مقدمة

كتاب الإمتاع والمؤانسة

بقلم  أحمد أمين

أبو حيان التوحيدي من أولئك العلماء الأدباء الذين أُصيبوا في حياتهم بالبؤس والشقاء، وظل حياته يجاهد ويكافح في التأليف واحتراف الوراقة والنسخ وجوْب الأقطار، يقصد الأمراء والوزراء لعلهم يكافئون علمه وأدبه، فلم يحظَ من كل ذلك بطائل، وعاش كما يقول في بعض كتبه على نحو أربعين درهمًا في الشهر، أي ما يساوي جنيهًا واحدًا، مع أنه كما يقول رأى كل من حوله من العلماء والشعراء يحظون من الأمراء بالمال الكثير والحظ الوافر، وليس أكثرهم يدانيه علمًا أو يجاريه أدبًا. قصد ابن العميد وابن عباد وابن شاهويه وابن سعدان وأبا الوفاء المهندس وغيرهم. ومدح وأطرى، وبكى واشتكى، وهدد وأوعد، فما نفعه مدحه ولا ذمه، ولا إطراؤه ولا هجاؤه، فإن استفاد شيء مما عاناه أبو حيان فإنما هو الأدب بما كتب وألف، وبما هجا واستعطف.

ولم يكن حظه بعد وفاته بأحسن من حظه في حياته، فقد عجب ياقوت من أن مؤرخي الرجال لم يترجموا له مع أنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ولم نعثر فيما بين أيدينا من الكتب على ترجمة وافية لحياته إلا نُتفًا قصيرة وأخبارًا ضئيلة.

وأراد هو أن ينتقم من الناس الذين كفروا صنيعه وجحدوا علمه وأدبه، فأحرق في آخر أيامه كتبه وقال: «إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمد الجاه عندهم، فحُرمتُ ذلك كله … ولقد اضطُرِرت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.»

قال السيوطي: «ولعل النسخ الموجودة الآن من تصانيفه كُتِبت عنه في حياته وخرجت من قبل حرقها.»

وكان من شؤمه أنه لم يبقَ من كتبه التي ألفها — وتبلغ نحو العشرين — إلا القليل، ولم يُطبَع منها إلا المقابسات، والصداقة والصديق، ورسالة في العلوم. وما بقي منها مخطوطًا بل وما طُبِع منها مملوء بالتحريف والتصحيف إلى حد يقلل من قيمتها والانتفاع بها.

ولعل أقوم كتبه وأنفعها وأمتعها كتابه الذي نحن بصدده وهو «كتاب الإمتاع والمؤانسة».

فهو كتاب ضخم يقع في ثلاثة أجزاء أخذنا أنفسنا بنشره لتعميم نفعه.

ولتأليف أبي حيان لهذا الكتاب قصة ممتعة، ذلك أن أبا الوفاء المهندس كان صديقًا لأبي حيان وللوزير أبي عبد الله العارض، فقرب أبو الوفاء أبا حيان من الوزير ووصله به ومدحه عنده، حتى جعل الوزيرُ أبا حيان من سُمَّاره، فسامره سبعًا وثلاثين ليلة كان يحادثه فيها ويطرح الوزير عليه أسئلة في مسائل مختلفة فيجيب عنها أبو حيان.

ثم طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يقص عليه كل ما دار بينه وبين الوزير من حديث، وذكَّره بنعمته عليه في وصله بالوزير، مع أنه (أي أبا حيان) ليس أهلًا لمصاحبة الوزراء لقبح هيئته وسوء عادته وقلة مرانته وحقارة لبسته، وهدده إن هو لم يفعل أن يغض عنه ويستوحش منه ويوقع به عقوبته وينزل الأذى به.

فأجاب أبو حيان طلب أبي الوفاء ونزل على حكمه، وفضَّل أن يدون ذلك في كتاب يشتمل على كل ما دار بينه وبين الوزير من دقيق وجليل وحلو ومر، فوافق أبو الوفاء على ذلك ونصحه أن يتوخى الحق في تضاعيفه وأثنائه والصدق في إيراده، وأن يطنب فيما يستوجب الإطناب ويصرح في موضع التصريح.

«فكان من ذلك كتاب الإمتاع والمؤانسة.»

من هو الوزير أبو عبد الله العارض الذي سامره أبو حيان؟

لقد بحثتُ عنه في مظانه فلم أُوفَّق إلى العثور عليه، وقبل ذلك عُنِي المرحوم أحمد زكي باشا بالبحث والسؤال عنه من بعض علماء الشرق والغرب فكان حظه حظي.

وأخيرًا رجحت أنه هو الوزير أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صَمْصَام الدولة البويهي، وقد ورد اسمه هكذا في كل ما راجعت من كتب التاريخ أمثال: «تجارب الأمم» وذيله و«ابن الأثير»، ولم يلقبه أحد منهم بالعارض، وكلمة العارض كما في كتاب الأنساب للسمعاني معناها: «من يعرف العسكر ويحفظ أرزاقهم ويوصلها إليهم، ويعرضهم على الملك إذا احتيج إلى ذلك»، فالظاهر أن الوزير أبا عبد الله لُقِّب هذا اللقب إما لأنه تولى هذا العمل قبل أن يتولى الوزارة أو كان هذا لقبًا لأسرته، ودليلي على ذلك أمور:
  • (١)

    أنه ورد في صدر هذا الكتاب أن أبا الوفاء ذكر لأبي حيان: أنك لما انكفأت من الرَّي إلى بغداد في آخر سنة ٣٧٠ مغيظًا من ابن عباد، وعدتك صلاح حالك وأن أوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض. ثم جاء وصف أبي عبد الله هذا بالوزير.

    ونحن إذا رجعنا إلى من استوزر فيما بين سنة ٣٧٠ وسنة ٣٧٥ لم نجد وزيرًا يكنى بأبي عبد الله إلا الوزير أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان، فقد استوزره صَمْصَام الدولة سنة ٣٧٣ وقتله سنة ٣٧٥.

  • (٢)

    جاء في أثناء كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أن أبا حيان قصَّ على الوزير أنه سمع رجلًا على جسر بغداد يقول وقد رأى ابن بقية الوزير المشهور مصلوبًا بعد أن مات عضد الدولة: «سبحان الله! عضد الدولة تحت الأرض وابن بقية فوق الأرض.» فلما سمع الوزير ذلك قال: استأذنت الملك في دفن ابن بقية فدُفِن.

    وقد ذكر المؤرخون أن ابن بقية دُفِن في عهد صمصام الدولة، ولم يكن لصمصام الدولة وزير يكنى بأبي عبد الله غير ابن سعدان.

  • (٣)

    ومما يُستأنَس به أن أبا حيان كان متصلًا بالوزير ابن سعدان وألف له كتاب «الصداقة والصديق»، وقد ذكر في أوائله أن «السبب كان في إنشاء هذه الرسالة أني ذكرت شيئًا منها لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان سنة إحدى [وسبعين] وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة وتدبيره أمر الوزارة حين كانت الأشغال خفيفة والأحوال على أَذْلالها جارية، فقال لي ابن سعدان: قد قال لي زيد عنك كذا وكذا. قلت: قد كان ذلك. قال: فدوِّن هذا الكلام وصله بصلاته … فجمعت ما في هذه الرسالة.»

    فاتصال أبي حيان بابن سعدان وتأليفه له كتاب «الصداقة والصديق» يرجع الظن بأنه هو أبو عبد الله العارض.

    نعم، كان من رجال صمصام الدولة من اسمه أبو الحسن بن عمارة العارض استخدمه صمصام الدولة في السفارة بينه وبين أعدائه أحيانًا، ولكن يبعد أن يكون هو الذي أُلِّف له كتاب الإمتاع والمؤانسة، لأن كنيته أبو الحسن والذي أُلِّف له الكتاب أبو عبد الله، ولأن أبا الحسن لم يكن وزيرًا لصمصام الدولة، وفي الكتاب النص في مواضع متعددة على أنه ألفه لوزير.

  • (٤)
    ذكر في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أصدقاء أبي عبد الله العارض وعدَّد منهم ابن زرعة وأبا الوفاء المهندس ومسكويه والأهوازي وبهرام وابن شاهويه، وأنهم كانوا يلازمونه وأنهم أهل مجلسه، وعدَّد في كتاب الصداقة والصديق أصدقاء ابن سعدان فإذا هم هم،١ فاتحاد الأصدقاء وتوافقهم واجتماعهم في مجلس وزير يرجح الظن جدًّا بأن ابن العارض هو ابن سعدان.
  • (٥)

    جاء في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أن الوزير سأل أبا حيان عما يقول الناس فيه، فقال له: «سمعت بباب الطاق قومًا يقولون: اجتمع الناس اليوم على الشط، فلما نزل الوزير ليركب الزبزب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعوز الطعام وتعذر الكسب وغلبة الفقر، وأنه أجابهم بجواب مُرٍّ مع قطوب الوجه وإظهار التبرم.»

وهذه الأوصاف كلها تنطبق على ما ذكره أبو شجاع في كتابه «ذيل تجارب الأمم» عن حادثة جرت لابن سعدان.

•••

وابن سعدان هذا استوزره صمصام الدولة البويهي سنة ٣٧٣ لما تقلد الأمور بعد وفاة أبيه عضد الدولة، جاء في كتاب «ذيل تجارب الأمم» لأبي شجاع: «وفيها [أي في سنة ٣٧٣] خُلِع على أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان خِلع الوزارة، وكان رجلًا باذلًا لعطائه مانعًا للقائه، فلا يراه أكثر من يقصده إلا ما بين نزوله من درجة داره إلى زبزبه،٢ ومع ذلك فلا يخيب طالب إحسان منه في أكثر مطلبه … فبسط يده في الإطلاقات والصلات … وأحدث من الرسوم استيفاء العُشر من جميع ما تسبب به الأولياء والكتَّاب والحواشي من أموالهم وأرزاقهم … وانضاف إلى ضيق خُلُقه ما اتفق في وقت نظره من غلاء سعر، فتطيرت العامة ورجموا زبزبه، وشغَّبوا الديلم عليه، وهجموا على نهب داره، وانتهت الحال إلى ركوب صمصام الدولة إلى مجتمعهم حتى تلافاهم وردَّهم.»٣

وقد ظل ابن سعدان في الوزارة إلى ٣٧٥ حتى ظهر له خصم هو أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، فظل يكيد له وينصب الشباك للإيقاع به.

وحدث أن ابن سعدان أراد أن يعيِّن أباه كاتبًا لوالدة صمصام الدولة لما مات كاتبها، فقال أبو القاسم لصمصام الدولة: «إن ابن سعدان قد استولى على أمورك، وملك عليك خزائنك وأموالك، فإذا تم له حصول والده مع السيدة حصلنا تحت الحجر معه.»٤ وتمت المكيدة ولم يُعيَّن أبوه، ثم قُبِض على ابن سعدان وأصحابه وأُودِعوا السجن، واستوزر صمصام الدولة هذا الواشي أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، ولم يكتفِ أبو القاسم بمحبس ابن سعدان فانتهز فرصة خروج ثائر على صمصام الدولة اسمه «أسفار بن كردويه» يريد خلعه، فدس أبو القاسم إلى صمصام الدولة أن ابن سعدان متصل بهذا الثائر، وأن الذي جرى كان من فعله وتدبيره، وأنه لا يُؤمَن ما يتجدد منه في محبسه، فأمر صمصام الدولة بقتله فقُتِل سنة ٣٧٥.

وكان لابن سعدان ناحية أخرى علمية أدبية يصورها أبو حيان في كتبه، فهو واسع الاطلاع، له مشاركة جيدة في كثير من فروع العلم من أدب وفلسفة وطبيعة وإلهيات وأخلاق، يدل على ذلك حواره الذي يحكيه أبو حيان في كتابه الإمتاع والمؤانسة والمقابسات، فهو يسأل أسئلة عميقة وينقد الإجابة عنها نقدًا قيمًا.

وفوق ذلك كان له في وزارته منتدى يجمع كثيرًا من جلة العلماء والأدباء، منهم: ابن زرعة الفيلسوف النصراني، وابن مسكويه صاحب «تهذيب الأخلاق» و«تجارب الأمم»، وأبو الوفاء المهندس الذي سنتحدث عنه، وأبو سعد بهرام بن أردشير، ومن الشعراء ابن حجاج الشاعر الماجن المشهور، ومن الكتَّاب أبو عبيد الخطيب الكاتب وأبو حيان صاحبنا.

وكان له مجلس شراب يجلس إليه بعض هؤلاء فيتفاكهون ويتنادرون ويذهبون في فنون الحديث كل مذهب، ومجلس جد يتحاورون فيه ويتناقشون في الفلسفة والأخلاق والأدب.

وكان يباهي بمجلسه ويفخر به على مجالس الأمراء المعاصرين له، مثل المهلَّبي وابن العميد والصاحب بن عباد، فيقول في أصحابه هؤلاء: «ما لهذه الجماعة بالعراق شكل ولا نظير … وأن جميع ندماء المهلبي لا يفون بواحد من هؤلاء، وأن جميع أصحاب ابن العميد يشتهون أقل مَن فيهم، وأن ابن عباد ليس عنده إلا أصحاب الجدل الذين يشغبون ويحمقون ويتصايحون.»٥ فلا عجب إذن أن يكون من نتاج ابن سعدان الوزير العالم هذا الكتاب الذي نحن بصدد؛ كتاب «الإمتاع والمؤانسة».

•••

وأما أبو الوفاء الذي وصل أبا حيان بابن سعدان والذي ألف أبو حيان له كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، ودوَّن له فيه كل ما دار بينه وبين الوزير في سبع وثلاثين ليلة، فهو محمد بن محمد بن يحيى البُوزجاني، ترجم له ابن النديم في «الفهرست» وابن خلكان في «وفيات الأعيان»، وقال فيه هذا الأخير: «إنه أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يُسبَق بها، وكان شيخنا العلَّامة كمال الدين أبو الفتح موسى بن يونس — وهو القيم بهذا الفن — يبالغ في وصف كتبه، ويعتمد عليها في أكثر مطالعاته، ويحتج بما يقوله، وكان عنده من تآليفه عدة كتب … وكانت ولادته سنة ٣٢٨ بمدينة بوزجان، وقدم العراق سنة ٣٤٨، وتُوفِّي سنة ٣٧٦.» وقد ذكر ابن خلكان أنه نقل تاريخ الوفاة هذا من شيخه ابن الأثير، ولكن الذي في ابن الأثير أنه عدَّ وفاته في حوادث سنة ٣٨٧، فإما أن ابن خلكان أخطأ في النقل أو أن الناسخ أخطأ في الكتابة.

وكان أبو الوفاء هذا من ندماء ابن سعدان كما تقدم، وقد وصفه ابن سعدان في جملة ما وصف من أصحابه، فقال: «وأما أبو الوفاء فهو والله ما يُقعَد به عن المؤانسة الطيبة والمساعدة المطربة والمفاكهة اللذيذة والمواتاة الشهية، إلا أن لفظه خراساني، وإشارته ناقصة، هذا مع ما استفاده بمقامه الطويل ببغداد، والبغدادي إذا تخرسن كان أعلى وأظرف من الخراساني إذا تبغدد.»٦

•••

إلى هنا رأينا أن الكتاب أُلِّف لأبي الوفاء المهندس، نقل فيه أبو حيان ما دار بينه وبين ابن سعدان، ولكن القفطي في كتابه «أخبار الحكماء» عند ترجمته لأبي سليمان المنطقي أورد كلامًا يناقض ما نقول، سواء في ذلك من أُلِّف له الكتاب ومن دار الحديث بينه وبين أبي حيان.

فقد ذكر: «إن أبا سليمان كان أعور، وكان به وَضَح، وكان ذلك سبب انقطاعه عن الناس ولزومه منزله، فلا يأتيه إلا مستفيد وطالب علم، وكان يشتهي الاطلاع على أخبار الدولة وعلم ما يحدث فيها … وكان أبو حيان التوحيدي من بعض أصحابه المعتصمين به، وكان يغشى مجالس الرؤساء ويطَّلع على الأخبار، ومهما عَلِمه من ذلك نقله إليه وحاضره به، ولأجله صنَّف كتاب «الإمتاع والمؤانسة» نقل له فيه ما كان يدور في مجلس أبي الفضل عبد الله بن العارض الشيرازي عندما تولى وزارة صمصام الدولة بن عضد الدولة.»٧ وأنا أرجح خطأ القفطي في الوجهين معًا.

فأما في الأول: فإن النسخة التي بيدي تذكر أنه ألفه لأبي الوفاء المهندس لا لأبي سليمان المنطقي، ويقول في صدر الكتاب إنه ألفه ردًّا لجميل أبي الوفاء إذ كان هو الذي أوصله لأبي عبد الله. وعندما يأتي ذكر أبي الوفاء في ثنايا الكتاب، ويسأل أبو عبد الله أبا حيان عن رأيه فيه يمدحه ويثني عليه، ويقول: كيف أذمه وهو الذي أوصلني بك؟ وقد سبق أن أثبتنا أن أبا الوفاء كان من ندماء أبي عبد الله.

ودليل آخر وهو أن أبا حيان في بعض كلامه في الكتاب يستجدي من ألَّف له الكتاب، وقد كان أبو الوفاء المهندس في منزلة تسمح له بذلك، فإنه رجل جليل القدر يلقبه الوزير بشيخنا. أما أبو سليمان فكان فقيرًا كما ذكر ذلك أبو حيان في هذا الكتاب، وكانت صلة أبي حيان به صلة علمية لا صلة مالية، فمن البعيد جدًّا أن يستجْديه أبو حيان.

ودليل ثالث وهو أن الوزير أبا عبد الله سأل أبا حيان في الكتاب عن أبي سليمان هذا، فذكر له أوصافه، وفيها ما هو عيب لأبي سليمان كقوله: إنه يجتمع مع قوم للشراب، ويذكر بعضهم الوزير بالسوء. فلو كان أبو حيان ألَّفه لأبي سليمان لكان بعيدًا كل البعد أن يذكر هذا الحديث.

ودليل رابع وهو أن أبا حيان ينقل في كتابه هذا عن أبي سليمان ويذكر آراءه وينقل بعض رسائله إلى الوزير، ولو كان يؤلف الكتاب لأبي سليمان لاستغنى عن ذكر ما يعرفه أبو سليمان عن نفسه من أقواله ورسائله، ولكان أبو حيان في ذلك كمن ينقل إلى البئر ماءه وإلى الكنز ذهبه، وهذا غير مألوف ولا مستساغ.

لهذا كله نرجح خطأ القفطي في ما ذهب إليه من أنه ألَّفه لأبي سليمان المنطقي.

كما نرجح خطأه في الشق الثاني، وهو أن أبا حيان دوَّن فيه ما كان يدور بينه وبين أبي الفضل عبد الله بن العارض الشيرازي وزير صمصام الدولة.

ذلك لأن النسخة التي بين أيدينا يذكر فيها أبو حيان أنه دوَّن فيه ما دار بينه وبين أبي عبد الله العارض لا أبي الفضل عبد الله بن العارض، وقد راجعنا كتب التاريخ التي بين أيدينا وأحصينا فيها من تولى الوزارة لصمصام الدولة فلم نجد من بينهم أبا الفضل عبد الله بن العارض الشيرازي الذي ذكره القفطي وكما تقول دائرة المعارف الإسلامية في مادة أبي حيان تبعًا له.

نعم، رأينا مَنْ يسمى أبا الفضل الشيرازي وكان يعيش في هذا العصر، ولكن اسمه أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان الشيرازي لا أبو الفضل عبد الله الشيرازي كما يقول القفطي، وكان هذا كاتبًا لا وزيرًا وكان صديقًا لأبي علي الحسن التنوخي، ونقل عنه كثيرًا في كتابه «نشوار المحاضرة» ولقبه الكاتب لا الوزير، والذي أُلِّف له الإمتاع والمؤانسة وزير لا كاتب.

يُضاف إلى ذلك ما ذكرنا قبل من البراهين.

فالكتاب — في رأينا — كُتِب لأبي الوفاء المهندس لا أبي سليمان المنطقي، ودُوِّن فيه ما دار في مجلس ابن سعدان لا أبي الفضل الشيرازي.

وصف الكتاب

قال القفطي في وصفه: «وهو كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم، فإنه خاض كل بحر وغاص كل لجة، وما أحسن ما رأيته على ظهر نسخة من كتاب الإمتاع بخط بعض أهل جزيرة صقلية وهو: ابتدأ أبو حيان كتابه صوفيًّا وتوسَّطه محدِّثًا وختمه سائلًا ملحفًا.»٨

قسَّم أبو حيان كتابه إلى ليالٍ، فكان يدوِّن في كل ليلة ما دار فيها بينه وبين الوزير على طريقة قال لي وسألني وقلت له وأجبته. وكان الذي يقترح الموضوع دائمًا هو الوزير، وأبو حيان يجيب عما اقترح. وكان الوزير يقترح أولًا موضوعًا حسبما اتفق وينتظر الإجابة، فإذا أجاب أبو حيان أثارت إجابته أفكارًا ومسائل عند الوزير فيستطرد إليها ويسأله عنها، فقد يسأله سؤالًا يأتي في أثناء الإجابة عنه ذكر لابن عباد أو ابن العميد أو أبي سليمان المنطقي، فيسأله الوزير عنهم وعن رأيه فيهم. وهكذا يستطرد من باب لباب، حتى إذا انتهى المجلس كان الوزير يسأله غالبًا أن يأتيه بطرفة من الطرائف يسميها غالبًا «ملحة الوداع»، فيقول الوزير مثلًا: إن الليل قد دنا من فجره، هات ملحة الوداع. وهذه الملحة تكون عادة نادرة لطيفة أو أبياتًا رقيقة، وأحيانًا يقترح الوزير أن تكون ملحة الوداع شِعرًا بدويًّا يشم منه رائحة الشيح والقيصوم وهكذا.

وأحيانًا يكلفه الوزير أن يتم له المسألة المعروضة في رسالة، فقد سأله مرة عن المصادر التي تجيء على وزن تفعال، فأجابه أبو حيان عن بعضها ثم طلب منه الوزير أن يجمع له ما جاء في اللغة منها.

وأحيانًا يتخذ الكلام شكل حوار، فأبو حيان مثلًا يروي عن ديوجانيس أنه سُئِل: متى تطيب الدنيا؟ فقال: «إذا تفلسف ملوكها وملك فلاسفتها.» فلم يرضَ الوزير عن هذا، وقال: إن الفلسفة لا تصح إلا لمن رفض الدنيا وفرَّغ نفسه للدار الآخرة، فكيف يكون الملك رافضًا للدنيا وقاليًا لها وهو محتاج إلى سياسة أهلها والقيام عليها باجتلاب مصالحها ونفي مفاسدها؟! وأطال في ذلك. وفي كثير من الأحيان يعلق الوزير على إجابة أبي حيان بالاستحسان أو الاستهجان مع ذكر أسباب ذلك.

وأحيانًا يطلب إليه الوزير أن يحضِّر له رسالة في موضوع، ثم يتلوها عليه في جلسة مقبلة كما فعل مرة، إذ كلفه أن يكتب له في المجون والمُلَح، ففعل أبو حيان وقرأها عليه في مجلس، قال أبو حيان: «فلما قرأتها على الوزير قال: ما علمت أن مثل هذا الحجم يحوي هذه الوصايا والمُلَح.»

وآونة يثير الوزير مسائل أشكلت عليه في اللغة والفلسفة والاجتماع، يعرضها على أبي حيان ويطلب منه الجواب فيفعل.

ويحدث أحيانًا أن الوزير يدفع لأبي حيان برقعة فيها أسئلة يطلب إليه أن يفكر في الإجابة عنها، ويتصل بغيره من العلماء ليأخذ رأيهم فيها، كما حدث مرة أنه دفع إليه رقعة بخطه فيها مطالب، وقال: باحث عنها أبا سليمان وأبا الخير ومَن تعلَم أن في محاورته فائدة. وكان في الرقعة أسئلة منها عن الروح وصفته ومنفعته، وما المانع أن تكون النفس جسمًا أو عرضًا أو هباء؟ وهل تبقى؟ وإن كانت تبقى فهل هي تعلم ما كان الإنسان فيه ها هنا … إلخ؟ ويقول الوزير في آخر هذه الرقعة: «إن هذا وما أشبهه شاغل لقلبي وجاثم في صدري ومعترض بين نفسي وفكري، وما أحب أن أبوح به لكل أحد.» ويأمره بأن يكتم خطه، فإن أراد أن يعرض هذه المسائل مكتوبة على أبي سليمان فلينسخها بخطه هو، ثم سأل أبو حيان أبا سليمان وذكر إجابته عنها ونقلها إلى الوزير. وعلى هذا النمط يجري تأليف الكتاب.

وموضوعات الكتاب متنوعة تنوعًا ظريفًا لا تخضع لترتيب ولا تبويب، إنما تخضع لخطرات العقل وطيران الخيال وشجون الحديث، حتى لنجد في الكتاب مسائل من كل علم وفنٍّ، فأدب وفلسفة وحيوان ومجون وأخلاق وطبيعة وبلاغة وتفسير وحديث وغناء ولغة وسياسة وتحليل شخصيات لفلاسفة العصر وأدبائه وعلمائه وتصوير للعادات وأحاديث المجالس، وغير ذلك مما يطول شرحه.

•••

فلما أراد أبو حيان أن يدوِّن لأبي الوفاء ما دار بينه وبين الوزير زاد فيه ونمَّق الحديث، وكان يدوِّن جزءًا ويرسله إلى أبي الوفاء ويتبعه بجزء آخر وهكذا …

وحدث هو نفسه عن ذلك كله في أول الجزء الثاني فقال: «قد فرغت من الجزء الأول على ما رسمتَ لي القيام به وشرفتني بالخوض فيه، وسردتُ في حواشيه أعيان الأحاديث التي خدمت بها مجلس الوزير، ولم آلُ جهدًا في روايتها وتقويمها، ولم أجنح إلى تعمية شيء منها، بل زبرجت كثيرًا بناصع اللفظ مع شرح الغامض وصلة المحذوف وإتمام المنقوص، وحملته إليك على يد «فائق» الغلام، وأنا حريص على أن أتبعه بالجزء الثاني، وهو يصل إليك في الأسبوع إن شاء الله.»

وقد خاف أبو حيان من بعض ما ورد في الكتاب، فإنه في حديثه مع الوزير عاب أشخاصًا من رجالات الدولة الذين يستطيعون إيذاءه، فرجا أبا الوفاء أن يحفظ هذا الكتاب سرًّا فقال: «وأنا أسألك ثانية على طريق التوكيد كما سألتك على طريق الاقتراح أن تكون هذه الرسالة مصونة عن عيون الحاسدين العيَّابين، بعيدةً عن تناول أيدي المفسدين المنافسين، فليس كل قائل يسلم ولا كل سامع ينصف.»

وقد أنجز أبو حيان وعده وأرسل إليه الجزء الثاني على يد غلامه فائق أيضًا، ثم أرسل إليه الجزء الثالث وهو الأخير، وقال في أوله:

قد أرسلتُ إليك الجزأين الأول والثاني، وهذا الجزء وهو الثالث قد والله ألقيت فيه كل ما في نفس من جد وهزل، وغث وسمين، وشاحب ونضير، وفكاهة وأدب، واحتجاج واعتذار … ولأنه آخر الكتاب ختمته برسالة وصلتها بكلام في خاص أمري.

وعلى هذا الوضع ينتهي الكتاب.

ولست أستبعد أن يكون أبو حيان قد تزيَّد فيه واخترع أشياء لم تجرِ في مجلس الوزير، فقد عُرِف عنه أمثلة من هذا القبيل، فقد اتهمه العلماء من قبل ومنهم ابن أبي الحديد بأنه وضع الرسالة المشهورة المعزوَّة إلى أبي عبيدة على لسان أبي بكر وعمر في حق علي بن أبي طالب، ولعل هذا التزيد كان من ضمن الأسباب التي دعته أن يرجو أبا الوفاء في أن يكون الكتاب سرًّا، فإنه ألف الكتاب في حياة الوزير وخشي أن الوزير يطَّلع عليه فيعلم مقدار ما تزيَّد.

أما أنه ألفه في حياة الوزير فالدليل عليه ما جاء في نسخة ميلانو: «أُنشِئت هذه الرسالة في رجب سنة ٣٧٤»، والوزير ابن سعدان ظل وزيرًا من سنة ٣٧٣ إلى سنة ٣٧٥ كما تقدم.

•••

وأيًّا ما كان فالكتاب ممتع مؤنس كاسمه، يلقي نورًا كثيرًا على العراق في النصف الثاني من القرن الرابع — أعني في العصر البويهي — وهو عصر مغبَّش بالظلام، فإنه يتعرض لكثير من الشئون الاجتماعية في ثنايا حديثه، فيصف الأمراء والوزراء ومجالسهم كابن عباد وابن العميد وابن سعدان، ومحاسنهم ومساويهم، ويصف العلماء ويحلل شخصياتهم وما كان يدور في مجالسهم من حديث وجدال وخصومة وشراب، ويصف النزاع بين المناطقة والنحويين كالمناظرة الممتعة التي جرت بين أبي سعيد السيرافي ومتَّى بن يونس القُنَّائي في المفاضلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، ورأي العلماء في الشُّعُوبية والمفاضلة بين الأمم … إلى كثير من أمثال ذلك.

وفي الكتاب النص الوحيد الذي كشف لنا عن مؤلفي إخوان الصفاء، وقد نقله القفطي منه، إذ كان الوزير قد سأل أبا حيان عن هذه الرسائل ومن ألَّفها، وعن القفطي نقله كل من كتبوا عن إخوان الصفاء.

كما أن فيه فوائد كثيرة عن الحياة السياسية للدولة، فهو يصف كثيرًا حالة الشعب في عصره وموقفهم من الأمراء والملوك، وهيجانهم واضطرابهم وأسباب ذلك.

وكما يعرض أحيانًا للحياة الاجتماعية الشعبية فيذكر عدد القينات في الكرخ فيقول: «ولقد أحصينا في سنة ٣٦٠: ٤٦٠ جارية من القينات ومائة وعشرين من الحرائر وخمسة وتسعين من الصبيان الذين يجمعون بين الحذق والحس. هذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزته ورُقَبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهرون بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط أو ثَمِل في حالٍ أو خلع العذار في هوًى.» وأطيل جدًّا لو وصفت ما في الكتاب من فوائد.

ثم إن أسلوبه في تقسيمه إلى ليالٍ وذكره ما دار في كل ليلة على سبيل الحديث والحوار يجعله لذيذًا شيقًا، أو على حد تعبيره هو «ممتعًا مؤنسًا»، فهو أشبه شيء بألف ليلة وليلة، ولكنها ليست ليالي للهو والطرب وكيد النساء ولعب الغرام، إنما هي ليالٍ للفلاسفة والمفكرين والأدباء، إذ يتعرض فيه لأهم مشاكل الفلاسفة كالبحث في الروح والعقل والقضاء والقدر وما إلى ذلك، كما يتعرض لمشاكل البلغاء كالليلة البديعة التي جرى فيها الحديث عن النثر والنظم والمفاضلة بينهما ومزايا كلٍّ ونقصه وهكذا. فإن كان ألف ليلة وليلة يصور أبدع تصوير الحياةَ الشعبية في ملاهيها وفتنها وعشقها فكتاب الإمتاع والمؤانسة يصور حياة الأرستقراطيين أرستقراطيةً عقلية؛ كيف يبحثون وفيمَ يفكرون، وكلاهما في شكل قصصي مقسَّم إلى ليالٍ، وإن كان حظ الخيال في الإمتاع والمؤانسة أقل من حظه في ألف ليلة وليلة.

وأسلوب أبي حيان في الكتاب أسلوب أدبي راقٍ كعهدنا في كل كتابته، يحب الازدواج ويطيل في البيان ويحتذي حذو الجاحظ في الإطناب والإطالة في تصوير الفكرة وتوليد المعاني منها حتى لا يدع لقائل بعده قولًا، ولكن أغمضَ أسلوبه في هذا الكتاب تعرضه كثيرًا لمسائل فلسفية عميقة قد عزَّت على البيان ودقَّت عن الإيضاح، فإذا هو خرج عن هذه الموضوعات الدقيقة إلى موضوعات أدبية كوصف لفقره وبؤسه أو وصف للكرم وفوائده أو وصف للسان والبيان؛ جرى قلمه وسال سيله وأجاد وأبدع.

نُسَخ الكتاب

للكتاب فيما أعلم نسختان لا أعلم لهما في مكاتب العالم ثالثة.

فأما النسخة الأولى فكاملة، وهي تقع في خمسة أقسام.

وقد جاء في طرة الجزء الثاني ما نصه: «رُسِم لخزانة السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، مولى ملوك العرب والعجم، باسط الأمن والأمان، ناشر العدل والإحسان، أبي المفاخر فخر الدنيا والدين سليمان بن غازي «محمد الأيوبي» خلَّد الله تعالى مملكته وسلطانه وأعلى في الخافقَيْن عزه وبرهانه!»

فالجزء الثاني كُتِب للعادل سليمان بن غازي الأيوبي.

•••

وكان العادل سليمان أديبًا شاعرًا، جاء في «كشف الظنون» ذكر كتاب اسمه «الدر الثمين في شعر الثلاثة السلاطين» وهم: «العادل سليمان الأيوبي وولده الأشرف أحمد وولده الكامل خليل»، فسليمان هذا هو صاحب الخزانة المكتوب هذا الجزء برسمها.

وجاء في آخر هذا الجزء: «تمت الجزء الثاني من كتاب المؤانسة والإمتاع بحول الله وحسن توفيقه في شوال سنة خمسة عشر وثمانمائة، على يد أضعف العباد شرف بن أميره في حصن المحروسة حماها الله تعالى عن الآفات والعاهات، آمين يا رب العالمين!»

وخط الجزء الثاني (وهو في ثلاثة مجلدات) مخالف لخط الجزء الأول (وهو في مجلدين)، وإن كان الخطان قريبَي الشبه بعضهما ببعض. والجزء الأول غير مضبوط والثاني مضبوط بالضبط الكامل. وكلا الجزأين مملوء بالأخطاء الخطيرة بالزيادة والنقص والتحريف، ويظهر أن الكاتبَيْن من الخطاطين الذين يجيدون الخط ولا يحسنون الفهم. وكاتب الجزء الثاني يغلب على الظن أنه تركي لا يحسن العربية فهو يقول: «تمت الكتاب» لا «تم الكتاب»، ويقول: «في سنة خمسة عشر وثمانمائة» بدل «خمس عشرة»، وهذه مع الأسف هي وحدها النسخة التامة.

وهذه النسخة أخذها المرحوم أحمد زكي باشا بالفوتوغرافيا من مكتبة طوب قبو سراي لمَّا اطَّلع على الكتاب وعرف قيمته. وقد أحضر النسخة الفوتوغرافية معه إلى القاهرة واحتفظ بها في مكتبته الخاصة، وقد قرأ الكتاب ووضع في الصفحة الأولى من كل جزء فهرسًا بعدد الليالي وبعض الموضوعات، كما وضع أسماء الأعلام الواردة في الكتاب أمام كل صفحة، مما يدل على أنه كان يريد نشره ويريد ترجمة الأعلام التي وردت فيه، ولكن لم يتعرض لتصحيح شيء مما فيه من أغلاط.

وقد تُوفِّي رحمه الله وهي في مكتبته الخاصة، فاشتراها السيد حمدي السفرجلاني الدمشقي وباعها لدار الكتب المصرية.

والنسخة الثانية نسخة فوتوغرافية أُخِذت من أصل في ميلانو، وليست كاملة وإنما هي قطع ثلاث: قطعتان من الجزء الثاني وقطعة من الجزء الثالث وهي مشوشة غير مرتبة، وقد استحضرها زكي باشا أيضًا واحتفظ بها لنفسه، ثم بِيعت لدار الكتب.

ولم يُذكَر في أية قطعة من القطع تاريخ نسخها. وخطها واضح وجميل أيضًا ومضبوطة، ولكنها في جملتها لا تقل في الأخطاء عن سابقتها.

وقد كان في نية السيد حمدي السفرجلاني نشر المخطوطة قبل بيعها لدار الكتب، فاستنسخ نسخة منها وقرأها مع بعض أفاضل دمشق، منهم الدكتور حسني سبح والسيد رشدي الحكيم وخليل مردم بك، واستظهروا بعض تصحيحات لما وجدوه في هذه النسخة من تحريف.

وبقيت بعد ذلك مملوءة بالأغلاط كثيرة الجمل والألفاظ التي تشبه الألغاز، حتى لا يخلو سطر منها من وقفات تستدعي الجهد الشديد في تصحيحها. فعُرِض على لجنة التأليف نشره فوافقت على ذلك، وعهدت إلى كاتب هذه السطور والأستاذ أحمد الزين بتصحيحه، وقد بذلنا معًا جهدًا كبيرًا في تصحيح المحرَّف من ألفاظه، وتفسير غريبه، وشرح المشكل من عباراته، وتكميل الناقص من جمله، وضبط الملتبس من كلماته، والتعريف بكثير ممن ورد ذكرهم فيه من العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة، وهذا هو جهدنا نقدمه للقراء.

ومع هذا فربما نكون قد أخطأنا الصواب أو أغفلنا بعض المحرَّف، وقد أثبتنا ألفاظه المحرَّفة في حواشي صفحاته. ويُلاحَظ أننا في أكثر الأحيان نثبت اللفظ المحرَّف وحده غير منبهين على أنه محرَّف اتِّكالًا على فهم القارئ، وفي بعض الأحيان ننبه على أنه تحريف وأن صوابه ما أثبتنا، كما يُلاحَظ أننا قسمنا كل ليلة من ليالي هذا الجزء إلى موضوعات، مثبتين في أول كل موضوع رقمًا يدل عليه.

فنحن ننشر الجزء الأول من الكتاب اعتمادًا على نسخة طوب قبو سراي وحدها، حتى إذا وصلنا إلى الجزء الثاني أمكننا الانتفاع بنسخة ميلانو.

ولعلنا بهذا النشر نحسن إلى أبي حيان بالتعريف بقيمته والإشادة بذكره، بعد أن أساء إليه الزمان فأماته في حياته وأخمد اسمه بعد وفاته، كما نحسن إلى عصره فنلقي عليه بعض الضوء وقد اكتنفه الظلام وعفت على آثاره الأيام. والسلام.

١  انظر الصداقة والصديق، ص٣١.
٢  الزبزب: ضرب من السفن.
٣  ص٨٥.
٤  ص١٠٣.
٥  انظر رسالة الصداقة والصديق، ص٣٣.
٦  الصداقة والصديق، ٣٢.
٧  أخبار الحكماء، ص٢٨٣.
٨  أخبار الحكماء ٢٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤