباب البلد ويغلبهم، ويدخل معهم في مسابقات جَرْي على السكة الزراعية … والغريب أنه يفوز.

وأحمد العقلة لا تستطيع أن تحدد له سنًّا أو هيئة أو حرفة حتى ولا قامة … إذا أردته قصيرًا وجدته، طويلًا وجدته، أحيانًا تبدو لك عينه اليسرى عوراء عن بُعد وسليمة عن قرب، وتبدو اليمنى أحيانًا كذلك، وله كتِف أعلى من كتف، ووجه لا يريك إياه. وإنما إذا حادثته ظل كالحمار الذي تحاوره ذبابة يخفضه ويعليه، وينظر إلى جانب أو آخر، كأنما يلهيك عن رؤية وجهه؛ ربما لعلمه أنه لا يخضع خضوعًا حرفيًّا لمقاييس الجمال المتعارف عليها.

إذا ضحك لا يضحك، وإذا حزن لا يحزن، وإذا تكلم تَهْته. وهو كثير الأسفار كثير الغياب، كثير المشاريع والتقاليع، يبدأ عملًا من الأعمال أو حرفة من الحرف وينجح فيها، حتى إذا ما بلغ قمة النجاح تركها فجأة وبلا مقدمات إلى غيرها. قيل مرة إنه لو حافظ على ما كسبه؛ لأصبح من ذوي الأطيان، ويطير هو دائمًا وراء القائل مهددًا إياه بعكازه، لاعنًا أباه وأبا الأطيان.

تجده يومًا في البلد ويومًا في القاهرة ويومًا في العريش، ويومًا جالسًا على قهوة بلدي في السلوم يروي لعربي بعقال حادثًا غريبًا وقع له في عنيبة على الحدود بين مصر والسودان، ومقسمًا بالله العظيم وبرحمة أبيه أنه حدث.

وإذا سافر سافر بالإكسبريس؛ فهو لا يطيق بطء القشَّاش، وإذا ركبه، ركبه في الدرجة الأولى العليا أي فوق سطح القطار، وإذا أراد أن يهبط لا يهبط كبقيَّة خلق الله في المحطات، بل يهبط بين محطتين، والإكسبريس مارق بأقصى سرعة.

وكل شيء فيه يتحرك، ودائم التحرك … يده تتحرك لتقص شعر واحد بطريقة مدهشة للغاية، أو تمتد إلى كيس خفي، وتخرج منه ولَّاعة غريبة الشكل صنَعَها بنفسه لتفرجك عليها، أو تقبض على يد أخرى، وتضغط عليها وتكاد تكسرها للهزل ليس إلا.

ولسانه دائم التحرك، يعدل حكاية رواها أحدهم ويكذِّبه فيها، أو يلقي إليك بخبر يذهلك، أو يخرجه لبنت حلوة يتصادف مرورها أمام الدكان.

وإذا حلق أحيانًا لا يطلب من بعض زبائنه أجرًا، وأحيانًا يطير وراء الزبون من هؤلاء مطالبًا بأجره، مهددًا بضربة عُظمى من عكَّازه … وممكن أن تدخل دكانه فتجد نفسك وكأنك في متحف، فالدكان عشة من البوص أقامها بنفسه وطلاها بنفسه وبيضها بنفسه، ونقَش أسفلها وأعلاها بنفسه أيضًا. واللمبة الغاز من صنع يده، بل هو أيضًا صانع البرنيطة التي تحجب ضوءها عن السقف … وهو الذي دندشها بالرسوم والنقوش والآيات القرآنية … ولا بد أن يفتح لك صندوقًا من داخل الصناديق، ويخرج لك ماكينة حلاقة جديدة تلمع، ويقسم بالأيمان المغلظة أنه أرسل في طلبها من ألمانيا، وأنها جاءت باسمه رأسًا. ولا تدهش إذا عثرت في ركن من أركان الدكان على تلسكوب، أو ميكروسكوب «يستعمل عدساته لإِشعال السجاير من ضوء الشمس»، أو مدفع مترليوز من مخلفات الجيش.

ثم قد تجد نموذجًا مصغَّرًا لطنبور اخترعه أحمد العقلة، يديره أمامك ويفرجك عليه قطعة قطعة معددًا مزاياه التي تتلخص في أنه ينقل كمية أكبر من الماء، ويمنع الفلاح من الإصابة «بالبلهاريسيا» … وتتفرج عليه، ولا تجد فيه أي شيء ممكن أن يميزه عن الطنبور العادي المستعمل فعلًا، وتقول لأحمد هذا، فيبتسم دون أن يبتسم، ويقول لك: اته … اته … اته … اش اش فهمك ف ف الاختراعات … ومع هذا فلو أعجبك الطنبور أو الميكروسكوب، أو حتى ماكينة الحلاقة الواردة رأسًا من ألمانيا، فلا تنزعج إذا ناولها أحمد لك وأقسم بالله العظيم أنها: ما ماما هي عادت تابعاه.

غير أن أهم شيء في أحمد العقلة أنه لم يكن يطيق رؤية الأعوج ولا يصلحه. إذا رأى أن الكوبري الذي يصل ما بين البلدة والمحطة مهدد بالانهيار، فسرعان ما تجده قد خلع جلبابه، وأدار عكازه كالسيف الطائح في كل اتجاه، وأحضر أخشابًا وأسمنتًا وحجرًا لا تدري من أين، وأصلح الكوبري. وإذا وجد كومة تراب تسد الطريق وتعاكس مرور العربات الداخلة إلى البلدة والخارجة منها، فستجده حالًا قد استعار فأسًا من دار قريبة، ونزل في التل خبطًا وعزقًا حتى سواه. «كيف يستعمل الفأس وهو يرتكز على عكاز؟ مسألة أخرى». وإذا خربت طلمبة الجامع يضيق بمحاولات عم باز القاتلة البطء لجمع ثمن إصلاحها من المصلين، وستجده حتمًا هو الذي لا يصلي، ويتخلص بمهارة من المحاولات التي تبذل لحمله على الصلاة، ستجده قابعًا بجوارها يدق «قلبها» ثم يستمع، وأحيانًا لا تفعل محاولاته أكثر من أن تزيد فسادها فسادًا، ولكنه في أحيان يظل يقاوح حتى يصلحها.

إذا احتجت طُعمًا لتصطاد السمك دلَّك على أحسن مكان تجد فيه الطُّعم، بل في أغلب الأحيان يستأذن منك دقيقة، ثم يعود وفي يده كرة الطين المملوءة بالطُّعم. وإذا قلت إن نفسك في الذرة المشوية مثلًا، فثق أنه لن يهدأ حتى يسرق لك ملء حجره، ويشعل راكية نار ويشويها. وكل سعادته حينئذ أن يجلس يراقبك وأنت تلتهم الكيزان في نشوة، ووجهه قد احمرَّ وسال منه العرق من كثرة ما هفهف على النار ونفخ وقلَّب الكيزان. وإذا عزمت عليه أشاح بوجهه خجلًا، وقال لك بسعادة حقيقية: ﺑﻠ ﺑﻠ ﺑﻠ بالهنا واﻟﺸ ﺸ ﺸ ﻔﺎ. بالهنا والشفا.

وفي أي فرح لا بد ستجد عكازه يرتفع وينخفض ويزق وينزق، راقصًا مرة، حاملًا العريس على كتفه مرة أخرى. وهو الذي ينصب الدولاب والسرير، ثم هو الذي يعشي الناس، ويزكيه الجميع ليقف على حلة اللحم المسلوق، وتلك علامة الثقة المطلقة في أمانته … وفي أغلب الأحيان ينتهي الفرح دون أن يتعشى. وقد يسكت عن تضحيته هذه أيامًا، ولكن سيرة الفرح لا بد ستأتي ذات يوم، فيفلت لسانه رغمًا عنه ويقول: ود ود وديني ليلتها ما ما ما تعشيت.

وأحمد العقلة له مع ساقه قصة مشهورة، بدأت في ذلك اليوم الذي جاء فيه مفتش الصحة للكشف على أحد المتوفين في البلدة، وانتظره أحمد حتى خرج وارتبك كثيرًا وهو يحاول مواجهته والحديث إليه؛ فقد كان به ضعف من ناحية الأطباء، ويكن لهم بالذات احترامًا لا مزيد عليه، ربما من يوم أن بتر أحدهم ساقه … سأله أحمد عن حقيقة الإشاعات التي يسمعها، وتقول إن مستشفى القصر العيني يركب لمبتوري الساق أرجلًا صناعية مجانية. وأحسَّ الناس من سؤاله أن الموضوع الذي كانوا قد نسوه تمامًا لم ينسه أحمد للحظة واحدة. وأكد له الطبيب صحة الإشاعة، ولكنه قال له كلامًا يثبط أقوى العزائم؛ فقد قال إن عمل ساق صناعية مسألة في حاجة لجهود كبيرة وإقامة، ووساطات لا قبل لأحمد بها، ومن رأيه أن يريح نفسه ويوفر جهوده، ولم يفعل أحمد شيئًا أكثر من أنه ظل يهز رأسه، ويقول: ك ك ك كتر خيرك … كتر خيرك … وانسحب من أمام الناس الذين التفوا حوله وحول الطبيب والإشفاق يجتاحهم، وكأنهم قد أدركوا في تلك اللحظة فقط أنه ذو عاهة وأنه يستحق الرثاء، هو الذي كانوا يعاملونه باستمرار على أنه ندٌّ لهم فقط، ولكن على أنه جبَّار وقوي لا يستعصي عليه شيء.

وتلفتت البلدة ذات صباح، فلم تجد أحمد، وقيل إنه سافر، وقيل إنه سيغيب.

وفعلًا غاب أحمد أطول مدة غابها، حتى بدأت سيرته تطرق الأحاديث، وتكاد مَصْمَصات الشفاه تحدد له مصيرًا تعسًا مجهولًا. ولكن مصير مين؟ ذات عصر وجدوا أحمد نازلًا من القطار ماشيًا على رصيف المحطة كما يمشي الناس، بساقين، وجلَّابية بيضاء جديدة. وكادت البلدة كلها تجتمع بشملها حوله تستمع لقصته التي كان يرويها بكلماته التي يخرجها تحت ضغط كغطيان زجاجات الكازوزة، وتتفرج عليه بعد أن جاء من مصر، وعلى ساقه الجديدة الصلبة كالحديد التي لا يستطيع الإنسان أبدًا أن يعرفها من ساقه الأخرى. ومن تلقاء نفسه، كان أحمد يردد الحكاية وهو فرحان. سافر طبعًا في أول قطار بأبونيهه الدائم فوق السطح، وذهب إلى القصر العيني وسأل وقطع تذكرة، وعرف اسم الطبيب الذي عنده الكشف، بل ذكر للناس أسماء جميع أطباء القصر العيني ورتبهم مضيفًا إليهم ألقابًا خاصة من عنده … وسأله الدكاترة أين بترت ساقه؟ وبعشرة قروش أثبت لهم أنه عمل العملية في القصر العيني نفسه … وقالوا له شهادات من الشئون الاجتماعية أحضر لهم شهادات، تعهدات جاء بالتعهدات، عفاريت زرق أحضر لهم العفاريت الزرق. وأخيرًا وجدوا أن الطريقة الوحيدة للتخلص من إلحاحه وإصراره ومناكفاته أن يصنعوا له الساق، فبدءُوا يتخذون إجراءات صنعها، ولكنهم أنذروه أنها ستأخذ وقتًا طويلًا، ربما شهرًا وربما أكثر، فقال لهم: على مهلكم قوي … معاكم لحد سنة واتنين. وظل وراءهم حتى عملوها … وها هي ذي. ولكن السامعين كانوا يتركون قصة الساق وتشغلهم أسئلة أخرى … كيف وأين استطاع أحمد أن يقيم كل تلك المدة، وهو الوحيد الساق في البلدة الكبيرة التي يتوه فيها الناس؟ فيقول أحمد ببساطة إنه كان ينفق على نفسه من متاجرته في الزجاجات الفارغة التي كان يبيعها للمترددين على المستشفى، وأحيانًا كان يسرح بصندوق ببس أو برطمان هندي.

ويبقى سؤال آخر أين كان يقيم ويبيت؟

وتأتي إجابته: ف ف ف القصر يا ولاد.

فيدهش الناس ويسألونه: داخلية يعني؟!

فيجيب وهو ضيق بغبائهم وبالسؤال: لا لا لا لا … داخلية إيه! ع ع ع الباب.

•••

وبدأ أحمد يحيا في البلدة مستمتعًا بساقه الأنيقة الجديدة. واضطر لشراء حذاء لقدمه الأخرى، فالساق الصناعية مجهزة بحذاء وجورب … وحين أصبح من ذوي الأحذية وجد أن من المحتم أن يتخلى عن كثير من الأعمال التي يقوم بها … لا جري، ولا هزار، ولا طلوع نخل أو نزول ترعة، وهمه كله أصبح المحافظة على الساق الجديدة وإبقاء حذائها نظيفًا، وإبقاء جلبابه أكثر نظافة ليتلاءم مع نظافة الحذاء … فلا نوم على الأرض، ولا حلاقة إلا للزبائن النظيفين، بل حتى هؤلاء الزبائن أصبح عليه أن يحلق لهم فوق كرسي؛ إذ لم يعد بوسعه أن يتربع خلف الزبون أو أمامه على الأرض. والسهم الأهوج المندفع الذي كأنه تضاءل وهبطت سرعته حتى أصبح يمشي كالناس العاديين وربما أبطأ، محافظة على ساقه وتمسكًا بالوقار الذي تفرضه عليه، وحتى السفر أصبح المركز القريب هو آخر حدوده. وإذا سافر يركب كبقية المسافرين بتذكرة، وصعود على مهل وهبوط باتزان وأدب … وأفكار غريبة أصبحت تتناثر من فمه لزبائنه الذين قلَّ عددهم، ومعارفه الذين قلَّتْ تحيته لهم وتحيتهم له، أفكار بنعل ورباط وحمالات، أفكار عن فانلات حمراء بأكمام لا بد من اقتنائها، ومحفظة تحفظ قروشه من الضياع. وبدلًا من الفنجرة والصرف على الأصحاب والشاي الذي يعبُّه طول النهار بغير حساب؛ لماذا لا يحاسب ويوفر ويبدأ في مفاوضة الحاج محمد على امتلاك الأمتار القليلة التي يقوم عليها الدكان؟ وبدل الشحططة والمبيت كل ليلة في مكان، لماذا لا يبدأ يستقر ويبحث له عن زوجة كبقية خلق الله، وقد زالت العاهة ولم يعُد يخشى أن تنظر امرأته إلى غيره من الرجال؟ أفكار ومشاريع تكفَّلت بتعكير باله الرائق ومزاجه، وتحويل ضحكاته العالية وقهقهاته إلى نوبات غضب وزعيق، والطلمبة تخرب، ويأتي عم باز يستعرضه يرجوه فيخجل ويقول: حاضر يا عم باز. ولا يذهب ويكسل، ثم يقول لنفسه أ اشمعنى أنا يعني اللي أصلحها؟ مانا زيي زي الناس. وما دام الناس يصلون ولا يصلحون الطلمبة، أو يرفعون الأكوام من طريق العربات، فليبدأ هو يصلي وليبدأ يفعل مثلما يفعل الناس. والناس تأكل وتلبس وتتزوج، ويحيط كل منهم نفسه بما يحميه من ضربات الزمان؛ فلماذا يشذ هو ويبعثر جهوده وما لديه دون خوف من ضربات الزمان؟

بل المضحك أنه كان لا يغضب أبدًا إذا عايره أحد بساقه المقطوعة، أو أشار إلى عاهته على سبيل المزاح. كان يضحك ولا يحس أبدًا أنه عُوير أو أهين. من يوم أن ركب الساق وأقل إشارة إليه أو إليها تجرحه، حتى أصبح أشد ما يؤلمه أن يكون جالسًا محترمًا في مكان، ويمد أحدهم يده خلسة ليتحسس ساقه، وكثيرًا ما يتحسس السليمة، فيشتعل أحمد غضبًا ويثور، حتى صار له في كل يوم خناقة وضرب وتحقيق.

•••

وفي يوم وجَدته البلدة عائدًا من غيبة فوق سطح القطار، ولم يهبط إلا بعد أن تحرك القطار. هبط هائجًا كالزوبعة يجري ويضحك ويطير وراء الناس كالمجنون، حتى بدأ البعض يتساءل إن كان قد فقَد عقله حقيقة. ولكنه لم يكن قد فقد عقله، كان قد فقد ساقه الصناعية، واستبدلها بعكاز من المشمش أيضًا وقد أضاف إليه تحسينات … وكان سعيدا جدًّا، وكأنما أفرج عنه بعد سجن أو خرج براءة من اتهام، يتطلع إلى البلد والناس وكأنه يراهم من جديد، وكأنه المسجون حين تفك عنه القيود. وانهالت عليه الألسنة تسأله عن ساقه وأين ذهبت؟ وقال أحمد يومها حكاية وعدَّل فيها، ثم عاد ونفاها، وروى حكاية أخرى. وإلى الآن لا يزال يروي عن ساقه في كل مرة قصة مختلفة. مرة يقول إنه كان جالسًا على قهوة في المنصورة واضعًا ساقًا فوق ساق، وكانت الساق الصناعية هي العُليا … استرعت انتباه واحد من الأفندية المحترمين الجالسين، وسأله عنها وفصلها له بخمسة جنيهات ليشتريها لأخيه المبتور الساق. ومن هنا لهنا أوصل سعرها إلى عشرة، ووجد أحمد الثمن معقولًا، ووجدها فرصة فخلعها وقال: خذها مبروكة عليك!

ومرة يقول إن أولاد الحرام نشلوا الساق، وهو نائم بها في منتزه في طنطا، وإنه حين ذهب إلى القسم ليشكو للضابط نشل ساقه ظنه الضابط مجنونًا، وكاد يحيله إلى مستشفى المجاذيب.

ومرة يقول إن له صاحبًا كان يعمل سوَّاقًا في بلاد فوق، وحدثت له حادثة بترت ساقه فيها واستعمل العكاز، ولكنه حين أراد أن يتزوج قصده ليستأجر منه الساق؛ ليتواجه بها أمام العروسة وأهلها، ولكن أحمد رفض أن يؤجرها له وقال: إذا كان سلف معلشي … إنما إيجار لأ.

وهكذا أخذها الصاحب على سبيل القرض وبلا رهن، ولكنه بعد الفرح استحلاها، وطمع عليها، ولم يردها إلى يومنا هذا.

أكثر من قصة يرويها أحمد عن فقد ساقه، وينهيها دائمًا بضحكة عالية مدوية وبقوله: في داهية … دا دا كأن الواحد كانت رجله مقطوعة.

ثم يترك السامعين مبهورين، ويجري وراء واحد سبه أو خطف طاقيته، أو ساهاه واستولى على الحقيبة الخشبية التي يحمل فيها عدة الحلاقة. يندفع عكازه كالقذيفة الموجهة طائرًا في الهواء، ثم يتبعه بجسده في قفزات هائلة سريعة ترج الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤