الستارة

كلما رأيت ستارة مسدلة فوق شباك، أو «بيشة» تغطي وجهًا، أو مشربية تحجب شرفة تذكرت بهيج. وكلما تذكرته وجدت نفسي أضحك بصوت عالٍ، لا لشيء في شخصيته أو سلوكه يستحق الضحك، ولكن لأنه كان زوجًا من النوع المحترم، النوع الذي تجده لا بدَّ خريج جامعة أو صاحب منصب. ولديه مجموعة هائلة من «الكرافتات»، والذي لا بد تجد مشكلته الكبرى أنه يخاف خوف الموت أن يأتي عليه يوم يصبح فيه آخر من يعلم.

وتسأل بهيج عن سبب لهذا الرعب المقيم فلا تجد … الحقيقة تجد أسبابًا أوجه، كانت كفيلة بمنع هذا الخوف عنه. فهو مثلًا قد تزوج عن حب، وزوجته جميلة وديعة، وتحبه إلى أقصى حد، حد يكلفها أحيانًا أن تبكي إذا سافر، وتبكي إذا عاد، وتبكي إذا استشعرت انصرافه عنها، وتبكي إذا أقبل عليها. وليس معنى هذا أنها مصدر نكد؛ فالبكاء لدى النساء ليس دائمًا علامة حزن، هو سلاح لا أكثر … السلاح الذي لا يخيب. أكثر من هذا، سنسن (وهو اسم التدليل لسناء)، تملك قدرة عجيبة على إرضائه، فتعرف متى تضحكه، ومتى تضحك عليه، وبنفس الرشاقة التي تختار بها ألوان فساتينها تختار أيضًا أنواع خِصامها وأوقاتها. ولديها نبوغ خاص في تحديد أوقات الصلح، ودبلوماسيتها هائلة في إملاء شروطها، وقدرتها ساحرة في إحالة جلسة الصلح إلى لجنة تعويضات، مهمة الزوج فيها أن يبالغ في التقدير، ومهمتها هي أن تناشده الرأفة بميزانيتهم والاقتصاد، وكفاية خمسة جنيه للشنطة … هو أنا مجنونة أشتريها بستة … بالاختصار هي زوجة حنون مطيعة مخلصة، وإن كان هذا لا يمنعها أن تتحول أحيانًا إلى نمرة مفترسة إذا امتدح زائرة مثلًا، أو تطلب الطلاق في الحال إن تأخر ساعة، فهي أحيان ليس إلا يسود بعدها الصفاء.

ترى لماذا إذن هذا الخوف المقيم من يومٍ تخونه فيه؟ لماذا الخوف من الإِعصار والبحر هادئ أزرق وجميل؟ الحقيقة لا نستطيع أن نحدد سببًا واضحًا، فهو يثق فيها أي نعم، وفي حبِّها له أي نعم، ولكن شيئًا ما كان لا يجعله على تمام الثقة في قدرتها على حماية نفسها من ذئاب المجتمع وكلابه. شيء ما كان يفرض عليه أن يقوم هو بهذه الحماية، نفس الشيء الذي يفرض عليه مثلًا أن يحمل عنها حقيبة الملابس، أو يجلسها في مقعد الأوتوبيس ليقف هو. شيء ربما السبب فيه أنها هي نفسها تطلبه، وتنتظره وتعامله على أنه رجلها وحارسها وراعيها، وتشعره باستمرار أن لولاه ما كان باستطاعتها أن تحيا معزَّزة مصونة الشرف والكرامة … هو شبه الاتفاق الذي يرى أن المجتمع كله من حوله قد تواضع عليه، وأخذه مأخذ الحقائق الثابتة … اتفاق أن المرأة بمفردها غير قادرة على حماية نفسها بنفسها، وأنها ارتضت أن تكون المهمة للرجل، بل حتى ولو لم ترتضِ لما اطمأنَّ الرجل على قدرتها على حماية نفسها، ولبقي يؤدي دور الحارس اليقظ الأمين.

وبهيج رجل مجرب لم يتزوج إلا بعد أن عرك الحياة برجالها ونسائها، وخرج من تجاربه وقد فقد الثقة في هؤلاء وأولئك، ثقته أن هناك قيمًا قد تحول بين أي رجل وأي امرأة، وألا وسيلة للحيلولة بينهما إلا بالقوة، القوة بأشكالها المختلفة. تعلم وقرأ وسافر وجال وآمن بالمساواة، وديمقراطية الأجناس والأنواع، واستقلال المرأة وحقها في العمل واختيار المهنة والزواج. حدث له هذا كله دون أن يؤثر في قليل أو كثير على القواعد التي درج عليها والتجارب التي ترسبت فيه، وأصبحت جزءًا من كيانه، وجعلته بعد الزواج لا يملك إلا أن يصنع كما يصنع الأزواج، وإلا أن يصبح خوفه الأكبر يومًا يأتي عليه ويكون فيه آخر من يعلم … ولهذا ظل في كل لحظة من حياته الزوجية يعمل لهذا اليوم ألف حساب، وهو مؤمن ألا سبيل لمنعه إلا بمجهود خارق يقول به ليدفع عن زوجته المهالك والمزالق، ولعلمه أنها قد تأتي على أهون سببٍ؛ فقد كان يستعمل كل ذكائه وحداقته وخبرته لشم الخطر ليتلافى أهون الأسباب. إذا أراد دخول السينما اختار مقعدين، يجاور أحدهما الممر لتجلس فيه سنسن، وليجلس هو بجوارها حائلًا بينها وبين الرجال. وإذا سافر أرهق ميزانيته، وظل يطوف القطار حتى يعثر على ديوان خالٍ تمامًا، أو على الأقل ركابه من العجائز أو النساء، وفي أي ازدحام تجده خلفها مباشرة، يكاد لولا الحياء يطوقها بجسده كله ويدفع الناس عنها وكأنها من زجاج. وإذا انتقل من مسكن إلى آخر، ظل أيامًا يدرس موقع المسكن الجديد ويتأكد من متانة معلوماته عن الجيران، أو على الأقل هذا هو ما فعله حين انتقل إلى منزله الجديد بإحدى العمارات الحديثة الكائنة في أول مصر الجديدة من ناحية روكسي.

•••

ولقد ظلت الحياة تمضي به وبسنسن إلى اليوم الذي عزلت فيه الشقة التي تقابلهم من العمارة المواجهة، والتي كانت تقطنها أرملة جافة نحيلة وأولادها الستة. يومها وطوال الأيام التي ظلت فيها الشقة خالية، كانت أمنيته الخفية أن يبتسم الزمن له أخيرًا، وتقطن الشقة شابة حسناء، أرملة كانت أو غير أرملة. أمنية لم يكن يرى فيها بهيج ما يتنافى أبدًا مع الإخلاص الزوجي؛ إذ هو في الحقيقة مثل الأزواج لا يترك شاردة ولا واردة ولا مارة في الشارع إلا ويسلط أنظاره عليها تعاينها، وتهم بها أحيانًا. وإن كانت الظروف مواتية، فلا مانع لديه إطلاقًا، إذ لا يعقل، ولا يمكن لشيء تافه عابر صغير كهذا أن يؤثر على حبه لزوجته أو تعلقه بها.

ولكن الظروف لم تكن هذه المرة مواتية، ونوافذ الشقة المقابلة تفتحت يومًا، ورأى بهيج بعيني رأسه شابًّا يطل منها، شابًّا لا أحدَ معه، لا طفل ولا زوجة أو أم … وكان واضحًا من نظراته الجريئة، وطريقة تطلعه إلى الناحية المقابلة وإلى المارة في الشارع أنها طريقة الحر الذي لا يخشى على نفسه مغبَّة نظرة، ولا يحمل فوق كاهله مسئولية، ولا يعمل حسابًا لإِنسان وراءه كل مهمته أن يناقشه الحساب. كانت نظرات وتطلعات فرس بري غير مروض ذكرت بهيج نفسه بأيام ما قبل الزواج، ذكرته لا ليتحسر، وإنما ليحس بهمٍّ مُفاجئ بدأ يركبه … الشاب واضح تمامًا أنه أعزب، وها هو ذا قد سكن أمامهم لا يفصلهم عنه سوى الشارع. وبهيج كان أعزب يومًا، ويعلم أنه والعزاب جميعًا لا يتركون حولهم أو أمامهم طوبة من طوب الأرض إلا وأشبعوها فحصًا ولمسًا؛ لعله يثبت في النهاية أنها طوبة مؤنثة. وهو واثق طبعًا من نفسه، ومن أن سنسن أشرف نساء الأرض، ولكن من قال إن أسلم أصحاء الأرض لا يمرض، خاصة إذا ظل صباح مساء معرضًا للميكروب؟ لا ضمان هناك لأي شيء؛ فأي شيء ممكن أن يحدث. فالمسألة ليست جلسة في أوتوبيس أو رفقة سفر … المسألة إقامة دائمة وسكن.

أغلق بهيج باب البلكونة في ذلك اليوم وهو يفكر، وظل يفكر حتى بعد إغلاقها … وإلى صباح اليوم التالي حين فتحها بنفسه، ووجد بلكونة الجار مفتوحة هي الأخرى، ووجده يغني وصوته القبيح يأتيه عبر الشارع عاليًا … أعزب … متحديًا.

•••

وبدأ الجار الأعزب الجديد يصبح مشكلة، وبكثرة تفكير بهيج فيها، بدأت تتشعب وتتعمق وتضاف إلى مشاكل حياته الرئيسية، خاصة حين كان يعود. وقبل أن يدخل البيت يسرح ببصره إلى أعلى ليجد بلكونة الشاب مفتوحة وبلكونتهم أيضًا مفتوحة أو مواربة، ولا يفصل الاثنتين سوى الشارع العريض.

وبدأ بهيج يفكر في حل حاسم للمشكلة … وأضناه التفكير فقد كان في موقف لا يستطيع معه أن ينتقل من البيت ويعزل، وليس هو السلطان؛ لكي يجبر القاطن الجديد على التعزيل. وهو يريد أن يحمي زوجته من الخطر الوافد في سرية تامة وهدوء، ودون أن تشعر أنه لا يثق فيها أو يحميها.

ورغم هذا كله؛ فقد كان مُصرًّا على أن يجد الحل.

وقد وجده.

وعلى العشاء المقتبس بحذافيره من ركن المرأة، والذي كانت تفوح منه رائحة الاقتباس وطعمه الماسخ، بدأ بهيج يسوق المقدمات ويتحدث عن الحريات المنزلية الأربع. قال إنه بدأ يدرك أنهم محرومون في بيتهم من حرية الحركة والعُري والحفاء وارتكاب الحماقات، وكيف أن المنزل لا يعد متعة أو بيتًا بمعنى الكلمة إلا إذا توافرت له هذه الأركان؛ وإلا لكان السجن أرحم. وهو قد أدرك أيضًا بعد طول بحث أن سبب إهدار حرياتهم تلك يرجع إلى عامل واحد لا غير، هو البلكونة التي تفتح على الصالة، وتتوسط البيت وتجرحه، وتجعله نهبًا لأنظار الجيران القاطنين عبر الشارع. وأن الطريقة الوحيدة؛ لكي يصبح بيتهم بيتًا، هي أن يقيموا فوق سور البلكونة ستارًا عاليًا، أعلى من قامته، يحجب كل ما يدور داخل البيت عن الأنظار. وحين تبلورت المقدمة الطويلة في هذا الاقتراح، بدأت الزوجة تسخِّفه، وتعيب عليه أن يريد أن يخنقها ويمنع عنها الشمس والهواء. وكل هذا لأنه لا يثق فيها ولا يثق في نفسه، إلى آخر المحاضرة التي تعودت أن تلقيها عليه، وتسخف بها أي اقتراح من اقتراحاته؛ ربما لمجرد كونها اقتراحاته.

ولكنه لم ييأس … استجمع كل ذكائه وقدرته على الإِقناع؛ ليدحض مزاعمها وليثبت لها أن ليس في الأمر شك فيها أو في الجيران، وأنه لا يريد سوى حقِّه في الاستمتاع ببيته، وحجب الأنظار المستطلعة عنه. وأيضًا لم تبدأ الزوجة توافق إلا بعد أن تعهد بشراء طقم كراسي إيديال للبلكونة، ومضى يغذِّي أحلامها عن الجلسات المرتقبة وليالي القمر وأشجار الياسمين التي لا بد سيزرعونها.

ولم يأتِ الغد إلا ليجد بهيج قد اتفق مع المنجِّد والنجار، ولم يمضِ يوم آخر إلا وكانت الستارة معلَّقة عريضة، تغطي البلكونة من جهاتها الثلاث، وترتفع فوق قامة الرجل.

واعتقد بهيج يومها أن دوره في حل المشكلة والمحافظة على بيته وزوجته قد أدَّاه على خير ما يُرام، ويحق له بعد هذا أن ينام ملءَ جفونه ويمدد رجليه ويشخر.

•••

والحقيقة أيضًا أن دوره هو انتهى أو كاد، ليبدأ دور الستارة؛ فقد أصبح همه الشاغل كلما عاد إلى البيت أو خرج منه أن ينظر إليها، ويرى إن كانت مقفلة أو مفتوحة. وحين نبه على سنسن مرة ومرتين أن تراعي إقفالها باستمرار، ولم تفعل عنادًا منها لا أكثر، قرر أن يكون حمشًا ويفرض رأيه. وهكذا فوجئت به سنسن في اليوم التالي، وهو في طريقه إلى المكتب، فوجئت به يصرخ فيها بلهجة غريبة باترة حاسمة ألا تفتح الستارة أبدًا لأي سبب كان، وأن عليها أن تقبل أمره هذا بلا نقاش … وغير مهم المناقشة الشكلية التي تلَتْ كلامه، والتي لم يتزحزح فيها عن رأيه في أن من حقه كزوج أن يصدر أية أوامر يراها دون أن يكون مطالبًا بتفسيرها، والتي لم تتزحزح فيها هي عن رأيها في أن لها الحق كل الحق أن تمتنع عن تنفيذ أي أمر صادر منه أو من غيره، ولا تكون مقتنعة به. المهم أن تمسُّك كل منهما برأيه جعل الموقف يتوتَّر، وجعل بهيج يفقد السيطرة على هدوئه وأعصابه، وجعله في نوبة غضب ينفجر لها بأن السبب الحقيقي لعمله الستارة هو الشاب الأعزب الذي احتلَّ الشقة المقابلة، ونظراته التي ضبطه وهو يوجهها بصفاقة وقلة أدب إلى بلكونتهم، ورغبته في أن يحفظ لبيته حرمته، ويحميها من وقاحة جارٍ مثله. وساعتها اتضح أن الزوجة هي آخر من تعلم بأخبار الجيران العُزَّاب؛ فقد بدا واضحًا أن سنسن لا تعلم شيئًا عن تعزيل الأرملة العجوز، ولا عرفت أبدًا بمجيء الأعزب، ولا طرق لها الموضوع بالًا.

– طيب … آدي انتي دلوقت عرفتي.

– لا … إذا كان كده يبقى خلاص … أمرك يمشي.

ومشى أمره وأصبحت الستارة كحائط لا يتزحزح، كل ما في الأمر أن البلكونة قد تغير مركزها في البيت. وبدلًا من المكان غير المطروق الذي كانته، والذي لم تكن سنسن تجسر على الظهور فيها إلا وهي بملابس الخروج، أو بأكثر ملابس البيت حشمة، ولا تظهر فيها إلا وهي مضطرة، وإذا وقفت فيها نظرت إلى الشقق المقابلة والمجاورة بأدَب وحساب، حتى ينظر إليها أصحابها بأدب وحساب، بدلًا من هذا أصبحت البلكونة تحت حماية الستارة مكان سنسن المختار للجلوس، تقضي فيه أي وقت تشاء بأية ملابس ترتديها وتقوم بأي عمل تراه. بل شيئًا فشيئًا بدأت سنسن تفطِن إلى مزايا للستارة كانت خافية عليها، أهمها بلا جدال ما يدور في شققهم ومطابخهم وحجرات جلوسهم ونومهم، دون أن يكون باستطاعتهم هم أن يروها؛ فالستارة تَحْجبها عنهم وتتيح لها أن تَرى ولا تُرى. وهكذا بدأت نظراتها تفقد طابع النظر من خلال بلكونة مفتوحة، وتتخذ طابع النظر من خلال الشقوق. وبعد أن كانت البلكونة تجعلها تعامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوها به، وتجعل لعينيها دور المراقبة لغيرها ولنفسها، أصبحت مهمة عينيها أن تراقب الغير فقط، وتتجسس عليه وتكشف أسراره وخباياه، وهي ضامنة أن أسرارها في حِصْن حصين. ونفس التحول بعد بضعة أيام انتقل لتفكيرها، فأصبح اهتمامها بما لديها، وأصبح الوقت الذي تقضيه تتفرج على ما يحدث داخل الشقق الأخرى أكثر بكثير من الوقت الذي تقضيه ترعى فيه شئُون شقتها.

وكذلك كان لا بد أن يواتيَها الخاطر ولو مرة، ويجعلها تفكر في رؤية هذا الجار الجديد الذي كلمها زوجها عنه، وترى كيف تطل الوقاحة من نظراته كما قال الزوج.

•••

والمدهش أن الجار الأعزب لم يكن وقحًا أو قليل الأدب، كان في الحقيقة مشغولًا جدًّا. فقد كان يعمل في الصباح في شركة، ويدرس بعد الظهر في كلية، ويقضي ساعتين كل ليلة يصحح الملازم في مطبعة. شاب من قراء سير العصاميين المؤمن بأن في استطاعته أن يصبح مثل روكفلر وعبود. الغارق في أحلامه هذه بطريقة لم يخطر على باله مرة أن يقف في بلكونته، ويتطلع إلى بنات الجيران فضلًا عن أن يحاول معاكسة أحد. وقد كان من الممكن أن يظل غارقًا في مشغولياته وأحلامه تلك، لو لم يرَ هذا الستار الذي صنعه السيد بهيج؛ فقد لفت نظره أن تنفرد تلك البلكونة المقابلة وحدها دون غيرها من بلكونات البيت وغيره من البيوت بهذه الستارة التي كان واضحًا أنها أُقيمت حديثًا، وأنها مسدلة باستمرار ولا تُفتح أبدًا. وهكذا منذ اليوم الأول الذي لاحظ وجودها فوق سور البلكونة، وهذه البلكونة بالذات بدأت تلقى منه عناية خاصة ربما لغرابة الظاهرة؛ وربما لأن منظرها هيج كوامن خياله، وجعله يمضي يحلم ويتصور نساء ألف ليلة وليلة أو فتياتها اللائي لا بد أقيمت ستارة كثيفة كهذه لتحميهن من العيون.

وربما لو كان قد رأى السيدة سنسن بكاملها، وهي في الشارع أو في بلكونة مكشوفة لما استرعت انتباهه، أو توقفت عندها نظراته، ولكان قد عاملها مثل العشَرات غيرها من السيدات، والفتيات اللاتي يراهن في نوافذهن وشُرفاتهن، ويتركهن جميعًا ليوجه انتباهه كله إلى الستارة المسدلة وإلى الحورية الرائعة الجمال التي لا بدَّ تكمُن خلفها، والتي لا بد أن يأتي يوم تظهر فيه أو على الأقل يبدو منها وجه أو ذراع.

بل لِم لا نقول إن الستارة وما تحجبه كانت وراء تركه لعمله في المطبعة، ورفعه حرارة النقاش الذي دار بينه وبين صاحبها إلى درجة أخرى، والاستغناء عن خدماته؟ وعدم ضيقه ألبتة بما حدث بل فرحته به، إذ سيتاح له منذ اليوم أن يقضي ساعتين أخريين يتطلع فيهما إلى البلكونة ذات الستارة المسدلة، ويخمِّن ويحس بالحرمان ويهيج الإحساس أحلامه.

وبالتأكيد إذن، كان لا بد أن يأتي اليوم الذي يدرك فيه، وقلبه تتعانف دقاته، أن قماش الستارة يختلج اختلاجة أنثوية بلا شك، وأنه ويا للهول بعد قليل انفرج فرجة صغيرة رفيعة، ولكنها كانت كافية لأن يتأكد أنها فعلًا أنثى، وأن عينها ووجنتها التي اطلعت وتلصصت أجمل وأروع عين ووجنة رآهما في حياته.

حقيقة كان ذلك اليوم بالذات هو اليوم الذي قرَّرت فيه سنسن أن تتفرج على الجار الأعزب الوقح، ويبدو أن محاولتها البحث عن وقاحته قد امتصتها إلى درجة لم تفطن معها أنه لمحها من خلال قماش الستارة ورآها.

والواقع أنها لم تفاجأ كثيرًا، فقد وجدته كما وصفه زوجها تمامًا … وبالفعل كانت نظراته تحفل بالوقاحة وقلة الأدب، وبالفعل لم يحول أبصاره عن البلكونة طيلة الوقت الذي ظلت تراقبه فيه. أدركتْ حينئذ أن زوجها كان على حق في إقامته للستارة؛ فلولاها ما استطاعت أن تحمي نفسها من وقاحته ونظراته.

وانسحبت يومها من البلكونة، وقد عاهدت نفسها أن تتجاهل وجود العازب وشقته وبلكونته.

ولكن الشاب لم ينسحب … وقف مُسمَّرًا في بلكونته إلى ساعة متأخرة من الليل علَّها تظهر. وخُيل إليه في الصباح أنه أخيرًا أحب، ومن يدري قد تكون هي الأخرى أحبَّته. وهكذا قضى الجزء الأكبر من اليوم التالي، ولا عمل له إلا التحديق في الستارة علها تختلج مرة أخرى وتنفرج. وكلما كان الهواء يداعب قماشها ويحركه، كان الدم يسخن في عروقه ويعتقد أنها هي، ويركز بصره كله عله يستطيع أن يتبينها.

وفي نفس ذلك اليوم التالي لم يكن وحده الذي يحدق في الستارة المختلجة، كان بهيج الزوج عائدًا من عمله يلقي ببصره كما تعود ناحية الستارة ليطمئن عليها أولًا، ثم يعود ليختلس نظرة خاطفة إلى بلكونة الجار ليطمئن على خلوها منه.

وفي ذلك اليوم حين وجد بهيج القماش يتحرك لم يعلِّق على حركته أهمية، ولكنه حين وجد الأعزب واقفًا في البلكونة قد صوَّب نظراته المحمومة إلى الستارة المختلجة، عاد ينظر بسرعة إلى حيث كان ينظر، وبدويٍّ أعنف دق قلبه، وأيقن بلا أدنى جدال أن الستارة لا تختلج عبثًا، وأن وراءها عينين تنظران وجسدًا … وراءها سنسن.

وفي لمح البصر كان قد أصبح في الشقة، ولم يخِلْ عليه أنه وجدها في المطبخ، فلا بد أنها لمحته وفرَّت. وفي لمح البصر كان قد أطبق عليها طالبًا منها أن تعترف. وحين حاولت الكلام أجابها بصفعةٍ قوية من يده الأخرى أعقبها بأخرى مدوية من اليسرى. وإمعانًا جرَّها إلى البلكونة، وأزاح الستارة بغلٍّ ليريها الشريك الآخر واقفًا لا يزال يحدق … الشريك الذي ما إن أزيحت الستارة ورأى المشهد حتى اختفى في التوِّ وذاب برعونة، وبكل جُبن المذنب المتلبس.

وكانت الصفعتان إشارة البدء لعاصفة من تلك العواصف التي كثيرًا ما تجتاح حياة الأزواج والزوجات، تقتلع الضعيف منها وتهدِّد القوي، فقد تبعها كلام صارخ محموم عن شرَفه وطعنات حادة قاتلة إلى شرفها، ونعوت بشِعة ويمين طلاق أُلقي. والزوجة تحاول الدفاع والاستشهاد بالخادمة، ويصرخ قائلًا إنه رأى الستارة بعينه تهتز، فتستنجد قائلة: ربما الهواء. فيعود يهمُّ بصَفْعها أو ركلها، وهو يقرنها بالهوى وبنات الهوى.

عاصفة قذفت بالزوجة تلك الليلة إلى بيت أبيها، وقذفت به إلى الخمارة … وهطلت آخر الليل دموع. وفي اليوم التالي تدخَّل الأهل والأصدقاء، وبدأ الزوج يراجع نفسه قليلًا. وبعد أن كان رافضًا ألبتة أن يصغي أو يناقش، بدأ يخفض رأسه ويستمع، ويلمح حُرقة الصدق في كلام كان الزوج في حاجة إليه، فحتى بعد أن رأى بعينيه كان أهون عنده أن يشك في عينيه ولا يشك فيها، فحياتهما معًا وعشرتهما واندماجهما بطريقة كادا معها أن يصبحا جسدًا واحدًا، بطريقة يعرف كلٌّ منهما عن الآخر أكثر مما يعرف الآخر عن نفسه، ويثق بالآخر أكثر مما يثق بنفسه … هذا كله فوق التجربة التي قام بها وسطاء الخير، وأعادوا تمثيل ما حدث أمام الزوج ونفخوا في الستارة لتختلج. وراقبها الزوج من أسفل ليعرف إن كانت اختلاجاتها تشبه اختلاجة الأمس، وليثوب إلى نفسه حينئذٍ، ويطلب الصفح وتنتهي العاصفة نهاية لا يتوقعها أحد فوق فراشهما، وهو يحتضنها ويقبل عينيها الدامعتين، وتصل حرارة الحب بينهما حدَّ أن ينسيا تمامًا ما حدث وسبب الحكاية، ويستمتعا باللحظة والسهرة، وكأنها أول لقاء. وفي أحيان تصل العواطف بينهما حد معاودة الاعتذار. بل تأكيدًا لندمه وتوبته وإمعانًا في ثقته بها يعلن لها أنه خلاص قرَّر أن تفتح الستارة باستمرار، وحين تأبَى هي يقسم هو ويلحف في القسم، ويؤكد لها أنها بعد تلك اللحظة حرة في أن تدخل وتخرج وتغلق البلكونة أو تفتحها وتقف فيها، أو تتطلع منها على أية هيئة وبأية ملابس ولأي وقت تشاء.

وبينما كان الدفء يشع من فراشهما، كان الجار الأعزب في فراشه يرتجف من البرد. ومن بعض ما تيسر من تأنيب الضمير ومن خوفٍ كثير على نفسه وحياته، وكان يتوِّج هذا كله بقرار صارم ألا يقف بعد هذا في بلكونته أبدًا، ولا يتطلع إلى جارة أو غير جارة، وأن ينهمك مرة أخرى في مشاغله.

•••

وجاء الصباح التالي لتعود الحياة سيرتها وقد تغير شكلها قليلًا؛ فالستارة في بلكونة بهيج قد فتحت على آخرها، وبلكونة الأعزب مغلقة وكأنما دُقَّت فيها مسامير. ومع هذا فلم تظهر سنسن في البلكونة، ولا حتى وجدت لديها حماسًا لأن تفعل شيئًا آخر بالمرة. كان ما حدث لا يزال ساري المفعول في نفسها تأبى أن تصدق أنه حدث، وإذا صدقته غامت عيناها بالدموع.

وحتى بعد أن مضت أيام وزالت كل آثار العاصفة، ظلت سنسن غير شديدة الحماس لكل هذه الحريات التي أصبحت تملكها … تقف في البلكونة فلا تحتمل الوقوف، تجوب الشارع وواجهات العمارات المقابلة بعيونٍ قد انطفأ فيها البريق. أي متعةٍ للبلكونة الواضحة المكشوفة بعد متعة اختلاس النظر من الشقوق؟ وبأي نفس تقبل المتعة وهي قد عاشت التهمة وذلها ونالت العقاب؟ الحقيقة كل ما كان يشغل بالها إذا وقفت في البلكونة أن تواتيَها الفرصة لتدافع هي عن نفسها وشرفها أمام الأعزب الشاب، الشرف الذي أهدره زوجها، وهو يدافع عنه. كانت تريد أن تُلقي عليه درسًا وتريه أنها ليست كما ظن هو أو ظن زوجها. ولكن الفرصة لم تكن تواتيها؛ ففي كل مرة تجد بلكونته مغلقة وتجده غير موجود.

ولكن مهما طال الزمن؛ فلا بد أن سيأتي اليوم الذي يوجد فيه. غير أنه حين جاء وخرجت هي إلى البلكونة، ووجدته واقفًا أمامها عبر الشارع دقَّ قلبها بالانفعال. وللمرة المائة استعادت ما كانت قد انتوته، فهي ستظل ساكتة إلى أن يبدأ يتطلَّع إليها، حينئذٍ سوف تواجهه بقسوة وتبصق في وجهه أو تقذفه بما في يدها، ثم تدخل وتصفق وراءها الباب، ولكنها ظلت واقفة أكثر من ساعة دون أن يتطلَّع إليها أو يبدو أن في نيته أن يتطلع إليها. وكان من المستحيل عليها أن تقبل الهزيمة حتى لو أدَّى بها الأمر لمحاولة جذب انتباهه ورفع صوتها تطلب من الخادمة أن تحضر لها شيئًا. وحتى حين ضغطت على نفسها وفعلت. لم يبدُ عليه أي اهتمام، أكثر من هذا بعد قليل وجدته ينسحب إلى الداخل، ويمد يده ويغلق الشيش.

وكان عسيرًا عليها أن تصادفه واقفًا في البلكونة خلال الأيام التي تلت، ولكنها في كل مرة عثرت عليه، كانت تحاول أن تفعل كل شيء وأي شيء فقط؛ لترفع بصره الذي ألصقه بأرض الشارع وأبى أن يرفعه. ولم تفعل محاولاتها المتعددة أكثر من أنها أنسَتْها الهدف منها، والدرس الذي كان في نيتها أن تلقيه عليه، والحقد الذي تكنُّه له في قلبها، وأصبح همها كله ومنتهى أملها أن تنجح فقط في رفع بصره من فوق أرض الشارع، وكأنها إذا نجحت ونظر إليها يكون قد تم الانتقام، واستعادت مكانتها وشرفها المثلوم.

ولو كان أحد قد أخبرها أنها ستضطرب كل هذا الاضطراب، وستلهث ويجف لعابها ويتوقف قلبها عن النبض، لو كان أحد قد أخبرها أن هذا كله سيحدث لها حين تفاجأ ذات مرة، وقبل أن تحاول شيئًا أنه قد رفع بصره إليها وثبَّت عينيه في عينيها، لما صدقته بل ولما صدقت أبدًا أنها لم تستطع أن تحتمل نظراته لثوانٍ، وأنها هي التي انسحبت من البلكونة هذه المرة ترتجف، وهي لا تملك قدرة على صفق باب أو فتح فم. كل ما حدث أنها استطاعت قبل أن تختفي أن ترسم بالكاد شيئًا فوق ملامحها يعبر عن الغضب.

وربما لو لم ترسم هذا الشيء … ربما لو ظلت واقفة، وكأنها لم تلحظه أو نالها اضطراب، ربما لو لم تُرِد أن تؤنبه وتعلمه الخلق الحسن، ربما لو حدث شيء من هذا؛ لما قضى الشاب ذلك الوقت الطويل يفكر فيها، ولما شجَّعه ما حدث منها على المضي في التفكير وتدبير الخطط لما بعد التفكير.

أما هي فقد ظلت وقتًا طويلًا أيضًا تفكر وتستنكر اضطرابها وتستعذبه، وتنتوي العودة إلى البلكونة وتَعْدِل عن نيتها، والإِحساس العام الذي يتملكها أنها غير غاضبة على الشاب، وأنها أصبحت ليس لديها مانع حتى أن يعود يوجه إليها نظراته.

وفوجئ بهيج! عاد ذات يوم، فوجد الستارة تنسدل وتحجب الشرفة وما فيها، واستغرب … وسأل الزوجة فإذا بها تقول إن الستارة لازمة لحمايتها من نظرات الجيران المتطفِّلين، وإن لكل بيت حرمته والستارة تحفظ الحرمة، وحاول أن يناقشها بنفس حججها القديمة، ويتحدث عن الشمس والهواء، ولكنها أفحمته حين قالت إنها كانت مخطئة في اعتقادها، وإنها أخيرًا اقتنعت برأيه.

•••

واستمرت الستارة بعد هذا تؤدِّي عملها مع اختلاف بسيط؛ إذ كانت تستخدم لتحول بين بهيج وبين رؤية الشاب الأعزب إذا كان موجودًا في البيت، ولتحول بينه وبين رؤية الواقفة تحتمي بها لتستطيع أن ترى الشاب ويراها دون أن يلحظهما أحد، وبالذات بهيج. وفي أحيان كان يتطلَّع بهيج من الشارع ليطمئن على أن الستارة مغلقة ومسدلة، ودائمًا كان يجدها كذلك. وإذا تصادف ووجدها تختلج كان حينئذٍ يهز رأسه ويبتسم، ويقول: الهَوَا … لا بد أنه الهواء … لعنة الله عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤