مقدمة

البحث عن الذات في التراث والبداية الخطأ

قضية البحث عن الذات القومية استولت على اهتمام شعوب كثيرة إبَّان مُعاناتها لما عُرف باسم «صدمة الغرب»، وإزاء الشعور بخطر إفناء الذات الذي يمثله الآخر الغازي أو المعتدي تباينت سُبل الشعوب في مواجهتها لهذا الخطر، دفاعًا عن الذات، حسب الرؤية الأيديولوجية لمعنى الذات عند هذا الشعب أو ذاك؛ ذات دينية أو قبلية أو قومية. بدا السبب واحدًا؛ وهو الغزو الخارجي، مقترنًا بأسباب القوة العلمية والتقنية والأطماع الاستعمارية التي تستهدف سَحْق إرادةٍ وتاريخ، أو ذاتية الشعب الفريسة، ولكن تباينت سُبل مواجهة هذا التحدِّي.

وجاء التباين وفقًا لعوامل، منها ما يقتضيه التراث الثقافي لكل أمةٍ من أسلوب في التناول أو الاستجابة، ونهجت الشعوب أحد سبيلين:

(١) تيار الانسحاب للماضي

هناك شعوب واجهت «صدمة الغرب» ومشروعها في بناء مجتمعها بالدعوة إلى العودة إلى الذات، بحثًا عن الهوية القومية، ورأتْ في هذا شرطًا لكي تخطو أولى خطواتها نحو المستقبل، وعاشت أسيرة وَهْم تضخم الأنا ودونية الآخر، وهو وَهْم أفضى — تاريخيًّا — إلى خلق هُوَّة فاصلة تقطع كل سُبل التفاعل الصحي بين الأنا والآخر.

ففي تجربة الصين؛ نلحظ أن المواجهة بين الغرب وبين الصين أثارت ردود أفعال شديدة العنف بين المفكرين الصينيين في نهاية القرن اﻟ ١٩ ومطلع العشرين، وأدرك المفكرون الخطر الذي يتهدَّدهم، وتبددت أوهامٌ عاشوا عليها قرونًا؛ الصين خير الأمم وحضارتها أعظم الحضارات، وهي منهَل الحكمة، وأن الحكمة الصينية تُغني عن علوم الدنيا، والاقتداء بالسلف أُم الفضائل.

دارت معركة فكرية بين دُعاة التحديث وبين أهل النص، دعاة الالتزام بالعقيدة أو الحكمة الكونفوشية القائلين بأن «علة الداء التخلِّي عن حكمة السلف، وأن العودة إلى السلف عودة إلى الحضارة والحق والقوة، وإصلاح أمرنا رَهْن بصلاح العقيدة وتطويع الجديد للنص الموروث».

ومن أبرز زعماء الإصلاح المجدِّدين للعقيدة كانج يو وي (١٨٥٨–١٩٢٧م) الذي طالب بالعودة إلى المنابع الأصلية للكونفوشية، وجاهد بتأويلاته لكي تغدو الكونفوشية الطريق إلى إصلاح دستوري وإعادة بناء الدولة، ووضع يو وي صورة طوباوية عن مجتمع جديد في إطار النص اقتداءً بالماضي، المثل الأعلى، وتباينت آراء دُعاة الالتزام بالنص والاقتداء بالسلف، والتماس حلول لمشكلات الحاضر في سنن الماضي.

وغرقت الصين في حوارات نظرية شكلية عن الأصالة والمعاصرة والخوف من الإقدام، حفاظًا على الهوية الصينية التي تعني الكونفوشية وتعبيراتها، كما تجلَّت في المخيال الاجتماعي الموروث، وتعثرت الخطوات بين دعوة الالتزام وأمل مواكبة العصر، أو مواجهة تحدي الآخر علميًّا وتقنيًّا. حاولوا الجمع بين التراث كما ورِثوه وبين العلم نظريًّا وتطبيقيًّا بحيث يبقى كلٌّ في خانة مستقلَّة، ولهذا ظلَّ الحوار نظريًّا صرفًا واستعراضًا للبراعة الفكرية والمهارات الجدلية بين المثقَّفين في حدود النظرية، الأمر الذي يتسق مع المزاج الثقافي الصيني في الإغريق في التأمل والانسحاب داخل الذات، ولهذا بدا على السطح في الصين أن التراث والحداثة على طرفَي نقيض.

(٢) تيار العقل والواقع

هذا على عكس اليابان التي واجهت صدمة الغرب بنهجٍ آخر يتسق مع تراثها.

يشعر اليابانيون بأنهم شعب فائق التميز والتمايز ثقافيًّا، ولكن دون أن يتعارض هذا مع نزوعهم العملي لاكتساب خبرات جديدة؛ من خلال التفاعل مع الآخرين في حدود مصلحة واضحة المعالم، وتقوم عقيدتهم على التسامح مع العقائد الأخرى ومع المعارف العلمية، وقوام تراثهم الثقافي إرادة انتزاع الحياة وصنعها على الأرض، وأن الخطاب مع الواقع يكون على هَدْيِ مصلحة عاجلة.

لهذا لم يصدَّهُم تراثهم عن خبرة الغرب، وسعوا جهدهم لاستيعاب علوم وتكنولوجيا الغرب؛ التماسًا للقوة وحفاظًا على الذات، تحت شعار «أخلاق الشرق وعلوم وتكنولوجيا الغرب». لم يغرق اليابانيون في تهويمات نظرية، وبرز روَّاد الفكر العلمي في المجالات المختلفة، وعمدوا إلى تثبيت أقدام اليابان على أرض الواقع العلمي العقلاني، ومن أبرز هؤلاء آراي هاكو سيكي، وتوميناجا تاكا موتو، اللذان أحدثا ثورةً في دراسة التاريخ الياباني على هَدْيِ نزعة عقلانية نقدية.

وظهر مفكرون سلفيُّون من أمثال أوجيوس سوراي، الذي سُمي مذهبه «المدرسة السلفية»، ورفض هؤلاء انفتاح اليابان على الغرب وتحديث أو عَلْمنة التعليم. وأخيرًا؛ كانت الغلبة لتيار العقل والواقع، وتبلورت دعوة النهوض بالأمة في صورة مشروع قومي، شعاره «أمة غنية وجيش قوي»، وأضحى المشروع أو استراتيجية التنمية القومية هو الحكم والفيصل في الموقف من التراث ومن الغرب معًا، وتجسد المشروع في تغييرات جِذرية في بنية المجتمع، شمِلت جميع مناحي الحياة وفئات الناس؛ نظام حكم دستوري أفاد كثيرًا من الغرب، ونظام مالي ونقدي وضرائبي ومصرفي، وتحديث شامل للاقتصاد، وصناعة حربية واستراتيجية وثورة تعليمية، واكَبَت الغرب وتفي بحاجة المشروع.

لم تغرق اليابان في تهويماتٍ نظرية بحثًا عن التراث؛ فهذا ضد مزاجها الثقافي، وإنما حقَّقت هويتها القومية وأكَّدت ذاتها وخصوصيتها من خلال العمل والفاعلية الاجتماعية والإنتاج، وهو ما تمثَّل في مشروع قومي، يستجيب لمشكلاتها وهمومها وصورتها المستقبلية، لا الماضية، عن نفسها أمام التحديات.

(٣) العرب والبداية

وغرق الباحثون العرب والمسلمون بعامَّة في مشكلة البحث عن الذات في التراث، واطَّرد البحث على نحو فردي أو على أيدي جماعات متناثرةٍ بل ومتنافرة، واتصل البحث عقودًا دون أن يهتديَ الباحثون إلى الذات المفقودة في بطون كتب التراث، ومن أسباب ذلك الغموض الشديد بشأن الإطار العام الذي يجب أن تكون عليه رؤيتُنا للتراث وصورة مجتمع المستقبل. لماذا نبحث عن ذاتنا؟ هل لمجرد أن استَهْوتنا المشكلةُ نظريًّا؟ ولماذا نبحث عنها في صفحات كتب أكثرها لا يزال بحاجةٍ إلى أن تخضع للبحث والدراسة على هَدْي منهج علمي؟ والباحثون لا يملكون المنهج ولا الرؤية المستقبلية التي تُحدد معايير النظر.

وأكثر من هذا أن الباحثين أنفسهم يشدهم بعيدًا عن الهدف جدال جانبي، حول أصل الانتماء وطبيعته وحدود الماضي الذي نبدأ منه وننتهي عنده، وكيف نفسر الماضي ولأيِّ غايةٍ؟ وما هو مرجعنا في التفسير؟ وهل نريد الكشف عن الذات حقيقة في التراث، أم اصطناع أسطورة عن الذات نابعةٍ من التراث؟

إن الاتجاه إلى التراث في جوهره عمل سياسي، ومن ثَم يظهر الخلط بين وقائع التراث كوقائع تاريخية وبينها كأسطورة وقِيمة، ولهذا يغلب النهج الانتقائي، وننسى أن روايات التراث لا معنى لها إلا ضمن بِنية تربط بينها وتؤلِّف منها نظرية، وعلى أساس علمي. ولكن التراث على إطلاقه كلِمة مرسلة تخضع للانتقائية العشوائية على أساسِ معيار قِيمي ضمني ذاتي. إن ما نُسمِّيه تراثًا في إطار الجدال النظري ما هو إلَّا وقائع ونصوص موروثة شديدة التباين، وكل منها يمثل حالة فردية، ولم يتسنَّ بعدُ وضع نظرية تكشف لنا عن الاطراد القانوني، ليكون لدينا علم تراث بوصفه عِلمًا إنسانيًّا في الزمان والمكان. وهل ننتظر إلى حين تمام وكمال هذا كله، والخروج بنظرية تكشف لنا عن حقيقة ذاتنا التي نعود إليها؟!

البداية هي العمل لا الكلمة؛ فإن الذات تكشف عن نفسها، وتتفتح في ازدهار من خلال العمل الإنتاجي المبدع، العمل المجتمعي المعبِّر عن حاجة المجتمع وهمومه ومشكلاته وطموحاته وتحدياته محليًّا وعالميًّا، فيخلق صورة المجتمع المشترك. العمل المتجسد في استراتيجية للتنمية القومية والتحديث، وتنبع قوميتها من أنها صادرة عن حركة مجتمعية حُرة، وتلخص الداء، وتحدِّد مسار الاتجاه شاملًا جميع مناحي حياة المجتمع لتغيير البنية الاجتماعية كلها جذريًّا؛ في الاقتصاد والسياسة والتعليم والأخلاق والقيم وحقوق الإنسان والفنون، كما تقترن بحركة تجديد أو تأويل إبداعي للعقيدة، وتشحذ طاقة الناس وفقًا لإمكاناتهم، وغير مقطوعة الصِّلة بالتراث الثقافي؛ لأنها تؤكد وحدة التاريخ على امتداده العريق المتباين دون انتقاء؛ وفاءً بالهدف ووصولًا إلى صورة تشد اهتمام الجميع، تمنحهم الكبرياء، ويرون ذاتهم فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤