الليلة السادسة عشرة

ثم عدتُ وقتًا آخر فقال: كنتَ حكيت لي أن العامريَّ صنف كتابًا عنونَه ﺑ «إنقاذ البَشَر من الجَبر والقَدَر»، فكيف هذا الكتاب؟

فقلتُ: هذا الكتاب رأيتُه بخطه عند صديقنا وتلميذه أبي القاسم الكاتب ولم أقرأه على العامريِّ، ولكن سمعتُ أبا حاتم الرازيَّ يقرؤه عليه، وهو كتاب نفيس، وطريقة الرجل قويمة، ولكنه ما أَنقذ البَشَر من الجَبْر والقَدَر، لأن الجبر والقدر اقتسما جميع الباحثين عنهما والناظرين فيهما.

قال: لمَ قيل الجَبْر والقَدَر ولم يقل الإجبار.

فكان الجواب: أن الإجبار١ لغة قوم والجبر لغة تميم، يقال: جبر الله الخلق وأجبر الخلق، وجبر بمعنى جَبَلَ، واللام تعاقب الراء كثيرًا.

قال: فتكلَّمْ في هذا الباب بشيء يكونُ غير ما قاله العامريُّ، وانقد له إن كان الحق فيما ذهب إليه ودلَّ عليه.

فكان من الجواب: أن من لحظ الحوادث والكوائن والصوادر والأواتي من معدن الإلهيات أقرَّ بالجبر وعَرَّى نفسَه من العقل والاختيار والتصرُّف والتصريف، لأن هذه وإن كانت ناشئةً من ناحية البَشَر فإن مَنْشَأَها الأول إنما هو من الدواعي والبواعث والصوارف والموانع التي تُنْسَب إلى الله الحقِّ، فهذا هذا.

فأما من نظر إلى هذه الأحداث والكائنات والاختيارات والإرادات من ناحية المباشرين الكاسبين الفاعلين المحدثين اللائمين الملومين المكلَّفين؛ فإنه يعلِّقها بهم ويُلْصِقها برِقابهم، ويرى أن أحدًا ما أُتِي إلا من قِبَل نفسِه وبسوء اختياره وبشدة تقصيره وإيثار شقائه.

والملحوظان صحيحان واللاحظان مصيبان، لكنَّ الاختلاف لا يرتفع بهذا القول والوصف، لأنه ليس لكل أحد الوصولُ إلى هذه الغاية، ولا لكلِّ إنسان اطِّلاع إلى هذه النهاية.

فلما وقعت البينونة٢ بين الناظرين بالطبع والنسبة لم يرتفع القال والقِيل من ناحية القول والصفة، فهذا هذا.

قال — أطال الله بقاءه: فما الفرق بين القضاء والقدَر؟

فكان من الجواب: أن أبا سليمان قال: إن القضاء مصدرُه من العِلم السابق، والقَدَر مَوْرِدُه بالأجزاء الحادثة.

فقال: لمَ ورَد في الأثر: «لا تخوضوا في القدَر فإنه سرُّ الله الأكبر؟»

فكان من الجواب أن أبا سليمان قال لنا في هذه الأيام: إن الناموس ينطق بما هو استصلاح عام، ليكون النفع به شائعًا في سكون النفس وطِيب القلب ورَوْح الصدور.

فإن كان هذا هكذا فقد وضَح أن حكمة هذا السرِّ طَيُّه، لأن عجز الناظرين يفضي بهم إلى الحَيْرة، والحَيْرة مَضَلَّة، والمَضَلَّة هَلَكة. وإذا كانت الراحة في الجهل بالشيء كان التعب في العلم بالشيء، وكم علمٍ لو بدا لنا لكان فيه شقاء عيشنا! وكم جهل لو ارتفع منا لكان فيه هلاكُنا! [والعلم]٣ والجهل مقسومان بيننا ومفضوضان علينا على قدر احتمال كلِّ واحد منا للذي سبق إليه وعَلِق به، ألا تَرى أن علمَنا لو أحاط بموتنا متى يكون، وعلى أي حال تحدث العلة٤ أو المحنة أو البلاء، لكان ذلك مفسدةً لنا، ومحنةً شديدةً علينا؟

فانظر كيف زَوى الله الحكيمُ هذا العلم عنا، وجعل الخِيرة فيه لنا.

ألا ترى أيضًا أن جهلنا لو غلب علينا في جميع أمورنا لكان فسادُ ذلك في عظم الفساد الأول، والبلاءُ منه في معرض البلاء المُتقدِّم؟ فمن هذا الذي أشرفَ على هذا الغيب المكنون والسرِّ المخزون فيغفُل عن الشكر الخالص، والاستسلام الحسَن، والبراءةِ من كل حَوْل وقوة؟

فالاستمداد ممن له الخلق والأمر، أعني الإبداء والتكليف والإظهار والتشريف والتقدير والتصريف.

قال: هذا فن حسن، وأظنك لو تصديت للقصص والكلام على الجميع٥ لكان لك حظ وافر من السامعين العاملين والخاضعين والمحافظين.
فكان من الجواب: أن التصدي للعامة خلوقة٦ وطلب الرفعة بينهم ضعة والتشبه بهم نقيصة، وما تعرض لهم أحد إلا أعطاهم من نفسه وعلمه وعقله ولوثته ونفاقه وريائه أكثر مما يأخذ منهم من إجلالهم وقبولهم وعطائهم وبذلهم.

وليس يقف على القاص إلا أحد ثلاثة.

إما رجل أبله فهو لا يدري ما يخرج من أم دماغه.

وإما رجل عاقلٌ فهو يزدريه٧ لتعرضه لجهل الجهال، وإما له نسبة٨ إلى الخاصة من وجه وإلى العامة من وجه، فهو يتذبذب عليه من الإنكار الجانب للهجر والاعتراف الجالب للوصل، فالقاص٩ حينئذٍ ينظر إلى تفريغ الزمان لمداراة هذه الطوائف، وحينئذٍ ينسلخ من مهمَّاته النفسية، ولذَّاته العقلية، وينقطع عن الازدياد من الحكمة بمجالسة أهل الحكمة، إما مقتبِسًا منهم، وإما قابسًا لهم. وعلى ذلك فما رأيت مَن انتصب للناس قد ملك إلا درهمًا وإلا دينارًا أو ثوبًا، ومناصبةً شديدةً لمماثليه وعُداته.

قال: إن الليل قد دنا من فجره، هاتِ مُلْحةَ الوداع.

قلت: قال يعقوب صاحب «إصلاح المنطق»:

دخل أعرابي الحمَّام فزلق فانشجَّ، فأنشأ يقول:

وقالوا تطهَّرْ إنه يومُ جمْعةٍ
فرُحْتُ من الحمَّام غيرَ مُطهَّر
تَردَّيْتُ منه [شاريًا]١٠ شَجَّ مَفْرِقي
بفَلْسَيْن إنِّي بئسَ ما كان مَتْجَرِي
وما يُحْسِنُ الأعرابُ في السُّوقِ مِشْيَةً
فكيف ببَيْتٍ من رَخامٍ ومَرْمَرِ؟
يقول ليَ الأنْباطُ إذْ أنا نازلٌ١١
«به لا بظَبْيٍ بالصَّرِيمَة أَعْفَرِ»١٢

وقال — حرس الله نفسَه: كنتُ أَرْوِي قافية هذا البيت «أعفرا»، وهذه فائدة كنتُ عنها في ناحية. وانصرفتُ.

قد رأيتُ أيها الشيخ — حاطك الله — عند بلوغي هذا الفصل أن أختم الجزء الأولَ بما أنتهي إليه، وأَشفعَه بالجزء الثاني على سِياج ما سلف نظمُه ونثرُه، غيرَ عائجٍ على ترتيبٍ يحفظ صورة التصنيف على العادة الجارية لأهله، وعذري في هذا واضح لمن طلبه، لأن الحديث كان يَجري على عَواهِنِه بحسب السانح والداعي.

وهذا الفن لا ينتظم أبدًا، لأن الإنسان لا يَملك ما هو به وفيه، وإنما يَملك ما هو له وإليه.

وهذا فصل يحتاج إلى نفَسٍ مديد، ورأيٍ يصدُر عن تأييد وتسديد.١٣ والسلام، والحمد لله وحده، وصلواتُه على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
١  «من الإجبار»، «ومن» زيادة من الناسخ.
٢  «السوية».
٣  هذه الكلمة ساقطة من الأصل، والسياق يقتضيها.
٤  في الأصل: «أو العلة»، و«أو» زيادة من الناسخ.
٥  يريد بالجميع: العامة.
٦  يريد بالخلوقة هنا معنى التبذل والامتهان، يقال: خلق الثوب (بتثليث اللام) خلوقة [و]خلاقة: إذا بلي.
٧  يزدان به.
٨  ورد في الأصل بعد هذه الكلمة قوله: «له»، وهي زيادة من الناسخ.
٩  «فالعاص».
١٠  هذه الكلمة أو ما يفيد معناها ساقطة من الأصل، وبقية البيت تقتضي ما أثبتنا.
١١  «تارك».
١٢  هذا مثل يُضرَب في الشماتة بالرجل، يريدون أن المكروه ينزل به ولا ينزل بظبي أعفر، كأنه من الخسة والهوان بحيث يفضَّل عليه الظبي الأعفر.
١٣  في نسخة ميلانو بعد قوله «وتسديد» ما نصه: أُنشِئت هذه الرسالة في رجب سنة أربع وسبعين وثلاثمائة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤