الغريب

من كان يظن أن «الشوربجي» ذا الشعر الأصفر المجعَّد، والوجه الخواجاتي الأحمر، والملامح الجذَّابة الحادة له مثل هذه القصة المذهلة مع قتال القتلة، وقاطع الطريق وسلطان الليل؟ أنا نفسي، قبل أن يحكي لي، كان من المستحيل أن أصدق أن الشوربجي، زميل ثانوي العتيد الذي علمني ركوب العجل وكتابة القصص، جعلني أدمن قراءة روايات الجيب … لم أكن أعتقد للحظة أن في حياته جانبًا بأكمله لا أعرفه، وكان مقدَّرًا ألا أعرفه، لولا تلك المصادفة التي جمعتني به … والمصادفة وحدها هي التي كانت تجمعني به. فعلى الرغم من أننا نعمل في نفس المدينة، في القاهرة، إلا أنني لم أكن ألقاه إلا صدفة. وفي كل مرة نأخذ العناوين ونضرب المواعيد ونحن نعرف سلفًا أننا لن نستعملها، وأننا لن نلتقي إلا كما تعودنا اللقاء صدفة … وأنا أعرف عن الشوربجي أشياء كثيرة، أعرف بلدهم، ورأيت أباه مرة، وأعرف ولَعه بالنساء، وضيقه الشديد بأننا على الرغم من أننا كبرنا وغادرنا ثانوي؛ إلا أننا لا نزال نسميه باسم جده، كما تعودنا أن نسميه. فاسمه في الحقيقة كان، ولا يزال طبعًا، عبد الرحمن صالح الشوربجي، ولكنا في ثانوي نضيق بالأسماء الأولى المتشابهة. وهكذا عرفناه بالشوربجي، وعلى الرغم من ضيقه بالتسمية ظللنا نعرفه هكذا إلى اليوم، إلى حد أنني كنت أستغرب حين تناديه زوجته أمامي بعبد الرحمن، أعرف عنه أشياء كثيرة، ولكني لم أكن أعتقد أبدًا أن في حياته أناسًا كالغريب أبو محمد وعم خليل، وحياة الليل وسفك الدماء. هو الرائع الأدب الذي تخدش خجَلَه الكلمة الخارجة حتى بعدما صار رجلًا كبيرًا وخلف أبناء، ولكنها الصدفة كما قلت، وربما الليلة أو الموضوع الذي طرقناه … موضوع السفاح. والشوربجي ليس محدثًا لبقًا ولا راوية ممتازًا، وعلى الرغم من أنه علمني كتابة القصص، ولكنه يتحدث أجمل بكثير مما يكتب.

لا أعرف ماذا دعا الشوربجي ليكشف لي عن هذا الجزء من نفسه في تلك الليلة … فربما الموضوع كما قلت، وربما الجلسة، وربما الساعة الواحدة والنصف التي بدأنا الحديث فيها، وربما قصته نفسها، أو لعل السبب هو تلك اللذَّة الواضحة التي كنت أراه مستمتعًا بها، وهو يغوص في نفسه ويحفر ويستخرج أشياء، وكأنما يكشف وجودها لأول مرة، ربما هذا هو ما جعله ينساق، ويقضي ليلة كلها يتحدث، وأقضيها وأنا أنصت … وأرتجف أحيانًا، ولكني أستمَّر أنصت بشغف وبلا انقطاع.

١

تصور أنني جاءت عليَّ فترات في حياتي، كان حلمي الوحيد فيها أن أقتل إنسانًا أي إنسان. أقتله هكذا بلا سبب وبلا رغبة إلا رغبة القتل في حد ذاتها … ولا تُنهك نفسك وتحاول أن تبحث في طبك، أو في كل علوم النفس الحديثة عن تفسير لهذه الرغبة؛ فأنا لم أكن مريضًا أو شاذًّا أو أعاني من مأساة عائلية. كنت تلميذًا عاديًّا جدًّا، بالكاد تعديت الرابعة عشرة من عمري، وكنت أعتبر رغبتي هذه رغبة طبيعية جدًّا لا شذوذ فيها ولا انحراف، وأنها لا تعنُّ لي فقط، ولكنها لا بد موجودة عند كل الناس، ولا بد قد استبدت بهم يومًا، خاصة وهم يضعون أقدامهم على عتبة الرجولة، أن يقوموا بعمل خارق يحسون بعد القيام به أنهم قد أصبحوا رجالًا … بعضهم يترك البيت مثلًا ويحاول البحث عن عمل يتقاضى عليه أجرًا، مثلما يفعل الرجال الكبار ومثلما يفعل أبوه. وبعضهم يبدأ يسهر في الخارج ويعود متأخرًا، ويصطدم بأهله ويقول لهم بأعلى صوته: «أنا حر أسهر على كيفي … أنا راجل». وبعضهم يبدأ بحمل بندقية أبيه على كتفه وإطلاق النار، فإذا اعترض أبوه على تصرفه هدد بقتل نفسه أو بقتل من يعترض طريقه «يقصد أباه»، وبعضهم يحلم بامتلاك مسدس … وكلها رغبات طبيعية الهدف منها أن يثبت كل لنفسه أنه قد أصبح رجلًا، ويثبت لها بطريقة الرجال الخشنة.

كل الخلاف بيني وبين من كانوا في سنِّي أني غاليت قليلًا في رغبتي، وأردت أن أدخل عالم الرجال بأن أقتل أحدهم، وهي على العموم كانت رغبة دفينة لا أجرؤ على إظهارها حتى لنفسي، ولكني أحس بوجودها وأسعى إلى تحقيقها وكأنما من وراء نفسي. ومن ورائها لأني كنت أخاف ألا أكتفي بقتل رجل واحد، وأن أنساق في هذا الطريق … ولكني كنت أطمئن نفسي وأقول إن هذا لن يحدث.

وأدلل لنفسي على هذا بأن أستعرض ما كنت أفعله مع القطط وأنا صغير؛ إذ كنت وأنا طفل أخافها جدًّا، أخاف شواربها الطويلة وتكشيرتها ومخالبها البشِعة، وكنت أرنو إلى اليوم الذي أكبر فيه وأستطيع إخافتها، وأنتقم لكل ما سببته لي من رعب … وارتبط الكبر في نفسي بقدرتي على إخافة القطط والكف عن الخوف منها؛ ولهذا لم أكفَّ عن مطاردتها أبدًا. وهدفي أن أنجح ذات يوم في حصارها وإرعابها، وإمتاع نفسي بمشهدها وهي خائفة مني … وكم طاردت من قطط، وكم نجحت في إغلاق الأبواب والنوافذ لمنعها من الهرَب، ولكني دائمًا كنت أفشل في حصارها وتهرب. مرة واحدة فقط نجحت في حبس قطة في إحدى حجرات بيتنا. كانت قطة الجيران وكنا نكرههم، وكنت قد اعتزمت في ذلك اليوم لا تخويفها فقط، والاكتفاء بسعادتي لرؤيتها خائفة، ولكن على تمويتها أيضًا.

ظللت أجري وراءها حتى دخلت حجرة المخزن وكل نوافذها وفتحاتها محكمة الإِغلاق، فدخلت وراءها مسلحًا بعامود حديد من عمدان نافذة قديمة. وأغلقت الباب واستمتعت أيما استمتاع بالورطة الكبرى التي حلَّت بالقطة، تقفز من الأرض إلى السقف ومن السقف إلى الأرض، وتبحث في هلَع عن مخرج، وتصرخ صرخات مرعوبة متصلة، وكل ما فيها قد وقف يرتجف ويرتعش، والباب من ورائي محكم الإِغلاق، وأنا أتقدم ناحيتها بخطًى بطيئة، والعامود الحديدي مرفوع فوق كتفي ومستعد لأخبطها به الخبطة الواحدة القاتلة.

مضيت أتقدم ببطء وأنا أنعم بحالة الرعب المميت التي تملكتها، وأستعيد كل ما قاسيته في صغري من رعب، وأسعد بنفسي وبكبري، وبهذا الانتقام الضخم الذي أُتيح لي أن أقوم به … وفجأة توقفت في مكاني، فالقطة كانت قد أدركت بعد مجهود هائل مريع ألا مخرج لها من الحجرة وأنها هالكة لا محالة … ولا أعرف إن كانت فعلًا قد أدركت هذا، ولكني لا أزال أذكر صرختها الأخيرة والركن المظلم الذي كنت قد أجبرتها على الانزواء فيه، ثم كيف كفَّت عن صراخها العالي المذعور، واستدارت لي تواجهني لأول مرة منذ أن بدأت مطاردتي لها، تواجهني بل وبدأت تمزق الأرض بمخالبها وتتقدم نحوي … و… أعوذ بالله، نظرتها … عيناها بالذات … لن أنسى ما حييتُ الرعبَ … أقصى درجات الرعب. حدقتاها مفتوحتان على الآخر وأنيابها مكشوفة كلها حتى آخر الفك، وهي تتقدم وقد بلغ رعبها درجة كنت متأكدًا معها أنها ستقفز حالًا، وتنشب أنيابها وأظافرها وشاربها والرعب المطل من عينيها … ستنشب هذا كله في وجهي، وتمزق لحمي وتفقأ عيني وتلتهم زوري.

ونظرة واحدة فقط هي التي ألقيتها عليها، وهي التي سمَّرتني في مكاني أنظر إلى رعبها اليائس المجنون وتتفكك أوصالي … ولا أدري كيف أنقذت نفسي في آخر لحظة، وفررت من الحجرة وأنا أجري خائفًا مرتعشًا لا ألوي على شيء، أبحث عن أمي لأحتضنها وأرتعش وأخفي وجهي وعيني في صدرها، وأتمنى لو استطعت أن أختفي بكلِّي داخلها!

•••

ربما مغالاتي في إثبات رجولتي بقتل رجل سبَبُها هذه المغالاة التي دعتني لأن أثبت أني تركت الطفولة وكبِرت، بتحولي من خائف من القطط إلى مخوِّف لها. تلك العادة التي تركتها تمامًا بعدما حدث لي مع القطة المرعوبة في المخزن. ولو كنت أعلم أن رغبتي هذه الثانية لإِثبات رجولتي ستقودني لموقف أكثر رعبًا وأشد بشاعة؛ لترددت قليلًا وأنا أركب رأسي، وأصمم وأبيت النية في صدري، وأتكتمها وأسعى حثيثًا حثيثًا لتحقيقها!

أما لماذا عن طريق القتل بالذات؛ فقد تقول إنها استمرار لنزعتي وأنا صغير، ولكن الواقع غير هذا؛ فالقتل في حد ذاته لم يكن هو ما يجذبني … القتلة هم الذين كانوا يجذبونني … هؤلاء الناس الذين يسمونهم في مديريتنا أولاد الليل، هؤلاء الذين يحكمون مملكة الليل ويقتلون من يعترض سبيلهم فيه … في تلك السن كنت شديد الإِعجاب بأولاد الليل هؤلاء إلى درجة أني في أحلامي؛ لكي أصبح رجلًا، كنت لا أريد إلا أن أصبح واحدًا من الذين يقشعرُّ لذكرهم العاديون القانعون بلقمهم وحياتهم … كانت الرجولة في رأيي مرتبطةً بأعمال غير عادية وبرجال غير عاديين. كانت الرجولة في رأيي هي رجولة أولاد الليل … كنت أريد إذا أصبحت رجلًا أن أصبح واحدًا من الذين يقشعر لذكرهم الرجال في بلدنا؟!

بالاختصار كنت أريد أن أصبح بطلًا باعتبار أن الرجولة لا بدَّ أن تكون بطولة، ومثلي الأعلى كان أولاد الليل … ولهذا كنت دائم التتبع لتحرُّكاتهم، وأتفه ما يحدث لهم تمامًا كما يتتبع شبَّان هذه الأيام أبطال السينما، ويتحرقون شوقًا إلى أخبارهم … وكان حلمي الدائم أن أتعرَّف بهم أو بأي منهم، وأن يصاحبني ويعلمني حرفة أولاد الليل ويجعلني أقتُل، وأصبح في النهاية رجلًا.

كنت في الرابعة عشرة كما قلت، نحيفًا شاحب الوجه هادئ الملامح، عمري ما تشاجرت أو اشتبكت أو شتمت أحدًا، حتى كان أبي وأمي وكل الناس يقولون عني إني طيب وابن حلال … ولم يكونوا يعرفون أبدًا أن في صدري بركانًا يريد الانفجار، وأن في رأسي أحلامًا وعالمًا غامضًا غريبًا مختلفًا تمامًا عن العالم الباهت الراكد الذي كنتُ أحيا فيه، عالم آخر فيه شجاعة وجدعنة ومخاطرة وصدام … عالم لا بد أنه لا يوجد إلا في الليل، ولا يسمح بدخوله والحياة فيه إلا لرجل بطل … لابن ليل!

٢

ولم أترك طريقًا أسلكه ليوصلني لأولاد الليل إلا طرقته … كنت أضيق بصحبة لداتي من تلامذة البلدة وطلَبتها، وأجوب الغُرَز والقهاوي بحثًا عن أخبار سرقة أو جريمة، أو أملًا في العثور على رجل شاف أو رأى وجالس يحكي … وكان منقذي الدائم هو عم خليل … كان عم خليل يعمل خفير طماطم في عزبةٍ قريبة مجاورة، وكان عجوزًا تخطى الخمسين، ولكنه قضى شبابه كله، وجزءًا من رجولته لصًّا كبيرًا وابن ليل؛ وربما من أجل هذا السبب اختاره صاحب العزبة وعيَّنه خفيرًا على المائة فدان.

كنت آخذ له باكو المعسل والسكر والشاي، والشاي بالذات؛ فقد كان كييف شاي، يضع الأُوقية كلها في التلقيمة الواحدة، ويعمل الشاي من ثلاثة أدوار، الأول سادة، والثاني بخدشة سكر، ولا يسمح لي بأن أشرب إلا من الدور الثالث الحلو … وكنت أجد في صحبة عم خليل متعة كبرى … فقد كان إذا تسَلْطن من الشاي والدخان، بدأ يحكي عن مغامراته وعن كبار اللصوص الذين عرفهم، وعن البهائم التي سرقوها، والجدران التي نقبوها، والمنازل التي دخلوها، وكنت أحب منه عدم مبالغته في ذكر بطولاته الشخصية وتمجيد أدواره، كان دائمًا يلعب لأي عصابة يعمل معها دور المراقب، أو المشاهد الذي يحمي ظهر المهاجمين ويحذرهم … وكان خليل هو الآخر يجد في صحبتي متعة، فهو وحيد عجوز تعدَّى الخمسين، يقبع طول الليل والنهار في ذلك العش الذي صنعه لنفسه على رأس المائة فدان المزروعة طماطم، وكان أعور يغطي نصف وجهه بمنديل محلاوي متَّسخ بطريقة لا يبدو معها أنه يُخفي عوَره. وكان يحب الكلام ويحب أن يحكي عما فعله في الزمن الخالي … وكان يجد فيَّ خير مستمع، وكان يقضي الساعات يحكي ولا يمل. ساعات يلتهب فيها خيالي البكر، وأجد نفسي بقوًى أكبر مني مدفوعًا؛ لا لكي أسمع فقط، ولكن لكي أعمل وأنضم إلى عصابة مثلًا، وأشاهدهم وهم يشتبكون … وكنت حينئذٍ أسأله إن كان يعرف أحدًا من أولاد الليل المعاصرين الذين كنَّا نسمع نتفًا متفرقة عن حوادثهم، كان حينئذٍ يقول باشمئزازٍ يكشف عن فكِّه الأسفل الأثرم، ويهز بيده علامة اليأس، ويقول: أولاد ليل إيه دول؟ دول عيال … أولاد الليل كانوا زمان … إنما دلوقتي … يا شيخ … دول شوية عيال.

وكنت أصدق عم خليل؛ إذ من الحكايات التي كنت أسمعها، كان واضحًا أن عالم البطولات والأمجاد قد ولَّى بعد أيامه وعصاباته. وكنت أتحسَّر حقيقية ويملؤني الضيق؛ لأني لم أوجد قبل وجودي بأعوام، وفاتني هذا الزمن القديم الحافل.

شخص واحد فقط كنت إذا سألت عم خليل عنه لا يشيح بيده أو يشمئز، وإنما يتولاه وُجوم ويقول: آه … الغريب أبو محمد … دا ما له ده؟ … أهو ده اللي فاضل من أيام زمان.

ذلك أن الغريب أبو محمد كانت شهرته، كابنِ ليل مدوخ بوليس، قد بدأت تعم الآفاق … وكان من غير الجيل الذي يتحدث عنه عم خليل، ولكني حتى وأنا في هذه السن، كنت أستطيع أن أدرك بوضوح أن عم خليل لا يستطيع أن ينكر على الغريب مكانته، ولكنه يفسر جدعنته ورجولته بادِّعاء أنه الجزء الباقي من الماضي الغابر!

وحين كنت أطلب من عم خليل وأُلِح في الطلب أن يجعلني أرى الغريب أبو محمد ولو مرة واحدة، كان يتنصَّل ويعتذر، ويبدو عليه أنه أفاق من حالة التفتُّح الوجداني الذي كان سادرًا فيه ويقول: ما لك إنت يا بني ومال الناس دول؟ … يكفيك شرهم.

فلا يفزعني رده، وأستنكر أن يكون هو نفس الشخص الذي كان من هُنيهة يشيد بأولاد الليل وحياتهم وأشخاصهم، وأنه هو نفسه كان منهم، فيعود ويقول في صوته الخائف خوف الموت من العودة … إن الله قد رضي عنه … وإنه تاب، وإن هذا كان زمان وأيام زمان … أما الآن فإنه يصلي والحمد لله يصوم رمضان. والحقيقة أنه لم يكن يصلي أو يصوم، وكنت أرى بعيني رجالًا يأتون إليه؛ ليخفوا عنده أشياء ويعودوا بعد أيام يستردونها. وأراهم وهم يغمزونه، وأراه وهو يعود إليَّ وفيه اضطراب ويقول: آه … أيوه … احنا كنا بنقول في إيه.

ويبدأ يتحدث فإذا بها نفس الحكاية التي قالها لي مرة، وأصبر قليلًا علَّها تكون مختلفة. وإذا بها هي بنفس تفاصيلها، فأقول له هذا، فينتقل إلى مغامرة أخرى لا جديد فيها، فهي أيضًا قد سمعتها. ومع أني كنت قد اكتشفت أنه لم يعد لديه شيء جديد؛ إلا أني لم أكفَّ عن التردد عليه في عشته التي كان يسميها «الطيارة»، ويراقب منها بعين واحدة كليلة عليها سحابة فدادين الطماطم الشاسعة … لم أكفَّ؛ لأني في قرارة نفسي كنت عن طريقه أريد أن أعثر على الغريب، وكنت أعرف أنه خيطي الوحيد الذي لا أعرف سواه، وكنت أطمع أن يحدث هذا يومًا ما مهما كثرت الأيام. وكانت الإِجازة الصيفية تنقرض وأيامها تسرع، وشغفي يزداد وأملي يكاد ينفد.

ولم أكن أتصور أن الإِجازة لن تنقضي إلا وقد عرفت الغريب، وعرفته بطريقة لم أكن أيضًا أتصورها.

٣

كانت الحرب العالمية الثانية على أشُدها وروميل في العلمين، والناس يتحدثون عن الحاج محمد هتلر وإشهار إسلامه، وبقدومه المتوقع ليخلصنا من الإِنجليز. أما عالم الليل في مركزنا؛ فقد كان مشغولًا بأمر آخر لا يمُت بصلة إلى هتلر أو روميل. أيامها كان ثمة أمر عسكري قد صدر بترحيل المجرمين المشبوهين إلى معتقل الطور، ونشط كل مأمور مركز، ونشط كل عمدة، ونشط الحاقدون ومحترفو كتابة العرائض. وفي كل بضعة أيام يتكوَّن فوج من المجرمين فعلًا، والأبرياء الذين اغتنوا، والأبرياء الذين زُجَّ بهم نكاية وزورًا، فوج يُربَط في سلاسل من حديد وكلابشات، ويُرحل إلى الطور. أما مركزنا فقد رزقه الله بمأمور كان قريبًا لأحد رجال السراي الذين تتحدث عنهم الصحف؛ ولهذا رأى أن يفسر الأمر العسكري بطريقته الخاصة. وبدلًا من أن يتعب نفسه في عمليات الترحيل ومكاتباته واستماراته، كان يتولى ترحيل المشتبه في أمرهم ليس إلى الطور ولكن إلى العالم الآخر، وبطريقة بسيطة للغاية لا سلاسل فيها أو كلابشات. كان إذا أفلح في القبض على أحدهم وجيء به إلى المركز لا يدخله السجن، وإنما يبقيه معه في حجرته يحدثه ويُؤانسه، ويقدِّم له الشاي والمزاج، ثم إذا هب الليل يدعوه إلى نزهة معه في «البوكسفورد». وهناك على حافة البحيرة أو أحد المصارف الكئيبة المؤدية إليها يُوقف العربة، وينزل هو ويدعو ضيفه للنزول، وبعدة طلقات ينتهي من أمره، ثم يدفعه إلى البحيرة، ولتظهر جثته بعد هذا أو لا تظهر، فلا أحد شاف ولا أحد درى! والحكومة أبدًا غير حريصة على حياة المجرمين والمشتبه في أمرهم، ولا يمكن أن يثبت أي تحقيق يجري طرف مسئُولية عليه أو على أحد.

وبعدد هائل من هذه — الفسح — التي أصبحت بعدَ هذا معروفة ومشهورة، استطاع المأمور الهمام أن يتخلَّص من عدَد لا بأس به من المجرمين السابقين والحاليين والمشتبه في سوابقهم أو لوائحهم، حتى أصبحت سيرة المأمور كقاتل أكثر سريانًا على الألسن من سيرة أي ابن ليل عتيد. وكان يصله ما يقوله الناس، وكان يضحك ضحكًا يُسمع من شباك مكتبه في المركز ويجلجل. ربما كان يجد هو الآخر لذة في الخروج على القانون تفوق لذة تطبيقه … المهم أنه كان في أحاديثه الخاصة ومجالسه وبين مرءُوسيه لا يكفُّ عن ترديد أن كل ما حدث لا يعدُّ شيئًا، وأن الفسحة الحقيقية التي لن يهدأ حتى يحقِّقها هي فسحته مع الغريب أبو محمد، عميد أولاد الليل في المركز بل في المديرية، وربما في كل وجه بحري. ولم يكن راضيًا أبدًا عن مجهود مباحث المركز وعساكره ومخبريه … في كل يوم كان يعقد لهم طابورَ توبيخ وتأنيب وتقريع. والعجيب أنهم كانوا يقولون إنه في طوابيره تلك يستعمل ألفاظًا لا يمكن أن يستعملها جامعو أعقاب السجائر، رغم أنه، كما يقولون أيضًا، يستمد نفوذه من صلته بالسراي والملك عن طريق قريبه هذا ذي المنصب الكبير … ورغم الألفاظ والطوابير والتوبيخ؛ فقد ظل الغريب مختفيًا لا يُقبض عليه، حتى حين وصل الأمر إلى حد التحدِّي السافر، وأصبح المأمور ينفق من ماله الخاص — وربما ليس بالضبط من ماله الخاص — ويرصد المكافآت، ويؤجِّر العيون، ويلعب من بعيد على شلبي الذي كان معروفًا أنه ساعد الغريب الأيمن ويُغريه — ويبدو أن هذا السلاح نجح؛ فقد فوجئ أهالي المركز ذات يوم بأن الغريب محبوس في المركز ينتظر مصيره المعلوم المحتوم، وأن القبض تمَّ بالاتفاق مع شلبي، وأن شلبي قد قُبض.

والمفاجأة التي لم يكن أي من أهل المركز وقُراه يتوقعها هي تلك التي جاءت مع غروب الشمس، حين قالوا إن الغريب قد هرب في عزِّ النهار، وإن الدنيا قامت وراءه ولم تقعد بعدُ، وإن وقعة من يخفيه، أو لا يبلغ عنه أسوَد من شعر رأسه.

تلك كانت المفاجأة التي لم يُفِق منها أحد في المركز أو قُراه، والتي ظلت حديث الناس أيامًا، والتي أصبح موقف الناس بعدها كموقف المتفرِّجين على عسكر وحرامية، ولكنها لعبة خطِرة يشاهدونها، ويتحدثون عنها في السر وبأصوات منخفضة. وينهر الجار جاره أو الصديق صديقه إذا رفع صوته وتحدث، مذكِّرًا إياه بالمخبرين الذين أطلقهم المأمور يتجسسون ويعدون الأنفاس، ويتسلمون غبار الغريب.

حتى نحن — شلة الطلبة والتلامذة الذين كنا نسهر على حائط الكوبري الأسمنت الناعم في ذلك المساء — نتسامر ونتحدث عن المطاردة الخطرة ونحن مطمئنون تمامًا ألا مخبر بيننا أو بوليس. كنا نتحدث في خوف وهمس، ويستغرقنا الحديث تمامًا حتى ننسى أنفسنا ولا نصحو إلا على تحذير صادر من أحدنا يقول: إن لليل آذانًا، وإن من المستحسن أن نسد أفواهنا ونسكت.

وكنا نصمت ويبدأ خوفنا يطغى، فالدنيا كلها كانت قد عرفت أن الغريب لم يبارح المركز أو قراه؛ زيادة في تحديه للمأمور، وأنه يستعمل الأذرة الصيفي بعيدانها الطويلة وتشابكها الذي يخفي الفيل لو أراد … وكان حديثنا عن الغريب خطرًا من الناحيتين؛ كنا نخاف المأمور وعيونه من ناحية، والغريب من ناحية أخرى؛ إذ من يضمن أننا إذا تحدثنا لن تُفلت من أحدنا كلمة … كلمة قد يشيد فيها بالغريب، فيغضب علينا المأمور ورجاله وآهٍ من غضبهم! أو قد نُشيد فيها بالمأمور، فيغضب علينا الغريب، وآه من غضبه هو الآخر وسكينه التي كانوا يقولون إنه يربطها حول سمانة رجله! … بل أكثر من هذا كانت جلستنا نفسها نوعًا من التهور، سننال عليه بالتأكيد علقًا وتأنيبًا؛ فأهلنا وأهل البلاد كلها يحيون في حالة رعب من اللحظة التي عُرف فيها أن الغريب قد هرب، وأنه يختفي في حقول الأذرة، وأنه يظهر بالليل أحيانًا ليغتصب الطعام والنقود … وكان رعبهم هو الآخر مزدوجًا. وكأن كلًّا منهم كان يتصور أن المأمور سيوجه إليه تهمة التستُّر على غريب، هكذا لله في لله، ودون حتى أن يراه. ولهذا كانت قرى مركزنا تشطِّب من المغرب، والبهائم تروح قبل ذهاب الشمس، وتصبح الحقول والشوارع صحراء ليلية جرداء، لا حياة فيها ولا حس، ليس فيها سوى دوريات رهيبة مسلَّحة ومصفَّحة، تجوب ظلام الليل وصحراءه؛ بحثًا عن الذئب المختفي في مكان ما منه.

ولأن كل هذا كان يدور في خواطرنا بسرعة إذا صمتنا، فصمتنا كان لا يطول … في الحال نجد أحدنا قد بدأ يتحدث والآخرين قد بدءُوا يشاركونه. وإذا بالحديث يعود رغمًا عنا سيرته الأولى، ويعود كل منا يسأل الآخرين، بينما هو في الحقيقة يسأل نفسه: ماذا يفعل الواحد منهم لو لقيه الغريب، وهو في طريق عودته إلى بيته؟ وعاصفة خوف هي التي كانت تجتاحنا لدى إلقاء السؤال. خوف مبالغ فيه؛ إذ الواقع أن هاتفًا خفيًّا في قرارة كل منا كان يتمنَّى لو حدث هذا، ولكن يتمنى ماذا؟ كان مليون هاتف آخر يتصايحون فورًا في جوفه، ويقتلون ذلك الهاتف الخافت. وبسرعة تتحرك دوافع الجبن لتأخذ من الشجاعة كل سماتها وأرديتها، وتحتل المقام الأول. وتجعل من دوافع الشجاعة حيثيات تهوُّر وجنون وقلة عقل …!

وفي تلك الليلة حين تكاثر الخوف حتى فضَّ سامرنا ومجلسنا، نفس الخوف الذي كان يُبقيه ويمنعنا من الحركة، وقام البعض يتشبث بزملائه ويحتمي بهم ويطلب منهم أن يوصلوه. وقام آخرون يختارون أسلم الطرق وأقربها إلى البيوت. وحين قمت بدوري لم أكن أعرف ولا كان حتى باستطاعتي لو أردت أن أتخيَّل أن الصدف اختارتني ليلتها؛ ليخرج عليَّ الغريب من بين عيدان الذرة، ويجفف الدماء من عروقي بمثل ما حدث …!

٤

من الصعب عليَّ جدًّا أن أحدد إن كنت لم أستشعر أبدًا أني سألقاه، ولكنها لم تكن حاسَّة سادسة أو إشارة من المجهول … كان شعورًا عامًّا غمرني، وجعلني لا أعتقد أن هناك فارقًا كبيرًا بين أن ألقاه أو لا ألقاه.

كان عليَّ لكي أصل إلى بيتنا أن أمشي على جسر الترعة مع بقية رفاقي ثم نفترق، حيث يستمرُّون هم في سيرهم إلى البلدة، وأنحرف أنا في طريق ضيِّق يدور حول طرف البلدة، وتحده المساكن من ناحية والأرض المزروعة من ناحية أخرى … والعجيب أن الخوف انتابني فقط وأنا معهم … أما حين أصبحت وحدي؛ فقد تلاشى الخوف فجأة، ومع هذا لم أعد إلى حالتي الأولى، اضطراب عظيم وجدته يعصف بي، وكان الخوف قد وصل إلى أن أصبح فوق متناول حواسي ووعيي، وانقلب إلى حذر عظيم واستعداد جنوني للدفاع عن النفس، وحساسية مطلقة لأخْفَتِ الأصوات، والتهاب الخيال إلى درجة يرى فيها أي بياض في الليل جلبابًا، وأي سواد شبحًا، وأي حركة طعنة … وكان لم يبقَ على انتهاء حقل الأذرة الصيفي الذي كنت أسير بحذائه إلا بضعة أمتار. بعدها أمرُّ بأرض القمح المنخفضة، حيث الاحتمالات أقل والأمان أكثر … والأذرة في الليل لها وَشْوشة تُحدِثها أوراقها الطويلة الحادة كالموسى الخشِنة كالمنشار، خاصة حين يفاجئك حدها في جبهتك أو يلسعك وهو يصُك يدك … وأنا خائف أن أبطئ، وكل ثانية تمر قد تحدُث فيها الكارثة. وجاءني شيء من خلف ظهري كالهبهبة. حسبتها أول الأمر هبهبة كلب، ولكنها كانت كلمة … «ولهْ» … وبسرعة الومض خطَر لي أنها بالتأكيد ليست هبهبة، ولكنها كلمة … أمر من إنسان. وخطوت خطوة ثانية، وجاءت هذه المرة واضحة، أخرست وشوشة الذرة، وأصمتت صراصير الليل وأزيزه.

– ولهْ …

نفذت إليَّ آمرة سريعة، فيها دعوة أحسَسْت بعدها بصمم دافئ، وكأن أحدهم صب ماء ساخنًا في فتحات أذني … ولم أعد أسمع ولا أتحرك أو أتنفس أو أفكر … وفي عقلي شيء واحد يدق ولا يتغير: لقد حدث … لقد حدث … لقد حدث!

لحظة واحدة هي التي استغرقها كل ما دار، ولكنها من اللحظات التي يجلس الإِنسان بعدها ساعات؛ ليستطيع أن يلم بكل ما حدث فيها ويرتبه، ويجعله يخضع للمنطق والمعقول … لماذا لم أَجْرِ وقد كان باستطاعتي أن أفعل؟ لماذا انكتم الصوتُ في حلقي الجاف ولم أصرخ؟ لماذا لم أكن أريد أن أجري أو أصرخ أو حتى أتنفَّس؟ لماذا التفتُّ فجأة إلى الخلف في حركة مذعورة، وقلت بتلك الحشرجة المرتفعة التي ملأتْ صوتي المراهق برنين أصوات الرجال وخشونته: أيوه … عايز إيه؟

– ما تخافْش يا شاطر.

هل معقول هذا؟ وهل يخضع الخوف أحيانًا للأمر، أو لأمر قادم من شخص معين، بحيث إذا جاءك وجدت نفسك فعلًا قد كفَفت فورًا عن الخوف؟ ولكن إذا لم يكن هذا صحيحًا؛ فبأي شيء استطعت أن أدفع هذا الخوف وأجعل ما أصابني من خوف يتلاشى، وكأنه ذاب؟ جسدي فقط هو الذي تولَّتْه رعشة … رعشة بلا خوف … وكأن الخوف قد غادر رأسي وصدري إلى الأبد، وركب أطرافي وأرعشها بطريقة جعلت همي كله يصبح أن أوقف ارتجافي الظاهر هذا، وأستجمع إرادتي كلها لآمر بها أطرافي أن تكفَّ عن خوفها … بلا جدوى، بل بالعكس كلما أمرتها كانت تزداد خوفًا وارتعاشًا … والحقيقة المالئة رأسي لحظتها أنِّي لا يجب أن يظهر عليَّ علامة خوف واحدة، حتى لو كانت ارتعاشة. ووجدت السؤال ينطلق مني بلا تفكير، إلا أن أوقف أسنانًا تصطك وركبًا تهتز … بلا تفكير إلا أن تمر اللحظة الحاضرة، فقط تمر وبأي ثمن؛ إذ لأمر ما كنت أعتقد أنها لو مرت بسلام، فسأملك أمر نفسي بعدها، وسأنجح في التصرف.

– من أنت؟

شخطة خرجت مني، ولا شخطة المأمور! … أو الغريب نفسه إذا صادف شحاذًا أو متسولًا! … وبسرعة، وقبل أن تصطك أسناني مرة أخرى أعقبتها: إنت مين؟

وجاء الصوت الذي لم أكن إلى ذلك الوقت قد عرفت من أين يجيء، وهل يأتي من أمامي أو من خلفي … أو حتى يخرج من باطن الأرض: أَني غريب.

وانطلقت مرة أخرى، وكأنني مسدس الخائف حين لا يصبح همه إلا أن يطلق الرصاص … ولا يكف إلا بعد أن يفرِّغ رصاصَه … انطلقت لأقول: إنت غريب ولَّا الغريب؟ … ولكن شيئًا غريزيًّا أوقف الجملة الطلقة في حلقي، وجعلني أقول: أنت اﻟ… وبتقول «وله» ليه؟ … ما تقول سلام عليكم يا أخي … ما تقول سلام عليكم.

قلتها وانتهت طلقاتي وسكت. وسكت الصوت الآخر. انتهى بعدها صمَم أذني، وعاد إليها أزيز الليل … وبدأت أنفاسي تتلاحق وتعمق، ورحت أفكر في أن أطلق ساقي للريح وأجري وأستغيث، ولكن شيئًا كامنًا في نفسي ظل يردِّد لي أنني لن أفعل شيئًا كهذا، وأن ليس باستطاعتي أن أتحرك من مكاني خطوة، حتى لو أردت.

وطال الصمت، أو ربما طال في نظري … وخُيل إليَّ أن كل شيء قد انتهى … وأن صاحب الصوت لا بدَّ قد ذهب، ولكن أبدًا … إحساس غمرني وجعلني أحس أني أراقب، وأن عينين لا أراهما تدرسانني خلجة خلجة، وأن أمري وصِغر سني لا بد سينكشفان حالًا … وستحين لحظتي القاضية. ويا له من شعور أفزعني، وأنا واقف عاري الرأس مخلوع الصندل، تحت سماء بدأ قمرها الجامد يختنق ويذوي، وظلامها الكامل يطبق، والشعاعات غير المرئية تخرج لا بد من مكان داخل هذه الشجيرات المتكاثفة لتتفحصني على مهَل وبتمعُّن! … أنا المتجمد في مكاني لا بقوة الرعب؛ فقد ذهب الرعب، ولكن بقوة ما بعد الرعب، بقوة الشعور الذي يجمِّد الفأر في مكانه حين تنغلق عليه المصيدة، بحيث حتى لو فَتحت له بابها؛ لما استطاع أن يهرب منها.

ومن الظلام المخفف بظلال العيدان سمعت ضحكة … بالضبط لم تكن ضحكة ممكن أن يقاس نوعها وطولها … كانت إذا قيست بالضحك الحقيقي، حسبتها حبة من مسبحة … أو قطرة من ماء، أو عينة من ثوب قماش … وآخر ما كنت أتوقعه من نفسي هو أن أغضب لسماعها … غضبت، بل أكثر من هذا، أحسست أني أكظم غيظي، ولكني سكت.

– إنت ابن مين يا شاطر …؟

وكاد غضبي يتحول إلى حركة وقول لدى سماعي السؤال، وخاصة لدى كلمة «شاطر»، ولكني لا أعرف لماذا هدأت للسؤال، وحل الاطمئنان في قلبي … وقلت: أنا ابن فلان.

– أبوك رجل طيب.

والحقيقة لم أسمع بقية إجابته … فقد وجدت العيدان تشخشخ وتتأرجح، ثم يبرز على أثر الكلام من بينها امرأة قصيرة القامة ترتدي ثوبًا أسود، وطرحة سوداء، وبرقعًا ذا قصبة ذهبية لمعت بشُحوب تحت شعاع القمر الأصفر.

٥

من الممكن أن يعتقد البعض أنه كان حريًّا بزيه هذا أن يبعث في نفسي السخرية والاستهانة بصاحبه، ولكن العكس بالضبط هو ما حدث … فقد أحسست فعلًا بشعري يقف، وقشعريرة ملتهبة تغمر فروة رأسي، وأنا أرى الغريب قتال القتلة ومدوخ المديرية يرتدي ثوب النساء الأسود، ويضع مثلهن البرقع … وأن يظهر لنا العفريت كعفريت شيءٌ يخيف، أما أن يظهر في صورة «عِرسة» فشيءٌ لا بد أن يبعث على الرعب المميت.

وخطا الغريب بضع خطوات ناحيتي، وهاتف الجري عند كل خطوة يعلو نداؤه وترجِّع رأسي صداه، ولكنه فجأة جلس وقال: اقعد … وفي الحال قعدت، وإن كنت قد افتعلت البطء والتؤدة وأنا أجلس … كانت حافة «القيد» الذي تُروى منه الأرض، والذي جلسنا عليه لأتهيأ مكانًا لجلسة مريحة، ولكن مشكلتي لم تكن في الجلسة. مشكلتي كانت فيما يريده الغريب مني، هو يريد الناس لقتلهم مثلًا أو ليعورهم أو ليأخذ منهم نقودًا، فماذا يريد مني وهو لم يقتلني، ولا يعقل أن يكون معي نقود، ويطلب مني أن أجلس!

جلست في صمت، وهممت أن أتكلم ولكني أُمرت بالسكوت. أمرني ذلك الكائن الغريزي الذي يتولى أمرنا وحكمنا في أوقات كتلك، أوقات لا نعرف فيها نوايا وأهدافَ من نكون معهم … خاصة إذا كانوا من زملاء الليل أو أمثال الغريب.

لم أكن حتى ذلك الوقت قد رأيته … كنت قد لمحته وحدَّقت فيه، وكنت أعرف أنه أمام عيني وبجواري، ولكني لم أكن قد رأيته … السياج الرهيب الذي كان يحيط به … الذين قتلهم والذين طاردهم والذين طاردوه، والحكومة التي يعاندها والحكومة التي تريده، وتاريخ طويل من القصص والروايات والأحاديث منسوجة وملونة ومحبوكة كانت تحيط به من كل جانب، ولا أستطيع معها أن أراه حتى وهو في ملابس النساء تلك، بل لم تفعل ملابسه أكثر من أنها أضافت للسياج الوهمي سياجًا حقيقيًّا، وتفاعل السياجان ليجعلاني أحس به موجودًا وغير موجود، هو الجالس بجواري ويكلمني، ولا يمكن أن يكون هذا شخصه أو الكلام كلامه … أمعقول هذا؟ الغريب هو الجالس على حافة القيد يحادثني؟ كان يخيَّل لي في لحظة أن من أراه في تلك الثياب السوداء ليس سوى ظلٍّ لعملاق رهيب لا يزال كامنًا في الأذرة، وفي أحيان يُخيل إليَّ أن الثوب خالٍ من الداخل، وأن الغريب ما هو إلا نقطة زئبقية داخلية لا يمكن إمساكها أو القبض عليها.

وأخرج علبة الدخان من جيبه أو هكذا تمنَّيت، فأي حركة منه كانت ترعشني، وتجعلني أنتفض مترقبًا غرزة السكين المربوطة على فخذه في صدري، وقال: تاخد سيجارة؟

قلت: كتر خيرك.

قال: خد.

قلت، وأيامها كنت أدخن خلسة سيجارة أو سيجارتين في اليوم … قلت متصنعًا الأدب: ما بشْربش.

هز رأسه في سخرية وقال: بتشرب … خد.

وادعيت، كأنما براعته قد كشفتني، فقلت: علشان خاطرك حاخدها.

مد لي السيجارة وأشعل عود الكبريت من علبة ذات ستين عودًا «ماركة الخيال»، ومد العود ناحيتي قائلًا: ولع.

وآليت على نفسي ألا أشعل سيجارتي قبله وأقسمت، ولم يفعل قسَمي أكثر من أنه أطفأ العود، وقرب رأسه ذات البرقع الذي كان قد رفعه ليشعل اللفافة مني، وأشعل الكبريت مرة أخرى. ولأمنع انطفاءه قربت رأسي، وليمنع انطفاءه قرب رأسه، وانفجرت الشعلة تضيء ما بيننا، وتضيء — أعوذ بالله أعوذ بالله — وجهه، وكأنما أضاءت وجه جنية، عيونها مخطَّطة بالطول، وكأنما أضاءت وجه نعجة شيطانية مجنونة ترتدي برقعًا.

سقطة السيجارة من فمي هي فقط التي عرَّفتني أن فمي مفتوح وأني خائف جدًّا، وكأن كل ما فات من خوف لم يكن سوى التثاؤب الذي يسبق المرض. أمَّا وأنا أحدق في وجهه فهو الخوف، المرض، الحمى الباردة التي تهد الجسد وتضعضع العظام، الحمَّى التي ترجفني، حمى الخوف التي أدركها بوعي محسوسة ملموسة.

ورغم هذا ما أعجب قدرتنا! ما أعجبنا نحن بني الإِنسان! لو كنت حيوانًا … وأحسست بمثل ما أحسست لفقدت السيطرة على نفسي، ولظللت أجري وأركض رعبًا حتى لقيت حَتْفي، ولكنني في اللحظات التالية كنت بقدرة الخوف الخارقة قد ملكت السيطرة على نفسي تمامًا، جلست بجواره أيضًا أدخِّن السيجارة العربي «الملكونيان» التي عزم عليَّ بها، وأدوخ … فقد كنت حديث العهد بالتدخين وبابتلاع الدخان، وأرد على أسئلته بثبات أو بمحاولات جادة يائسة الثبات غالبًا ما كانت تنجح، وغالبًا ما كانت إجاباتي تخرج مفهومة معقولة تكاد تبدو طبيعية … سألني عن دارنا، وأين هي من جلستنا، وسألني أين كنت، ومع من، وماذا قلت لهم، وماذا قالوا لي، وماذا يقول الناس عنه … ولم يفتني وأنا في حالتي التي أتأرجح فيها بين «الهي والهوى» تلك أن ألاحظ غبطته الساذجة لكل كبيرة وصغيرة قلتها له نقلًا عن الناس، بل وألفتها أيضًا. وما أيسر التأليف عليَّ وأنا أحاول أن أرضيه، وأجعل أقوالي كمرآة مكبرة يرى فيها حجمه مضاعفًا وبطولاته أطول من المآذن وسعَف النخيل.

وأنا آخذ آخر أنفاس سيجارتي، كانت المشكلة لا تزال تلسعني، ولا أزال أريد أن أقول له كم حاولت أن أراه وألقاه، وأشهد عم خليل و«طيارته» غير بعيدة على أقوالي، وأتردد لا لشيء إلا لخوفي من أن يفسر رغبتي في رؤيته تفسيرًا يجلب غضبه. وأخشى ما كنت أخشاه لحظتها أن أقول كلمة أو أُقْدِم على حركة تثير غضبه، بل كان يُخيل لي أحيانًا أنه سيغضب فجأة من تلقاء نفسه كالمجاذيب وأهل الله … وكأن أخلاق أهل الليل قريبة الشبه جدًّا من أخلاق أهل الله. ولكنني نسيت المشكلة تمامًا، بل نسيت نفسي والمكان والزمان في طرفي الكماشة اللذين أطبقا على بلبلة أذني، وأنا أدفن بقايا السيجارة في طين القيد.

٦

أصابع لا يمكن أن تكون أصابع … لا بد أن عظامها من الداخل كانت حديدًا، والجلد فوقها قد جفَّ من زمان وتحجز. خيل إليَّ أن جسدي كله يحمر للقرصة، ومع هذا فقد كنت أحس بالأصابع الكماشة لا تقصد بها الجد والأذى بقدر ما تريد التنبيه المغلَّف بهَزل … وصوت يأتيني من وراء البرقع الذي أُعيد كقناع الديك الرومي إلى مكانه: وبتشرب سجاير ليه؟ … مش عيب؟

ولم أتأوه … خوفًا، وربما حسبها جدعنة، ولكنها كانت والله خوفًا، وحتى سكوني بعد هذا وهو يسألني، هل أصلي مثل أبي المشهور بصلاحه … ثم نطقي حين ازدادت الضغطة وقولي: لاه.

وتزداد القرصة، ويجيئني السؤال كلفحة النار الهادئة: ليه؟

فأقول: حاصَلِّي … حاصَلِّي.

وحينئذٍ أحس بجسدي يبرد وينتعش ويعود إلى الحياة؛ إذ الكماشة كانت قد تركت أذني، ولكني ما كدت أتنفس، حتى دوَّت خبطة أو خبطتان على ظهري كدق الساطور على جسد الذبيحة المنفوخ، والغريب لعنة الله عليه، يقول: لا والله … أنت واد جدع … يحميك لأبوك … لولا أنك جدع لغرزتك زرع بصل في القيد ده … قف.

ماذا أفعل؟ وقفت … قرب هنا … قربت … هات ودانك … أذني التي كنت لا أزال أحس بها حمراء كالجمر المضيء في ظلمة الليل هي نفسها التي قربتها، وهي نفسها التي سمعته … سمعت قحة الغريب أبو محمد وهو يقول: آني جعان يا ولد.

أقسم أن صدري لم ينشرح لكلمة سمعتها من إنسان بمثل ما شرحت صدري تلك الكلمة، وأزالت كل ما تراكم فيه ليلتها من اضطراب ورعب وارتجاف وهوَس … واستقرت في أعمق أعماقه وراحت تدوي دويًّا غريبًا حبيبًا، نداء … النداء الذي تتجمع له النخوة والحب والرغبة العارمة في التضحية، وأسهلها التضحية بالنفس. وبكل هذا، وبكل ما حدث فيَّ وما انداح من صدري قلت في شبه هتاف: تحب تاكل إيه؟

– أي حاجة … وإن كنت تقدر هات لي صندوق دخان وحجر بطارية وقُلة ميه.

واستدرت لأجري، ولكنني لم أتحرك، فيده المهولة كانت قد أمسكت بذيل جلبابي … وعدت أواجهه فوجدته يرفع البرقع ويقول: كلام رجالة؟!

وجمت … فقد أحسَست أنه يهينني، وربما القمر الساقط على وجهي الشاحب اللاهث قد أنبأه هو الآخر أني أكاد أبكي تأثرًا، فترك الذيل، ولكنني لم أتحرك … ظللت واقفًا، وأيضًا لا أستطيع أن أتكلم … كنت أريد أن أقول له أشياء كثيرة جدًّا، ولكني لم أكن أعرف كيف أقولها؛ ربما لأني لم أكن أعرف بالضبط هذه الأشياء الكثيرة التي أريد قولها؛ وربما لأني لدى كلمته هذه بدأت أفقد الحماس الدافق الذي أشاعه طلبه في صدري، وبدأت أفكر في أن أذهب وأوقظ أبي والخُفراء والعمدة ونمسكه.

وقفت حتى قال: روح … يلَّا.

قلت له: مش خايف مني؟

قال بهدوء آمرٍ هامس ينفذ إلى النخاع: روح.

وبخطوات مضطربة مضيت أتخبَّط في الطريق إلى بيتنا القريب.

٧

قطع الشوربجي كلامه مرة ليقول: من كان يصدق أنني سأعود إليه بعدما نفدت بجلدي منه، ومن كان باستطاعته أن يصدِّق أن علاقة طويلة ستنشأ بيني وبين الغريب، علاقة أُصبح فيها محل ثقته حتى ليأتمنني على زوجته الحلوة الصغيرة «وردة»، أحلى وأجمل وأنضج من رأت عيناي؟

لا بد أن الإنسان هو الذي يتمتع وحده بتلك الخاصية المجنونة خاصية أن يرى الخطر ماثلًا أمام عينه أحيانًا، فلا يهرب منه كما تفعل الكائنات، ولكنه بكل طَيْش يواجهه ويسمِّي هذا شجاعة ويفخر بها … لا بد، وإلَّا لما كانت هناك قوة في الوجود تستطيع أن تعيدني إلى حيث يختفي الغريب، محمَّلًا بكل ما استطعت العثور عليه في بيتنا من طعام، وبقُلة الماء المخصصة لأبي، والتي كان لا يجرؤ أحد من أهل البيت على لمسها.

•••

تلك كانت قصة لقائي بالغريب لأول مرة. والذي حدث أنها لم تكن الأخيرة، فلقد ظلِلت أيامًا كثيرة أقابل الغريب، وأحمل له الطعام والماء، وكل المطالب الصغيرة التي يحتاجها اختفاؤه الكامل. ولم تكن المهمة سهلة؛ فالطعام في القرى لا يُباع أو يشترى، وكان لا بد من التحايل الكثير لإِحضاره من بيتنا، واختلاق الحجج للتزود ببعضه من بيوت أهلي وأقاربي. وكان الغريب أول الأمر يعاملني بحرصٍ شديد، فما ذهبت له مرة بالطعام ووجدته في المكان المتفق عليه. كنت أجد مكان الانتظار دائمًا خاليًا فأقف، وأظل أتأرجح بالشك والخوف، حتى يخرج عليَّ من حيث لا أدري. وبعد أن يكون قد اطمأنَّ إلى أني بمفردي … وكنا لا نلتقي إلا ليلًا في تلك الفترة الكائنة بين المغرب والعشاء … ورغم سني الصغيرة وغرابة هذه العلاقة، فلم يطلب مني الغريب أبدًا أن أبقي ما يحدث بيننا سرًّا، ولكني أنا كنت على استعداد لأن أموت قبل أن أطلع عليه أحدًا … وما أروع تلك الأيام القليلة التي عِشْتها أمينًا على سر الغريب وصلته الوحيدة بالحياة … كنت أحس طوالها أني أخيرًا، وبطريقة لم تخطر لي على بال، قد استطعت أن أدخل ذلك العالم الذي عشت أحلم بالحياة فيه. وما أروع المرات التي شاطرته فيها الطعام، أو التي طالت جلستنا فيها ودار الحديث … حديث كنت أقوم أنا بأغلبه، تاركًا للغريب مهمة تشجيعي على المضي فيه، أو قطع حبل استماعه بسؤال. وما أتفه ما كانت تبدو لي أحداث حياتي الكبيرة، وأنا أحدثه عنها … ما أتفه ما كانت تبدو خلافاتي مع الناس وخناقاتي واشتباكاتي، وأنا أقولها للرجل الذي يقتل الناس لأي هفوة، وأحيانًا بلا هفوة!

وقد اقتضاني الأمر لقاءات كثيرة، وأحاديث ممتدة لأستطيع أن أراه رأي العين، وأتعرف على ملامحه. كان أولَ ما يجذب انتباهك حين تراه شاربٌ أسود كَثٌّ، بدأت تظهر له شعرات ناصعة البياض يمتد بعرض وجهه. وتحس به يبتلع ملامحه كلها، ويستولي على عينيك، ولا يدع لك اهتمامًا آخر توجهه إلى أنفه الحاد الرفيع الذي ينتهي فجأة، وكأنما بمطب عند شاربه، ولا عينيه الضيقتين اللتين تآكلت بعض رموشهما واحمرَّت. وكان أعجب ما فيه يداه؛ إذ كانتا صلبتين صغيرتين أصغر حجمًا من يدي أنا وأقصر أصابع، وحتى «بُلغته» كانت صغيرة، تحس أنها فُصِّلت لصبي أو أنها بُلغة فتاة … ومرة لاحظت أنه بالكاد يلاحقني في الطول إن لم أكن أنا أطول منه بقليل، وأنه حين ينهي ضحكه بشخشخة صوتية اعتادها؛ ربما ليضفي نوعًا من الخشونة على ضحكه.

بعد ليالٍ كنت قد أخذت عليه إلى درجة أني سألته مرة سؤالًا لا يوجهه إلا «عيل» مثلي — على حد رأيه — أو مجنون. سألته لماذا هو قتَّال؟ ولماذا لا يحيا كالناس الذين خلقهم الله وسواهم؟ وماذا دفعه في الطريق؟ ضحك للسؤال وشخشخت ضحكته، وقال: الله يقطعك يا شيخ … وأنت قد السؤال ده؟ طب اسأل حاجه تانية.

ولكني وبطريقة صبيانية، وكأنما أتدلل على أبي، ألححت عليه أن يجيب … حينئذٍ فقط، وبعد إلحاحٍ، سهم وشردت نظرته حتى خفت أن يكون مشغولًا بتتبع مصدر ما للصوت؛ إذ ما كان أرهف أذنيه لأقل الأصوات وأضألها! ثم قال: الحق الحق مش عارف، إنما اللي أقدر أقول لك عليه إني كنت كل مرة يا قاتل يا مقتول.

قلت مبهورًا وقد خيل إليَّ أنه بدأ بعظمة لسانه يفتح لي أسرار عالم الليل الرهيب: إزاي؟ قاتل يا مقتول إزاي؟

– يعني يا كنت أقتل يا أتقتل، فكنت باقتل.

قلت وأنا أمد انبهاري، وأطيله لأشعره به: كل مرة كده؟

– كل مرة كده.

– حتى أول مرة؟

هنا سكت وعاد يسهم، ثم قال: لا … هي المرة الأولانية هي اللي صعبة … كنت زارع عند واحد … كَلْني، طالبته مرة واثنين وتلاتة، وسُقت عليه الناس مارضيش، قالوا لي بلَّغْ فيه بلَّغْت، حطوني أنا في المركز وضربوني … وأنا في السجن صممت إني أقتله. ويوم ما طلعت تمام، بعت العجلة واشتريت بندقية وطخِّيته قُدام باب بيته. حققم معايا وانحبست إنما ما ثبتشي عليَّا، أهله راحوا أجروا واحد يقتلني وياخد بتاره. أستناه لما يقتلني؟ قتلته قبل ما يقتلني، وعليها يا سي عبد الرحمن.

قلت أقاطعه: يعني … اﻟ… الراجل ده … ما. ما. ما زعلتش لما قتلته مثلًا يعني؟

– زعلت، أمال ما زعلتش! قعدت شهر ما أدقش زاد ولا ميه وعييت، ما خلصنيش م العيا إلا أما عرفت أن أهله مأجرين عليَّ واحد يقتلني.

وسكت سكوتًا مفاجئًا جعل الاضطراب يدب في نفسي، والتفت إليَّ مرة واحدة وقال بصوت عالِ رفيع: وأنت بتسأل عن كده ليه؟

فقلت له برهبة وصوت متهدج بالخطورة: أصلي عايز أقتل واحد.

ضحك وضحك حتى دمعت عيناه، ثم قال وهو لا يزال يضحك: تقتل واحد مين؟ قل لي عليه وأنا أقتله لك.

قلت له: مش واحد محدد، أي واحد.

قال بدهشة: أي واحد … إزاي يعني أي واحد؟

قلت: أي واحد كده.

وكانت في الحقيقة مهمة صعبة أن أشرح له ما أريد، وأخبره بالتفصيل عن تلك الرغبة الخفيَّة التي تراودني، والتي جعلتني ألازم عم خليل، وأتمنى أن ألقاه هو، والتي ما جرؤت أن أصرح بها لأحد سواه. نظر إليَّ بركن عينه نظرة اكتشفت معها أنه حين ينظر بركن عينه يحول، وقال: بتتكلم جد؟

وقلت، وكلي صدق ومن أعماق قلبي: والله بتكلم جد. أمال أنا بكلمك ليه؟

– بتكلمني ليه؟

– عشان أنت اللي حتعلمني أقتل إزاي.

ضحك حتى كاد ينفجر، وقال وهو يخبط على كتفي: مش عيب يا أستاذ الكلام ده؟ أعلمك القتل إزاي، هو كوتشينة يا فندي؟

وأحسست أني أُهنت؛ خاصة لكلمة أفندي، وهو ينطقها بطريقة ممدودة الحروف. مع أني لأمرٍ ما، كنت أعتقد أنه هو الوحيد الذي لن يسخر من رغبتي هذه لو حدث وقلتها له، بله أن يضحك عليَّ وعليها كأي عابر سبيل، أو زميل من زملاء الدراسة. أحسست أني أُهِنت، ولم أشأ مجادلته؛ مخافة أن يأخذها هزلًا ويضيع حلم حياة بأكملها … وسكتُّ.

وسكتَ هو الآخر، ثم وجدته بعد فترة يطبطب على كتفي وكأنما يصالحني ويقول: وإذا كان نِفْسك يا سيدي تِقْتل بخليك تقتل، المسألة بسيطة.

قلت وقد عاودني الأمل: والنبي؟

قال: بس على شرط حاكلفك بمأمورية تقدر تعملها؟

– واعمل أبوها كمان.

٨

وحتى تلك اللحظة لم أكن قد نظرت للغريب أبدًا باعتبار أنه إنسان مثلنا، ممكن أن تكون له زوجة أو يكون من عائلة وله والدان، وقطعًا لم يدُرْ بخلدي أن تكون له مثلًا زوجتان ومن يدري ربما أكثر … المشكلة أنه لم يترك لي وقتًا للتأمل أو الاندهاش، على الفور مضى يحدثني عن تفاصيل المهمة التي تنتظرني، والتي كان عليَّ فيها أن أوصل للزوجة الأولى ورقة بخمسة جنيهات، وأن آتي له بالثانية … والأولى كانت في بلده القريب من بلدنا، سمراء كالحدأة، جافة، رفيعة كعود السنط الجاف. وأولادها على الأقل أكثر من عشرة، وكلهم لهم نفس سمرتها وعودها الجاف. وطلعت عيني، وهي تسألني عن كل كبيرة وصغيرة من أمر الغريب وتستريب، وتعود وتلح لتتأكد حتى تشهدت حين انتهت المهمة وأفرجت عني.

أما مهمتي الثانية فكانت ﻟ «وردة» أحدث زوجاته التي لم أكن أتخيل أنها على هذا القدر المذهل من الأنوثة والليونة والجمال. لم أكن قد ذهبت أبدًا إلى العزبة التي وصفها لي الغريب، ولكني كنت أعرف أنها تقع في منتصف المسافة بين كيلو ١٤، وبين محطة الطلمبات التي ترفع مياه المصرف الكبير إلى مستوى ماء البحيرة … واخترت أن أذهب في شيخوخة العصر حتى أعود بها والدنيا ظلام، وكنت مضطربًا خائفًا أتحاشى الناس، وأتصور أنهم يعرفون وجهتي، ويعرفون حتى «الأمارة» التي زوَّدني بها الغريب لتؤمن «وردة» أني قادم من عنده … ويا لها من أمارة، أمارة ما طلبت منه أن يأتي لها بقلم حواجب أسود، أمارة لم أستَسِغْها أبدًا ولا هضمت أن ينطقها الغريب بلسانه، ويشغل نفسه بها إلى درجة أن يتذكرها.

حين وصلت كانت العزبة لا تزال خالية إلا من النساء العجائز والأطفال، وقُوبلت بعاصفة نباح هائلة من كلاب كثيرة هزيلة يكاد يقتلها الجوع، وظلت تطاردني حتى كدت أعود لولا الفلاحة الضخمة الملوثة الملابس بالطين، والتي ظهرت في الوقت المناسب لتحول بينها وبيني.

ثم تقودني لبيت «وردة» وتتطوع من تلقاء نفسها بتعليل زيارتي، فتسألني: إنت يا خويا من قرايبها بتوع المحطة؟

وكانت تقصد بالمحطة البندر حيث السكة الحديد، وحيث درج الناس على تسميته بالمحطة. وهي أيضًا التي دقت الباب بيدها الملوثة، ونادت على وردة، وطلبت منها أن تفتح «للضيوف» … وأجابها من الداخل صوت حافل بزغاريد أنثوية رقيقة، لكنها بندراوية راقية حلوة … صوت بدا غريبًا غير متوقع في ذلك المكان النائي الموغِل في بُعده عن كل ما يمت إلى الرقي والحلاوة بصِلَة … وفتح الباب، ولومضة خاطفة لمحت أجمل وجه وقعت عليه عيناي، وجه أبيض يكاد من بياضه أن يصبح شفافًا، ومن وسامة تقاطيعه أن يتحول إلى صورة من الصور التي نراها على عُلب الحلوى والملبِّس. وكان واضحًا أنها انتهت توًّا من استحمامها، فشعرها كان قد صُفف نصفه، ولا تزال قطرات الماء تتساقط من نصفه الآخر … ومضة رأيتها بعدها تختفي بحركة غريزية وراء الباب، ثم تعود للظهور، وقد وضعت فوق رأسها جلبابًا أخفى الشعر، وحاول فاشلًا أن يخفي الوجه. ولم يُتَح لي أن أرى أكثر؛ فقد أسقطت رأسي في الحال فوق صدري خجلًا، ولم أرفع عيني عن الأرض، وكدت آمر أذني ألا تسمع خاصة حين خرج صوت «وردة» مملوءًا بزغاريده الخافتة الداخلية يرحب بي، ويطلب مني أن أتفضل، مع أنها لم تكن قد عرفت بعدُ من أنا ولماذا جئت.

ووجدت نفسي أزداد خجلًا وتعثرًا، وأنا أشرح لها بأقل الكلمات وأسرعها سبب مجيئي، وتحمر أذناي وتسخنان وأنا أذكر لها الأمارة. ولم يغير ما قلته شيئًا من ترحيبها أو لهجتها، فمضت بنفس الروح ترحب بي، وتطلب مني أن أدخل وأجلس. وحين ترددت وجدتها تجذبني إلى الداخل بيد بضَّة لا تزال مبتلة بالماء وتقول: خش يا حبيبي … دا بيتك … اتفضل اسم الله عليك، اسم النبي حارسك.

ولم تترك يدي إلا حين أصبحت في حجرة داخلية كالمندرة، وإلا حين أمالت بيدها الأخرى «حصيرة» زاهية النقوش وفرشتها، ووضعت فوقها مسندين، وأصرت على أن أجلس على أحدهما، وأستند إلى الآخر.

ولم أكد أبدأ ألتقط أنفاسي حتى كانت عدَّة الشاي أمامنا، والشاي نفسه قد انتهى إعداده. وحتى كانت تناولني الكوب بنفس يدها التي بدت حمراء من كثرة بياضها ونعومتها، ثم تسألني عن رأيي فيه، وتقول إنها راعت أن تجعله خفيفًا ليكون «شاي أفندية» يليق بي.

ومع رشفات الشاي الأولى بدأت أفيق، فحتى ذلك الوقت كانت مشغوليتها الشديدة في إكرامي والترحيب بي لم تدَعْ لي فرصة أحدثها فيها عن سبب مجيئي بالتفصيل، أو حتى أذكر لها شيئًا عن كُنه علاقتي بزوجها الغريب. وكلما طال الوقت يزداد اهتمامها بي، وكلما زاد اهتمامها ازددت خجلًا واضطرابًا، حتى بدأت أفكر في وضع الشاي جانبًا، وتهيئة نفسي لإِعادة الرسالة عليها، ولكني فوجئت بها تقترب مني كثيرًا وتقول: إنت مكسوف ليه يا حبيبي؟ … هو ده مش زي بيتكم ولَّا احنا مش قد المقام؟ ما تنكسفش يا خويا اسم النبي حارسك وحاميك.

وأعقبت كلماتها الأخيرة بهدهدة حنونة عليَّ، هدهدة كادت تأخذني معها تحت إبطها.

وكان لا بد أن ينتهي خجلي ولو للحظة وأرفع بصري إليها، إلى تلك التي تعاملني كصبي صغير أو طالب، بينما هي لا تكبرني إلا بأعوام أقل من أن تُعَد. وحتى لو كانت أكبر مني بكثير؛ فهي امرأة وأنا شاب غلظ صوتي وبرزت حنجرتي. ثم إنها ليست صغيرة فقط ولكنها حلوة بطريقة لا يتصورها العقل، بيضاء جميلة ملفوفة في فستانها الحرير المحبوك، وكل ما فيها ناضج فائر يكاد يمزق الفستان. وحتى لو كان لها جسد رجل، فيكفي ما في عينيها من سواد جميل، يشع رغبات مجنونة تكاد تنطق وتصيح … ولا تجد في هذا كله حرجًا من الطبطبة عليَّ، وأخذي تحت إبطها، وإدارة وجهي ناحيتها كلما حاولت أن أغضَّ الطرف أو أستدير. بل لا تجد حرجًا في أن تعزم عليَّ بالدخان والمعسل، وأي مكيف أريد. وأحيانًا كثيرة تملس على شعري وتقول: الله … شعرك أصفر وحلو زي شعر الإنجليز … اسم النبي حارسك يا خويا وصاينك.

وتقول «أخويا» بطريقة يقشعر لها الجسد، بطريقة لا تمت إلى الأخوة بصلة.

وظللت طوال الوقت منبهرًا مما أراه وأسمعه ومن إحساسي الدائم أنها مع كل ما تفعله زوجة الغريب ذلك الجبار الرابض ينتظر عودتنا، وعلى فخذه الأيسر سكين. ويبلغ انبهاري قمته حين تتعمد بين كل حين وحين أن تخبط على كتفي خبطة دلال وتأنيب وتقول: اطلع من دول … دا زمانك مقطَّع السمكة وديلها، حاكم البنات تموت في شعرك ده … يحميك يا خويا لشبابك اسم الله عليك … إنت مش حتبات هنا إن شاء الله؟ والله ما سَيْبك تروح لوحدك أبدًا.

ويتولَّاني الضيق العظيم، ضيق المُوفَد في مهمة الذي يكتشف أنه هو الذي أصبح موضع الاهتمام، وأن كل الرسالة التي يحملها لم يعُدْ لها أهمية بالمرة وسط ازدحام الإِكرام الهائل، والأسئلة المتوالية عنه وعن شخصه ونفسه، والطبطبة والأحضان التي ظاهرها عطف خالص، والتي يدوخ التفكير في باطنها.

ويبلغ الضيق بي أن أقوم أحيانًا منتفضًا، وكأنني سأهم بالجري فتحيطني بذراعيها فورًا، وأحيانًا تمس شعري بقُبلة يقف لها شعري، وتسألني في دلال عما يدفعني للعجلة، وبأصبعها المكهربة تتحسس وجهي وذقني وشاربي المخضر. ويزداد ضيقي وأنا أُعامَل كاللعبة التي لا رأي لها ولا اعتبار. وآمر نفسي أن تظل صورة الغريب ماثلة أمام عيني، لا تختفي لحظة تحول بيني وبين هذه المرأة البندراوية التي لا يوقفها خجَل أو يمنع يدها حياء. امرأة تبدو كالمحرومة التي ما رأت في حياتها رجلًا … تراه ماذا يفعل معها؟ ومن الواضح أنها لا تخافه أبدًا، ولا تعمل له حسابًا قط.

وربما الضيق والاستنكار وغرابة الموقف هي التي دفعتني دفعًا لأن أجد نفسي أحس فجأة باحتقار هائل لوردة برغم جمالها الهائل وشخصيتها الطاغية المكتسحة.

الغريب بعيد عنها، والرجال يخافونها خوف الموت، ولم يبقَ لها في منفاها البعيد عن الرجال إلا تلك الصدفة التي ساقتني إليها، مَن تحسبني تلك المرأة الداعرة؟ ومن تحسب نفسها؟

هكذا بدفعة بُغض قوية خلصت نفسي منها، وحدجتها بنظرات خلت من كل ما يخجل أو يُربك، وأعدت عليها الرسالة كلمةً كلمة، وطلبت منها أن تصحبني. وكأنما صدمها تغيري؛ فقد وجدت الاضطراب يملأ عينَيها فجأة، ويدفعها للحركة بلا هدف داخل محجريهما. ولكن ذلك لم يستمرَّ إلا لهنيهة؛ فقد وجدت بريقًا ما يعود يشعُّ من نظراتها، ولم أحتج لذكاءٍ كثير لأدرك أنها فسرت نفوري على أنه فشل لأنوثتها معي، وأنها لكي تنجح، عليها أن تعيد سن أسلحتها، وتمضي في المعركة. وهكذا جذبني، وهذه المرة كانت أحضانها مكشوفة، وإن حرصت على أن تسبقها بقولها: اسم الله عليك، اسم النبي حارسك.

ووجدت نفسي أنا الآخر أبادلها البغض والنفور بطريقة مكشوفة، ويغادر الخجل نظراتي ليغرق نظرتها هي، حتى ليدفعها لأن تقول: هو أنا مش عاجباك يا حبيبي؟

وإلى هنا وجدت نفسي أصرخ، وأقول لها: أنا ما لي وما لك؟ … أنا باعتني عم الغريب … جاية ولَّا مش جاية؟

ويبدو أنها قرأت في عيني أن الضيق قد بلغ بي منتهاه، ولكنها لم تنسحب من الموقف فورًا، ظلت تحادثني وكأنما لتختبر إحساسي الأخير تجاهها، ولتزيل الجفوة التي حدثت. وفي النهاية قالت إن عليَّ أن أعود للغريب، وأخبره أنها لن تستطيع الذهاب إليه. أما لماذا؛ فقد أبت أن تجيب، وطلبت مني أن أبلغه ما قالته فقط وبلا أي تعليق، وبعد فترة قالت: وإذا كان عايز هو يشوفني … خليه ييجي.

وكانت تقول هذا، وكلانا مدرك أنه مستحيل، فمجيئه إليها خطر أكيد.

وحين لم أجِد فائدة اندفعت خارجًا، ولكنها أمسكتني واستَبْقتني إلى أن حشت جيبي بفطيرة لفتها في غلاف مجلة، وأصرت عليَّ أن آخذها. ولا أدري لماذا حين أخرجتها في منتصف الطريق وأنا عائد، وحاولت أن أقضم منها قضمة جزعت نفسي، ووجدتني أقذفها بكل قوتي في المصرف، وأتخيل المشهد الحافل الذي سيدور بيني وبين الغريب.

٩

وكان لقائي معه حزينًا لا أدري لم. كنت أحس من ناحيتي أني فشلت في مهمة كلفني بها، وأن علاقتي البسيطة الواضحة به قد حدث فيها شيء عقَّد من بساطتها، الغريب الذي ما رأيته إلا كبطل يرى، لا يمكن أن يربطه بأرضنا أو بحياتنا رابط فجأة اكتشفت أنه زوج، وزوج ﻟ «وردة» وأي وردة! اكتشاف جعلني أحس بالخجل … وكأنه كان من واجبي ألا أعرف، وكأنني ضبطته في موقف شائن أو لحظة ضعف.

أما الغريب؛ فكل ما فعله حين رآني أنه قال: هيه … ما جاتش؟

ولأول مرة في علاقتي به، أدرك أني لكي أجيبه؛ عليَّ أن أكذب. وكذبت. وحاولت أن أجد لها عذرًا وأبرر ولكنه هز رأسه وقال: طيب … هيه … حصل خير … وحد شافك لما رحت؟

ومن توهانه عرفت أنه يريد أن يغير الموضوع ليس إلَّا. وضايقني أنه لم يثُرْ ولم يغضب وينشب أظافره في عنقي، أو قام من فوره إلى العزبة، وانتزعها من مرقدها ونقَلها. حتى حين حاولت أنا أن أعود إلى الموضوع، وأستنكر موقفها استنكارًا خفيًّا لم يظهر عليه الضيق، وراحَ يسألني عنها وعن صحتها، وماذا كانت تفعله بالضبط حين وصلت. أسئلة كان يبذل الجهد لكي تبدو طبيعية كأسئلة أي زوج غائب عن زوجته البعيدة.

ومع هذا فكل سؤال من أسئلته كان ينبت العرق البارد تحت إبطي؛ مخافة أن يكتشف الكذب في إجاباتي، وكنت لا أبدأ التنفس بحرية وأرتاح إلا حين يهز رأسه وينتقل إلى سؤال آخر.

ولكني لا زلت أذكر رأسه هذا ذا الخمسين عامًا حين ارتفع فجأة من فوق صدره، وارتفعت معه عينان أخفي ظلام الليل ضيقهما وتفاصيلهما، وجعلهما تبدوان كما لو كانتا مجرد دائرتين مظلمتين على جانبي أنفه … لا زلت أذكر ارتفاعة رأسه، والوضع الذي اتخذه وهو يصب عليَّ صمته، وكيف طال الصمت، حتى بدأت أقلق وأحاول يائسًا أن أخترق نظارة الظلام الغامقة الموضوعة فوق عينيه لأفتش عما يريده مني، حين قال فجأة: اسمع يا فندي.

ومنعتني الرهبة عن أن أستحثه، أو أفتح فمي، أو حتى أموء في إصغاء. كان القمر يطل علينا من بعيد من فوق أشجار الظلام والكافور المحيطة بغيط الميامنة، وكان مكسورًا كأحد «متارد» اللبن التي يضعونها تبركًا بعد كسرها فوق قبر سيدي أبو لقان، وشعاعاته الشاحبة محمرة كضوء لمبة الجاز حين توضع في الفانوس ويمنع عنها الهواء، وكان رأس الغريب يواجهني كبيرًا بالنسبة لحجمه، ثابتًا واجمًا كأن صاحبه قد مات، ومن خلال فم لا يكاد ينفرج جاءني صوته: إنت بتكدب عليَّ يا فندي؟

ومت … أقسم أني أحسست وكأني أسقط من حافة الدنيا إلى هاوية الآخرة، السقطة توقف القلب وتشل العقل وتجمِّد الأطراف، ويدفع رعبها جلودنا لأن تفرز فزعها على هيئة عرق صغير ينبت … عرق الرعب. وحاولت التشبث بالهواء وقلت: ليه؟

ومرة أخرى، جاءني صوته، وكأنه صوت الظلام إذا تكلم الظلام: بتكدب عليَّ ليه يا أفندي؟

وابتلعت ريقي بصوت حاولت كتمه، وقبل أن أبتلعه مرة أخرى قال: إنت عملت حاجة مع وردة؟

ويبدو أنه لمحني أعتدل في مكاني ملسوعًا، فوجدته يستطرد معدلًا السؤال: ولَّا هي لعبت عليك يا أفندي؟

وفي جزء من الثانية كنت قد وطَّنت نفسي على أن أنهار أمامه، وأقول له كل شيء، وإذا نفدت بجلدي أقطع صلتي به وبوردة، وبتلك المشاكل التي لست ندًّا لها، والتي ورطت نفسي فيها بصبيانية قد تضيع حياتي. ولكني في الجزء التالي من الثانية، كدت أفقد وعيي بتأثير دفقة الحياة القوية التي عادت إليَّ مع أغرب وآخر ما كنت أتوقعه … ضحكة عالية ضخمة صدرت عن الغريب، وبددت عن الليل ظلامه، وانتزعت عقلي من مكانه، ضحكة … ويد قصيرة قوية امتدت تطبطب على كتفي، وصوت آخر كصوت النور إذا تكلَّم النور، يأتيني من ملامح بدأت تتحرك وتنفعل وتعود إليها الحياة: إنت خفت يا أفندي؟ … الله يجازي شيطانك … قول لي بقى … وردة عملت معاك إيه؟

•••

وأنى لي أن أعرف أن الغريب يعرف عن زوجته الجديدة وردة كل شيء، وأنها نقاوة عينه التي أخذها على عيوبها، وأنه رآها تغني في الأفراح مع الفرقة الموسيقية فأعجبته وعشقها وتزوجها بما يشبه القوة، وأنه يضعها في العزبة النائية كالطائر في قفص مفتوح يتحدى الرجال بها ويتحدَّاها وتتحداه، وأن العلاقة بينهما — على رأي عم خليل الذي شرح لي كل شيء — كالعلاقة بين الجني المارد والمرأة في ألف ليلة، يضعها في قمقم مفتاحه معه، وتحتفظ هي بصرة فيها خواتم مَن خانته معهم، رغم كل قمقمه وأقفاله وجبروته. غير أن وردة لم يكن لديها صرة خواتم، وواضح أن الغريب أقوى أثرًا من الجني المارد وأكثر حبًّا، فهو يقتِّر على نفسه وزوجاته وأولاده ويصرف عليها، ويعفيها من أن تخلص له أو تتصرف بشرف، ويقول لها: إذا استطعت أن تفعلي شيئًا؛ فحلال لك أن تفعليه.

وربما يقول هذا عجزًا، وليبرر لنفسه خطأها إذا أخطأت، ونار الشك تأكل قلبه، وعذابه لا ينتهي، والسؤال المضني يلح عليه: «تراها استطاعت وأخطأت، أم لا تزال عاجزة؟»

ولا يزال اسمه المرعب يحول بينها وبين الخطيئة … وكلما ازداد شكُّه فيها وازداد شكًّا في نفسه، اندفع يثبت لنفسه وللناس أنه قادر جبَّار، واندفع يضرب ويبطش ويبسط نفوذه على الجيرة وجير الجيرة، ويجعل من اسمه — من الغريب — القمقم الرهيب الذي يحول بينها وبين الرجال، ويحول بين الرجال وبينها. من أين لي أن أعرف أن الغريب اختارني بالذات ليرسلني لوردة، لا لشيء إلا لأكون كالطعم الحي يمتحن به حالتها ويتحدَّاها بي، وليريها أنه وهو بعيد قادر على أن يشل إرادتي أنا، ويضحك عليها بي؟ ومن أين لي أن أعرف أن وردة كانت تعلم أني آجلًا أو عاجلًا سأنهار وأحكي للغريب كل شيء، وأنها فعلت كل ما فعلته معي وهي متأكدة أن الغريب سيعرفه؟ فعلَتْه تحديًا وردًّا على تحديه؟ أنَّى لي أن أعرف أني كنت كالرسالة الحية المتنقلة التي أرسلها الغريب يسألها فيها عن أحوالها ومبلغ خضوعها له، وأنها أرسلت إليه الرد مكتوبًا على نفس الرسالة — عليَّ أنا — ردها المعتاد المملوء بتحديه وثورتها عليه؟ أنَّى لي أن أعرف أن الغريب اختارني بالذات ليثبت لوردة أن نفوذه عليَّ أشد أثرًا من كل أنوثتها وجمالها، وأنها أرادت بما فعلته أن تثبت العكس؟

أنَّى لي أن أعرف هذا كله؟

•••

أما ليلتها فكل ما فعله الغريب وأنا أحكي له ما حدث أنه استمع إليَّ وهو يضحك، ضحكات لا شخشخة في آخرها كضحكات صبي مراهق سعيد بنفسه ورجولته.

وسألني حين انتهيت بقليل من الجد: طيب يا فندي دي لو كانت مراتك وعملت كده، كنت تعمل فيها إيه؟

قلت بغضب حقيقي: كنت قتلتها من زمان.

فقال: كدهه؟ … هو القتل بالساهل كده؟

قلت بدهشة: بالنسبة لك على الأقل لازم يكون حاجة سهلة.

فقال وهو يعود يخفض رأسه: قتل الناس حاجة، وقتل مراتك حاجة تانية … مين عارف … بيتهيأ لي أن كل واحد تلاقيه بيفكر ساعات يقتل مراته … بس العيب إنه ما بيرسيش على رأي … ساعة تقول خلاص معدش فيها أمل، يلَّا ادبحها … وساعة تقول يا واد يمكن تصِّلح … وتفضل متردد بين كده وكده لغاية آخر يوم من عمرك … لو كان الواحد بيرسي على رأي، كان كل واحد زمانه قتل مراته من زمان.

ولم أفهم ما يريده بالضبط، كل ما فهمته أنه يريد مراوغتي وأنها ليست طريقته، وأني لأول مرة أراه يتساهل في أمر خاص به، فقلت: كان بيتهيأ لي إنك مش كده.

فقال بنصف ارتفاعة من رأسه، وبصوت حائر بين الجد والهزل: بكرة تكبر، وتعرف، وتقدر.

وعاد رأسه إلى الانخفاض، وأحسست به هذه المرة مدلدلًا، ورقبته كالعلم الحائر المنكس، وكدت أشفق عليه وأضيق به وبالجلسة وأقوم واقفًا لأروح، لولا أنه فجأة شبَّ من جلسته كالملسوع، وكأنما استطالت أذناه وارتفعتا إلى فوق كأذنَي كلب أحس بالخطر، ثم وجدته يقول في صوت يلهث بغير جري: خد توبك في سنانك وطير … واوعَ تبطل جري إلا أما تحصل الدار.

١٠

وبينما كنت أقضي ليلةً محمومة أتقلَّب فيها على لذع اضطراب غير مرئي أتساءل عما دعاه لأن يأمرني بالجري. وأحيانًا أعود إلى الحديث الذي دار بيننا، وأحاول أن أوفق بين صورة الغريب كما تصورته والغريب كما وجدته، الغريب القادر والغريب العاجز، الغريب الذي يُخيف الدنيا والغريب الذي لا تخافه وردة أولى الناس منه بالخوف، بينما كنت في هذا كان الغريب يقضي ليلة من أتعس لياليه كما علمت في اليوم التالي … فقد كان إحساسه مضبوطًا، وكانت دورية مكبَّرة على رأسها المأمور بنفسه قد خرجت للبحث عنه وفي حقول الأذرة بالذات، ولو طال كلامنا قليلًا، أو لو كان سمعه أقل حدة لأطبقوا علينا.

وفي الليلة التالية ذهبت إلى الغريب، ومعي البطيخة التي كان قد ذكر أن نفسه فيها، وشققتها لتبرد وجلست أنتظر، وطال انتظاري دون أن يظهر. وأخيرًا قنعت من الغنيمة بالتهام ما استطعته من البطيخة ودفن الباقي في الأرض، ثم عُدت وأنا حائر؛ أأفرح لانقطاع الخيط الذي كان يربطني به أم أحزن؟! كانت معرفتي به على الرغم من قصرها قد أشبعت قليلًا من نهمي لمعرفته، ولكنها — وهذا هو المهم — لم تكن قد حقَّقت الشيء الوحيد الذي أردتها أن تحققه؛ إذ لم يعلمني الغريب القتل كما حلمت، بل كدت أؤمن أنه هو نفسه لا يعرف كيف يقتل.

وانقضت أيام قليلة، ربما يومان ربما ثلاثة، قبل أن أصحو ذات ليلة على طلقة مكتومة صكَّت الحائط المجاور لفراشي. انتبهت من نومي تمامًا، وأصخت السمع هنيهة، وإذا بطلقة واضحة ثانية تأتي على هيئة حصاة صغيرة، تأكدت أنها قد قذفت عن عَمْد لتصيب نافذتي دون سواها وتناديني. وتساءلت: من تُراه يكون؟ فالغريب لا يعرف بيتنا على وجه التحديد، وحتى إن عرفه فكيف يعرف حجرتي، والنافذة التي أنام بجوارها. اعتدلت برأس أفرغه الاضطراب الشديد من كل محتوياته، فغدا كالصندوق الفاضي الذي يرن لأقل حركة أو خاطر. وفتحت النافذة باحتراس، ومن شبه الظلام المخيم خارج البيت، سمعت كلمة آمرة هامسة واحدة: انزل.

ثم أعقبتها أخرى: وهات الطلياني.

كلمات لمع في الظلام فَحيحها كنصل صولي حاد ثم اختفى. وكاد كل شيء في الخارج يعود إلى السكون المظلم الذي كانه، لولا أني لمحت أكثر البقعات سكونًا وظلامًا تتحرك وتتشكل على هيئة شبح، ثم تمشي آخِذَة طريقها إلى الغيطان.

والواقع، طغَت فرحتي على كل شيء؛ على اضطرابي وإشفاقي أن يكون ما حدث قد أيقظ أحدًا من أهل بيتنا، خاصة أبي ذلك الذي يستيقظ لأقل همسة. وكانت الفرحة لا تزال تعصف بي وأنا أتحسس طريقي إلى العشَّة الكائنة أسفل برج الحمام، حيث أخفيت المدفع الإِيطالي الصغير الذي أعطانيه الغريب. كنت خلال الأيام القليلة التي انقطعت فيها صلتي بالغريب، قد بدأت أعود إلى حياتي التافهة الخالية من الأسرار والليل والأحداث، وما أعظم ما بدا الفارق! … وما أكثر ما جُبْت الأذرة؛ لعل الخيط يعود مرة أخرى ويصلني به! وها هو ذا قد عاد بنفسه، وبصورة ألهبت خيالي.

طغت فرحتي على كل شيء، وفي غمضة عين، كنت أقف أمامه حيث تعودنا أن نلتقي، ألهث وأحدثه عن البطيخة، وأناوله المدفع، وأضع الظروف أمامه في الخزانة الفارغة كما علمني … وحين سيطرت على انفعالاتي وبدأت أنظر إليه، أدركت مشدوهًا أني أمام غريب آخر، أمام إنسان قد انعدمت كلماته ولمَّ نفسه، وتجمعت شخصيته في بذرة إرادية واحدة، وكان في سحنته شيء لم أرَه من قبل … حماس ربما جنون، روح جديدة تلبَّسته، شيء أسكت ثرثرتي مرة واحدة، فأرغمني على أن آخذ دور الجندي الذي ينتظر أوامر قائده، ويدرك أنها أوامر خطيرة بالتأكيد لها ما بعدها.

وبالفعل صحَّ ما توقعته، فقد وجدته بلهجة حامية سريعة وخطيرة: تروَّح ولَّا تيجي معايا؟

قلت بسرعة: آجي معاك … بس على فين؟

– ما تسألش … يمكن نقتل … يمكن ننقتل … تيجي معايا؟

قال هذا، ودون أن ينتظر إجابتي فرَّق بيديه عيدان الأذرة، ونفذ بجسده القصير بينها.

وكنت بعد ثانية تردُّدٍ أتبعه.

١١

ولم أحاول مرة أن أجره للحديث أو أسأله، كان يبدو كالمُقاد إلى هدف قوي بعيد يجذبه ويعيشه، ولا يدع له وقتًا للكلام أو الوقوف، ويتخطى بي كباري، ويلف حول خلجان ويزحف على يديه في بطون أحواض، وكأنما هو لا يراني أو يسمعني أو يحس أصلًا بوجودي. في الأحيان النادرة التي تكلم فيها كان يقول: إيه … هيه … بتقول إيه؟

فإذا حاولت استيضاحه، أجابني بغمغمةٍ أُدرك معها أنه مستغرق في تفكير من العبث أن أحاول استخراجه منه. كان الليل هائلًا كبيرًا كخيمة مأتم كُلِّلت بالسواد؛ حدادًا على وفاة النهار، وليس فيها سوى أنوار قمر شاحب ونجوم أضيئت لتهدي المعزِّين. وكانت الغيطان واسعة ممتدة أوسع من غيطان النهار … نترك حقول القمح المحصود لندخل حقول الأذرة، ونخرِّم وسط أقطان، ونرقب خيالاتنا المعتمة في الأرض الغارقة بالماء تنتظر زراعة الأرز. أرض كثيرة شاسعة وممتدة، كل شبر منها مزروع ومعتنًى به، وعرق من أجله هؤلاء الغلابى الراقدون في بيوتهم، وكأنما ناموا من الحزن، يتقلَّبون في انتظار أن يأتي النهار، ويغترفهم بقبضته، ثم بكل عزمه يبذرهم ليفرش بهم وجه الأرض، فيقلبوا سوادها خضرة، وخرابها عمارًا، وطميها خبزًا … إلى أن يجيء الليل وبمنجله يحصدهم، وبأسراره وخفاياه يخزنهم في صوامعهم الآدمية المصنوعة هي الأخرى من الطين. ما كان أبعدنا عن أولئك الذين يبذرهم النهار ويحصدهم الليل، وتنبتهم الأرض ليعودوا ينبتونها! ما كان أبعدنا عنهم وهم نائمون، بعيدين ينعمون بطاعتهم الشاملة للكون وأرضه ونهاره وليله! ما كان أبعدنا ونحن نخترق عالمهم وجهدهم في استخدامه وتجميله! الغريب أمامي قصير صغير اليد قوي الذراع … الذي ناضل حتى أفلت من قبضة النهار ومِنجل الليل، ويريد أن يُخضع الكون لنواميسه، وليكون له على الناس سلطان الكون ونواميسه، فيخشونه كما يخشون الله والآخرة وبرد طوبة. وأنا وراءه أتأمل حجمه الصغير حتى المدفع المعلَّق في كتفه، وأتأمل حجم الليل الكبير، وأجده أحيانًا أضأل كثيرًا من أن يملك زمام الليل ويصبح سلطانه.

ولكنا لم نكن وحدنا … كان يحدث أن أسمع الغريب يغمغم بخفوت، ثم يقول: دستوركم يا رجالة.

وأتفرَّس حينئذ فيما حولي، وبالكاد ألاحظ رجلين، أو بضعة رجال قد انتحوا من الليل ركنًا تحت كوبري أو في مدار ساقية، لا تدري لأي شيء هم جالسون ينتظرون، ولا لأي هدف يتحدثون في صمت ويتشاورون، ولا ما الذي جعلهم يتركون، هم الآخرون، مضاجعهم ويسهرون في تلك البقع المخيفة ورغم هذا الليل الشامل البهيم؟ ولكني كنت أهز رأسي وأقشعر، وأقول هم أولاد الليل الحريصون على تقاليد الليل حرص الغريب، والذين حين يحييهم تحيَّته تلك يأمنون ويؤمنونه، وكأنما ألقى عليهم كلمة السر، ويردون عليه قائلين: دستورك معاك.

وفيهم أيضًا كرم الفلاحين، فما أكثر ما كانوا يردفون: اتفضل.

وما أكثر ما كنت أفرح وأنتشي حين يلحظون وجودي، ويقولون: دستوركم معاكم، اتفضلوا يا رجالة.

شيئًا فشيئًا وبعد توغُّل طويل في الليل، وغَوْص أكثر في ظلامه ولقاء لأبنائه، بدأت أرى الغريب بعين جديدة، بدأت أراه بعين الليل الذي نحن فيه، فأحس أنه مع الليل أكثر انسجامًا. وكأن كلًّا منهما جزء متمم للآخر … حتى ليستحيل على المرء أن يتصوَّر الليل بغير الغريب والغرباء زملائه، أو يتصوَّر الغرباء بلا ليل يحجبهم ويسترهم ويحيون في كنفه … هؤلاء الهاربون من أُبوة النهار الواضحة إلى أبوة الليل الخفية، هؤلاء الذين يجذبهم الليل بكل وضوحه وقانونيته، من يراهم ويرى أُلفتهم مع الليل وترويضهم لوحوشه يُخَيل إليه أنه من المستحيل أن ينتهي أمرهم، حتى ولو ملأ العمران كل الأرض. سيظل هناك أولاد ليل ما دام هناك ليل، وما دام لليل سحره وجاذبيته التي لا تُقاوَم، فما ذنبهم؟ الليل هو الذي يجذبهم ويخلقهم وينتزعهم من النهار، وسيظل الليل يخلقهم ما وُجد هناك ليل وما ظل الماء يخلق السمك، والصحراء تخلق الرعاة، والغربة تخلق الحنين. منذ الأزل كان هناك الغرباء وإلى الأزل سيظلون. ومنذ الأزل وأشد العقاب ينزل بهم ويهلكهم، ورغم العقاب يعودون يُوجدون. فكما فقد الليل غريبًا جذب من أهل النهار آخر … ربما لكي تظل الدائرة تدور، ولكي يظل هناك أهل ليل وأهل نهار، ولكي يظل أهل النهار هم الكثرة وأهل الليل قلة، أو حتى ربما لنظل من أهل الليل أو النهار عن طواعية واختيار.

حين أوقفني الغريب بذراعه وواجهته، وراح يتفرس فيَّ، تساءلت بيني وبين نفسي ما الذي يمنع رجلًا كهذا أن يقتلني والبقعة نائية، ولن يشهد فِعلته أحد سوى الليل الذي لا يرى ولا يسمع ولا يفتن؟ والحجة موجودة — حكاية وردة — بل حتى بلا حجة، ما الذي يمنعه من قتلي إلا أنه يعرفني؟ ألأن بيني وبينه صلة هي التي تجعلني أحس بالأمان؟ من يدري؟ ربما لو عرف الناس بعضهم بعضًا معرفة وثيقة ما جرُؤ أحد على قتل أحد … ما خاف أحد من أحد. كنت أفكر في هذا حين سألني الغريب بصوتٍ أجشَّ، قد خشَّنه الصمت الطويل، وبلَّه الندى: إنت خايف؟

قلت على الفور: لا.

قال: مستعد لأي حاجة؟

قلت على الفور أيضًا: أي حاجة إيه.

ولم يجب … تأملني مرة أخرى، وقال: شايف النار دي؟

ولم أكن قد رأيت نارًا، ولكني حين تلفَّتُّ وجدت قبضة بعيدة كالجمرة تحسبها عين ذئب وحيد العين.

– عارف مين هناك؟

– مين؟

– شلبي.

– شلبي مين؟

– صاحبي وحبيبي، أنا جاي أقابله أصلي ما شفتوش من زمان، ونفسي هفِّتني عليه.

وشرح لي الغريب المطلوب مني. قال إنه يريد أن يخيف شلبي والرجل الجالس معه أمام النار، يشويان الأذرة وتملأ رائحتها الجو … كان عليَّ أن آخذ المدفع معي، وأمشي باحتراس حتى أصل منهما، ثم أخرج عليهما فجأة، وأقول: بتعمل إيه يابن الكلب إنت وهوه؟

وعليَّ أن أطمئن؛ فسرعان ما سيظهر هو، ونضحك جميعًا على ما حدث، ونجلس معهم نشوي الذرة ونأكلها.

وفي الحقيقة ظل قلبي يخفق، وكأنني ذاهب إلى حتفي، والمدفع يرتجف في يدي حتى اضطررت لإِمساكه بيديَّ الاثنتين وأضغطه في كتفي. وببطء شديد رحت أتقدم، وخُيل إليَّ أن وقتًا طويلًا قد مضى قبل أن تصبح المسافة بيني وبينهما كافية لأن أراهما وأرى وجهيهما. كانا اثنين؛ أحدهما شاب وسيم يرتدي طاقية صوف معوجَّة في عياقة على رأسه، والآخر كان واضحًا أنه خفير نظامي؛ فقد كانت بندقيته راقدة بطولها على ساقَيه المتربعتين، وهو مشغول بالهف على النار وتقليب الكيزان، بينما الأول جالس، وقد أحاط ساقيه بيديه، وعلى وجهه علامات تفكير.

ولولا خوفي من الغريب؛ لضربت فوقهما طلقة في الهواء، فقد كان المدفع معبَّأً في يدي يُغري بالإِطلاق … وإطلاق الرصاص من بعيد أسهل بكثير من أن أواجههما.

ظللت أتردد وأرتجف، حتى رأيت شبح الغريب يُطل من باب الحظيرة خلفهما … وحينئذٍ فقط، وكأنما أصدر لي أمرًا غير مسموع، وجدت نفسي أنطلق كالثور الهائج أصرخ وأدب بأقدامي، وأخترق المسافة الكائنة بيني وبينهما في قفزات واسعة ألقتني في لمحة البصر أمامهما، لا يفصلني عنهما إلا النار المحمرة الخافتة، والمدفع في يدي أصوبه بحماس بالغ مضحك … ولكن الحيلة نجحت بأكثر مما توقعت؛ فقد ارتدَّا إلى الخلف في جزَع حقيقي، بل اندفع الخفير يصرخ وكأنما فقد عقله … غير أن هذا كله استغرق … لم يستغرق في الحقيقة أي زمن، وكأنه لم يحدث بالمرة … إذ في نفس الوقت تقريبًا، كان شيء آخر يحدث … أفظع وأبشع شيء شاهدته، أو سأشاهده في حياتي.

والكارثة التي لا خلاص منها أني شاهدته بعينيَّ هاتين … رأيته ولم يكن أمامي إلا أن أراه … إلى هذه اللحظة بإمكاني أن أتذكَّر الغريب، وهو يتقدم ليصبح خلفهما مباشرة، وبإمكاني أيضًا أن أتذكر يديه حين ارتفعتا عاليًا فوق رأسه، ولكني لا أذكر أبدًا أني رأيتهما تهويان. كل ما أذكره هو ذلك الصوت الذي لم أسمعه قبلًا، والذي لا يشبه أي صوت من أصوات الوجود الأخرى، صوت كصوت كسر البيضة بالبيضة إذا كانت البيضة في حجم الرأس … كصوت الحديد المحمي حين يطشُّ إذا وُضع في الماء … ما أذكره هو … طس … وإذا بالشاب العايق يقوم نصف قومة، ولكنه لا يعود للجلوس، ترتفع ساق من ساقيه في الهواء، ثم تبدأ تهبط على دفعات متقاربة، وكأنها عقرب ساعة نطَّاط، وكذلك راح رأسه يهبط … ولكنه لم يكن نفس رأسه، كان قد تحول إلى كتلة، وقُسم إلى قسمين بينهما شيء لامع أسود تنخلع قلوب أكثر الرجال شجاعة إذا عرف أنها بلطة قد غوَّرت في الرأس، ووصلت خلال إحدى العينين إلى الوجنة.

١٢

لم تستغرق العملية كلها سوى ثوانٍ، ولكنها أخذت من عمري سنين أستعيدها، وأتأملها وفي كل مرة تخاطبني نفس الأحاسيس، وأرتجف تحت وقع القشعريرة نفسها، وأدوخ كما لو كنت أنا الذي شَطرت البلطة رأسه.

تُرى، أية قوة خفية تجعلنا نتألم إذا رأينا الغير يتألم؟ ونكاد نموت إذا رأيناه يموت؟ الشاب لم أكن أعرفه أو لي به صلة، ومع هذا؛ فقد ظل مصرعه يطاردني ويعذبني … وكأني أنا القتيل، بل كان يصل عذابي إلى درجة أكبر … وكأني أنا القاتل!

وإذا كنت قد رُوِّعت مرة لما حدث للشاب ليلتها، فروعي كان أكبر للدقائق القليلة التي أعقبت موته، وبالذات لرؤية وجه الغريب … وجهه حين انتزع البلطة من مكانها الموغل في عمقه وبشاعته، ووقف يلهث ويستند إليها … ويقلِّب نظره بيني وبين الخفير الذي كان قد تمدد على الأرض، لا نعرف إن كان إغماء أو رعبًا أماته وأوقف قلبه … يا له من وجه! … ويا لبصابيص النار حين أضاءته، وجسدت خلجاته، وجعلت قشعريرتي تتحول إلى رجفة مسموعة لا يمكن إيقافها.

عيناه … عيناه الضيقتان ما رأيتهما أبدًا بهذا الاتساع، بل ما اعتقدت أبدًا أن أي عين بشرية يمكن أن تتسع وتستدير، وتصل إلى ما وصلت إليه عين الغريب … لو كان الغريب هو المقتول؛ لما أوصل الرعب عينيه إلى هذه الدرجة من الاتساع، ولما حدث لوجهه كل ما كان يعانيه من شحوب … وكأنما الضربة التي فلَق بها رأس الرجل قد فتحت بابًا سريًّا له منه مارد أو جني ووقف قبالته يمسك هو الآخر بلطة، ويهم بتصويبها إلى أم رأسه … لا بد أنه كان يرى فعلًا شيئًا كهذا؛ وإلا لماذا كان يسيطر عليه كل ما كان مرتسمًا في عينيه ونظراته الزائغة من رعب؟ ولا بد أنه كان في تلك اللحظة بالذات فاقدَ الإحساس بنفسه وبما يفعله، فقد كان يدير رأسه وينقل البلطة من مكان لمكان، ويلف ويدور ويفعل هذا بحركة شيطانية سريعة ما عهدتها فيه وليست من خصائصه. وكأنه قد أصبح غريبًا آخر غير الغريب الذي صاحبني في رحلة الليل، أقسم أنه كان غريبًا آخر … غريبًا لم أستبعد أن يرشق بلطته في رأسي بلا سبب، أو يرفعها ثم يهوِي بها على الخفير الممدَّد، فيقسمه نصفين … كان واضحًا أن باستطاعته أن يفعل أي شيء، وهو في حالته تلك التي لا يدري فيها بما يفعله، بل كان واضحًا أنه وصل إلى درجة لا يمكن إيقافه عندها، وإنما عليه أن يستمر يبطش ويقتل ويكسر الرءُوس، وكأنما ليدافع عن نفسه ضد هذا الشيء الخارق المهول الذي كان منتصبًا أمامه يخيفه ويرعبه، ويُفقده من الرعب والخوف عقلَه.

وباستطاعتي أن أقول إنني والخفير قد نفذنا من تحت بلطته ليلتها بمعجزة. لقد كاد يدفعني وعيي لأن أضغط على زناد المدفع كما علمني، ولا أتركه حتى يفرغ في جسده كل رصاصِه … كنا أربعة كائنات حية، تسيطر عليها أقصى درجات الرعب … رعب القاتل لا يقل عن رعب القتيل … ورعب الخفير الفاقد الوعي من الرعب لا يقل عن رعب الغريب … ورعب القاتل المحترف لا يقل عن رعب الصبي الخام المغامر، وكلنا في حالة دفاع عن النفس … أنا مستميت على المدفع، والغريب مستميت على البلطة … مستميت في البحث كالمجنون عن الشبح الذي يرعبه … والخفير متشبث بإغمائه يحتمي به ولا يريد أن يفيق، ولو خُير القتيل نفسه، لاستمات على ميتته مفضلًا ألف مرة أن يموت مرة، ولا يعود للحياة؛ ليواجه ميتة البلطة مرة أخرى … وحتى النار الموقدة كانت تقاوم الفناء بإحراق كيزان الأذرة وشيِّها … والكيزان تقاوم النار ويدفعها الرعب عن المصير المحتوم لأن تئِزَّ وتشكشك، وتفرقع حباتها أحيانًا، وكأنها تستصرخ النار بآخر رمق وتطلب النجدة … رعب كامل من الموت، وتشبث كامل بالدفاع عن النفس في وسط ليل قد اشتدت ظلمته في محاولة أخيرة للوقوف أمام النهار الطالع. والشاهد الوحيد المحايد قمر أفطس الأنف مخنوق كالمشفق علينا مما نخوضُه … كالحزين على المصير.

حتى بدأنا نشم رائحة لحم آدمي مشوي، تختلط برائحة الذرة المشوية وتملأ المكان.

•••

وفجأة، بدأنا نتحرك.

وبدأت الحركة بضربة من قدَم الغريب أعادت الخفير إلى صوابه وأوقفته … وتعاون الرجلان على حمل القتيل، وإطفاء النار التي كانت قد بدأت تسري في لحم ذراعيه وملابسه … وحملت أنا المدفع والبلطة وسارا أمامي بحملهما … ولم نذهب بعيدًا، فبعد بضعة أمتار وصلنا إلى ساقية مهجورة … واحدة من تلك السواقي التي كانت تُستعمل لاستخراج الماء من جوف الأرض حين يشح ماء النيل، والتي بطل استعمالها من زمن ونبتت حولها الحشائش، وأصبح ماؤها آسنًا له لون الزيت المعدني ورائحته، لتبدأ تدخل في حوزة الليل وأبنائه، تؤخذ عندها المواعيد وتخفى في مياهها المسروقات. وحتى ذلك الوقت لم أكن أعرف أنها تُستخدم أيضًا كمقبرة لمن لا يستحب أن تحويهم المقابر … مقبرة تُلقى فيها الجثة بعد ربطها بحجر … وتتكفل مياهها بالتهام لحمها وعظامها وما ترتديه في أيام!

وعدنا في موكب صامت، أنا في المقدمة والخفير وسطنا والغريب في المؤخرة … وقد انتقلت إليه البلطة والمدفع. وسرعان ما اختفى الخفير بعد أن تبادل معه الغريب همسات، وأكملنا السير وحدنا.

وظللنا فترة لا نتحدث. وكان الغريب أول من نطق، وبدأ كلامه بنبرة عادية، وبلهجة حاول فيها أن يعتذر عن اضطراره لإِشراكي في تلك اللعبة الخطرة؛ فقد كان لا بد له من قتل شلبي … ولم يكن أمامه من يستعين به سواي.

وبكلمات أخرى قليلة، حكى لي قصته مع شلبي الذي لم يكن مجرد مساعد له أو عضو في عصابته، ولكنه كان صديقه وأخلص خلصائه، صداقة بدأت بخناقة في سوق الأربعاء … واستمرَّت عشر سنوات، ووصلت إلى حد أن سلم له الغريب نفسه واسمه وماله، وهو مؤمن أنه يسلمها لصديق … صديق لم يشكَّ في إخلاصه، حتى ذلك اليوم الذي واعده فيه على اللقاء عند نفس الساقية التي تركناه فيها من هنيهة. والتي وجد نفسه بعدها محاصرًا بخمسين بندقية ميري، وبمسدس الضابط فوق رأسه. لم يداخله الشك ساعتها، بل حتى لم يشك حين أخذوه هو في «البوكس»، وتركوا شلبي … أنَّى له أن يعرف أن الحسد كان يأكل قلبه طوال هذه السنين، وأنه ظل يدبر الخلاص منه ليستولي على العصابة، وعلى ما هو أهم من العصابة … على وردة … وأنه هو الذي اتَّصل بالمأمور ودبر معه الخطة؟

لم يكن الغريب يحكيها كحكاية … كان كأنما ينزف أو يتألَّم … وفي أحيان كان يسكت، ثم يقول فجأة وهو يطحن أسنانه بأسنانه: دا الطاقية اللي كان لابسها ليلة الساقية طاقيتي، اشتريتها باتنين جنيه من واحد عرباوي، وعجبته فحلفت أن يأخذها.

ويضحك فجأة ويقول: إنت عايز الحق … الحق مش هو اللي غلطان. آني الغلطان … بقى عايز في صنعة اللي بيشتغلوا لصوص وقتالين قتلة تتوجد خلصانية ولَّا صداقة؟ مفيش كلام من ده … في الليل كل واحد ونفسه … واللي يسلم دقنه لغيره، ما يلومشي على اللي يصح له.

ثم يلتفت إليَّ مرة ويحكي لي كيف دبَّر مقتل شلبي بنفس الطريقة التي دبر بها شلبي تسليمه … وفي نفس المكان تقريبًا … وبنفس السلاح … الصداقة والإخلاص … فالخفير خفير العزبة التي فيها وردة، وقد اندفع شلبي لصداقته والإِغداق عليه، ليتركه يحوم حول وردة، ويدبر معه أمر خطفها، تلك الليلة بالذات كانت موعد الاختطاف، وكان شلبي والخفير جالسين ينتظران مقدم رجلين آخرين من العصابة، ومعهما المطايا لتنفيذ الخطة. والشيء الذي لم يعرفه شلبي أبدًا أن الخفير باع سرَّه للغريب … والشيء الذي لم يعرفه الخفير أبدًا أن الأمر سيحسم بالبلطة.

وبينما الغريب يتكلم وأنا مندمج أسمع كلامه، كان خاطر يلح عليَّ إلحاح الناموسة: ترى ماذا يقول أبي الذي لا يفوته الفَرْض، لو تكشف له الغيب للحظة، وعرف ما أفعله ساعتها وما شاهدته، والرجل الذي أسير خلفه، وبحَديثه أغوص في ذلك العالم الشاذ الغريب، وأُلمُّ بتفاصيل أتْفَهُها يخلع القلب ويوقف الشعر؟

وربما إلحاح الخاطر هو الذي شَغَلني عن أن أدرك أننا كنا طوال الوقت قريبين من عزبة وردة، وأننا قد أصبحنا على أبوابها.

وربما هو أيضًا الذي صرف أنظاري عن الغريب، بحيث لم أفطن إليه؛ إلا وقد جلس وجذبني من جلبابي وقال: بص كده مش ده دم؟

وحين أمعنت النظر كانت يده بالفعل تقطر دمًا. وكلما تحسس فخذه وأخرجها تكاثر الدم، وحين عرَّاها ظهر الجرح … جرح بشع متهتك، وكأن شيطانًا مسعورًا قد نهش فخذه.

إحدى ضربات البلطة لا بد قد أفلتت وأصابته، وهو يخلِّص على شلبي.

١٣

وعولج الجرح طبعًا … قام بعلاجه الدكتور معروف الذي أخذ الطب بالممارسة … والذي كان يعمل حلاق صحة اسمًا … بينما شهرته كطبيب مِلءُ الأسماع، حتى كانوا يقولون إن يده النحيفة المعروقة التي تشبه في ليونتها ورقتها أيدي النساء أنجع من أيدي عشَرات الأطباء الحقيقيين.

وقصة علاجه نفسها ودَوري فيه قصة طويلة تصلح وحدها رواية، يكفي أن أقول إنها تمت تحت الكوبري المتحرِّك، حيث كان الغريب قد قرَّر أن يقيم إلى أن تُشفَى ساقه … ولم أكن أتصور أن تحت الكوبري سيكون بهذا الأمان والاتساع … وأن بإمكان الإنسان أن يعيش شهورًا تحته دون أن يُدرك المار فوق الكوبري من أمره شيئًا … لم أكن أعتقد أن الأمر سينقلب إلى متعة وتجربة جديدة مثيرة يحياها الإنسان وهو منحنٍ، كأنه يحمل الكوبري فوق كتفيه، ويحس بمشاعر غريبة والماء يجري بجواره، وتحت هذا الارتفاع المنخفض، والأصوات ترن في مزيج من صدى الأرض والحديد ورخامة الماء … أيام كثيرة قضيتها أحيا مع الغريب تحت الكوبري، وقد انقطعت صلتي بالعالم وبدنياي وعائلتي، وكأن لم تكن لي في يوم من الأيام حياة أخرى غير تلك … انقطعت هكذا من تلقاء نفسها … ودون أي قرار مني أو نيَّة … وقد أصبح شفاء الغريب هو كل ما أحفل له وأحيا من أجله … وما أعمق الصلة التي نشأت بيني وبينه في تلك الفترة، وأنا أراه عن قرب ضعيفًا قويًّا، عملاقًا ومتألمًا، نادر الكلام وصاحب حكمة … ما أكثر ما في صدره من أسرار، وما أقلَّ ما يفضفض بها!

ولكني لا أزال أذكر من حادثة علاجه لحظة لا يمكن أن أنساها، تلك التي كان يتهيأ فيها الدكتور معروف لإِعطائه حقنة المخدر الموضعي، حين بدأ وجه الغريب يشحب أمام عيني وعرَقُه ينبت، وعيناه تتسعان ونظراته تروغ.

تساءلت لحظتها لِمَ كل هذا؟ حسبته أول الأمر من مضاعفات الجرح … ولكن معروف حين سأله: إنت خايف ولَّا إيه؟

ونفى الغريب بسرعة، وبشدة أدركت ما لم أكن على استعداد لتصديقه أبدًا، أن الغريب الهائل المهول بكل هيلمانه وجبروته خائف كأي طفل من الحقنة، أكثر من هذا حين همَّ معروف بغرز الإبرة في جِلده وجَدْته يستمهله، ثم يشخط فيه ويأمره أن ينتظر حتى يلتقط أنفاسه، ثم يستسلم أخيرًا ليعود يتراجع وينسحب إلى الخلف حتى يوقف حائط الكوبري انسحابه، ويستعمل معروف الإِرغام حينئذ فيمسك بجلده، بقوة ويغرز فيه الإبرة … ويا لها من لحظة روعت فيها بالغريب، وقد انقلب شخصًا آخر! مجنونًا ربما، أو قطة تعاني من أقصى درجات الرعب على استعداد لأن تنقض وتغرز أنيابها وتنهش … لحظة أعادت إلى ذاكرتي ما حدث للغريب عقب مَصرَع شلبي، فعيناه فعلًا كانتا قد اتَّسعتا بطريقة غير بشرية، ونظراته قد أصبحت حممًا، والاصفرار لوَّنه ولم يترك حتى أظافره، وكأنه يرى ماردًا هائلًا يهم بالانقضاض عليه والفتك به … لحظة بلغ من بشاعتها أن الغريب حين انتفض مستديرًا لمعروف عقب انتهاء الحقنة … استدار بطريقة شيطانية مرعوبة حتى خِلت أنه يستدير ليطبق على رقبة الرجل، ولا يتركه إلا جثة هامدة … لحظة طالت وامتدَّت وارتسم خيالها على الماء المتموج الجاري قريبًا منا، كلوحة خالدة مهتزَّة للإِنسان حين تَقْلبه أقصى درجات الرعب إلى وحش غاضب مخيف.

•••

وفي ساعة راحة من الألم ناقشته في أمر وردة … كان احتكاكي بها قد ازداد في الفترة الأخيرة، وازداد معه اشمئزازي منها حتى بدأ يتحوَّل إلى اشمئزازٍ منه … كنت أشكو له منها، فيهز رأسه هزَّة مَن لا يبالي ولا يهمه الأمر … ولم أكن أستطيع أن أهضم أن يصر رجل مجرِّب خبير مثله على الاستحواذ على امرأةٍ مثلها لا تليق به ولا تقيم لسطوته حسابًا … كان راقدًا ينش الذباب عن وجهه بمنشة من الخوص صنَعْتها له فأغلق عينيه، وأحسست أنه خجلان مني ومكسوف، ولا يجد ما يقوله ليبرر موقفه … وماذا يقول؟ … ومن الواضح أنها لا تقيم لعلاقتها به وزنًا، ولا تحفل بطلباته ورسائله … والمرة الوحيدة التي زارته فيها تحت الكوبري كانت بإلحاح شديد مني، ولأجل خاطري أنا … وبثمن آهٍ لو عرفه الغريب! … أغلق عينيه طويلًا ثم فتحهما في النهاية، ليقول لي إنه خلاص قد انتهى من أمرها إلى قرار، وأنه سيطلقها ويدعها تذهب لحال سبيلها … ولكني من الطريقة التي قال بها «قراره» عرفت أنه قد يكون مخلص النية فعلًا. ولكن قراره هذا سيظل كلامًا في كلام ومع إيقاف التنفيذ.

لماذا يصر إنسان كالغريب صاحب السطوة والنفوذ على الاحتفاظ بإنسانة كوردة؟ أهو الحب كما يقولون؟ أم لكي تظل كالشاهد الحي على عجز نفوذه، وعلى أنه هو الآخر له حدوده مثل أي إنسان؟

القرار في الواقع جاء من ناحيتها هي حين ذهبت إليها في اليوم التالي فلم أجدها، وقال أهل العزبة إنها أخذت ملابسها، وكل ما يخصها وذهبت. إلى أين؟ لا أحد يعرف.

وبحماس الصبية نقلت له النبأ غير عابئ بما قد يحدثه فيه، ولم أعتقد للحظة أن سيكون للنبأ مثل هذا الوقع، وأني بعد ساعات سأجد في عيون الغريب آخر ما يتصوره العقل … دموعًا حقيقية.

المهم … كان الجرح قد قارب على الشفاء، ورائحته بدأت تُحتمل، والغريب تمالك نفسه بعض الشيء، وأصبح في استطاعته أن يتسلى في النهار بالسنارة واصطياد السمك، حين ظللت أدبر في نفسي أمرًا طول اليوم، وأنتظر حلول الليل لأواجهه به. كنت قد ألقيت نظرة تأمل على حياتي، فوجدت أني فعلت كمن رقص على السلم، فلا هو صعد أو هبط، ولا هو أصبح ابن ليل أو عاد إلى دنيا النهار. بكل تهور تركت حياتي وأهلي وانضممت للغريب أجري وراء أحلامي، فماذا فعلت بنفسي أكثر من أني بددت حياتي الواقعة، وبددت كذلك أحلامي، ولم يعد لي سوى دور الخادم أو الصبي؟ كنت قد وصلت إلى قرار، ورحت أنتظر على مضَض اللحظة التي أعلنه فيها.

وأخيرًا جدًّا وبعد لَأْي جاء الليل، ولم يكد العشاء يولي والليل تتدعم أركانه، حتى طلبت من الغريب أن يسمعني. وأدرك بذكائه الفطري أني أعاني من أمر لا يحتمل، فاستمع لي وطال إصغاؤه، وتركني أفضفض، وسألني في النهاية عما أريد. وببساطة قلت له ما أريد … قلت له إني أريد منه أن يكون أمينًا معي، وأن ينفذ وعده ويحقق لي الأمنية التي دفعتني لترك حياتي ووضع نفسي تحت أمره. استمع لي أيضًا، ثم سألني — وكأنه لا يعرف — ما أريده بالضبط.

فقلت: ما انت عارف … عايز اقتل.

– ما تقتل.

– ما أعرفش إلا أما تعلمني.

– القتل مش عايز عَلَام. اللي عايز يقتل بيقتل.

هنا بدأت ألمح أنه سيعود إلى مراوغتي فاعتدلت أكثر، وبلهجة جادة أعني كل حرف فيها رحت أعيد قولي، وأطلب منه أن يساعدني على تحقيق أملي؛ لأحسم موقفي وأنضم نهائيًّا له، وأصبح ابن ليل بحق وحقيق. وإلا فمعنى هذا أنه يستصغر شأني، ويضحك عليَّ، ويستبقيني لأقوم على خدمته.

وعض شفته السفلى تألمًا، وأغلق عينيه ثم عاد يفتحهما، ويقول: طيب … عايز تبقى واد ابن ليل يعني، وتعمل حاجة ما يقدرش عليها أولاد الليل؟ … اقتلني … أنا بقولك جد … أحسن ما المأمور يقتلني … وآني خلاص زي ما قال سعد باشا آني انتهيت … اقتلني ويبقي اسمك اللي قتلت الغريب.

ولولا أني أحسست أنه لا يهزل، وإنما يتكلم جادًّا؛ لثرت وتركته في الحال، ولِم لا أقول إني فكرت في اقتراحه للحظة؟

ولكني هززت رأسي هزة يائس … وسكت مغيظًا لا أعرف ماذا أقول.

أما هو؛ فقد ابتسم وطبطب على كتفي بغير خشونة، وكأنه يطبطب عليَّ بيد وردة وقال: طيب … ما تزعلش … حنخليك تقتل زي ما انت عايز، وتاخد الشهادة يا سيدي … المدفع أهه … وأول واحد بييجي عالكوبري سَوَا من الناحيادي أو الناحيادي … اقتله.

وانتفضت واقفًا من الفرحة انتفاضة خبطت رأسي في «كمرة» الكوبري الحديدية، وكادت تفقدني الوعي، وهتفت والألم يعصف بي: بتتكلم جد؟

قال: ما دام بتتكلم على الجد، فالحكاية معدش فيها هزار … آني مبسوط منك لأنك أفندي كده ومتعلم وبتفهم كأنك ابني … يمكن كان نفسي إني أبقى زيك، ولَّا يبقى ابني زيك، إنما ما دام انت عايز تبقى زيي أنا، ومش عاجبك تبقى تلميذ، فخلاص معدش هزار … يا حتقتل أول واحد يفوت … يا حاقتلك أنا … وده مش كلام أفندية.

١٤

وهكذا تركنا مجلسنا تحت الكوبري، وزحفنا حتى بلغنا الحائط الذي يمتد من درابزينه، والمدفع الإيطالي في يدي، وكلانا قابع في وضع استعداد، وعيوننا تخترق الظلمة؛ إذ كان القمر لم يطلع بعدُ لنلمح أول القادمين. وبهمس وبلهجة جديدة على أذني تمامًا، قال الغريب: لما تشوفه انسَ نفسك خالص، وبُصْ له هوَّه … وما تْنَشَّنش إلا أما يقرب … عند الشجرة اللي هناك دي … وساعة التنشين اكتم نفسك خالص، وخلِّي النيشان على وسط صدره … ولما تضبط النيشان اضرب على طول … اوعَ تتردد لَحْسن يقتلك هو … لازم تعمل حساب إنه مسلح، وأنك إن ما أصبتوش حيصيبك هو … يا قاتل يا مقتول … وإذا خفت فكر إن بينك وبينه حاجة … فكر إن ده اللي قتل أبوك حتى إن ما كانش أبوك مات … فكر تمام كده، وآمن بحق وحقيق إنه هو اللي قتله … وإذا ما وقعش بعد الأولانية … التانية على طول … والتالتة … وحتى لو وقع غيَّر النيشان، واضرب في المليان.

ولأول مرة في حياتي أجد نفسي أستمع لدرس يُلقى عليَّ وأنا متفتح كليًّا لتلقيه، وآذاني تسمع وأصابعي تفهم، وأنفاسي تعي ما يجب عليها أن تفعله، وروعة ما سيحدث قد طغت عليَّ واكتسحتني … وروعة ما يحدث تغرقني بنَشْوتها، فها أنا ذا أخيرًا جدًّا أتلقى أسرار أولاد الليل، وأتلقاها عن جدارة. فلولا ثقة الغريب فيَّ وفي قدراتي لما رضي أن أصبح تلميذه. الغريب الرابض بجواري، وقد بدأت تطرق صوته وحركاته ملامح الغريب الآخر، ملامح الغريب حين يقتل أو يهجم أو يقدم على أمر خطير. أما الشيء الذي لمحته، وجعل العرق البارد ينبع من جسدي كله ورقبتي، ويملأ بسريانه الملموس قناة ظهري، الشيء الذي رأيته وقلب نشوتي إلى رعب بارد لا رحمة فيه ولا هوادة، فهو البلطة التي لمحت الغريب يُطبِق عليها بيمينه ويخفيها عني بثيابه، البلطة التي أطاحت برأس شلبي، والتي تستعد قطعًا للإِحاطة برأسي إذا فشلت فيما أنا مقدم عليه.

فجأة أحسست وكأني كنت أحيا طول الوقت بأحلامي في وادٍ، وجسدي في وادٍ آخر، وأنه قد آن الأوان … أتت اللحظة لكي أنقل جسدي وكياني لأرض أحلامي، وأن نحلم شيءٌ وأن ننقل أجسادنا إلى أحلامنا شيءٌ آخر، فما بالك إذا أصبحت حياتنا نفسها تتوقف على هذه الخطوة؟

وقال الغريب: خد.

كانت سيجارة ملفوفة، وكنت أرفض أن أدخِّن أمامه، ولكني أخذتها بيد ثابتة وأشعلتها، ومضينا ندخن تدخين ندٍّ لندٍّ … وأُجبر نفسي على اعتقاد أنه تدخين ندٍّ لندٍّ.

وقال الغريب: بعد الحكاية ما تتم … نمشي من هنا.

ثم صمت برهة، وواجهني بعينين فيهما لمعة، وقال: يمكن حظنا يبقى كويس، ويطلع متريش … على العموم بعد ما تْخَلص عليه تروح ومعاك المدفع تفتشه، وتجيب أي حاجة تلقاها وتمشي … واوعَ تتلخبط ويقع منك انت حاجة وانت بتفتشه.

وهززت رأسي أطلب منه أن يطمئن.

ومر الوقت بطيئًا، ونحن نمد أبصارنا بأكثر مما نستطيع علَّنا نلمح ذلك القادم المجهول.

وطال انتظارنا، وأعصابي تزداد توترًا مع كل دقيقة منه، حتى لم أعُد في النهاية أستطيع. وهممت أن أقف أو أنفجر أو أصرخ لأخفف ما بي من بُخار مضغوط، ولكني قبل أن أفعل وجدت يده الصغيرة تمتد إلى ذراعي وتضغط عليها، ووجدته يقول: الصبر … طول بالك أمال … قلت لك انسَ روحك خالص … إنت لما بيعلموك ركوب العجَل بيقولوا لك إيه؟ مش بيقولوا بُص لقدامك، بص لبعيد؟ … وانت إياك تبص لروحك … تضيع … خلي همَّك في اللي جاي.

وكأن كلماته تحفل بالسحر؛ فقد وجدت الضغط يخف، ووجدتني أهدأ وأعود أنظر أمامي.

وطلع القمر ومضى نورُه الأول الذي يشبه نور الشروق، وبدأت شعاعاته تبيض، وقرصه الناقص يصعد قدمًا في السماء حتى كاد يتوسطها، وكأنه «كلوب» علق من سقف الدنيا، وكأنه شمس الليل أشرقت، فقد وجدنا ليلَ الليل يغيب ونهار الليل يحل، والظلمة الكاملة تستحيل إلى نور غير كامل، والطريق الزراعي المؤدي إلى الكوبري، والطريق الممتد منه والزرع القريب والأشجار البعيدة … وجدتها كلها تظهر نصف ظهور، وتتضح نصف اتضاح.

وطال تأملنا لكل ما حولنا ولكل ما حل بالكون من تغيير، وكذلك طال ترقبنا لنلمح وسط هذا السكون الشامل حركة … مجرد حركة.

وأول ما حدث أن دق قلبي دفعة دقات متتابعة سريعة، أعقبها خفوت وصمت وكأن لم يعُد يصدر عنه صوت، وأعقب هذا مباشرة صوتٌ بعيد ساحق في بعده. ولكنه كان يغنِّي.

وعاد قلبي يطلق دقَّاته من جديد.

وخيل إليَّ أني انتظرت عامًا كاملًا، حتى ظهر في أفق النهار القمري صاحب الصوت. بدا أول الأمر كنقطة بيضاء ساكنة، ثم بياض متحرك، ثم كائن نصفه الأعلى أبيض، والأسفل أسود، ثم ظهر أنه رجل يمتطي دابة ويغنِّي.

انتظرت أن يتكلم الغريب، ولكن لم يصدر عنه شيء، حتى خِلت أنه ما رأى أو سمع.

وأيضًا ما تكلم الغريب أو نطق … عيناه وكأنهما ضُمَّتا إلى الرجل المتحرك بخيط، ويده لا تزال مستميتة على البلطة. ولا ينطق حتى حين التفتُّ إليه طالبًا النجدة … طالبًا كلمة.

وعدت أنظر إلى الرجل من خلال العرق المملَّح الذي يسيل من جبهتي إلى عيني ويلسعها. ومسحت العرق، وسدَّدت فوهة المدفع ليصبح الرجل، و«ذبابة» الفوهة، وشق جهاز التنشين على خط مستقيم واحد، وفي نيتي ألا أبدأ في إحكام التنشين والتسديد على منتصف الصدر تمامًا؛ إلا حين يصير الرجل القادم بحِذاء الشجرة.

ومن أجل هذا، مضيت أتابع حركة الدابة بحركة يسيرة من الفوَّهة … ورغمًا عني رحت أتابع الموال الذي يغنِّيه الرجل … لم يكن صوته جميلًا أو يصلح للغناء … ولكنه كان عاليًا وقويًّا، وكان يقول «يا ليل»، وكأنما يستحلف الليل ويرجوه أن يمنع عنه شروره. ويا «عين» فأتصور أنه يبكي ويرثي نفسه، وكأن مسعاه لدى الليل فشِل. وكان الموال يتحدث عن بستان حبيبه، وما فيه من مشمش ورمان ونرجس، وكيف أنه سيدخله ويقطف من كل أثماره … وبدأت أرى أن بينه وبين الدابة شيئًا … كان «زكيبة» لا بدَّ أنها ملأى بالطحين، ولا بد أنه تأخر في «المكنة»، وكان الغريب لا يزال صامتًا صمتًا لم أرَ مثله، ولا يمكن أن يستطيعه بشر، صمتًا بلغ من عمقه وصدقه أنه جعلني أحس وكأنه غير موجود معي بالمرة، وكأنني أواجه الموقف وحدي. الرجل المجهول أمامي، والمدفع في يدي، ولا شيء سوى الليل معنا. ورغمًا عني أحسست وكأن شيئًا ثقيلًا قد انزاح عن صدري. فقد أحسست أن باستطاعتي أن أتصرف بمطلق إرادتي وأني حر، لا يحد من حريتي وجود الغريب أو بلطته. لأول مرة بدأت أشعر أني غير خائف أو مُرغَم … وكلما اختلست النظر إلى الغريب، ووجدته ساكنًا سكون الموتى أزداد إيمانًا بأني لا شريك لي فيما أفعله، وأني سيد الموقف والمدفع معي، والمفاجأة معي، والليل هو الآخر معي … لأول مرة أنفض عن نفسي رداء التلمذة وعقليتها، وأحس أني ابن ليل حقيقي وأني قادر.

وبكل تلك الثقة التي غزتني عُدت أنظر إلى هدفي. كان الرجل قد اقترب حتى لم يعُد بينه وبين الشجرة المعهودة سوى أمتار، وكان صوته واضحًا وألفاظ مواله ومعانيه منتظمة … وربما الغناء الذي بدأه وهو خائف قد عمِل عمله … وجعله يحس بالونَس والطمأنينة … فغناؤه كان قد بدأ يحفل بالنشوة، وكأنه يغني للغناء ذاته، ويقول «يا ليل» مسبحًا بأبنوسية الليل وجلاله، و«يا عين» متحسرًا على العين التي نامت، وحرمت نفسها من جماله.

وكان عليَّ أن أقتل هذا الرجل المنتشي بمواله وغنائه بعد أقل من دقيقة زمن. ففوهة المدفع تتحرك معه، وعند الشجرة تمامًا سأُحكِم التصويب وأطلق الرصاصة.

وأقول كان عليَّ أن «أقتله» فقط لمجرد القول. فالقتل ساعتها لم يعُد له في نظري أي هالة أو بشاعة. كان قد أصبح شيئًا عمليًّا بحتًا. شيئًا لن يكلفني أكثر من مجرد كتم أنفاسي والتنشين، وحركة صغيرة من سبابتي اليمني أجذب بها الزناد.

واقترب الرجل كثيرًا، حتى لم يعد بينه وبين الشجرة سوى قصبة.

وكتمت أنفاسي، وبكل ما أملك من قوة، حاولت أن أحمل يدي برصاص الدنيا كله، حتى تكف عن ارتجافتها الرقيقة، ويظل الخط الواصل من منتصف الصدر إلى جهاز التنشين قائمًا ومستقيمًا … وفي ثانية تصورت أن أبي قُتل في نفس الليلة، وأن هذا الرجل قتَله وقادم لتوه من هناك ولا بدَّ من قتله … حركة واحدة من الزناد وينتهي كل شيء، فأدخل عالم الليل من أرحب أبوابه … حركة واحدة، ضغطة صغيرة.

ولا أعرف ما حدث بعد هذا على وجه الدقة.

كل ما أذكره هو ضوء القمر، وجلباب الرجل الأبيض الزاهي البياض، ومواله الذي بدا جميلًا يكاد من جماله يوقف الطير على أشجارها تستمع، والشعور بالأمان والونَس الذي كان مسيطرًا عليه، والذي ظل مسيطرًا عليه، حتى وهو يحاذي الشجرة ويبدأ في تجاوزها … ربما لو كان قد خاف، ربما لو كفَّ عن غنائه أو شعَر بالخطر، ربما لو كنت قد آمنت إيمانًا كاملًا أنه قتل أبي، ربما لو كان حدث شيء خارج عن إرادتي وإرادته، شيء خدش سياج التحريم الذي يحيطه ويتحرك معه، ويتكفل بشل أي إنسان حوله عن أن يلحق به أذًى. ربما لو كان قد حدث شيء من هذا لتغير كل شيء … ولتغير مجرى حياته نفسه؛ إذ لا أستطيع إلى الآن أن أعرف لماذا لم يتحرك إصبعي تلك الحركة الصغيرة الهينة ويضغط على الزناد. وما سر هذا النداء الذي تصاعد من أعماقي، من أعمق أعماقي، من أقدامي وجوفي وأصابع يدي، وقمم شعري … نداء لم أسمعه قبلًا، ولم أكن أتصور وجوده، ولم أعمل له حسابًا، ولا اعتقدت أنني — في آخر لحظة — سيتصدى لي هاتف من داخل نفسي يقول لي: حرام … كلمة نتداولها ونقولها للغير ببساطة، ويقبلها الغير، أو يرفضها ببساطة أيضًا. أما أن أقولها أنا لنفسي، وفي لحظة كتلك، فهو ما حيَّرني وما جعلني إلى الآن أحتار، وما أنبت العرق الغزير من كل مكان في جسدي، وما جعله بحورًا في باطن يدي وباطن سبابتي بالذات … تلك التي كان عليها أن تقوم بالعمل الحاسم في المهمة، عرق غزير لزِج، كاد ينزلق معه المدفع من قبضتي، ويجعل سبابتي تنزلق على الزناد كلما أرادت أن تضغط. وهو أيضًا لا بدَّ سبب انزلاق إرادتي، كلما استجمعتها وقلت: الآن لأرد بها على النداء المتصاعد من داخلي يقول: حرام حرام! نداء ألعنه وأتساءل عن مصدره، وأستنكر أن تذيب كلمة كهذه كل طاقتي على الإرادة، ويصل ما تُحدِثه من شلَل إلى آخر عقلة في إصبعي.

نداء أدركت قرب النهاية مصدره … كان الرجل مصدره … كلما رأيته مطمئنًّا يغني ويرفع عقيرته، وكأنما الوجود كله ملكه، أحسست أنه لا يضمر شرًّا، ولا يتوقع شرًّا. وكلما سمعت كلماته، وتعرفت عليها ووجدت لها معاني، وكلما رأيت جلبابه الأبيض وعمامته، والدقيق الذي طحَنَه، أحسست أن المسافة بيننا تتلاشى، وأنه يغنِّي لي مثلًا، أو يحييني، وأنه إنسان، وأنه حرام … حرام … حرام … كل غنائه وخبطاته بالعصا على ظهر دابته، وهزات أرجله ورنات حنجرته، دون أن يقصد هو أو يعِي كانت تصلني على هيئة نداء أمر واحد يقول: حرام، حرام. بل تكاثرت النداءات في النهاية؛ إذ إن أي شيء كان يفعله كإنسان كان يطلق نداء، حتى جلسته الآدمية المنتصبة فوق الدابة كانت تطلق نداء … تكاثرت النداءات، حتى وجدتها في النهاية تصنع حوله سياجًا لا يمكن اختراقه. وكأنه أينما يتحرك تتحرك معه دائرة حرام واسعة لا بد أنها احتوَتْني وشلَّتْني، والتي بلغ من تأثيرها أنه حين أصبح قاب قوسين أو أدنى من الكوبري، ورآنا وألقى السلام، وجدت المدفع ينزلق من قبضتي ويَسقط، ووجدتني أقول: سلام ورحمة الله.

وحين حاذانا … وقال معتذرًا عن مروره علينا راكبًا: دستوركم يا رجالة.

وتصاعد من جانبي صوتٌ كنت قد نسيته تمامًا، يقول: دستورك معك … اتفضل.

بدأت أتذكر على وجه التحديد المصير الذي ينتظرني … والعجيب أني فعلت هذا بلا خوف وبلا مبالاة تامة … كنت على استعداد لمقاومة الغريب، إن هو حاول قتل الرجل، وإنجاز ما فشلت في إنجازه، مقاومته حتى ولو اقتضى الأمر أن أفقد حياتي.

١٥

ولكن الغريب لم يقتلني، وأيضًا لم يحاول قتل الرجل. وبدأت أتكلم وأحاول أن أشرح ما بدَر مني، أو على وجه أصح ما لم يبدُر مني، ولكنه وضع يده على كتفي، وقال: مفيش داعي … البلطة دي كنت مجهَّزْها ليك صحيح.

وسألته لماذا إذن لم يستعملها؟ وفوجئت به يقول إنه كان ينوي استعمالها حقيقة لو كنت قد أطلقت النار على الرجل وصرَعْته … إجابة أذهلتني، وجعلتني أستمع للكلمات التي قالها بانتباهٍ عظيم، ولكنه على أي حال لم يتكلم كثيرًا … قال ما معناه إنه، هو الغارق إلى أذنيه في عالم الجريمة والقتل، كان لا يمكن أن يسمح لي بأن أتردَّى فيه حتى لو أردت، فلو كنت قد فعلتها، لما كنت قد كففت أبدًا عن فعلها ولأصبحت مثله، ولعشت الحياة المؤلمة الرهيبة التي يحياها، ولاضطررت دفاعًا عن حياتي لأن أجتثَّ أعمارًا، وأيتِّم أولادًا وأملأ الأرض بشروري وآثامي، أتعذب وأعذب الناس، وأعاديهم إلى درجة الموت، ويعادونني إلى درجة البغض، لأصبحت في النهاية ابن ليل غادرًا خئُونًا كشلبي … إذا تعاملت بشرف فقدت حياتي، وإذا لم أشكَّ في كل الناس حتى أخلص الناس … ضعت.

– واخص على العيشة اللي لا تأمن فيها الناس ولا الناس يأمنوا لك … ولا تصدق حد ولا حد يصدقك، ولا تخلص لحد ولا حد يخلص لك … الموت أهون منها … والمصيبة إنك فيها ما تقدرش تقتل روحك، تقتل كل الناس ولا تقتل روحك … وعلشان كده كنت حالحقك وأرحمك وأخلص عليك، يا ريت ألاقي أنا حد يرحمني ويغلبني، ويخلص عليَّ.

وسكت برهة يتأمل القمر … ثم قال وكأنما يحدث نفسه: وعلى أقل تقدير لو كنت قتلته كنت حاعرف أنك ما عدتش تنفع الواحد يأمن لك … النفر لما بيقتل بيصبح زي الديبة، ماعندهاش مانع تاكل ولادها، بينسعر زي ما يكون عقر كلب مسعور، ويبقى مالوش شغلة إلا أنه يعض، ويفضل يعض حتى صاحبه وصديقه … وعلى أقل تقدير كنت حاتبلغ عني.

وسكت مرة أخرى وتناول مني المدفع وراح يتفحَّصه … ثم استطرد: الظاهر إني لازم أفوق … آني حاوديك في داهية معاية … آني عذبتك قوي … وطول المدة دي كنت باتمني أني أغمض وأفتح ألاقيني أبوك، وألاقيني راجل طيب وألاقيك ابني … إنما الظاهر أبوك الحقيقي أولى بك … اصلُب حيلك.

كنت سادرًا في إصغائي حين فاجأتني كلماته الأخيرة، فقد قالها بلهجة مغايرة تمامًا، وبصوت حاسم باتر لا تشوبه ذرَّة تردد أو رحمة … وحدقت فيه بعيون واسعة مدهوشة، وبملامح صارمة جامدة قاسية لا تضطرب … عاد يقول: فِز قوم … وما تبطَّلش جري إلا حدَا بيتكم.

ودوَّى انفجار رهيب، وفوق كتفي تمامًا، مرت لفحة هواء ساخن مضغوط كادت تقتلع أذني، وأفقت على نفسي وأنا أجري … ودوَّى انفجار بعيد آخر، وفوق رأسي مرت كتلة الرصاص تغلي وتطش وتثقب الهواء … ولكني وحتى وأنا مستمِّر في انطلاقي، جرؤت على إلقاء نظرة — كنت أعرف أنها الأخيرة — على الغريب … وربما كان خداعَ بصر، ولكني شعرت، وكأني أنا الثابت وكأنه هو الذي يجري ويتحرك … بملامح بدَت طاعنة في الكبر، وبأكتاف تنوء بما حملت، وبقامة قصيرة مضت تغوص مع الليل وتختفي في أعماقه، وتنضم إلى كتله السوداء المتراجعة أمام كاشفات الفجر وشعاعاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤